وإنه لغلام. ثم رجع إليها فبعث إليها بأربعة آلاف درهم، وبعث إلى ابن أخيه فأدخلها عليه(80).
قال ابن اسحاق فما نشب عون أن هلك، فرجع إليها علي، فقال: يا بنية، اجعلي أمرك بيدي، ففعلت فزوجها محمد بن جعفر(81).. ثم يذكر الطبري: أنه زوجها بعبد الله بن جعفر أيضاً(82).
ونقول:
يرد على هذه الرواية ما يلي:
أولاً:
إن سيدة نساء المسلمين في وقتها هي أختها الحوراء زينب (عليها السلام)، لا أم كلثوم.
ثانياً:
هل سبق أن أنكح علي (عليه السلام) بناته أيتام أهله، سوى أنه أنكح زينباً عبدالله بن جعفر، وهو رجل له مكانته، وموقعه، وليس بالذي يعير به أحد. فإنه من سراة القوم..
ثالثاً:
هل كان الحسنان (عليهما السلام) وأم كلثوم يحبون المال العظيم، والحياة الدنيا..
رابعاً:
إن جرأة أم كلثوم على أبيها، وإظهار أنها ترغب فيما ترغب فيه النساء لهو أمر يثير الدهشة. ولاسيما من امرأة تربت في حجر علي وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهما، وعرفت معاني العفة، والزهد والتقوى..
ولم يعرف عنها طيلة حياتها إلا ما ينسجم مع هذه الروح، ولا يشذ عن هذا السبيل..
خامساً:
لماذا يهجر ولديه ويقطع صلته بهما من أجل الحصول على هذا الأمر الذي جعله الله سبحانه لها دونه باعترافه (عليه السلام) ـ حسب زعم الرواية؟!
سادساً:
ما معنى التعبير عن عون بن جعفر بالقول: "وإنه لغلام" مع أنه كان شاباً يشارك في الحروب، ويقاتل ويستشهد، كما ذكرناه فيما تقدم.
سابعا:
قد تقدم أن زواجها من عون وإخوته موضع شك أيضاً، فإن عوناً ومحمداً إذا كانا قد قتلا سنة 17 هجرية أي في نفس السنة التي تزوجت فيها عمر، فكيف نوفق بين ذلك وبين حقيقة أن عمر إنما مات سنة 23 هجرية؟! وإذا كان عون وأخوه قد ماتا في الطف، فكيف تزوجها أخوه محمد من بعده، ثم تزوجها عبدالله؟.
وإذا كان المتولي لتزويجها للجميع هو أبوها كما يقول البعض ـ حسبما قدمناه ـ فإن أباها كان قد استشهد قبل وقعة الطف بعشرين سنة.
عمر يقول: رفئوني:
وتذكر روايات أهل السنة لقصة هذا الزواج: أن عمر قد خطب إلى علي(عليه السلام) ابنته أم كلثوم، فقال علي: إنما حبست بناتي على بني جعفر، فأصر عليه عمر، فزوجه.
فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين فيما بين القبر والمنبر، فقال: رفئوني. رفئوني. فرفأوه.(84).
والمراد: قولوا لي: بالرفاه والبنين..
ونقول:
إن من الواضح: أن قولهم للمتزوج بالرفاه والبنين، هو من رسوم الجاهلية، وقد نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).. وقد ورد هذا النهي في كتب الشيعة والسنة على حد سواء..
1 ـ فقد روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عبد الله البرقي رفعه، قال: لما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) قالوا: بالرفاه والبنين.
2 ـ روى أحمد بن حنبل، عن الحكم بن نافع، عن إسماعيل بن عياش، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: تزوج عقيل بن أبي طالب، فخرج علينا فقلنا: بالرفاه والبنين.
فقال: مه، لا تقولوا ذلك، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نهانا عن ذلك وقال: قولوا: بارك الله لك، وبارك الله عليك، وبارك لك فيها. وروى نحوه أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن الحسن: أن عقيل الخ..(86).
وبعد ما تقدم نقول:
هل كان عمر ملتزماً بأعراف الجاهلية، غير آبه بتوجيهات رسول الله (صلى الله عليه وآله).. ولماذا هذا الإصرار منه على هذا التصرف الذي لا يرضاه أهل الشرع لأنفسهم؟!
