الصفحة 417
وغيرهم، وغيرهم ممن كان يختلهم واحداً فواحداً ـ على حد تعبير عبد الله بن موسى في رسالته له ـ سواء من العلويين أو من غيرهم..

مع أن هؤلاء كانوا وزراءه وقواده، ولهم من الفضل عليه، وعلى دولته ما لا يمكن أن يخفى على أحد، فإنهم هم الذين وطدوا له دعائم حكمه، وبسطوا نفوذه وسلطانه على البلاد، وأذلوا له العباد، وقامت دولته بأسيافهم، وعلى أكتافهم..

لقد ختلهم واحداً فواحداً.. مع أنه كان يظهر لهم من الحب والتقدير ما لا يقل عما كان يظهره للإمام.. وحسبنا أن نذكر هنا: أنه قتل أخاه وعمل برأسه ما تقدمت الإشارة إليه من أجل الملك والسلطان فكيف لا يقتل الرضا من أجل الملك والسلطان، أيضاً.. ثم يتستر على فعلته بتلك الظواهر التي لا تضره؟! أم يعقل أن يكون الرضا أعز من هؤلاء جميعاً.. وحتى أعز عليه من أخيه الذي قتله؟!.

وأما تظاهره بالحزن والأسى لوفاة الإمام (عليه السلام) إلخ.. فما أدرى إن كان هؤلاء يريدون من ذلك الأفعى الداهية: أن يظهر الفرح والاستبشار بموت الإمام (عليه السلام)!.

وهل نسوا أنه قتل الفضل ثم تظاهر بالحزن العظيم عليه(1) وتتبع قتلته

____________

<=

خراسان، أهداه غلاما ليخدمه، ودفع إليه سما لا يطاق، فسمه الخادم في كامخ، فمات من ليلته. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 224: أن الذي أهداه الغلام هو أحمد ابن أبي خالد وزير المأمون، ليقتله إذا فارق الطاعة، فقتله بأمر من المأمون.. وفي تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 192: أن المأمون تآمر عليه فقتله. والمؤرخون متفقون على أن المأمون كان يضمر الشر والخيانة.

والنتيجة أن طاهر يموت ـ بتدبير من المأمون بهذه الكيفية الغامضة، ويبقى المأمون نفسه بعيداً عن الشكوك والشبهات.

(1) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج 3 ص 322، ومآثر الإنافة ج 1 ص 211. وقد تكلمنا عن كيفية قتل الفضل في ما تقدم فلا نعيد..


الصفحة 418
وقتلهم، وأرسل رؤوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل، ثم تزوج ابنة الحسن هذا؟!. ولكنه عاد فغض من الحسن بن سهل حينما ظفر بإبراهيم ابن شكلة، وأسقطه وحجبه وعزله عما كان في يده(1).

وقتل طاهراً ثم أرسل يحيى بن أكثم إلى الرقة، لينوب عنه في تقديم التعازي، لولده عبد الله، ثم ولى أبناءه مكانه، ثم غدر بهم واحداً بعد الآخر..؟!(2).

وقتل محمد بن جعفر، ثم جاء وحمل نعشه، وقال: إن هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة؟!.

وغيرهم وغيرهم، ممن لا مجال هنا لتتبع أسمائهم وأحوالهم.. أما مواقفه وتصريحاته عند وفاة الإمام، فالظاهر أنهم لم يقيموا لها وزناً، ولا أعارها أي منهم أذناً صاغية، أو قلباً واعياً؟!.

وكيف يتفق كل ما ذكرناه ـ وخصوصاً ما فعله مع أخيه حياً، أو ميتاً، وتخريبه بغداد، وأيضاً قتله لسبعة من إخوة الإمام واضطهاده للعلويين كما سنبينه، وكتابه للسري عامله على مصر يأمره فيه بغسل المنابر إلخ.. كيف يتفق كل ذلك، وسائر أفاعيله التي قدمنا شطراً منها مع خلق المأمون ونفسيته؟!. ولا يتفق قتله الإمام (عليه السلام) مع نفسيته وخلقه الكريم؟!. وهل قتل أولئك مع إظهار المحبة والإكرام لهم

____________

(1) لطف التدبير ص 166.

