الصفحة 145
لكان ذلك سليمان بن داود(عليه السلام)، الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته، واستكمل مدّته، رمته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية"(1).

إذاً لا طائل من التمسّك بحبال الدنيا، فإن العبرة بالذين انصرفوا لا تخفى، أو يجب أن لا تخفى، حتى لا يستغرق الإنسان بالخديعة التي تمدد أطرافها نحوه الدنيا، وكي لا يفوت الناس واعز الهداية، فإنه يواصل عنايته بهم، مفوضاً من الله تعالى في اعلامهم ما يفوتهم، وحاملا متابعة رسالات ربه، يعظ مثلما وعظ المرسلون الأولون، ويؤدي ما أدت الأوصياء من بعدهم، يعلم من هو وما هو، ويعلّمهم أن يقفوا في هذا الأمر موقف العارف له، في كل مرة نستمع إلى خطابه الذي يؤكد أنه ليس من العاديين في الناس، أو من عامة الخطباء أو الساسة، إنما تولّى منصب الهداية لا عن ملك انتزعه، ولا عن دولة أقامها فتسلّط بالسيف على رقاب الناس، إنما بالهداية الإلهية المحمدية.

نلحظ كلماته هنا في تبليغ واجبه، والإعلان عن حقيقته، يقول:

"إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بهم أممهم، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم"(2).

وفي هذا القول ما يجعل القلب يجول ببصره أنحاء مفرداته،

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 182.

2ـ المصدر نفسه.


الصفحة 146
فيستمع إلى روح الشفقة التي يحملها، وثقل المهمة التي يقوم بها.

لكن الناس كعادتهم مع كل نبيّ أو هاد، يسومونه غاية التعب، ولا يشفقون على كينونته، رغم عدم احتياجه لهذا، لكن (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان)(1).

يتابع قائلا(عليه السلام): "وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا"(2).

والسبل التي اجترحها الإمام في إعادة بناء النفس الإنسانية، هي على تنوّعها وكثرتها فيما يظهر من كلامه، لم تكن لتردع الناس عن التعلّق بالدنيا واتيان حياض الآخرة، والذي يشفع في ذلك كلامه هنا وفي مواطن عديدة، أنه بادرهم القول والفعل والنصيحة والمنحة والعطية، مثلما بادرهم التهديد والتأديب والوعظ، لكنّ أكثرهم لم يستقيموا، ولم يتخذوا الدنيا مثلما صوّرها لهم، حيث قال: "أيها الناس، إنّ الدنيا تغرّ المؤمّل لها والمخلّد إليها، ولا تنفس بمن نافس فيها(3)، وتغلب من غلب عليها"(4).

بجميع ما حوت كلمات عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) من عظيم الموعظة، ومسلك التربية، وقوة الفؤاد، وشدّة الخوف على العباد، نعرف أن به يعرف وبرسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا يعرف بسواهما، اللهم إلاّ في

____________

1ـ الرحمن: 60.

2ـ المصدر نفسه.

3ـ أي لا تضن الدنيا بمن يباري غيره في اقتنائها وعدها من نفائسه ولا تحرص عليه بل تهلكه.

4ـ نهج البلاغة: الخطبة 178.


الصفحة 147
امتداده في آل بيت النبوة، وهو بحسب ما يرد في كلامه قد اتخذ للناس "الأمثال الصائبة، والمواعظ الشافية، لكن لو صادفت قلوباً زاكية، واسماعاً واعية، وآراء عازمة، والباباً حازمة"، وهو الذي على يقين من ربه كما قال(1).

ويصل الإمام علي(عليه السلام) مع الناس في شأن الدنيا، أبعد ما وصل إليه الهداة، من تحذير من ساقهم بعصاها فاطاعوها.

يقول: "قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزينتها، دارها هانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرّها، لم يصفها الله لأوليائه، ولم يضن بها على أعدائه، خيرها زهيد، وشرها عتيد، وجمعها ينفذ، وملكها يسلب، وعامرها يخرب، فما خير دار تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فيها فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع السير"(2).

في موازاة حبّه للناس ورجائه خلاصهم من فتنة الحياة الدنيا، ودخولهم حظيرة الحق، وامتناعهم وصرفهم عن مسارب السوء، تقف هيبة الإمامة ناصعة النور لمن ألقى السمع وهو شهيد، فينفرط من عقد لؤلؤها كلم يمشي مع الناس منذ بداءة خلقهم، حتى منتهيات آجالهم، وما يزال يعرض في الدنيا كضد لها، لا يمكن الاستفادة من مروره بها إلاّ كمن يرتشف قطراً من الماء في طريق طويل السفر،

____________

1ـ أنظر: نهج البلاغة: الخطبة 10، وغيرها.

