الصفحة 83


الفصل الثاني
ما هو الخلاف الأساسي بين السنة والشيعة؟





الصفحة 84

الصفحة 85

تمهيد


الخلاف الجذري بين السنة والشيعة هو: من الخليفة بعد رسول الله هل هوأبو بكر أم علي بن أبي طالب؟

ولا شك أن الجميع سعى لإقامة الدليل على صحة ما يعتقده ونحن هنا سنعرض أدلة الفريقين، وتبيين الصواب. معتمدين في ذَْلك على كتب التاريخ المعتمدة، ومصادر الحديث المعتبرة.


الصفحة 86

السنة


بقليل من التأمل في الأحاديث الواردة في كتب السنة نجد أنهم اعتمدوا على دليلين لصحة خلافة أبي بكر.

أولاً: صلاة أبي بكر خلف النبي (ص):

حيث قالوا: إن رسول الله (ص) قدم أبا بكر على جميع أهل بيته وأصحابه، كي يصلي بالمسلمين إماماً، وحيث إن الصلاة عماد الدين(1)، دل ذَْلك على أن أبا بكر إمام الأمة لرضا النبي به في الاقتداء به في الصلاة، فيكون مرضياً عنه لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة(2).

وقد أفصح صاحب المواقف وابن حجر في الصواعق عن رأي العامة في خلافة أبي بكر، فقال الأول:

إن النبي (ص) استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به

____________

(1) كنز العمال ج7 / 284 رقم 18889، ط / مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1425هـ.

(2) شرح التجريد للقوشجي ص372 والصواعق المحرقة ص23، ط / مكتبة القاهرة.


الصفحة 87
وما عزله فيبقى إماماً فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل(1).

وقال الثاني: ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة، وأن القصد الذاتي من نصب الإمام العام، إقامة شرائع الدين على الوجه المأمور من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها إلى مستحقيها ودفع الظلم ونحو ذَْلك ليس مقصوداً بالذات بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم، إذ لا يتم تفرغهم إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمر على الأنفس والأموال ووصول كل ذي حق إلى حقه، فلذَْلك رضي النبي لأمر الدين وهو الإمامة العظمى أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ومن ثم أجمعوا على ذَْلك(2).

يورد عليهما:

1. دعوى أن النبي استخلف أبا بكر في الصلاة بحاجة إلى برهان أو بيان وما نسبوه(3) إلى النبي من أنه أمر عائشة، قالت: صلى رسول الله

____________

(1) هامش إحقاق الحق ج2 / 360 نقلاً عن شرح المواقف.

(2) الصواعق المحرقة ص23ـ 24.

(3) السيرة النبوية لابن هشام ج4 / 301، ط / الحلبي ـ مصر 1355هـ 1931م.


الصفحة 88
في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً.

فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال: "صلى رسول الله (ص) في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً"(1).

وروى إبراهيم، عن الأسود عن عائشة في حديث: "أن النبي (ص) صلى عن يسار أبي بكر قاعداً، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائماً"(2).

وعن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم،عن الأسود، عن عائشة، قالت: "صلى رسول الله في مرضه عن يمين أبي بكر جالساً وصلى أبو بكر قائماً بالناس"(3).

وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله بحذاء أبي بكر جالساً، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر(4).

ووجه الاضطراب واضح في هذه المرويات، وجميعها مروي عن

____________

(1) السيرة النبوية لابن هشام ج4 / 302،وتاريخ الطبري. 440، ط / الأعلمي مصححة على نسخة ليدن 1879م والسيرة الحلبية ج3 / 464، ط / دار المعرفة 1400هـ.

(2) السيرة الحلبية ج3 / 464، وصحيح البخاري ج1 / 217 ح713، ط / دار الكتب.

(3) السيرة الحلبية ج3 / 467، وسيرة ابن هشام ج4 / 302 وتاريخ الطبري ج2 / 439.

(4) السيرة الحلبية ج3 / 464.


الصفحة 89
عائشة، فتارة تقول: كان رسول الله إماماً بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماماً، وأخرى تقول: صلى عن يمين أبي بكر، ورابعاً تقول: صلى عن يساره، وخامساً تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهرها على الاضطراب والاختلاق مما يستوجب بطلان الحديث المزعوم، والشهادة عليه بأنه من الموضوعات.