(2) ولقد كان يؤكد براءته من تلك الجرائم بأساليب مختلفة أخرى، ويرضي جميع الأطراف، فهو يرضي العباسيين بقتل الرضا، ويرضي العلويين باستقدام الجواد ـ ولد الرضا ـ من المدينة، وإكرامه إياه، ويقتل الفضل، ويرضي الحسن أخاه، بما ذكرنا، ويقتل طاهراً، ويرضي أبناءه بتوليتهم مكانه، ويبقى يستعين بهم طيلة فترة حكمه تقريباً.. حيث يغدر بهم واحداً واحداً كما ذكرنا، وعلى هذه فقس ما سواها مما يدل على مدى حنكة المأمون ودهائه السياسي..


الصفحة 419
لا يتنافى مع نفسيته وخلقه الكريم، ويتنافى قتل الإمام مع الاكرام والمحبة له وللعلويين مع نفسيته وخلقه الكريم أيضاً..

وأيضاً هل بعد كل ذلك، يمكن أن يقال: إن مصاهرته للإمام تمنعه من الغدر به، ودس السم إليه؟! ولقد بينا في فصل: ظروف البيعة بعض أهدافه من تزويجه، وتزويج ولده الجواد، وتزويج الفضل أيضاً.. وتحدثنا أيضاً عن السبب في لباسه والخضرة، ودوافع ولاية العهد، وغير ذلك من أمور.

بل نجرؤ على القول هنا: إن المأمون قد أكره الإمام (عليه السلام) على هكذا زواج، إذ كيف يمكن أن نتصور رجلاً حكيماً عاقلاً، زاهداً في الدنيا.. يقدم ويرغب في زواج طفلة ومن هي بالنسبة إليه بمنزلة حفيدته، بل أصغر، حيث كان يكبرها بحوالي أربعين سنة.. ثم لا يكون هناك سر آخر يكمن وراء مثل هكذا زواج، إلا أن يدعي هؤلاء: أن ذلك يتفق مع العقل والحكمة، وينسجم مع زهد الإمام في الدنيا، وانصرافه عنها..

وإذا كان ثمة سر آخر يكمن وراء ذلك الزواج، فإن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنه (عليه السلام) لم يكن يستطيع التصريح بحقيقة الأمر، وواقع القضية إلى آخر ما قدمناه في فصل: ظروف البيعة.

وأما قوله بتفضيل علي (عليه السلام) على جميع الخلق.. فإننا إن لم نقل: أنه كان من ضمن المخطط، الذي كان قد رسمه للوصول إلى مآربه وأهدافه ـ كما اتضح في فصل ظروف البيعة.. فإننا ـ ونحن نرى تباين مواقفه وتصريحاته ـ نرى أنفسنا مضطرين إلى القول: بأنه لم يكن ينطلق في مواقفه السياسية من مواقف عقائدية.

وأما إكرامه للعلويين.. فقد تقدم تصريحه في كتابه للعباسيين: بأن ذلك ما كان منه إلا سياسة ودهاء.. وتقدم أنه بعد وفاة الرضا (عليه السلام)

الصفحة 420
قد أخذهم بلبس السواد، ومنعهم من الدخول عليه.. وأنه كان يختلهم واحداً فواحداً حسب ما كتب إليه عبد الله بن موسى.

وسيأتي بيان أنه قتل سبعة من إخوة الإمام (عليه السلام). وأنه أمر الولاة والحكام بالقبض على كل علوي.

وأما ما ذكره أحمد أمين: من كثره خروج العلويين عليه.

فإننا لم نجد، ولم نسمع ذكراً في التاريخ لثورة قامت ضد المأمون، بعد وفاة الرضا (عليه السلام) إلا ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن، والتي كانت باتفاق المؤرخين بسبب جور العمال، وظلمهم.. وسوى ثورة إخوة الإمام الرضا (عليه السلام) طلباً بثأر أخيهم كما سيأتي..

ولم يبق ثمة إلا نسبة فكرة اغتيال الرضا (عليه السلام) إلى الشيعة.. وأنهم إنما اختلقوها وابتدعوها بدافع من الشعور بالحاجة إلى مثل هذه التزويرات، إذ قد كتب إلخ..

فهي دعوى تكذبها جميع الشواهد والدلائل التاريخية.. هذا بالإضافة إلى أن السنة قد اتهموا المأمون بهذه التهمة، قبل اتهام الشيعة له بها، والشيعة إنما يعتمدون في ذلك على كتب أهل السنة، التي استفاضت في اتهام المأمون بذلك، والتي يؤيدها الكثر مما قدمناه في هذا الكتاب، وغيره..

