الصفحة 105
بتعيين من الله ليست دلالتها على العموم دلالة ظاهرة فحسب بمقتضى أصل العموم اللفظي، بل بمقتضى الحصر أيضاً والتأكيد الوارد فيها تصريحا بذَْلك، فقوله سبحانه مثلاُ: {وَلَهُ الْحُكْمُ}. أو: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}. بعد قوله سبحانه:

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} صريح في نفي اختيار الناس في أمر الحكم وحصره بالتعيين والاختيار الإلهي، فليس ـ فقط ـ على من يدعي خلاف ذَْلك أن يقيم الدليل على ما يدعيه بل عليه أيضا أن يتخلص من معارضة هذه الأدلة وأمثالها مما يدل بالصراحة أو الظهور على أن الإمامة ليست بالاختيار بل هي بالتعيين الإلهي.

الملاحظة الثالثة: الشيعة على كل حال هم من الفائزين

فلو فرضنا كشيعة إمامية ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ أن قولنا في الإمامة بعد رسول الله (ص) غير صحيح وخطأ، وأن أبا بكر وعمر وعثمان هم خلفاء شرعيون، وأن لا تنصيص ولا تعيين في مسألة الإمامة، وأن من جاء بعد رسول الله (ص) هم عدول راشدون..لو فرضنا كل ذَْلك فالشيعي الإمامي لا ضير عليه ولا تثريب، ليس هَْذا فحسب

الصفحة 106
بل ويستحق الأجر.

بيان ذَْلك:

اتفقت كلمة أهل السنة،أو أكثرهم على أن الإمامة من فروع الدين، فكلماتهم في ذَْلك كثيرة، ويكفيك قول الغزالي في تلخيص قول السنة في مسألة الإمامة: "اعلم أن النظر في الإمامة أيضا ليس من المهمات وليس أيضا من فن المعقولات، بل من الفقهيات"(1) هَْذا أولاً.

ثانيا: اتفق أهل السنة على أن من اجتهد في فروع الدين فأصاب له أجران ومن اخطأ فله أجر واحد.

ثالثا: بلا شك ولا أدنى من ريب أن الشيعي الإمامي اجتهد في هذه المسألة مخلصا لله تعالى معتمدا على الأدلة والبراهين القطعية والحجج الدامغة ـ على أقل التقادير في نظره ـ رابعا: إذن النتيجة الحتمية إما أن يكون له أجران إن أصاب أو أجر إن أخطأ فعلى أقل التقادير وأسوأ الاحتمالات الأجر موجود، فلو وقف الشيعي في يوم المحشر للحساب وسألته الملائكة لماذا لم

____________

(1) الاقتصاد في الاعتقاد ص234، هذا بالإضافة الى كلماتهم الكثيرة كقول الآمدي: اعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات ولا من الأمور اللابديات... راجع غاية المرام في علم الكلام، ص: 363 للآمدي وما قال الإيجي في المواقف ص: 395.


الصفحة 107
تعتقد بإمامة أبى بكر وعمر وعثمان فإن للشيعي الإمامي حجته يومئذٍ، إذ سوف يكون الحوار الافتراضي الآتي:

الشيعي: هل الإمامة من أصول الدين أم من فروعه؟

الملائكة: الإمامة من فروع الدين.

الشيعي: أليس من اجتهد فيها فأصاب فله أجران ومن اخطأ فله أجر؟

الملائكة: نعم هو كذَْلك.

الشيعي: إذن أنا الشيعي الامامي كنت مخلصا لله تعالى متحرياً للحقيقة فاعتمدت على الأدلة القاطعة بنظري، إلا أنني اشتبهت وأخطأت، أفليس أستحق الأجر على ذَْلك؟

الملائكة: أجل.. وأحسنت.

فالشيعي الإمامي هو فائز على أسوأ الاحتمالات وذَْلك على حسب مباني أهل السنة أنفسهم.

ويجب التنبيه إلى أنه ـ أي الشيعي ـ لا ينكر هَْذا الفرع، بل أنكر حكماً من أحكام هَْذا الفرع، أي بعبارة أوضح لم ينكر مسألة الإمامة، بل رد من تولى الإمامة، أي من هو الإمام، أما الإمامة فهي ثابتة عنده.


