السؤال الثالث:
انكم تدّعون انّه عليه السلام غاب منذ سنين طويلة ولم تتحقق مثل هذه الغيبة لأحد لحدّ الآن، فلماذا لم يُشِرْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى وصفه بهذا الوصف والحال عندما ذكر المهدي عليه السلام بالاسم والوصف، بل ذكرها(1) كان اولى من ذكر باقي الصفات، فانّ الغيبة بهذه الطول من خوارق العادات؟
وهذه الشبهة لابن حجر في الصواعق(2).
الجواب:
أمّا أولا: ان السكوت عن وصف وانْ كان اولى بذكره من سائر الاوصاف الاخرى لا يضرّ في صحة انطباق سائر الاوصاف، ووجود تلك الاوصاف يدلّ على انّه هو المقصود، فليس هو الّا مجرد استبعاد.. ولعلّ المصلحة قائمة في ترك ذلك الوصف وانْ كنّا لا نعرفها.
وأما ثانياً: انّ عدم الحصول على هذا الوصف في الأخبار المنقولة في هذا
____________
1- الضمير يعود على الغيبة.
2- قال ابن حجر في ضمن ردّه على معاشر الامامية في غيبة المهدي عليه السلام:
" وان الجمهور غير الامامية على ان المهدي غير الحجة هذا إذ تغيّب شخص هذه المدّة المديدة من خوارق العادات فلو كان هو لكان وصفه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بذلك اظهر من وصفه بغير ذلك ممّا مرّ ".
الصواعق المحرقة: ص 168.
وفي كل ذلك نظر، بل قطع على خلافه، فكثيراً ما رؤي انّه نقل في خبر ما لم ينقل في الآخر، أو ان فيه مضمون وفي النقل الآخر خلافه.
وظهور التغيير والتحريف والزيادة والنقيصة العمدية والسهوية فوق الاحصاء، حتى انّه قد ألّفت كتب في ذكر الأخبار الموضوعة وكتب في ردّها. وقد جمعت في كتب الدراية كثير من الأخبار المصحفة والمحرفة.
فالذي لا يتخوف من وضع الخبر أو تغييره لنصرة مذهبه أو توهين المذهب الذي يخالفه، فما هو رادعه في اسقاط ما لا يوافق مذهبه؟
وقد جُمع في كتب الامامية المطولة كثير من ذلك عن أهل السنة بما يرتبط بهم.
وأما ثالثاً: فدعوى عدم الورود امّا عن جهل أو تجاهل.
فقد نقل الامامية عنه صلى الله عليه وآله وسلّم وعن أمير المؤمنين عليه السلام بما يفيد التواتر، وفيهم جماعة من أهل السنة الذين مدحوهم وأثنوا عليهم وحكموا عليهم بالصدق والديانة.
وأما اصحاب ابن حجر فانّهم نقلوا ايضاً اخباراً صريحة بغيبة المهدي عليه السلام، وكذلك بالضمن فرووا نصّه صلى الله عليه وآله وسلّم على أنّ ابن الامام الحسين عليه السلام التاسع هو المهدي.
وروَوْا ايضاً انّه عليه السلام يخرج في آخر الزمان.
ولا يمكن الجمع بين الروايات الّا بالقول بوجوده وغيبته عليه السلام. وسوف يشار إلى هذه الأخبار في الباب الآتي ان شاء الله تعالى.
السؤال الرابع:
انه قرر في الشريعة المطهرة ان الصغير لا تصح ولايته، ولا يسلط طفل على مال وروح وعرض محترم، وانتم معشر الامامية تدّعون الامامة والرئاسة الكبرى لمهديكم الذي عمره اربع أو خمس سنوات، وهذا لا يتفق مع الشرع.
وكذلك لم يوصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بانّه يؤتى الحكمة والامامة في صباه في ضمن صفات المهدي عليه السلام، مع انها من الصفات الجميلة والجليلة.
ولابد من نقل عبارة ابن حجر في الصواعق لتكون عبرة للناظرين، وهي:
" ثم المقرر في الشريعة المطهرة ان الصغير لا تصح ولايته فكيف ساغ لهؤلاء الحمقاء(1) المغفلين ان يزعموا امامة من عمره خمس سنين وانّه اوتي الحكم صبياً مع انّه صلى الله عليه وآله وسلّم لم يخبر به؟ ما ذلك الّا مجازفة وجرأة على الشريعة الغراء "(2).
وقال في موضع آخر: " وكذا كان اللازم توصيفه بأنّه يؤتى الحكم صبياً ولم يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ".
ومن ظرائف المقولات التي ترتبط بهذا الموضوع ما قاله ابن عربي في الفتوحات في ضمن حالات الامام المهدي عليه السلام:
" يقسم المال بالسوية، ويعدل في الرعية، يأتيه الرجل فيقول يا مهدي اعطني، وبين يديه المال فيجيء له ما استطاع أن يحمله ; يخرج على فترة من الدين، يزع الله به ما لا يزع بالقرآن، يمسي الرجل جاهلا، وجباناً وبخيلا فيصبح عالماً شجاعاً كريماً... "(3) إلى آخر ما ترجمناه سابقاً.