2ـ نهج البلاغة: الخطبة 112.


الصفحة 148
قليل الزاد، يحضر قلوب الناس في قوله:

"قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة اذهب بكم من الآجلة"(1).

ترى لماذا كل هذا الشغف بتخليص الناس من الدنيا، لأنّه عالم بمصائر الناس، متيقّن من ربّ عبده عن بصيرة، واحيا حياته على سبيل مرضاته، وأحبّ أن يلتذ الناس بنعمة القرب منه، وأبغض أن يسومهم باريهم سوء العذاب بما كسبت أيديهم، فأشفق وأرفق، وعلم وهدى، وقد حذّرهم الدنيا بقوله: "احذركم الدنيا، فإنها منزل قُلعة، وليست بدار نُجعة"(2).

ثم يواصل حضّه لهم على ذكر منتهاهم ما تيسّر له ذلك، يقول:

"أولستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى: فميت يُبكى، وآخر يعزّى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغّص الشهوات، وقاطع الأمنيات، عند المساورة للأعمال القبيحة، واستعينوا بالله على قضاء واجب حقّه"(3).

ويندر أن تنفلت من بين أيدي المتابع لعطاء الإمام عليّ(عليه السلام) في الناس، قولا أو فعلا أو حقاً يراه أهل له، ذلك لأنه كما تقدم لا يرجو

____________

1ـ المصدر نفسه.

2ـ المصدر نفسه.

3ـ نهج البلاغة: الخطبة 98.


الصفحة 149
لهم إلاّ حسن النهاية، وجمال المئاب، إنه يذرف جميع هذا العمر منذ البداية حتى الختام، وهو سائر في الأرض يرغب في ارشاد عباد الله إلى الله تعالى.

ولما كانت الدنيا هي المعبّر الأوسع عن الشهوات والخداع وقصر الآمال والاستغراق فيما لا تنفع معه الخاتمة نافعة، رأيناه يعرف بنفسه عن نفسه في تنصيب إمامته، في القضاء على مؤامرات الدنيا في قلوب الناس، ولعمرك متى ما انصرفت الدنيا بهذا المعنى عن القلب، يكون الإنسان قد بلغ غاية فطرته، وتعلق بحبل نور امامه، ووصل حبال هذا النور، بمواطن حب المعشوق والأكمل والأعظم الذي تزحف نحوه البصيرة، وترغب إليه الذات.

هكذا كانت الدنيا هي الرمز الذي أعلن عليه الإمام الحرب، وأن كل حرب قام بها، إنما ينبغي أن تنصرف هذا المنصرف، وأن كل وصية أوصى بها، وكل بادرة خير للبشرية بادرها، فإنما تنطلق من ازاحة حجب الظلام الذي يمنع نور الله تعالى من اختراق قلب المؤمن، وكان بذلك لمن يبصر عيناً، ولن يسمع أذناً، ولمن يعشق فؤاداً، وصارت بعد ذلك دلائله عليه، ذاته في هذا المقام، ولا يحتاج بعدئذ لمن يوصف له الرتب، ويحاول ازاحة التسميات والصاقها به، الإمام الملاذ، هو المثال بهذا المعنى، الذي يعلم كل شيء، ويذهب في الناس جميعاً مذاهب الخير التي تعم عليهم، وإن كان ذلك يحتاج

الصفحة 150
إلى قرابين كبيرة وعظيمة، وإن كانت نفسه هي قربانه إلى باريه.

هكذا يصل السالك إلى طريق علي(عليه السلام) بعلي(عليه السلام) في جهة الدنيا، وثمة طرق تناولها كي يقيم فيها الحجة على الناس، ويخلص قلبه لله تعالى، يلقاه مطمئناً إن أدى ما بعث من أجله منها ما قاله الله ورسوله، وتنظر في طريق معرفتنا امامنا كيف أنطق ربه لسانه في البوح بمكنونات رحمته التي اختزنها قلبه، مثلما ننظر مبادرته في القول بنبي الله الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله).