إعتذار، أم إدانة؟!
وقد اعتذر الحلبي عن ذلك بقوله: " لعل النهي لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله، كما لم يبلغ عمر"(87).
ونقول:
إنه اعتذار أشبه بالإدانة، فإنه إذا لم يبلغ هذا الحكم هؤلاء، ولم يبلغ عمر، فكيف جاز لهم أن يتصدوا أو أن يتصدى عمر على الأقل لمقام خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأخذ موقعه والاضطلاع بمهماته؟!! فإن من يحتاج إلى هداية الغير لا يمكن أن يكون هو الهادي للغير.
الرواية الأغرب والأعجب:
ومن غرائب أساليب الكيد السياسي تلك الرواية التي تروي لنا قصة زواج أم كلثوم بعمر بن الخطاب بطريقة مثيرة، حيث جاء فيها: أن عمر خطب أم كلثوم، فقال له علي (عليه السلام): إنها تصغر عن ذلك.
فقال عمر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي فأحب أن يكون لي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبب ونسب.
فقال علي (عليه السلام) للحسن والحسين: "زوجا عمكما." فقالا: هي امرأة من النساء، تختار لنفسها.
فقال (مقام ظ) علي(عليه السلام) مغضباً، فأمسك الحسن بثوبه، وقال: لا صبر لي على هجرانك يا أبتاه.
قال: فزوجاه"(88).
ونقول:
إن الملاحظ هنا:
1 ـ لا ندري لماذا يأمر غيره بتزويج عمر، ولا يتولى ذلك هو بنفسه، فإنه هو ولي أمر ابنته..
2 ـ إن ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) لم يكونا حين تزويج أم كلثوم بعمر بن الخطاب قد بلغا الحلم، فلماذا يحيل هذا الأمر إليهما.. ألم يكن الأنسب أن يحيل أمر ذلك للعباس كما ذكرته روايات أخرى؟..
3 ـ هل كان (عليه السلام) يريد تزويجها جبراً عنها، ومن دون اختيار منها؟!.. وهل يصح لها هي أن تختار لنفسها من دون إذن أبيها أيضاً؟!..
4 ـ وكيف يغضب (عليه السلام) من الحسنين (عليهما السلام)، وهما سيدا شباب أهل الجنة.؟!
وكيف يُغضب سيدا شباب أهل الجنة أباهما؟!..
وإذا كان هذا هو حال سيدي شباب أهل الجنة، فلماذا نلوم الآخرين على جرأتهم على آبائهم؟. وعلى عدم طاعتهم لهم؟..
5 ـ وكيف يغضب هو (عليه السلام) من قول الحق، إذا كان ما قالاه هو الحق؟ وإذا كان ما قالاه باطلاً، فكيف يقولان هما هذا الباطل؟!
6 ـ لماذا أخذ الحسن (عليه السلام) بثوبه، ولم يفعل ذلك أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) أليس هو شريك أخيه في إغضاب أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام)؟..
7 ـ وأيضا.. إذا كانت أم كلثوم تصغر عن الزواج.. فكيف صارت بعد ذلك كبيرة لا تصغر عنه.. وهل كان الحديث الذي رواه عمر له غائباً عن
8 ـ وأخيراً.. ألم يكن زواج النبي(صلى الله عليه وآله) بحفصة بنت عمر كافياً لتحقيق النسب والصلة بينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله) وفقاً لما احتج به عمر؟!..
القسم الثاني
الحدث في سياقه الطبيعي
الفصل الأول
لا ينفع هؤلاء..
ولا يضر أولئك..
بنت فاطمة:
إننا نلاحظ: أن ثمة حرصاً ظاهراً لدى غير الشيعة على تأكيد زواج عمر بأم كلثوم بنت علي (عليه السلام)، ولكن ما يثير الإنتباه هنا: هو أن روايات أهل السنة المثبتة للتزويج تصر على عبارة: "أم كلثوم بنت علي من فاطمة" للإيحاء بأنه بذلك قد أصبح له صلة بالرسول (صلى الله عليه وآله).
مع أنه قد كان لعلي (عليه السلام) بنت أخرى اسمها أم كلثوم أيضاً، فها هو البعض يقول، وهو يعد أولاده (عليه السلام): "..وكان له زينب الصغرى، وأم كلثوم الصغرى من أم ولد"(89).