الصفحة 108

الملاحظة الرابعة: لو كان أساس الحكم هو الشورى، لوجب على الرسول (ص) التصريح بها.

من العجب الغريب، أننا نجد عشرات الأحاديث المروية عن الرسول الأكرم (ص) عن السواك وفوائده، وأحاديث عن كيفية الدخول إلى بيت الخلاء، وعن لون الأحذية وما يستحب فيها... الخ.

بينما لا نجد حديثا واحدا ـ وإن كان ضعيفا ـ يتحدث عن مبدأ الشورى وأحكامه وما يتعلق به من قضايا وأمور خطرة، فلو كان أساس الحكم هو الشورى لوجب على الرسول (ص) التصريح به، وبيان خصوصياته، ثم يبين من هم الذين يشتركون في الشورى، هل هم القراء وحدهم أم السياسيون، أم القادة العسكريون، أو الجميع، وما هي شروط المنتخب أو المنتخِب، وأنه لو حصل هناك اختلاف في الشورى، فما هو المرجح، هل هو كمية الآراء وكثرتها، أم الرجحان بالكيفية؟ وخصوصيات المرشحين وملكاتهم النفسية والمعنوية، فهل يصح سكوت النبي (ص) عن هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر مسألة الشورى، وقد جعل الشورى طريقا إلى تعيين

الصفحة 109
الحكم؟!

هل مسألة السواك، أو الدخول إلى بيت الخلاء أو السؤال عن لون الأحذية أفضل وأعظم شأنا من مسألة الأمة، ونظام الدولة الإسلامية؟! ثم إن التعبير عن أعضاء الشورى بأهل الحل والعقد ما هو معناه؟!

فمن هم أهل الحل والعقد؟ وماذا يحلون، وماذا يعقدون؟ ومن عيّنهم؟ وكيف؟ ولماذا؟

وما هي صلاحياتهم؟

أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم؟

وهل يشترط حينئذٍ درجة معينة في الفقه والعلم؟

وما هي تلك الدرجة؟ ومن يحددها؟ وبأي ميزان تُوزن؟ من إليه يرجع الأمر في تقديرها؟

أم غيرهم؟ فمن هــم؟

وأما ما يفعله البعض من حيث يقصد أو لا يقصد، من تبديل كلمة أهل الحل والعقد بـ "الأفراد المسؤولين"، ما هو إلا وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها. ثم لو فرضنا أن الشورى أساس الحكم، فهل يكون انتخاب أعضاء الشورى ملزماً للأمة، ليس لهم التخلف عنه؟ أو يكون

الصفحة 110
بمنزلة الترشيح، حتى تعطي الأمة رأيها فيه؟

(ما هو دليل كل منهما)؟

الملاحظة الخامسة: منذ وفاة الرسول الأكرم (ص)، إلى يومنا هَْذا لم يطبق مبدأ الشورى ـ البتة ـ.

الملاحظة السادسة: تناقضات

اذا كان الحل الذي وضعه الرسول (ص) هو الشورى، فهل أتى الخليفة الأول بالشورى؟ وما معنى كلمة عمر بن الخطاب في وصفه بيعة أبي بكر بقوله: "كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"(1).

____________

(1) صحيح البخاري ج8،ص: 210. الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا،4 / 130،ج 30 / 68. مسند أحمد بن حنبل ج1،323 ج391 الجمع بين الصحيحين للحميدي 1 / 104 وقول عمر: أن بيعة ابي بكر كانت فلتة أي فجأة وبعيدة عن التدبر والتروي ووقعت من غير أحكام فالفلتة هي كل شيء يفعل من غير روية. وقد قال الطبري في الرياض النضرة ج1 / 237 إنما قال عمر ذلك لأن مثلها ـ أي الخلافة ـ من الوقائع العظيمة التي ينبغي للعقلاء التروي في عقدها لعظم المتعلق بها، فلا تبرم فلتة من غير اجتماع أهل العقد والحل من كل قاص ودان، لتطييب الانفس، ولا تحمل من لم يدعَ اليها نفسه على المخالفة والمنازعة وإرادة الفتنة، ولا سيما أشراف الناس وسادات العرب، فلما وقعت خلافة أبي بكر خلاف ذلك قال عمر ما قال ثم إن الله وقى شرها، فإن المعهود في وقوع مثلها في الوجود كثرة الفتن ووقوع العداوة والإحن، فلذلك قال عمر: وقى الله شرها. راجع مسائل حار فيها اهل السنة للعلامة علي مدن آل محسن.