وهكذا.. يتضح أن كل ما ذكره هؤلاء لا يصلح مانعاً ولا دليلاً على أن المأمون لم يكن وراء استشهاد الإمام (عليه السلام).. بل جميع الدلائل والشواهد متضافرة على خلاف ذلك حسبما فصلناه في الفصلين المتقدمين وغيرهما، ولولا أن تعداد مواقف المأمون مع الإمام وتصريحاته يستلزم تكراراً نربأ بالقارئ الفطن أن يضطرنا إليه.. لاستطعنا أن نحشد الكثير الكثير من الدلائل والشواهد، التي تؤكد سوء نية المأمون، وخبث طويته تجاه الإمام (عليه السلام).. فما استند إليه هؤلاء في حكمهم ذاك،

الصفحة 421
لا يصلح للاستناد إليه، ولا للاعتماد عليه، وإن صيغ بعبارات منمقة، وأساليب مختلفة، فيها الاغراق والمبالغة أحياناً، ويبدو عليها الاتزان والموضوعية أحياناً أخرى.

وبعد. فعلى المكابر: أن يجيب على السؤال التالي:

وإلا.. فإننا نرى: أن لنا كل الحق في توجيه السؤال التالي إلى كل من يكابر، ويصر على براءة المأمون، وحسن نيته، والسؤال هو: إنه إذا كان قد عرض ولاية العهد. بعد وفاة الرضا (عليه السلام) على عبد الله بن موسى، فلماذا لم يجعل ولد الرضا «الجواد» ولياً لعهده، مع أنه كان زوج ابنته، وولد ولي عهده، الذي أظهر عليه الحزن والجزع، ومع أنه كان قد اعترف له بالعلم. والفضل والتقدم، كما اعترف لأبيه من قبل!!.

ولا مجال هنا للإصغاء للقول: بأن الجواد (عليه السلام) لم يكن يصلح لولاية العهد، بالنظر لصغر سنه.. إذ إن جعله ولياً للعهد لا يعني تسليمه بالفعل أزمة الحكم والسلطان.. وقد أخذ الخلفاء، حتى أبوه الرشيد، وأخوه الأمين البيعة لم كانوا أصغر من الجواد سناً، ولمن لم يكن له من العقل والحكمة والدراية ما كان الجواد (عليه السلام).

هذا بالإضافة إلى أن صغر سنه لم يكن ليضره، بعد أن كان من أهل بيت زقوا العلم زقاً، وبعد أن شهد المأمون، واعترف له العباسيون بالعلم والفضل، بعد ذلك المجلس الذي أجاب فيه يحيى بن أكثم عن مسائله، حيث كان العباسيون قد بذلوا له الأموال الطائلة ليقطعه عن

الصفحة 422
الحجة!(1). راجع فصل: مع بعض خطط المأمون لتعرف أهداف المأمون من هذه المناظرة.

رأي الفريق السادس: الرأي الحق:

وأما ذلك الفريق الذي يرى: أنه (عليه السلام) مات مسموماً دون شك، والذين أشار إليهم ابن الجوزي بقوله: «وزعم قوم أن المأمون قد سمه» ـ أما هؤلاء، فكثيرون:

ويمكننا أن نقول: إن ذلك مما تسالم عليه الشيعة رضوان الله عليهم، ما عدا المرحوم الإربلي في كشف الغمة، ونسب ذلك أيضاً إلى السيد ابن طاووس، وإلى الشيخ المفيد قدس سره، لكن ربما يستظهر من المفيد أنه يذهب إلى مسموميته، حيث ذكر أنهما ـ أي المأمون والرضا ـ قد أكلا معاً عنباً، فمرض الرضا، وتمارض المأمون!