وعدّ في المعارف من جملة بناته (عليه السلام) أم كلثوم، وقال: وأمها أم ولد.(90).
وقال الطريحي في كتاب تكملة الرجال: "أم كلثوم هذه كنية لزينب
لكن في الإرشاد: "وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى، تزوجها عمر"(92).
وعلى كل حال فإن ذلك يشير إلى وجود بنت لعلي اسمها أم كلثوم، ليست من بنات فاطمة. ولا يمكن نفي احتمال أن تكون هي التي تعرض عمر للزواج منها. خصوصاً إذا احتملنا أن يكون المقصود بهذا الزواج هو إذلال علي ?، وقهره ولا شيء أكثر من ذلك.. وكذا إذا قلنا: إن الهدف هو الحصول على مولود له صلة بآل علي، فلا يستطيعون إسقاطه، لو قدر له الوصول إلى سدة الخلافة.
أما إذا كان هناك غرض آخر، فإن الأمر يصبح مرهوناً به، وسيأتي بعض الحديث عن ذلك إنشاء الله..
الإستثمار غير الموفق:
وحين يتعب أهل السنة أنفسهم في التأكيد على هذا الزواج تاريخياً، فإنهم يحاولون أن يوظفوه، وأن يستثمروه قدر المستطاع في بلورة وتثبيت آرائهم، وردّ أدلة خصومهم الذين يحتجون عليهم بالدلائل والشواهد الكثيرة
وقد جاء هذا الزواج ليكون الإكسير الذي يحول التراب إلى الذهب الإبريز، وتتحول به العداوة إلى محبة وصداقة، ويصير العدوان إحساناً، ولا سيما حين يعرضونه للناس بأبهى صورة، وأغلى زينة..
حتى لقد رووا أنه حين استشار الحسنين (عليهما السلام) بادره الإمام الحسن بالقول: "يا أبتاه، فمن بعد عمر، صحب رسول الله، وتوفي، وهو عنه راض، ثم ولي الخلافة فعدل، فقال له: صدقت"(94).
وقال الجاحظ: "ثم الذي كان من تزويجه أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه من عمر بن الخطاب طائعاً راغباً. وعمر يقول: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إنه ليس سبب ولا نسب إلا منقطع إلا نسبي. قال علي: إنها والله ما بلغت يا أمير المؤمنين.
قال: إني والله ما أريدها لذاك، فأرسلها إليه، فنظر إليها قبل أن يتزوجها، ثم زوجها إياه، فولدت له زيد بن عمر، وهو قتيل سودان مروان"(95).
وقال السمعاني: "لو كان أبو بكر وعمر كافرين لكان علي بتزويجه أم
ونقول: إن كل ذلك لا يجدي نفعاً.. وذلك لما يلي:
1 ـ كيف يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مات وهو راض عن عمر، في حين أن عمر قد ودعه في مرض موته بكلمة: إن النبي ليهجر.
2 ـ كما أن صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمفردها لا تعطي امتيازاً للخليفة على غيره، إذا لم يصاحبها الالتزام بأوامر رسول الله، وحفظ وصاياه.
3 ـ وحتى لو صح الحديث عن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مات وهو راض عنه، فهل ينفعه ذلك، وهو قد عاد ليغضب ابنته التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، ويعتدي عليها بالضرب المبرح، ويسقط جنينها ويسعى بإحراق بيتها بمن فيه؟!..
4 ـ وحتى لو ادعى الجاحظ أن علياً (عليه السلام) قد زوجه طائعاً راغباً.. فإن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما زالوا يعلنون أنه قد زوجها مكرهاً مع بيان تفاصيل التهديدات التي تعرض لها.
5 ـ بل إن نفس رواية الجاحظ قد صرحت بأن علياً قد أقسم على أنها كانت صغيرة لم تبلغ.
6 ـ وأما بالنسبة للحديث عن الكفر، وعن الإيمان والفسق والعدالة، فهو حديث باطل، كما سيتضح في الفقرة التالية إن شاء الله تعالى.
هذا الزواج لم يحرج الشيعة:
ولربما وجد أهل السنة في هذا الزواج فرصة لإحراج الشيعة الذين يصححون هذا الحدث، فاعتبروه نقضاً لبعض مبانيهم الإيمانية والتشريعية.