2. كيف يصلي النبي جالساً، والمأمومون قياماً في حين أن عليهم الصلاة جلوس اقتداءً بالنبي (ص)، وهَْذا مضافاً إلى مناقضة هَْذا الحديث لما أمر به النبي ـ حسبما روى القوم في الصحاح ـ عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: صلى رسول الله (ص) في بيته وهو شاك، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن أجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا"(1).

وورد عن أنس بن مالك قال: "سقط النبي عن فرس فجحش(2) شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعداً فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا

____________

(1) صحيح البخاري ج2 / 337 حديث رقم 1113، ط / دار الكتب العلمية.

(2) جحش: انخدش جلده.


الصفحة 90
كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا.. وإذا صلى فصلوا قعوداً أجمعون"(1).

وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: صلى جالساً فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا(2).

وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قال: إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قائماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً(3).

فهذه الأحاديث تبطل حديث صلاة أبي بكر، وتدل على اختلاقه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ـ كما في هذه المرويات ـ مما يستلزم القول بأن أبا بكر أقدم على الصلاة من دون أمر النبي ومشورته.

3. إن حديث صلاة أبي بكر ـ الذي تفردت بنقله عائشة ـ يتعارض

____________

(1) صحيح مسلم ج4 / 112والنوري بهامش صحيح مسلم، والبخاري ج1 / 221ح732.

(2) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ج4 / 12، ط / دار الكتب الإسلامية 1415هـ.

(3) صحيح مسلم ج4 / 112 ح413.


الصفحة 91
بما روي عن ابن عباس قال:

قال رسول الله (ص): ابعثوا إلى علي (عليه السلام) فادعوه، فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر، وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر، فاجتمعوا عنده جميعاً فقال رسول الله: انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم. فانصرفوا, وقال رسول الله (ص): آن الصلاة؟

قيل: نعم، قال: فأمروا أبا بكر ليصلي بالناس. فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، فمر عمر. فقال: مروا عمر. فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد. فتقدم أبو بكر ووجد رسول الله خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول الله فقرأ من حيث انتهى أبو بكر(1).

والملاحظ في هَْذا الحديث أن النبي وقع في تهافت ـ وحاشاه أن يقع ـ إذ كيف يأمر أبا بكر بن أبي قحافة بالصلاة ثم ينتزعه بثوبه ليصلي مكانه، لولا أنه (ص) أراد أن لا تكون صلاة أبي بكر ممسكاً عليه إلى آخر الدهر، وإلا لو كان النبي راضياً عن أبي بكر لما كان قطعه عن الصلاة، في حين أن العامة أنفسهم رووا على النبي (ص) أنه

____________

(1) تاريخ الطبري ج2 / 439.


الصفحة 92
صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري(1)، فليكن أبو بكر ـ على أقل تقدير مساوياً لعبد الرحمن ـ فلا يجذبه النبي بثوبه ليصلي مكانه. وعلى فرض اقتداء النبي بعبد الرحمن أو بأبي بكر فلا يوجب ذَْلك فضلاً على النبي ولا على غيره من المسلمين.

ولو كان الرسول (ص) راضياً عن صلاة أبي بكر لما خرج معصباً رأسه(2) متكئا على الفضل بن عباس وعلى يد رجل كريم تناست ذكر اسمه عائشة، وقد روى مسلم بذَْلك أخبارا مستفيضة عن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها، وأذن له، قالت: فخرج ويد له على الفضل بن عباس، ويد له على رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض، فقال عبيد الله: فحدثت به ابن عباس، فقال: أتدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ هو عليٌّ (عليه السلام)(3).

فخروج النبي بهذه الحالة(4) لينحي أبا بكر عن الصلاة، له دلالاته

____________

(1) لاحظ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 / 476، ط / دار الكتب العلمية.

(2) سيرة ابن هشام ج4 / 302.

(3) صحيح مسلم ج4 / 117 ح91 وصحيح البخاري ج1 / 202 ح665.

(4) وكما نقل البخاري في صحيحه ج1 / 202 ح664 أن النبي خرج يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان من الوجع. فلاحظ.


الصفحة 93
الهامة، وعلى أقل تقدير كان على النبي (ص) أن يتركه يؤم الصلاة ـ لو كان يحسن الظن به ـ حتى لا يسيء أحد من المسلمين به الظن وأنه غير جدير بإمامة صلاة، فكيف بإمامة العباد والبلاد!!