الطريق إلى علي(عليه السلام) من قوله برسول الله(صلى الله عليه وآله)

كانت محطتنا في ايضاحه(عليه السلام) حقيقة الدنيا على قصرها ترغب في اطلاع الفؤاد على من وكيف وما هو الإمام، في مقابل مخلوقات الله تعالى، والذي يصرف أدنى جهده في الاطلاع على تعليماته في شؤون الدنيا، سوف يجد أنه بذل من أجل ايضاحات خفاياها، معظم جهده، في مقابل بقية هديه، لأنها تعتبر المسرح الذي تجري عليه أحداث الإنسان وما لها من حبائل تربط بها على قلبه، فكان منادياً فذاً في الانتباه إلى مساوئها، والنظر فيما يمكن أن يؤخذ من محاسنها.

ونحن إذ نرصد عملنا في هذا الفصل من أجل معرفة الطريق إليه، نوقظ الغافل من غفلته ونرجو أن يدخل معنا مضمار إمامته من بوابة

الصفحة 151
معرفته برسول الله(صلى الله عليه وآله)، وفق ما انتهجه لنا علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولا شك أن ما في الناس من يجهل أن محمداً(صلى الله عليه وآله)رسول الله، لكن الحقيقة المحمدية أمر آخر هو غير مظاهر آياتها، ولسنا هنا بصدد فلسفة الحقيقة هذه، إنما نسير على خطىً نرى أنها من الطريق التي تؤدي بنا خارج نفق الظلمات، وتوصلنا نحو ساحات نور الإمامة والنبوّة في عليّ ومحمد (عليهما أفضل صلوات الله وسلامه).

وغير خاف على الناس مدى تعلّق عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) برسول الله محمد(صلى الله عليه وآله)، لكن الذي قد يكون أكثر اضاءة وأعلى أنواراً، هو تحرّي هذا التعلق في بعض أقواله(عليه السلام)، ويندر أن تجد في كلام الناس ما هو أدلّ على لصوقه به، من جهة نبوّته تارة، ومن جهة حقيقته الإنسانية تارة أخرى.

كما قد يتجلى بذلك العمق المرجو من الدنو، ففي ما تقدّم من نظرية الإمامة تلمسنا أوجه الرغائب الحقة وفق ما فطر الله الناس عليه، وكان من منافع ذلك والله أعلم أن يلفت الانتباه نحو أمور أكثر كلية وشمولية، بل لعلها أكثر قرباً من حقيقة الإمامة، وإذا كان لابدّ لهذا التصوّر من مصداق خارجي، كان لابدّ لنا من تحرّي هذا البعد المنطقي.

وتوصلت بنا السبل إلى أن البشرية تقطع بوجود أنموذج هو غاية رجائها الإنساني، وهذا الأنموذج دلت عليه كتابات الناس منذ

الصفحة 152
القديم، واعتقاداتهم، فهو ليس بدعة، وإنما بات بمنزلة اليقين لدينا بعد أن اختلطنا ببعض المعارف في علم النفس، وبعد أن أجرينا جملة من التحليلات التي تلزم من أجل ابراز هذا الأمر واظهاره من مطامر الغياب، إلى مرايا الحضور، وبعد أن وصفت لنا آيات الله سبحانه المصطفين من رجاله، والموظفين لديه في ابلاغ الناس عنه، وتحميلهم الأمانات التي تسير في الناس بالقسط، تدارسنا حياتهم، وبالنظر إلى أن هذا الكتاب يمهد طريقاً نحو طريق، فإنه اقتصر على جزء من حضور الإمامة، وكان بذلك المشهد العلوي المقدّس، هو فاتحة هذا الأمر.

والذي يرسي دعائم التصديق في الاتجاهات جميعها، أن علي بن أبي طالب(عليه السلام)رجل اختصه رسول الله(صلى الله عليه وآله) لنفسه مثلما اختص الله أنبيائه لنفسه، كما أدركنا كيف أن علي(عليه السلام) أيضاً أفنى نفسه فداءً لمحمد(صلى الله عليه وآله)، فانسجمت بذلك نفسيهما، وهو القائل فيه: "عليّ مني وأنا منه ولا يؤدّي عني إلاّ عليّ"(1)، وسبق أن قلنا: إنّ هذا ليس من أجل إبراز الفضائل، إنما هو من أجل إجلاء الحق، والتعرف على قائد النفس إلى فطرتها، ومذكرها بآي ربها.

بذلك يمكن أن نلتقط ايحاءات كلماته عندما يأخذ في القول حول المصطفى محمد(صلى الله عليه وآله) فعند تعليقه عن الكيفية التي تواترت فيها

____________

1ـ راجع تذكرة الخواص: 420.