الصفحة 111
ثم لماذا عيَّن ونصَّب الخليفة الأول عمر بن الخطاب؟

فإن قيل مصلحة الأمة في ذَْلك، فلماذا غفل رسول الله (ص) عن هذا وتنبه إليه أبو بكر؟!

آيات على طاولة البحث

الآية الأولى

قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} آل عمران /159

وتقريب الاستدلال: أن الله تعالى يأمر نبيه بالمشاورة تعليما للأمة، حتى يتشاورا في مهام الأمور ومنها الخلافة.

الجواب

أولاً:

(أ) من هو المخاطب في هذه الآية الكريمة {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}؟


الصفحة 112
لاشك وباتفاق كل من قرأ القرآن الكريم أن المخاطب هنا هو رسول الله (ص).

(ب) هل كان رسول الله (ص) حاكماً على المسلمين؟

لا شك وباتفاق كل مسلم أن الرسول (ص) كان هو الحـاكم.

(جـ) إذن النتيجة أن الآية الكريمة تخاطب حاكما موجـوداً.

وبعبارة أخـرى

أهل السنة والجماعة يقولون أن طريق القائد والحاكم يأتي عن طريق الشورى، أي أن الشورى تولد لنا حاكماً، فالشورى أولاً، ثم الحاكم.

في حين أن الآية عكس المدعى تماماً، فأهل السنة في وادٍ، والآية المباركة في وادٍ آخر.

فالآية الكريمة ـ كما هو واضح ـ توجب وجود الحاكم أولاً ثم الشورى. فالحاكم هو من يولِّد الشورى، أي الحاكم أولاً، ثم الشورى، وليس العكس كما قال أهل السنة، فلكي نطبق الآية على الواقع الخارجي نبحث عن الحاكم، وإلا ليس لهذه الآية محل من الإعراب... والله أعلم.


الصفحة 113
ثانياً: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، خاص بالشورى في الحرب، لأن اللام في هذه الآية للعهد، وليست للجنس كما هو واضح، فيكون معنى الآية:

وشاورهم في هذا الأمر الذي هو أمر الحرب.

ثالثاً: الآية لا تلزم النبي (ص) أن يأخذ برأيهم،حتى ولو اجتمعوا عليه، فالقرار النهائي والحاسم هو بيده (ص)، حيث قال سبحانه وتعالى:

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}

رابعاً: هل الاستدلال بهذه الآية حول مسألة الإمامة يعتبر نوعاً من أنواع المصادرة؟ إذ إن هذا الاستدلال يجب أن يكون متأخر الرتبة، إذ على الطرف المستدل أن يثبت أولاً أن مسألة الإمامة هي من المسائل التي يجوز فيها التشاور، ثم عليه بالتمسك بهذه الآية، حيث إنه لا يجوز لأحد أن يتشاور في الأوامر الإلهية، فالرسول الأعظم (ص) لا يشاور المسلمين في وجوب الصلاة أو عدمها أو أن الصيام يجب أن يكون في شهر رمضان أو شهر شوال أو شهر محرم، أو هل نقيم الحدود، وكيفيتها... الخ.


الصفحة 114
كذَْلك لا يجوز المشاورة في مسألة الإمامة، لأن الشيعي الإمامي يدعي ويقول إن هذه المسألة من المسائل الإلهية، والسني يدعي أنها من المسائل العامة المرتبطة بشأن المسلمين، فعليه ـ أي على السني ـ أن يحسم هذا النزاع أولاً، بالدليل والبرهان.