واتفاق الشيعة على ذلك لخير دليل على أنه (عليه السلام) قد قضى شهيداً، لأنهم هم أعرف وأخبر بأحوال أئمتهم من غيرهم، وليس لديهم ما يوجب كتم الحقائق، أو تشويهها. فإذا ما سنحت لهم فرصة لإظهارها أظهروها، دون تكتم على شيء، أو تشويه لشيء. ومن أهل السنة، وغيرهم. طائفة كبيرة من العلماء، والمؤرخين، يعتقدون بأنه (عليه السلام) لم يمت حتف أنفه، أو على الأقل يرجحون ذلك، وإن لم يعين كثير منهم من فعل ذلك، أو أمر به. ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:

____________

(1) راجع الصواعق المحرقة، والفصول المهمة، لابن الصباغ، وينابيع المودة للحنفي، وإثبات الوصية للمسعودي، والبحار، وأعيان الشيعة، وإحقاق الحق ج 2 نقلاً عن: أخبار الدول للقرماني، ونور الأبصار، وأئمة الهدى للهاشمي، والإتحاف بحب الأشراف ومفتاح النجا في مناقب أهل العبا إلخ..


الصفحة 423
ابن حجر في صواعقه ص 122.

وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 250 والمسعودي في إثبات الوصية ص 208، وفي التنبيه والإشراف ص 203، ومروج الذهب ج 3 ص 417، وإن كان في مكان آخر من مروجه قد حكى ذلك بلفظ: قيل.

والقلقشندي في مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج 1 ص 211.

والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 263، وغيرها.

وجرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني جزء 4 ص. 44 قال: «وفكر في بيعته علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها، وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان، فيقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك، فدس إليه من أطعمه عنباً مسموماً، فمات».

وذكر ذلك أيضاً في آخر صفحة من كتابه: الأمين والمأمون. وأبو بكر الخوارزمي يقول في رسالته: «وسم علي بن موسى الرضا بيد المأمون» وقد تقدم شطر كبير من هذه الرسالة.. ويؤيد قوله هذا بعض ما تقدم بالإضافة إلى عدة روايات ليس هنا محل ذكرها.

وأحمد شلبي في: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج 3 ص 107 يقول: إن ثورة بغداد قد أرغمت المأمون على التخلص من الرضا، وخلع الخضرة إلخ.

وأبو الفرج الأصفهاني يقول في مقاتل الطالبيين: «وكان المأمون عقد له على العهد من بعده، ثم دس إليه ـ فيما ذكر ـ بعد ذلك سما فمات».

وذكر استشهاده أيضاً أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل 171 / 352.


الصفحة 424
وابن طباطبا في الآداب السلطانية ص 218.

والشبلنجي في نور الأبصار ص 176، 177 طبع سنة 1948 يروي ذلك أيضاً.

ويروي ابن حجر عن الحاكم في تاريخ نيسابور أنه قال: «استشهد علي بن موسى الرضا بسنا آباد».

وهو نفسه ينقل عن ابن حبان أنه (عليه السلام) مات مسموماً بماء الرمان(1).

والسمعاني أيضاً في أنسابه ج 6 ص 139، يذهب إلى إستشهاده (عليه السلام).

وينقل القندوزي ذلك عن محمد بارسا البخاري في كتاب فصل الخطاب.

كما وينقله عن اليافعي، فراجع ص 385 من ينابيع المودة..

وفي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال ص 278 ينقل ذلك عن سنن ابن ماجة القزويني.

وينقل ذلك أيضاً عن السلامي في كتابه الذي ألفه في تاريخ خراسان(2).

وعن البيهقي في تاريخ بيهق.

وعارف تامر في كتابه: الإمامة في الإسلام ص 125 يقول بذلك أيضاً.

ونقله في إحقاق الحق [الملحق] ج 12 ص 346 فصاعداً عن: النبهاني في جامع كرامات الأولياء ج 2 ص 311.

وعن السيد عباس بن علي بن نور الدين في نزهة الجليس ج 2 ص 65.

وعن المناوي في الكواكب الدرية ج 1 ص 256.

وعن ابن طلحة بن مطالب السؤول ص 86.

____________

(1) تهذيب التهذيب لابن حجر ج 7 ص 388، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 154.

(2) راجع: البحار ج 49 ص 143، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166.


الصفحة 425
وعن الهاشمي الأفغاني في كتابه: أئمة الهدى ص 127.

وعن البدخشي في: مفتاح النجا ص 181 [مخطوط].

وعن الجوزجاني الحنفي في: طبقات ناصري ص 113.

وذكر ذلك أيضاً صاحب كتاب عيون الحدائق ص 357.

وأخيراً.. فقد قال الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص 226: «.. ومات الرضا مسموماً، كما يرى أكثر المؤرخين».