هَْذا مضافاً إلى أنهم لا يختلفون أنه عليه وآله الصلاة والسلام أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة، ولم يدل ذَْلك على فضله عليهم بحسب ما يذهبون إليه من تقديمهما على عمرو بن العاص.

ويروى أن سالم مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي إلى المدينة(1).

4. إن إمامة أبي بكر للصلاة ليست فضيلة له، ولا توجب أن يكون إماماً على هذه الأمة، وذَْلك لما يروون من أن النبي (ص) قال لأمته: "صلوا خلف كل بر وفاجر"(2). فأباح لهم النبي بحسب مضمون هَْذا الحديث الصلاة خلف الفجار والفساق، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.

____________

(1) صحيح البخاري ج1 / 211 ح692.

(2) كنز العمال ج6 / 54 ح14815 عن سنن البيهقي.


الصفحة 94
هَْذا مضافاً إلى تجويزهم الصلاة خلف كل مفتون ومبتدع، فقد روى البخاري عن أبي التياح أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال النبي لأبي ذر: اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة(1).

بل إن عزل أبي بكر عن الصلاة بعد تقديمه ـ على فرض أن النبي قدمه ـ إنما كان لإظهار نقصه عند ا لأمة وعدم صلاحيته للتقديم في شيء، فإن من لا يصلح أن يكون إماماً للصلاة مع أنه أقل المراتب عند العامة لصحة تقديم الفاسق فيها، فكيف يصلح أن يكون إماماً عاماً ورئيساً مطاعاً لجميع الخلق، فكان قصده صلوات الله عليه وآله إن كان وقع هَْذا الأمر منه إظهار نقص أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذَْلك، فيكون حجة عليهم.

وما أشبه هذه القصة بقصة سورة براءة وعزله عنها، وإنفاذه بالراية في يوم خيبر، فإن ذَْلك كله كان بياناً لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من أمور الدين والدنيا.

6. لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحاً ـ كما زعموا ـ وكان مع صحته دالاً على أمامته على إمامته لكان ذَْلك نصاً من النبي بالإمامة، ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره، فكيف لم يجعل أبو

____________

(1) صحيح البخاري ج1 / 212 ح696.


الصفحة 95
بكر ونظيره عمر ذَْلك دليلاً على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟! وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف، وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لايختار الأعسر الصعب مع وجود الأسهل إلا لعجزه عنه، فعلم أن ذَْلك ليس فيه حجة أصلاً.

ثانياً: الشورى وتقريب كلامهم السنة أن النبي حينما رحل عن هذه الحياة ترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين يستطيعون من خلالها اختيار خليفة يقوم بشؤون المسلمين(1).

وهنا لا بد من بيان بعض الملاحظات على هَْذا الدليل لتكون معالم على الطريق.

الملاحظة الأولى: عقلاً لا يمكن أن يكون الحل هو الشورى...

ولبيان ذَْلك نضرب المثال الآتي:

نفرض أن هناك شخصاً يدير مؤسسة أو شركة أو مدرسة ما وبفضل إدارة وحنكة وحكمة هَْذا الشخص ـ المدير ـ تطورت وتقدمت

____________

(1) راجع في هذا المضمار.


الصفحة 96
وازدهرت هذه المؤسسة أو الشركة أو المدرسة المدارة تحت يديه، وبعد فترة أراد هَْذا المدير أن يترك إدارته وينتقل الى مكان آخر،ولكن قبل انتقاله وضع برنامجا متكاملا على طاولة الإدارة، وذَْلك لكي يسير عليه من يأتي بعده فيتم الحفاظ على تقدم وازدهار وتطور هذه المؤسسة أو غيرها. وبالفعل وضع برنامجه، ولكن ما إن خرج من هذه المؤسسة إلا ودبت الفوضى وظهر التقهقر والتصدع والتخلف في هذه المؤسسة أو غيرها.

هنا نسأل لماذا حدث ما حدث؟

الجواب: نحن أمام سببين لا ثالث لهما:

1. إما ان يكون هَْذا البرنامج الذي وضعه حضرة المدير المحنك الحكيم برنامجا فاشلا عقيما.