خامساً: الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة، وما شابهها، ولأجل ذَْلك لم نرَ أحداً من الحاضرين في السقيفة احتج بهذه الآية)(1)

سادساً: جاء في الدر المنثور ج2 /ص80:

عن ابن عباس بسندٍ حسن: لمَّا نزلت: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قال رسول الله (ص): أما إن الله ورسوله غنيان عنها ولكن جعلها الله رحمةً لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رُشـداً ومن تركها لم يعدم غياً. من هنا نتحف القارئ الكريم بما ذكر السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه الصحيح من سيرة الرسول (ص) ج5 لما فيه من النكات والإشارات اللطيفة:

لما كان المسلمون قرب بدر وعرفوا بجمع قريش ومجيئها خافوا وجزعوا من ذَْلك استشار النبي (ص) أصحابه في الحرب أو طلب العير.

____________

(1) راجع الإلهيات ج2، للسبحاني.


الصفحة 115
فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت وما ذلت منذ عزت ولم تخرج على هيئة الحرب.

فقال له رسول الله (ص): اجلس فجلس. فقال (ص): أشيروا عليّ.

فقام عمر فقال مقالة أبي بكر.

فأمره النبي (ص) بالجلوس فجلس ونسب الواقدي والحلبي الكلام المتقدم لعمر، وقالا عن أبي بكر أنه قال فأحسن(1).

ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله،والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا، وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} المائدة/24، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا،إنا معكم مقاتلون. والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك فلو خضت بحرا لخضناه معك ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك(2).

فأشرق وجه النبي (ص) ودعا له، وسُر لذَْلك، وضحك كما يذكره

____________

(1) راجع مغازي الواقدي، ج1، ص: 48. السيرة الحلبية: ج2،ص: 150. الدر المنثور: ج3،ص: 166.

(2) برك الغماد: يعني مدينة الحبشة، كما في تاريخ الخميس: ج1،ص: 373.


الصفحة 116
المؤرخون.

فنلاحظ: أن الكلام كله قد كان من المهاجرين، وقد ظهر منهم: أنهم لا يريدون حرب قريش، وهم يتفادون ذَْلك بأي ثمن كان، غير أن المقداد قد رد عليهم مقالتهم وخالفهم في موقفهم. ثم توجه النبي (ص) الى الأنصار حيث يقول النص التاريخي:

ثم قال: أشيروا عليّ ـ وإنما يريد الأنصار، لأن أكثر الناس منهم، ولأنه كان يخشى أن يكونوا يرون: إنا عليهم نصرته في المدينة إن داهمه عدو لا في خارجها ـ فقام سعد بن معاذ ـ وقيل ابن عبادة وهو وهم، لأنه لم يشهد بدراً لأنه كان قد لُدغ، فلم يمكنه الخروج(1) ـ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنك أردتنا؟

فقال: نعم.

فقال: فلعلك قد خرجت على أمر قد أُمرت بغيره؟

فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنِّا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت. إلى أن قال: والله، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله يريك ما

____________

(1) تاريخ الخميس ج1، ص: 373 والسيرة الحلبية: ج2، ص: 150. ومغازي الواقدي: ج1 ص: 48. والسيرة: ج2،ص: 150.


الصفحة 117
تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.

فسُّر النبي (ص)، وأمرهم بالمسير، وأخبرهم بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده، ثم قال: والله لكأني أنظر الى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة... الخ. وسار حتى نزل بدراً.

ويظهر من بعض النصوص: أن الصحابة كانوا ـ في أكثرهم ـ يميلون الى طلب العير وترك النفير.(1)

وقد ذكر الله تعالى ذَْلك في قرآنه المجيد، فهو يقول: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}. الأنفال / 7

وقبل أن نمضي في الحديث نشير الى الأمور التالية:

1 ـ استشارة النبي (ص) أصحابه

إن من الضروري أن يستشير (ص) أصحابه في حرب بدر التي كانت حرباً مصيرية سوف يتقرر على أساس نتائجها مصير الإيمان والشرك

____________

(1) الدر المنثور ج3،ص: 163 / 169. النهاية: ج3،ص: 263.


الصفحة 118
في المنطقة في المستقبل المنظور على الأقل، بل ومطلقاً كما أشار إليه (ص) في دعائه: اللٍْهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد.