وهذا غيض من فيض.. وحسبنا ما ذكرنا هنا، فإننا لو أردنا تتبع ما قيل حول وفاة الإمام، لاحتجنا إلى وقت طويل..

هذا كله.. بالنسبة إلى أقوال المؤرخين.

صدى قتل الرضا في نفس زمن المأمون:

وأما إذا راجعنا كتب التاريخ أنفسها، فإننا نستطيع أن نقول: إن استشهاد الإمام (عليه السلام) بالسم على يد المأمون كان شائعاً ومعروفاً بين الناس في ذلك الزمان، أعني: زمن المأمون نفسه، ومتسالما عليه فيما بينهم..

فلقد تقدم في الفصل السابق: أن المأمون قد اعترف بأن الناس يتهمونه: بأنه قد اغتاله وقتله بالسم!.

وورد أيضاً أن الخلق عند وفاة الرضا (عليه السلام) اجتمعوا وقالوا: إن هذا قتله واغتاله ـ يعنون المأمون ـ، وأكثروا من القول والجلبة، حتى أرسل إليهم المأمون محمد بن جعفر، عم أبي الحسن يخبرهم: أن أبا الحسن لا يخرج في ذلك اليوم، خوفاً من الفتنة(1).

____________

(1) مسند الإمام الرضا ج 1 ص 130، والبحار ج 49 ص 299، 300، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 242.


الصفحة 426
كما وأن عبد الله بن موسى يصرح في رسالته التي أرسلها إلى المأمون بأنه قد بلغه ما فعله بالرضا من إطعامه العنب المسموم، وستأتي هذه الرسالة بتمامها في أواخر هذا الكتاب..

وسئل أبو الصلت الهروي: «كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إياه ومحبته له؟!» فجاء في آخر جوابه قوله: «فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسم..»(1).

فإن هذا السؤال يكشف عن أن ذلك كان معروفاً آنذاك بين الناس لكن الناس كانوا في حيرة من ذلك، بسبب ما كانوا يرونه من إكرام المأمون للرضا (عليه السلام) في الظاهر.

وعن الطالقاني: «إنه كان متى ظهر للمأمون من الرضا علم وفضل، وحسن تدبير حسده على ذلك، وحقد عليه، حتى ضاق صدره منه، فغدر به فقتله».

بل لقد ذكر ابن خلدون: أن سبب خروج إبراهيم ابن الإمام موسى (عليه السلام) على المأمون هو أنه اتهم المأمون بقتل أخيه علي الرضا (عليه السلام)(2).

ويؤيد ذلك: أنه قد نقل الاتفاق من كل من ترجم لإبراهيم هذا على أنه مات مسموماً، وأن المأمون هو الذي دس إليه السم، وقد أنشد ابن السماك الفقيه، حينما ألحده:


مات الإمام المرتضى مسموماًوطوى الزمان فضائلاً وعلوما
قد مات بالزوراء مظلوماً كمـاأضحى أبوه بكربلا مظلومــا

____________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 239، والبحار ج 49 ص 290، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 128، 129.

(2) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 115.


الصفحة 427
إلى آخر الأبيات(1).. وإبراهيم هذا هو الذي كان قد خرج على المأمون في اليمن قبل ذلك أيضاً. كما أن المأمون قد دس السم إلى أخيه زيد ابن موسى(2)، الذي كان قد خرج عليه قبلاً بالبصرة، وإن كان اليعقوبي يذكر أن المأمون قد عفا عن زيد وإبراهيم(3).. لكن من الواضح أن عفوه عنهما في الظاهر بسبب خروجهما عليه في البصرة واليمن، لا ينافي أنه دس إليهما السم بعد ذلك بأعوام بسبب مطالبتهما بدم أخيهما الرضا (عليه السلام).

كما أن بعض المصادر التاريخية تذكر: أن «أحمد بن موسى» أخا الإمام الرضا.. لما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا، وكان آنذاك في بغداد، خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه، وكان معه ثلاثة آلاف من العلوية. وقيل: اثنا عشر ألفاً.

وبعد وقائع جرت بينه وبين «قتلغ خان»، الذي أمره المأمون فيهم بأمره، والذي كان عاملاً للمأمون على شيراز.. استشهد أصحابه، واستشهد هو، وأخوه «محمد العابد» أيضاً(4).