الصفحة 153
الرسالة والنبوة إلى محمد(صلى الله عليه وآله)، يقول في وصف الأنبياء: "فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرّهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام، كلّما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف، حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد(صلى الله عليه وآله) فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعز الأرومات مغرساً، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتجب منها أمناءه، عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوال، وثمرة لا تنال، فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى، وسراج لمع ضوؤه، وشهاب ساطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل"(1).

فإذا تأملنا في كلمات هذا التعريف بمحمد(صلى الله عليه وآله) من قبله(عليه السلام)، رأينا أن لهذا التوصيف أبعاد شتى، وإذا أخذنا مثلا جملة: (الشجرة التي صدع منها أنبيائه)، أو جملة: (هو امام من اتقى، وبصيرة من اهتدى)، أو تلقفنا قوله: (سراج لمع ضوؤه، وشهاب سطع نوره)، سوف نجد استقراراً لمكين الحبّ في عمق نفسه له، فمن ذا الذي أفرد نفسه للدفاع عنه، منذ ليلة الهجرة حتى لحظة التحاقه بباريه سبحانه.

إنّ في هذه الكلمات توسع، فالذي آمن برسالة محمد(صلى الله عليه وآله) ليس

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 93.


الصفحة 154
شخص عادي شأنه شأن من آمن من الآخرين، وعلّة هذا أن يراه يتقلّب في أصلاب الأنبياء، ولا يخالط طهره شحوب أو رياء، فهو من هذه الجهة ليس فقط مطمئناً للنبوّة اطمئنان من قامت عليه الحجة فدخل في دين الله، بل يظهر أن يعرف كنه النبوّة، ويعرف تمام القائم بها لا عن إعمال عقل، وإنما عن بصيرة نبعت من ذاته، فتراه يصفه بأنه أمام من اتقى، ثم في مكان آخر يعرف الناس بأنه (بلغ الرسالة صادعاً بها، وحمل على المحجة دالا عليها، وأقام أعلام الإهتداء، ومنار البيضاء"(1).

فهو في جميع الأحوال آخذ من الله، معطي إلى عباده كوسيط ينقل وحيه، ولكن ليس هذا الوسيط من الأمر في غياب عن الاندماج في أصله، بل مندمج فيه، ليس دالا عليه فحسب، بل تكاد تكون النبوة هي الشيء الوحيد الذي عبّر به عن محمد(صلى الله عليه وآله)مع أن محمداً(صلى الله عليه وآله) بشر، لكن ثمة ذلك الفارق الذي يفصل بين الإنسان مثلا والعمل الذي يقوم به، فلنقل أن فلاناً صانع سفن، فإن الصنعة شيء يضاف إلى الإنسان، ولا يعبّر عن حقيقته، وبمعنى آخر فإن كل أولي الوظائف الذين يقومون بأداء أعمالهم، تنفصل العمال عنهم انسانياً، أي من حيث هم بشر من جهة، ومن حيث أنهم يمارسون الأعمال من جهة ثانية.

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 185.


الصفحة 155
بينما عندما نتأمل في توصيف عليّ(عليه السلام) لمحمدٍّ(صلى الله عليه وآله)، فإننا نكاد نتلمس كلاماً في أعماق الكلام، يدلّ بشكل غير بعيد المنال، على أن ثمة دمج تام بين محمد(صلى الله عليه وآله)النبيّ الرسول وبين النبوّة والرسالة، هذا مثلا عند قوله(عليه السلام): "قد صُرفت نحوه أفئدة الأبرار، وتنبت إليه أزمّة الأبصار"(1).

سبق أن قلنا أن الغاية من ايفاد الرسل بحسب الآي الكريم، هي أن يقوم الناس بالقسط، هذا من جهة سلامة عيش الناس في الدار الدنيا، وهم عليها لمكافؤون، ولكن هنالك في عمق اللحظة البشرية عمق الحقيقة، ثمة ضوء الحق الذي تنجذب نحوه الأفئدة، وهي هنا جوهر، كينونه، ليست وظيفة، فالذي تنصرف إليه الأفئدة بذاته أمر يتعلّق الأمر به، لكن الذي تنصرف إليه الأبصار، فإنّه جوهر نبوّة، جوهر صفوة إلهية، بذلك تكون النبوّة إحدى ملكاته التي تعبّر عنه، وإن كان هو الذي في الواقع يعبر عنها، ومن يكون ميلان الأبصار بكليتها نحوه، معناه أنه ملاذ كل مخلوق، عندما ينكشف عنه حجاب الظلمة أو ينزل منازل الأبرار، ونجد أن عليّ(عليه السلام) عندما يتحدّث عن رفقته برسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: "أنا من رسول الله كالصنو من الصنو"(2)ويدلنا على نفسه بطرائق ايضاحه للحقيقة المحمدية، فهو في كل مرة يأتي فيها على ذكره(عليه السلام)، يكشف حجاباً من الحجب التي لا يدركها

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 95.