2. أو أن يكون هَْذا البرنامج محكماً وناجحاً إلا أن من أتى من بعده رفع هَْذا البرنامج من على الطاولة ووضعه في الدرج وأغلق عليه، ثم استخدم اجتهاده وآراءه في الإدارة. اذا فهمت المثال السابق وما هو المقصود منه فإن الكلام هو نفسه في ما هو الحل الذي وضعه الرسول (ص) بعد وفاته.

فنحن المسلمين باتفاق الشيعة والسنة نعلم أنه بمجرد وفاة

الصفحة 97
الرسول (ص) بدأ الانقسام وظهر الحلاف واتسع.. واتسع الى يومنا هَْذا فاذا سألنا عن سبب ما حدث فنحن أمام سببين:

الأول: إما أن يكون الحل الذي وضعه لنا الرسول (ص) فاشلاً وغير صالح.. وهذا لا يمكن أن يصدر عن الرسول.. بل هو مستحيل، ويتنافى مع القرآن والسنة والتاريخ والعقل.

الثاني: وإما أن الرسول (ص) قد وضع لنا برنامجا متكاملا ناجحا، ولكن بعد وفاته أقصي هَْذا البرنامج وتولى على الأمة من استخدم اجتهاداته وآراءه وأفكاره... فتأمل!

الملاحظة الثانية: الأصل في الإمامة هو التعيين(1)

لو أردنا تحديد الأصل الشرعي في مسألة الإمامة،لقلنا: إن الأصل في مسألة الإمامة هو التعيين من قبل الله تعالى، سواء أريد بالأصل، الأصل بلحاظ حكم الله الواقعي، أو الأصل بلحاظ الدليل اللفظي، أما الأصل بلحاظ حكم الله الواقعي بمعنى ما يرافق العادة الجارية والسنة الإلهية المستمرة إلى عصر الرسول (ص) فإن الذي جرت عليه

____________

(1) راجع كتاب "حوار في الإمامة".


الصفحة 98
سنة الله سبحانه على امتداد التاريخ بشهادة القرآن الكريم والنقل المتواتر القطعي هو تعيين الحاكم والقائد من قبل الله سبحانه ولم ينقل ولا مورد واحد أن الله تعالى أوكل الإمامة الى الناس أنفسهم لكي يختاروا من يشاؤون وهذه نماذج من آيات الكتاب العزيز..

قال تعالى ـ بعد ذكره سبحانه لعدد كبير من الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب وموسى وهارون وغيرهم ـ: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} الأنعام 89 ـ 90

فان الآية تدل بوضوح على أن هؤلاء الأنبياء قد آتاهم الله الكتاب وهو التشريع، والنبوة وهي الوساطة بين الله وخلقه في تبليغ أحكامه وتعليمها للناس، كما آتاهم الحكم أيضا، أي جعلهم حكاما وكلفهم قيادة الناس في سبيل إقامة حكم الله في الأرض وتطبيق التشريع الإلهي على ساحة الواقع.

وواضح أن جعلهم حكاما من قبل الله لا ينافي عدم تمكنهم ـ في

الصفحة 99
أكثر الأحيان ـ من إقامة الحكم الإلهي فعلاً نتيجة لانقياد الناس لطواغيتهم وإعراضهم عن الأنبياء (عليهم السلام).

وأورد الله تعالى في سورة الشعراء قصص عدد من الأنبياء كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وأن دعوتهم كانت تتلخص في كلمتين: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ}. قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُون (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1).

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا االلَّهَ وَأَطِيعُونِ}. الشعراء / 124 ـ 126

{إِذْ قَال لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. الشعراء / 142 ـ 144

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. الشعراء / 161 ـ 163

____________

(1) الشعراء / 108.


الصفحة 100
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. الشعراء / 177 ـ 179

وواضح أن الطاعة هنا هي طاعة الحكم كما هو الحال في مثل قوله: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء / 59

ولو كان المقصود بالطاعة طاعتهم في أمر التبليغ عن الله فحسب أي الطاعة في التشريع أو السلطة التشريعية فحسب لا السلطة التنفيذية لكان ينبغي أن يقول "اتقوا الله وأطيعوه"، لكنا نجد أن الدعوة هنا إلى طاعة النبي وهي تعني الخضوع لحكمه الذي هو في واقع الأمر سلطة الله التي عهد بها إلى نبيه وجعله أمينا عليها قائما بها.