فتصدى علماء الشيعة رضوان الله تعالى عليهم لبيان فساد هذا الوهم، وبينوا بما لا مدفع له كيف أن مبانيهم ثابتة وسليمة.
فإن السيد المرتضى، والشيخ الطوسي وغيرهما، وإن كانا قد قبلا بوقوع هذا الزواج، ولكنهم استناداً إلى كثير من الأدلة والشواهد الواردة في كتب السنة والشيعة قد أكدوا على حالة الإكراه التي تعرض لها علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى قبل بهذا الزواج.
قال السيد المرتضى(رحمه الله): "فلم يكن ذلك عن اختيار، والخلاف فيه مشهور، فإن الرواية وردت بأن عمر خطبها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فدافعه، وماطله فاستدعى عمر العباس فقال: ما لي؟! أبي بأس؟!
فقال: ما حملك على هذا الكلامفقال: خطبت إلى ابن أخيك فمنعني لعداوته لي.. والله لأعورنّ زمزم ولأهدمن السقاية.." إلى أن قال:
"على أنه لو لم يجر ما ذكرناه لم يمتنع أن يزوجه، لأنه كان على ظاهر الإسلام، والتمسك بشرائعه.. وإظهار الإسلام يرجع إلى الشرع فيه، وليس مما يحظره العقول.. وقد كان يجوز في العقول أن يبيحنا الله مناكحة المرتدين، على اختلاف ضروب ردّتهم. وكان أيضاً يجوز أن يبيحنا أن ننكح اليهود والنصارى كما أباحنا عند أكثر المسلمين أن ينكح فيهم.
فإذا قالوا: فما الفرق بين الوثني والكافر بدفع الإمامة.
قلنا لهم: وما الفرق بين النصرانية والوثنية في جواز النكاح وما الفرق بين النصراني والوثني في أخذ الجزية، وغيرها من الأحكام. فلا يرجعون في ذلك إلى الشرع الذي رجعنا معهم إليه(97). انتهى كلام السيد المرتضى(رحمه الله).
وذكر بعضهم أيضاً ما ملخصه:
أن بعضهم اعتذر عما فعله عمر من ضم أم كلثوم وتقبيلها، والكشف عن ساقها قبل وقوع العقد والتحليل، بأن ذلك إنما كان منه لأنه رآها صغيرة لم تبلغ حداً تشتهى حتى يحرم ذلك، ولولا صغرها لما بعث بها أبوها.
ولكن هذا الاعتذار غير مقبول، فإن ألف ضربة على جسد علي(عليه السلام)، وأضعافها على جسد أولاده أهون عليه من أن يرسلها إلى رجل أجنبي قبل العقد ليراها، فيأخذها، ويقبلها، ويكشف عن ساقها، ويضمها إليه، لولا علمه بأن الإمتناع عن ذلك يوقعه بما هو أعظم ضرراً حتى من هلاك نفسه وأولاده، ألا وهو وقوع فتنة بين المسلمين وارتداد الناس، وذهاب الدين..
وما سبيل الرجل مع أم كلثوم إلا سبيل فرعون مع آسية.
لأن ما ادعاه لنفسه ولصاحبه من الإمامة ظلماً وتعدياً، وخلافاً على الله ورسوله أعظم من إجبار علي (عليه السلام) على تزويج ابنته له. انتهى ملخصاً..(98).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): "إن المناكح على ظاهر الإسلام، دون حقائق الإيمان. والرجل المذكور وإن كان بجحده النص ودفعه الحق قد خرج عن الإيمان، فلم يخرج عن الإسلام لإقراره بالله ورسوله(99).
هذا.. وقد صرحت كتب أهل السنة بأن علياً (عليه السلام) قد رفض هذا الأمر أكثر من مرة، معللاً رفضه تارة بأنها صغيرة، وأخرى بأنه قد وعد بها ابن أخيه جعفر، وثالثة بأن أمرها يرجع إلى غيره ممن لا يرضى بذلك..