2ـ نهج البلاغة: كتاب 45، وقد مرّ.


الصفحة 156
عامة الناس، ويحتاج معها المرء إلى هاد يسوس قلبه إلى إمامه الذي هو وإياه "كالصنو من صنوه" فيفرج مفردة تلو أخرى، فنراه عندما يبتدىء الصلاة على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، تارة يقدم صفة من صفاته، وأخرى يظهر اداءً من أداءاته وفي غير مكان ينصرف لتقديس حقيقته.

وننظر هنا مثلا قوله فيه أنه(صلى الله عليه وآله) "الموضّحةُ به أشراط الهدى، والمجلوُّ به غِربيبُ العمى"(1)، والناظر إلى هذا القول، يحتاج إلى دراية مكمن الغاية من ايراده، فهذه ليست صفة من صفات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو عملا من أعماله، إنما هي حقيقة من حقائقه، فيه أي (بذاته بمعناه) تنكشف دلالات وعلاقات الهدى، وبه أيضاً بما هو هو، تنكشف ضلالات الظلمة، فيخرج القلب من العمى إلى البصيرة.

وهذا مثل قوله(عليه السلام) في إظهار حقيقة آل محمد(عليهم السلام) عند ذكره "بنا اهتديتم في الظلماء"(2)، وهذا يشير إلى حقيقة النور الذي تكرس فيهم، فالخروج من الظلمة كما سلف والدخول في النور يستلزم الانكشاف على الإمام، وتهافت الأفئدة نحوه، لذلك نجد الذي يخرج عن مدارات أنواره، إنما هو ذلك الإنسان الذي لم يعمر الله قلبه، وإن هو فعل لكان قد بلغ الاقبال بكلّيته عليه، ولكان ممن أحباب الحكمة، ولا غرابة في قوله(عليه السلام)، ومشابهته التامة بينه وبين

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 178.

2ـ نهج البلاغة: الخطبة 4.


الصفحة 157
رسول الله، سوى في تنزيل القرآن، فقد أورد في مكان آخر ما نصه في سبيل ايضاح حقيقته للناس قوله: "إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلاّ عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلاّ صدور أمينه، وأحلام رزينة"(1).

وفي عطف هذا القول على ما قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عليّ(عليه السلام): "عليّ مني وأنا من عليّ" نجد أن هذا التلازم بين محمد وعليّ وآل البيت(عليهم السلام)، هو تلازم في الكينونة في الماهية والذات، الأمر الذي يجعلنا نقرّ بأن الإمامة في الناس هنا أيضاً قد انكشفت عن وحدة كما قدمنا بين رسل الله، مستمرة متناقلة غير مفرقة فيما بين واحد منهم والآخر، ولهذه الاستمرارية أعلام يظهرون فيما بين الزمن والآخر، ولدى كل واحد منهم على السابق واللاحق.

يقول عليّ(عليه السلام): "كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمّرت مع أولهم إلى آخرهم"(2)، ويقول في مكان آخر "أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(3)، فهو في مقولته الأولى يدلي بأنه جائز على معارف من سبق ومن لحق، ويؤكدها غير مرة، يقول هنا مثلا: "اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته"(4)، ثم ليست هذا فحسب، بل يترك الناس إلى الصدوع بأمر هذا الفهم للإمام، ويكفي الحاذق أن

____________

1ـ نهج البلاغة: خطبة 189.

2ـ نهج البلاغة: كتاب 31.

3ـ نهج البلاغة: الخطبة 136.

4ـ نهج البلاغة: قصار الحكم 139.


الصفحة 158
يتأمّل قوله وهو يشير إلى صدره قائلا: "إنّ ههنا لعلماً جمّاً، لو أصبت له حمله"(1).

والذي يُستنتج مما تقدم، إنّ علياً وآل بيت رسول الله جميعاً ورسول الله(صلى الله عليه وآله) من جوهر واحد، وان أمر هذا الجوهر صعب، بل شديد الصعوبة، لذلك لا يجد الإمام فيمن كان يغشاهم نوره، من يتمكّن من تلقّي المزيد من معرفته، كما أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كرّر وصيته للناس في النظر في كيفية حفظهم لأهل بيته، فهو يعلم أن القوم لا يعون معناهم(2).