____________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر ج 2 ص 408، والبحار ج 48 ص 278 باختصار. ولكن في وفيات الأعيان ج 1 ص 491 وصفة الصفوة ج 3 ص 177 والكنى والألقاب ج 1 ص 316، ومرآة الجنان ج 1 ص 393، والطبري في أحداث سنة 183: أن تاريخ وفاة محمد بن السماك كانت سنة 183 ه‍. وأما وفاة إبراهيم فهي إما سنة 210، أو سنة 213، فلا يمكن أن يكون ابن السماك هو المتولي لحده، فضلاً عن أن ينشد الشعر المذكور.. اللهم إلا أن يكون ابن السماك اثنين، أحدهما الفقيه، والآخر: القصاص، أو لعل هناك تصحيف عمدي، أو عفوي من الراوي.

(2) البحار ج 48 ص 315، وكذا هامش ص 386 منه وشرح ميمية أبي فراس ص 178، وعمدة الطالب ص 221، وأيضاً حياة الإمام موسى بن جعفر.

(3) مشاكلة الناس لزمانهم ص 29.

(4) راجع: كتاب قيام سادات علوي ص 169 [فارسي]، وأعيان الشيعة ج 10 من المجلد 11 ص 286، 287، نقلاً عن كتاب: الأنساب، لمحمد بن هارون الموسوي

=>


الصفحة 428
وأيضاً.. فإن شرطة المأمون قد قتلوا «هارون بن موسى» أخا الرضا، حيث إن هارون هذا كان في القافلة التي كانت تقصد خراسان، وكانت تضم «22» علوياً، وعلى رأسها السيدة فاطمة أخت الرضا (عليه السلام)(1).

فأرسل المأمون إلى هذه القافلة، فقتل وشرد كل من فيها، وجرحوا هارون المذكور، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه(2). وأما زعيمة القافلة السيدة فاطمة بنت موسى (عليه السلام) فيقال إنها هي الأخرى قد دس إليها السم في ساوة، ولهذا لم تلبث إلا أياماً قليلة واستشهدت(3).

وآخر من يذكره المؤرخون من ضحايا المأمون: «حمزة بن موسى»، أخا الإمام (عليه السلام)، حيث ذكروا أنه كان من جملة من قتلهم أتباع المأمون(4).

فيكون المأمون قد قتل ستة، بل سبعة من إخوة الإمام (عليه السلام)، لأنهم طالبوه بدم أخيهم، أو كادوا. وألحق بهم ما شاء الله ممن تابعهم، أو خرج معهم.

ويقول الكاتب الفارسي، علي أكبر تشيد: «إن كثيراً من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان، أيام تولي الإمام العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمام (عليه السلام)، وأمر المأمون الحكام، وأمراء البلاد بقتل، أو القبض على كل علوي»(5).

____________

<=

النيشابوري. وراجع أيضاً: مدينة الحسين [السلسلة الثانية] ص 91، والبحار ج 8 ص 308، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج 2 ص 413، وفرق الشيعة هامش ص 97 عن بحر الأنساب ط بمبي وغير ذلك.

(1) قيام سادات علوي ص 161.

(2) جامع الأنساب ص 56، وقيام سادات علوي ص 161، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج 2.

(3) قيام سادات علوي ص 168.

(4) حياة الإمام موسى بن جعفر ج 2.

(5) قيام سادات علوي ص 160.


الصفحة 429

وفي الشعر أيضاً نجد ما يدل على ذلك:

بل إن دعبلاً المعاصر للإمام والمأمون، يرثي الإمام (عليه السلام) فيقول:


شككت: فما أدري أمسقي شربةفأبكيك أم ريب الردى فيهون
أيا عجباً منهم: يسمونك الرضاويلقاك منهم كلحة وغضـون

فدعبل لم يكن شاكا في الأمر، بدليل البيت الثاني، أعني قوله: أيا عجباً منهم يسمونك إلخ.. وبدليل مرثيته الأخرى للإمام، التي يقول فيها:


لم يبق حي من الأحياء نعلمهمن ذي يمان ولا بكر ولا مضر
إلا وهم شركاء في دمائهـمكما تشارك أيسار على جــزر

إلى آخر الأبيات.. ومهما شككت في شيء، فإنني لا أشك في أن أقوال دعبل هذه هي التي دعتهم لاتهامه بالزندقة، والمروق من الدين..