وقد صرحت كتب الشيعة بوجود تهديدات قوية من جانب عمر.. وأن الواسطة كان العباس بن عبد المطلب.. وأن العباس قد خاف من تلك التهديدات، فأصر على علي (عليه السلام) أن يجعل أمرها إليه فتولى هو تزويجها لعمر خوفاً من أن ينفذ عمر ما هدد به..
الفصل الثاني
امتناع علي (عليه السلام) و إصرار عمر
زواجها بمن لا ترضى:
ونحن نعتقد أن أم كلثوم قد أجبرت على هذا الزواج وأن أباها كان مكرهاً عليه أيضاً، وإن قضية زواجها من رجل لا ترضاه في الحالات العادية، ليس بالأمر الغريب. ومن مؤيدات ذلك حصول نظيره حتى للأنبياء صلوات الله عليهم وعلى نبينا وآله.
وقـد حـدثنا الله سبحانه. وصرحت الروايات بأن بعض زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قد كن يؤذينه، وبعضهن قد تظاهرن عليه، إلى حد أصبح بحاجة إلى أن يكون "الله مولاه، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير.." ثم بين الله سبحانه وجود نساء أخريات هن خير منهن، من حيث الصفات؛ لأن فيهن صفات تميزهن عنهن وهي صفات: الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتوبة، والعبادة، والسياحة إلى الله سبحانه. ثم ضرب لهن مثلاً بامرأتي نوح ولوط اللتين كانتا كافرتين، وتؤذيان نوحاً ولوطاً، وذلك بعد تهديد ووعيد للكفار بالجزاء العادل (راجع سورة التحريم).
فهل كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يحب في الظروف العادية أن يكن هؤلاء النسوة زوجات له؟!! أم أنه كان مضطراً لتحمل هذا الأمر، حتى لو
ومن جهة ثانية قد حدثنا القرآن الكريم أيضاً: أن امرأة فرعون كانت مكرهة على الإقامة مع فرعون كزوجة له، وكانت تدعو الله أن ينجيها من فرعون، ومن عمله وقد استشهدت رحمها الله على يد زوجها الطاغية، الذي كان يدعي الربوبية..
هل ولدت لعمر؟
وإذا كان هذا الزواج زواج أم كلثوم رحمها لله بعمر قد تم بالإكراه والإجبار، فإن ذلك لا يعني: أنها عاشت معه كزوجة، أو أنها قد ولدت له أولاداً، وذلك لأن التناقض الظاهر في الروايات لا يبقي مجالاً لإثبات حتى: أنه قد دخل بها.
بل قد صرحت بعض النصوص بأن عمر قد مات قبل أن يدخل بها، وأنها كانت صغيرة(100). فلا مجال إذن لتأكيد دعوى أن تكون قد ولدت له ولداً اسمه زيد.
ولو فرضنا: حدوث ذلك، فإن ذلك يبقى أيسر وأهون من أن يتعرض أمير المؤمنين لكيد يوصل له أعظم الأذى، ويوجب إثارة مشكلات كبرى في طريق هذا الإسلام العزيز الذي يستحق التضحية بكل غال ونفيس.
إعتذارات علي(عليه السلام):
وقد عددت الـروايات لنا اعتذارات علي (عليه السلام) فكانت عبارة عن أمور ثـلاثـة هي:
1 ـ ما تقدم وسيأتي من نصوص كثيرة صرحت بأن علياً (عليه السلام) قد اعتذر عن التزويج بصغر سن أم كلثوم(101).
2 ـ تقدمت روايات صرحت باعتذاره (عليه السلام) بأنه حبس بناته على أبناء جعفر، أو أنه أعدها لابن أخيه جعفر(102).
3 ـ إن له أمراء لا بد أن يستأذنهم(103).
ظهور صحة هذه الاعتذارات:
ولا مجال للمناقشة في هذه الاعتذارات، فإن صحتها ظاهرة لا ريب فيها، لكن البعض قد حاول أن يشكك في صحة الرواية التي تحدثت عن صغر سنها.
فإذا انضم ذلك إلى ما ادعاه بعضهم من أنها ولدت في السنة السادسة من الهجرة(105). فإن عمرها يكون حين الزواج حوالي إحدى عشرة سنة.. فكيف يقال: إنها كانت صغيرة؟!
غير أننا نقول:
أولاً: إن إصرار علي (عليه السلام) على صغر سنها، خير شاهد على عدم صحة القول بأن عمرها كان إحدى عشرة سنة.. فإنه أبوها، وأعرف الناس بها، وهو الإمام المعصوم.