وواضح أنه (ص) لم يكن بحاجة الى رأيهم وإنما هو يستشيرهم لأنهم هم الذين سوف يتحملون أعباء الحرب ويعانون من نتائجها على مختلف الأصعدة.

ثم إنه سيخرج بذَْلك دخائل نفوسهم ويتميز المنافق من المؤمن والجبان من الشجاع والذي يفكر في مصلحة نفسه من الذي يفكر من منطلق التكليف الشرعي، ويعرف أيضا الذكي من الغبي والعدو من الولي والضعيف من القوي إلى غير ذَْلك مما لا يخفى.

ويدل على ما نقول: إن سعد بن معاذ يسأل النبي (ص) لعلك خرجت على أمر قد أُمرت بغيره. فقال (ص): نعم. فهذا يدل على أن أمر الحرب مقضي ومأمور به من قبل الله تعالى، فليست استشارته (ص) لهم إلا لما قلناه هنا.

2 ـ حرب قريش هو الرأي

من الواضح أن الرأي الحق هو حرب قريش كما أراد الله ورسوله، وذَْلك لأن الأمر يدور بين:


الصفحة 119
  أن يرجع القوم دون أن يتعرضوا للعير ولا لقريش وفي ذَْلك هزيمة روحية ونفسية واضحة للمسلمين وتحقيق لمطامع غيرهم بهم من المشركين واليهود والمنافقين.

  أو أن يطلبوا العير فيدركوها فيأخذوها بعد قتل أو أسر رجالها، ولن تسكت قريش على هذا الأمر، بل سوف تتعرض لحربهم على أوسع نطاق. وقد تتمكن من مهاجمة المدينة قبل رجوع المسلمين إليها، وتقوم بإنزال الضربة القاصمة بالمسلمين،فإن قريش وهي بهذه العدة والعدد لن تسكت عن أمر كهذا، بل سوف تحاول رد هيبتها والثأر لكرامتها.

فلم يبق إلا خيار واحد وهو أن يقفوا في وجه قريش بعد أن يعرضوا عليها عروضاً مقبولة، وعادلة، ومعقولة.

إذاً، فحرب قتال قريش هو الخيار الأفضل والأمثل في ظروف كهذه، ولا سيما إذا طلبوا العير وربما يوجب ذَْلك أن يزيد الأمر تعقيداً وإشكالاً بالنسبة إلى المسلمين بما لا قبل لهم به.

وتكون النتيجة هي أنه إذا أراد المسلون العيش في عزة ومنعة، وأن لا يطمع بهم من حولهم، والمشركون، واليهود، والمنافقون، فلابد من المبادرة للقتال، وليس ثمة خيار آخر أمامهم.


الصفحة 120

3 ـ التربية النفسية

وفي مجال آخر نشير الى:

أ ـ لقد كان هدف المسلمين أولاً هو الحصول على المال، فأراد الله ورسوله أن يرتفع بهم عن هذا الهدف الدنيوي الى ما هو أغلى وأعلى وأسمى، وإلا فإن قريش أيضاً قد كانت تهدف من وراء جمعها الجموع وإثارة الحرب الى أهداف دنيوية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية أيضاً.

ب ـ لقد كان لحرب بدر أثرها في بث روح الاعتماد على النفس، ومواجهة المسؤوليات بصلابة وشجاعة، حيث لابد من قتل فراعنة قريش، وإفناء صناديدها وأسرهم. {ِّليَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}. ثم التهيؤ لحرب العرب والعجم بعد ذَْلك.

4 ـ نظرة في الآراء حول الحرب

ويلاحظ: أن أكثر المؤرخين قد حذفوا كلام عمر وأبي بكر هنا، واكتفوا بقولهم: قام أبو بكر فأحسن، ثم قام عمر فأحسن، ثم قال المقداد كذا.. وكذا(1). وربما ينسبون الى بعضهم كلاماً آخر لا ربط له

____________

(1) راجع على سبيل المثال البداية والنهاية ج3،ص: 262. والثقات ج1،ص: 157.


الصفحة 121
بسؤال النبي (ص) أصلاً.

وأما الفقرات التي نقلناها عنهما فلم تعجب الكثيرين من المؤرخين، فضربوا عنها صفحاً بالطريقة المشار إليها آنفاً.