إذاً فقد كانت دعوة هؤلاء الأنبياء تقوم على ركنين:

1. الدعوة الى تقوى الله وطاعته، والالتزام بأوامره ونواهيه التي بلغها الأنبياء.

2. الدعوة والطاعة للأنبياء كحكام ومنفذين لشريعة الله نصّبهم الله سبحانه قادة للناس في السعي الى تطبيق أحكامه في الأرض.

وقال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ االنَّاسِ بِالْحَقِّ}.ص 26


الصفحة 101
وقال تعالى: {ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة/124

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} الى قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة/246 ـ 247.

وقال تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} المائدة/48

الى غير ذَْلك من الآيات التي يستفاد منها أن سُنة الله جرت على امتداد التاريخ أن يتم نعمته على الناس بأن ينصب لهم هداة وقادة يحكمون بينهم بالحق، وينفذون بينهم شريعة الله مضافا الى تبليغها لهم وتعليمها إياهم، إن التبليغ والتعليم كانا مقدمتين للتطبيق

الصفحة 102
والتنفيذ كما قال سبحانه وتعالى:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. الحديد/25

فالخروج عن هذه القاعدة وانقطاع هذه السُنة المستمرة بعد رسول الله (ص) هو الذي يخالف القاعدة ويحتاج إلى الدليل وليس استمرار هذه القاعدة كما نقول نحن الشيعة.

أما الأصل بمعنى أصل العموم الجاري في الدليل اللفظي، فإنه يدل أيضا على أن الإمامة بتعيين من الله، فإن ذَْلك مقتضى أصل العموم الجاري في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ االلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص/ 70،68

وتوضيح ذَْلك: أن في هذه الآيات مقاطع يستفاد منها في مقتضى العموم كون الإمامة بتعيين من الله:

الأول: قوله تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} ، فإنه يدل على

الصفحة 103
أن الله هو الذي يختار في أمر خلقه ما يشاء، وهَْذا عام يشمل كل ما لم يثبت تفويض الاختيار فيه الى غير الله سبحانه وتعالى، فيعم الحاكم الذي يتولى قيادة المجتمع وإدارته، فيكون أمر اختياره بيد الله تعالى بمقتضى عموم الآية.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}. وهَْذا أيضا عام يشمل أمر الإمامة والحكم. فيثبت بعموم الآية أن لا خيرة للناس في أمر الإمامة بل أمرها بيد الله سبحانه وتعالى.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَهُ الْحُكْمُ}. وهو يدل على أن مطلق الحكم ـ تشريعا وتنفيذا ـ مختص بالله تعالى، فيدل بعمومه على أن أمر تعيين الحاكم بيده سبحانه، هو الذي يعين للحكم من يشاء ويصرفه عمن يشاء.

كما أن ذَْلك هو مقتضى العموم أيضا في قوله تعالى: {وَاللّه ُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

في ذيل الآية التي أولها: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}.

فإن الآية تدل دلالة مطلقة على أن أمر الملك بيد الله سبحانه وليس

الصفحة 104
بيد الناس، ولذَْلك يؤكد الخالق تعالى...

{وَاللّه ُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء}. جاء جواباً على اعتراض بني إسرائيل على تعيين الله تعالى "طالوت" ملكا وحاكما فتدل بالصراحة والوضوح على نفي اختيار الناس في أمر الحكم مطلقا وأن أمر الملك الإلهي والحكم الشرعي والسلطة الدينية بيد الله سبحانه وهو عام يشمل كل عصر وزمان.

فمقتضى أصل العموم ـ بل العموم المصرح ـ في هذه الآيات أن أمر الإمامة والحكم بيد الله تعالى وهو الذي يعينها في من يشاء ويختار لها من يريد، فالخروج عن هَْذا العموم ودعوى أن أمر الحكم بيد غيره سواءً كان ذَْلك الغير بعض الناس أو كلهم، بتفويض منه سبحانه أو بغير تفويض، كل هَْذا خروج عن الأصل، وخرق للقاعدة العامة المدلول عليها بالعموم اللفظي الظاهر والصريح.

وقد تبين من كل ما ذكرنا أن مقتضى الأصل والقاعدة في الإمامة هو التعيين من قبل الله سبحانه، فيكون البرهان والدليل على ما يخالف ذَْلك.

بل الحق أن ما أشرنا إليه من الأدلة العامة الدالة على أن الإمامة