ويقول السوسي:


بأرض طوس نائي الأوطانإذ غره المأمون بالأمـــان

حين سقاه السم في الرمان(1) والقاضي التنوخي أيضاً يقول:


ومأمونكم سم الرضا بعد بيعةفآدت له شم الجبال الرواسب(2)

وأبو فراس أيضاً يقول في شافيته:


باءوا بقتل الرضا من بعد بيعتهوأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا

____________

(1) مناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 374.

(2) مناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 328، وفي الغدير ج 3 ص 380، هكذا: «تود ذرى شم الجبال إلخ».، ولعل الصواب فيه: «تهد ذرى الخ».


الصفحة 430

عصابة شقيت من بعدما سعدتومعشر هلكوا من بعدما سلموا
لا بيعة ردعتهم عن دمائهـــمولا يمين، ولا قربى، ولا ذمم

وهكذا.. يتضح بما لا مجال معه للشك: أن كون المأمون هو الذي اغتال الإمام قد كان معروفا لدى الناس، وشائعا بينهم منذ ذلك الحين..

ولا غرابة في ذلك فلقد كان وعد حاجبه، وجمعاً من العباسيين بأنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه!.

الإمام وآباؤه (عليهم السلام) يخبرون بشهادته:

وبعد كل ما تقدم.. نرى أنه لا بد لنا قبل أن نأتي على آخر هذا الفصل من الإشارة إلى أن الإمام نفسه قد أخبر أكثر من مرة بأنه سوف يقضي شهيداً بالسم، بل لقد أخبر بذلك آباؤه الطاهرون، وغيرهم ممن عاشوا في ذلك الزمان.

ونستطيع أن نقسم هذه الروايات الكثيرة جداً إلى ثلاث طوائف:

1 ـ طائفة وردت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله)، والأئمة (عليهم السلام): يخبرون فيها عن استشهاد الإمام الرضا (عليه السلام) في طوس، وهذه على ما يبدو خمسة أحاديث.

2 ـ طائفة وردت عن الإمام نفسه، يخبر فيها بهذا الأمر، وبأن المأمون نفسه هو الذي سوف يقدم على ذلك، وأنه سوف يدفن في طوس إلى جنب هارون.

وهذه الطائفة كثيرة جداً ـ وفي بعضها يصرح بذلك للمأمون نفسه، كما المحنا إليه ـ حتى إنه زاد في قصيدة دعبل، من أجل تتميم قصيدته قوله:


الصفحة 431

وقبر بطوس يا لها من مصيبةألحت على الأحشاء بالزفرات(1)

3 ـ تلك الطائفة التي تشرح لنا كيفية دس السم إليه. وأنه بالعنب، أو بإدخال الإبر المسمومة في، أو بالرمان، أو بهما معاً، أو بغير ذلك.

وهذه الطائفة كثيرة أيضاً، وقد ورد بعضها عن الإمام نفسه. وقال بعض الكتاب: إنه تتبع هذه الروايات، فوجدانها تنتهي إلى ستة أشخاص، هم:

أبو الصلت عبد السلام الهروي، والريان بن شبيب، وهرثمة بن أعين(2) ومحمد بن الجهم، وعلي بن الحسين الكاتب، و عبد الله بن بشير(3).

ولكنني قد راجعت بدوري هذه الروايات، فوجدت: أن عدداً آخر غير هؤلاء قد رووا ذلك أيضاً.

وحتى الزيارة تؤكد على استشهاده (عليه السلام):

وأخيراً.. فقد ورد في الزيارة الجوادية قول الإمام الجواد (عليه السلام):

____________

(1) ينابيع المودة ص 454، ومناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 338، والبحار ج 49 ص 239، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 263، 264.

(2) لم يكن هرثمة حيا حين وفاة الإمام، لأنه بعد مقتل أبي السرايا ذهب إلى مرو، فلم يمهله المأمون. وتخلص منه بعد أيام قلائل من وصوله، فروايته لكيفية وفاة الإمام (عليه السلام) لا تصح. إلا أن يكون هرثمة اثنين.. هذا ويلاحظ بعض التشابه بين رواية هرثمة، ورواية أبي الصلت.. فلعل الأمر قد اشتبه على الراوي، أو أنه قد ذكر اسم هرثمة لحاجة في نفسه قضاها..

(3) القائل بذلك هو علي موحدي في كتابه: ولاية عهدي إمام رضا..