وفي العودة إلى تعريف عليّ(عليه السلام) الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله) نتابع طرقه في الكشف عن الحقيقة المحمدية، وهو في هذه المرة يشير إلى ما حمّله الله نبيّه من أمانة تؤدّى في الناس، يقول:

"أرسله بأمره صادعاً، وبذكره ناطقاً، فأدى أميناً، ومضى رشيداً"(3) في هذه تجمل الأنبياء لديه(عليه السلام)، فهو في مكان آخر من كلامه، يقول: "واصطفى سبحانه من ولده أنبياء ـ أي آدم ـ، أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقّه، واتخذوا الأنداد معه،... وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا

____________

1ـ المصدر نفسه.

2ـ أنظر التذكرة في وصية النبي بأهل بيته، م. س.

3ـ نهج البلاغة: الخطبة 99.


الصفحة 159
عليهم بالتبليغ"(1).

لعل هذا عمل من أعمال الأنبياء، وكما أشرنا قبلا فإن ثمة مراتب يبوح بالتعريف فيها الإمام، تارة تظهر الحقيقة بما هي جوهر، وتارة تصدر لتعرف أو تشير إلى أداء من أداءاتها، أو صفة من صفاتها، فهو هنا يعبر عن صفة أكثر من كونها كنه أو ذات، ونلاحظ مراودة الكلمة للمعنى عندما يريد لها أن تشير إلى صفة كيف تندرج إلى عالم الصفات، وعندما يستدرجها كي تعبّر عن الحقيقة، كيف ترتفع معه إلى مصافها، وفي تعبير منه عن المكان الذي يضع فيه محمد(صلى الله عليه وآله)أمانته، يقول في آل النبيّ(عليهم السلام) "هم موضع سرّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، واذهب ارتعاد فرائصه"(2).

وفي انتقال إلى موضع يذكر فيه النبيّ بقوله: "اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل"(3).

يلعب اظهار نور محمد(صلى الله عليه وآله) في حياة عليّ(عليه السلام) الدور الأكثر حسماً، والأشد وضوحاً لسببين فيما نرى رئيسيين:

الأول: يفهم من اجمال مواقفه وكلماته(عليه السلام) بأن الناس قد ذهبوا

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 1.

2ـ نهج البلاغة: الخطبة 2.

3ـ نهج البلاغة: الخطبة 71.


الصفحة 160
بعيداً في التغيير في البناء النفسي الذي رسخ معالمه وابتدأ انشاءه النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وقد يلاحظ المتابع لمواقفه وآرائه وخطابه أنه يلهج وراء اعادة المستوى النفسي الإيماني للبشر كافة، وكان شيئاً مخالفاً جداً لما جاء به النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد صار في حياة الناس شأناً اعتيادياً، والذي يدركه الإمام بالقطع لا قدرة لأحد على ادراكه، فهو كرسول الله(صلى الله عليه وآله)(أولى بالمؤمنين من أنفسهم) لخصيصة الإقامة جوهرياً، والتي يلزم منها بالضرورة كون هذا الإمام شاملا علمه، تامة معارفه، لا يعلمه أحد، ولا يشعر أحد بأنه أشد منه بأساً في أي شأن من شؤون الدنيا والآخرة، وأنه بناءً على ما قدمت لنا أبحاث نظرية الإمامة، فهو كامل العصمة، وعلته أن الله سبحانه اصطفاه، مثلما برهنا في المكان الذي ورد فيه معنى العصمة بالإجمال.

إذن، فالناس مفارقة للدين الذي صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) عمره من أجل إعلاء شأنه، بحسب ما يفهم من كلام الإمام، ونأخذ مثالا على ذلك هذا المقطع من خطابه لأصحابه، يقول:

"وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذممم آبائكم تأنفون! وكانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، فمكّنتم الظلمة من منزلتكم"(1).

فالملاحظ في معظم كلمته(عليه السلام) أن الناس قد صرفتهم الدنيا عما

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 105.


الصفحة 161
جاء به النبيّ(صلى الله عليه وآله)أو معظمهم، فبذل جهده في إعادة هذا الأمر إلى نصابه، وكان بذلك يعبّر عندما يريد الدخول في اعادته، أي أنه كان يحضر ذكر الرسول الكريم، ويجلي صدور الناس بتعداد مزاياه تارة، واظهار حقيقته أخرى، واعادة سيرته مرات، بهدف توثيق العلاقات ما بينه وبين الناس، في مواجهة نكوصات وانتكاس الناكسين. هذا الأمر الأول.