ثانياً: قد يقال: إن المراد بأنها لم تبلغ هو أنها لم تبلغ بالحيض، كما هو رأي هذا الفريق من الناس في البلوغ الشرعي. فيكون كلامه هذا قد جاء على سبيل الإلزام لهم لما يلزمون به أنفسهم.
ثالثاً: لا دليل على صحة كلام صاحب السر المكتوم في أنها ولدت في السادسة من الهجرة.. بل في إصرار علي (عليه السلام) على صغرها، ثم في استهجان الناس لهذا الزواج بسبب صغرها أيضاً ما يدل على بطلان هذا القول..
ومهما يكن من أمر فقد صرحت بعض الروايات: بذلك، أي بأن أم
وقال الزرقاني: "أم كلثوم زوجة عمر بن الخطاب مات عنها قبل بلوغها(107).
وذكـر المازنـدراني الحائري: أنها ولـدت قبل وفاة النبي بثلاث سنوات(108).
بل أقل من ذلك، بدليل أنهم يقولون: إن عمر زينب كان حين خروجها إلى كربلاء سبعاً وخمسين سنة(109) وزينب كانت أكبر من أم كلثوم قطعاً..
فتكون ولادة أم كلثوم قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بسنة أو بسنتين على أبعد تقدير.
واعتذار علي(عليه السلام) بهذا الأمر بالذات - كما صرحت به الروايات كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار(110).
وعند ابن اسحاق: فاعتل علي (عليه السلام)، عليه وقال: إنها صغيرة، فقال عمر: لا والله، ما ذاك بك، ولكن أردت منعي، فإن كان كما تقول فابعثها إلي.
فرجع علي(عليه السلام) فدعاها فأعطاها حلة وأرسلها إليه، فأخذ بذراعها فاجتذبتها منه، وقالت: أرسل. فأرسلها وقال: حصان كريم، انطلقي فقولي له: ما أحسنها وأجملها، ليست - والله - كما قلت فزوجها إياه(112).
وعند أبي عمر: فقيل له ردك. فعاوده، فقال له علي(عليه السلام): أبعث بها إليك الخ..(113).
بل في بعض الروايات: أن علياً (عليه السلام) أرسل ابنته إلى عمر: لتقول له: إني قد قضيت حاجتك التي طلبت فأخذها عمر فضمها إليه، فقال: إني خطبتها إلى أبيها فزوجنيها.
قيل: يا أمير المؤمنين، ما كنت تريد إليها؟ إنها صبية صغيرة.
قال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي الخ..(114).
ونقول:
إن هذا الحديث الأخير ظاهر الدلالة على أن الناس قد استهجنوا إصرار الخليفة على الزواج من طفلة صغيرة، حتى احتاج إلى الإعتذار عن ذلك، ودفع الإشكال عن نفسه.
وقد دلت الروايات المتقدمة أيضاً على أن عمر كان مصراً على رفض كلام أمير المؤمنين إلى درجة أنه لم يرض بقوله: إنها صغيرة، حتى طلب أن يريه إياها. وأصرّ على أنه إنما يتعلل بذلك لكي يمنعها منه.
تشكيكات أخرى لا تصح:
وقد حاول البعض أن يشكك في بعض الروايات المصرحة بأنها كانت صغيرة لم تبلغ، فقال: إنها لم تكن صغيرة بدليل:
1 ـ قول ابن حجر: إنها شهدت على وثيقة فدك، إضافة إلى الحسنين(عليهما السلام)(115).
2 ـ إنها روت عن أمها فاطمة حديث السقيفة(116).
ونقول:
يمكن الإجابة عن ذلك:
أولاً:
قد قلنا: إن البلوغ الشرعي عند هؤلاء، إنما هو بالحيض لا
ثانياً:
إن الروايات قد عبرت عن زينب (عليها السلام) بأم كلثوم أيضا، فلعلها هي التي تتحدث الروايات.. عن شهادتها على وثيقة فدك، وروايتها لحديث السقيفة. ويكون العلم بصغر سنها قرينة على أن المراد هو زينب المكناة بهذه الكنية، لأن سنها هو الذي يوافق ذلك.