ولكن من الواضح: أن سرور النبي (ص) بكلام المقداد ودعاءه له يدل على أن كليهما (أعني أبا بكر وعمر)، لم يكن منسجماً مع ما كان يهدف إليه النبي (ص) من مشاورته لهم، بل كان مضاداً لما كان يرمي إليه (ص) ولو كان كلامهما لائقاً لذكره محبوهم من المؤرخين والرواة وما أكثرهم.

وأما مشورة المقداد، فكانت هي السليمة والمنسجمة مع المنطق ومع الأهداف السامية التي كان يرمي إليها الرسول الأعظم (ص) وذَْلك هو ما كان يتوقعه (ص) ويرمي إلى الوصول إليه والحصول عليه.ولذَْلك فقد استحق المقداد مدح النبي (ص) ودعاءه له.

بل لقد ورد: أنه حين بلغ النبي (ص) إقبال أبي سفيان شاور أصحابه، فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه(1).

____________

(1) صحيح مسلم باب غزوة بدر ج5، ص: 170. مسند أحمد بن حنبل ج3ص: 219. البداية والنهايةج3،ص: 263. السيرة النبوية لابن كثيرج2،ص: 394.


الصفحة 122
فإعراضه (ص) عنهما ليس إلا لتخذيلهما عن النفير الى حرب قريش ومدحهم لها بأنها: ما ذلت منذ عزت وما آمنت منذ كفرت...الخ. لا لأنه يريد من الأنصار أن يجيبوا فحسب. وإلا لماذا سُر من كلام المقداد ودعا له وهو من المهاجرين حتى لقد قال ابن مسعود عن موقف المقداد هذا: لأن أكون صاحبه أحب اليّ مما عدل به(1). وعن أبي أيوب قال في ضمن حديث له: فتمنينا معشر الأنصار لو أنّا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، فأنزل الله تعالى على رسوله:

{َمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}.

أضف الى ذَْلك أن كلام رسول الله (ص) كان عاماً للجميع، للأنصار والمهاجرين، كما أن المهاجرين كانوا كالأنصار من حيث أنهم لم يبايعوه على الحرب.

____________

(1) صحيح البخاري باب تستغيثون ربكم ج3،ص: 3.ط: الميمنية. البداية والنهاية ج3، ص: 262 / 263. وسنن النسائي.


الصفحة 123

5 ـ سر سروره (ص) بكلام سعد والمقداد

فإن تأملت في كلام سعد والمقداد ترى أنهما لم يشيرا عليه لا بالحرب ولا بالسلام، بل ما زادا على أن أظهرا التسليم والانقياد لأوامر النبي (ص) ونواهيه وما يقضيه في الأمور. إنهما لم يبديا رأياً، ولا قدّما بين يديه الشريفتين أمراً، وهذا هو منتهى الإيمان، وغاية الإخلاص والتسليم،وقمة الوعي لموقعهما ووظائفهما، وما ينبغي لهما.

هما ما كانا يريان لأنفسهما قيمة في مقابل قضاء الله ورسوله، على حد قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. الأحزاب/36

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. الحجرات/2

6 ـ أين رأي علي (عليه السلام)؟

ويُلاحظ هنا: أننا لا نجد علياً في هذا المقام يبدي رأياً، ولا يبادر إلى موقف أو مشورة، مع أنه رجل الحكمة ومعدن العلم، فما هو السر

الصفحة 124
في ذَْلك يا ترى؟

ونقول في الجواب: إن موقف علي (عليه السلام) هو موقف نفس النبي (ص)، وقد وصفه الله تعالى في آية المباهلة بأنه نفس النبي فقال: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} آل عمران/61.

أضف الى ذَْلك أن علياً (عليه السلام) لم يكن ليتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء وقد كان يرى أن من واجبه السكوت والتسليم والرضا بما قضاه الله ورسوله، ولا يجد في نفسه أي حرج من ذَْلك.

الآية الثانية:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الشورى/38

من حيث القياس المنطقي، لابد وأن تكون الخلافة بالشورى، وذَْلك كما يـلي:

1ـ الخلافة من أمور المسلمين.

2ـ أمور المسلمين شورى ـ بدلالة الآية ـ