والأمر الثاني: يمكن التعرّف إليه أيضاً من خلال سيرته في الناس، وهو التدليل على الإمام الهادي، الإمام (المثال)، في مواجهة زيغ قلوب الناس نحو أشخاص لا يرى فيهم ابتداءً أهلية القيادة، فضلا عن أن منصب الإمامة لا يطالونه بحال، ليس فقط لقصر قوامهم، وإنما لما هو من تدبير الله ورسوله، أعني من الشؤون التي يرتبها الله ورسوله في الناس، ويصعب على الناس التدخّل فيها، وإن تدخّلوا من غير حق، قام صاحب الأمر الواقعي بإظهار هذا التدخّل، ومكافحته، حتى لا يختلط الحق بالباطل.

وهنا يشير(عليه السلام) إلى أن الله سبحانه قد بعث الرسول في الناس كي يخرجوا من ربقة الوثنية، ومن سيطرة الشيطان، وأيّده بكتابه المحكم البيّن، حتى يتعلموا ويعلموا ربهم بعد أن جهلوه، يقول:

"وليقروا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إن أنكروه"(1).

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 147.


الصفحة 162
ويقول(عليه السلام) في أبرز تعبير عما حواه القرآن الكريم:

"فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه، بما أراهم من قدرته، وخوفهم من سطوته"(1).

إن تجلّي الله لعباده من خلال الكتاب الذي أنزل على محمد لهو من الكلام الذي يدلّ على أن الإمام قد خبر لبَّ الحقيقة، وجاء بنا إلى جادة معرفته، من خلال ما يدل به على نبيّه وكتابه.

فقد ارتكزت كلماته(عليه السلام) حول رسول الله(صلى الله عليه وآله) على مرتكز معرفته الخاصة به، لذلك جاءت تعبيراته عنه بهذا المقدار من الدقّة، وهو بعد ذلك يقول لابنه الحسن(عليه السلام) لقد كان لك في رسول الله(صلى الله عليه وآله) كاف لك من الأسوة، مستنداً على القرآن الكريم في هذا (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)(2)، ويتابع وصيته لولده وهي كما ذكرنا قبلا، أنها تمثّل سعة الإمام في احتضان جميع أمة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أي لا تقف عند الإمام الحسن(عليه السلام).

يتابع قائلا: "ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكتافها... فتأسَ بنبيك الأطيب الأطهر(صلى الله عليه وآله)، فإن فيه أسوة لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيّه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، اهضم أهل الدنيا كشحاً، واخمصهم من الدنيا بطناً،

____________

1ـ المصدر نفسه.

2ـ الأحزاب: 21.


الصفحة 163
عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره، ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض الله، وتعظيمنا ما صغّر الله، لكفى به شقاقاً لله"(1).

إن هذه الكلمات، هي بحسب الوثائق التاريخية، وصيته لابنه الحسن(عليه السلام)، لكنها بحسب ميزان هذه الدراسة، فإنها دستور يقف عليه كل من أدرك أن الإسلام هو الله ورسوله وكتابه وأهل بيته.

كيف هذا؟

إنّ الله سبحانه اصطفى أنبياءه وخاصته، وأوفدهم إلى خلقه، وأقام معهم الكتاب، ثم بعد أن ختم بمحمد(صلى الله عليه وآله) ترك في الناس الهداة، وبالاستدلال على الذين يهدون بما أنزل الله بلا تردد وما سنه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بلا انقطاع، نلتمس أن الإمام عليّ(عليه السلام) في هذه الوصية قد فتح نافذة جديدة على متابعة شؤون الطريق إليه به، وستكون هذه النافذة، حول تعريفه بآل البيت وحول بعض ما انكشفت له من حقائقه معرفة الله جلّ وعلا.

من هم آل محمد في خطاب الإمام عليّ(عليه السلام)

كلما اقتربنا من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أكثر كلّما انفتحت أبواب رحمته علينا، ولفح أرواحنا نوره أكثر، ولعل الحزبية والعشائرية هي أكثر ما

____________

1ـ نهج البلاغة: الخطبة 160.


الصفحة 164
تكون بعداً فيما يجب في الإسلام، فالله سبحانه علّم المسلمين أن لا يتفاضل بعضهم على بعض، لا بنسب، ولا بجمال، ولا بقوة، ولا بسلطان، ولا مال، ولا بأي شأن من شؤون الدنيا، وإنّما جعل الفضل كما هو معروف عند صغار المسلمين قبل كبارهم، جعله بالتقوى، وجعلها مفتاح العروج إلى سدّة رحمته.

وقد تقدّم في بحث الأمة، كيف أن النظرة القرآنية إلى الناس، هي نظرة ترفع المؤمنين أياً كانت أعراقهم وألسنتهم وأوضاعهم الاجتماعية، فقراء كانوا أم أغنياء، أشداء كانوا أم ضعفاء، لونهم أبيض كان أم أسود، وعلى أي أرض وفي أي زمان، بينما تخفض المنافقين والكافرين وجميع من يدخل في تسمية غير المؤمن، وتجعل مرتبتهم في نظر الله تعالى دون من يستحق حتى أن يذكر، ولولا أن الكتاب أتى ليهدي الناس، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، بفضل ربهم، لما رأينا القرآن يعير سوى المؤمنين أية عناية.

من هنا ينبغي أن تعلم! أن الله سبحانه ورسوله، وآل بيته الذين لم يختلفوا في القرآن ولم يخالفوه، جميعاً يدعون إلى أمة واحدة، هي أمة مبنية على الالتزام بمبادىء الإسلام، أي على أساس عقائدي، لا على أي أساس آخر.

هكذا نفهم من كلام الله وكلام رسوله وآل بيته، لذلك عندما نأخذ في تناولنا هنا آل بيت النبيّ بحسب ما يقودنا إليه كلام الإمام، فإن

الصفحة 165
الذي لا ينبغي أن يظن، أنهم شكلوا حزباً قبلياً، أو اعتصموا بالطريقة الجاهلية في التعامل، وإنما تدلّنا سيرتهم على أنهم باعدوا بين من لم يلتزم تعاليم الله تعالى، أو خالفها، وإن كان من خاصة نسبهم، وقرّبوا من التزم بدين الله تعالى، وإن كان من أبعد الأبعدين عنه.

والمراد من هذا أن عليّاً(عليه السلام) لما أتى على ذكرهم، لم يكن اتيانه هنا على أسس حزبية أو عشائرية، حاشاه، إنما جاءت موازنته ما بينهم وبين الناس فيما فضلهم الله به عليهم، فهم بحسب تعبيره: "إنّا صنائع ربنا، والناس صنائع لنا"(1)(2).

من يملك من المؤمنين والمؤمنات أن يختار رداً لقضاء الله ورسوله إذا اختارا شيئاً، الله سبحانه يقرّر ذلك: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(3) بهذه الآية المباركة تفهم كلمته بأن أهل البيت صنائع الله، والذي يمعن الإمام في اظهاره هنا، هو الوقوف في وجه من يرغب عن قضاء الله ورسوله، لا عن تعصّب، إنما تنفيذاً لحكمه، والزاماً لغير الراضين.

وهو بعد ذلك يرفد الناس بالاطلاع عليهم مبتدأ بنفسه وبالدور الذي يضطلع به في الناس، ويرجى الالتفات والتأمل هنا في أوضاع

____________

1ـ نهج البلاغة: كتاب 28.

2ـ آل النبي أسراء احسان الله عليهم، والناس أسراء فضلهم بعد ذلك.

3ـ الأحزاب: 36.


الصفحة 166
المخاطبين، فهو يعبّر عن حال الدين بعد الفاصل بين قيادته للأمة "القيادة السياسية هذه المرة" وبين المسافة التي قطعتها الناس فيما تلا وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

يقول: "أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد هيهات أن أطلع بكم سرار العدل(1)، أو أقيم اعوجاج الحق.

اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك"(2).

الملاحظ بلا كثير عناء أن الإمام يوثق في الناس دور الأئمة من جهة، ويظهر الوضع الذي آل إليه الدين بين الناس من جهة ثانية، ويظهر أيضاً وهو الأكثر أهمية هنا بالنسبة لبحثنا، أنه يشير إلى قيامه بأمر الله تعالى، يعرف بحقيقة إمامته، فهو لا يخرج للناس كي يتسلم زمام سلطة ولا ليتكسب أو يعتاش ويثري، فهذا لم يعرف عنهم آل البيت(عليهم السلام)، لعدم حاجتهم إلى ذلك، شأنهم شأن كل الهداة من رسل وأنبياء، فغايتهم القيام بأمر الله ومحاولة ايصال الناس إليها، ويتزعم

____________

1ـ أي ان اكشف ما عرف على العدل من الظلمة.

2ـ نهج البلاغة: الخطبة 131.