____________
1- في المطبوع (الحمقى) بدل (الحمقاء).
2- الصواعق المحرقة (ابن حجر): ص 168.
3- الفتوحات المكية (ابن عربي): ج 3، ص 327.
وظاهر هذه العبارة غير خفي على ادنى طلبة.
قال المولوي عبد العلى الهندي ـ الملقب عند العلماء هناك ببحر العلوم ـ في رسالة (فتح الرحمن)، بعد كلام في ذكر المهدي عليه السلام: " وقال الشيخ قدس سرّه: " يمسي جاهلا بخيلا فيصبح اعلم الناس اكرم الناس، يعني حينما يتصف بهذه الصفات كان ليلتها جباناً وكان بخيلا وبعد مرور ليلة واحدة صار في وقت الصبح اعلم الناس وصار اشجع الناس وصار اكرم الناس، يعني يكون معدوم النظير في العلم والشجاعة والجود.
ومقصود هذا الكلام هو: ان الله تعالى يكرم هذا الخليفة في ليلة واحدة بكل هذه المراتب والمنازل، واكثر من ذلك فانّه يتصف بالاضداد، كما يقول الشيعة ان الامام المهدي عليه السلام معصوم من ايّام طفولته مثل عصمة الانبياء عليهم السلام، انتهى.
الانصاف هو ان مثل هذا الفهم على طرفي نقيض بين ان يكون له هذا اللقب الجليل وهذا الاعتقاد وبين مذهب الامامية.
فانّه يوصف في حال رجولته بثلاث صفات حسنة وبثلاث صفات رذيلة خبيثة التي هي اقبح من كل أو اكثر الصفات القبيحة، وتتشعب منها مثل الحرص والطمع والحقد والحسد وحبّ الدنيا وجميع الشهوات واللذائذ وامثال ذلك، وهي نادراً ما تجتمع في شخص واحد، بينما هي اجتمعت في هذا الخليفة الالهي سنيناً، وما وجد مثل هذا الشخص الجاهل المبتلى بأنواع المعاصي.
الجواب:
وبالله التوفيق ; ان حفظ النفس والمال وعرض النفس المحترمة متوقف على:
ومن القدرة بحيث يتمكن ان يعمل بما علم.
ومن الدين والتقوى ليعمل بما علمه ويقدر عليه ; حتى لا يماطل ولا يخالف.
ولهذا قرر الشارع المقدس انّه لابد من توفر شروط في اولئك، وعين طرقاً لمعرفة واحراز تلك الشروط فيهم، والزم أن لا تتخطّاها زيادة ولا يجوز ان تنقص، لأن الطرفين يسببان اختلال النظام في أمور المعاش والمعاد، وبذلك نقض الغرض لبعثة الانبياء.
وامّا الامامة التي هي الرئاسة الكبرى، والنيابة الخاصة عن النبي المرسل على جميع العباد، بل ان جميع الأشياء من المكلفين وغيرهم وزمام الدين والروح والعرض جميعاً بكف كفايته.
ولصاحب ذلك المقام شروط واوصاف اُخرى لابد أن تكون متوفرة فيه ليتمكن ان يقوم بعهدة تلك الرئاسة والولاية.
وحسب مذهب الامامية فان جملة من تلك الشروط موهوبية، وانها لا تحصل بالكسب والتعب والمشقة والرياضات والعبادة وتحصيل العلوم حتى لو انفق عمر الدنيا كلّه.
فانّه يتميز عن سنخ الرعية من عالم الطينة إلى اصل النطفة وانعقادها وولادته ونشؤوه وتربيته يخالفهم ويغايرهم في العقل والنفس والروح والجسد.
ولا طريق لمعرفة الشخص الذي فيه هذه الشروط واحرازها فيه الّا من طريق النص الالهي، وصدور المعجز منه مقارناً لدعواه كما هو ثابت في محلّه.
وان ولاية أولئك ليس هي كولاية الولي والوصي والمتولي والقيم والوكيل وأمثالهم، فان وجود هؤلاء وعدمهم بيد المكلفين فانهم يعطونها إلى من يشاؤون، وتكون لها شروط فاذا اجتمعت بشخص قادر طُوّقت رقبته بطوق الولاية الّا بزعم
فيمكن لكل جماعة لها وجود سياسي ان تجعل ملكاً اماماً ولو كان مثل (شير شخص القزويني) لم يتحلّى بأي صفة من صفات الانسانية فضلا عن الوصول إلى كمالات اهل الصفوة والخلة ; ولو كان مثل معاوية الغدار ويزيد الخمار القمار والوليد الجبار ومروان الحمار ; فانهم وحسب اصول هذه الجماعة كانوا من أهل الامامة الحقة ونواب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، واولوا الامر الواجبي الاتباع.
وعلى هذا يأتي اشكال ابن حجر على الامامية، فكيف جمع ذلك ـ والعقل غير قادر على القيام بأمور السياسة وحفظ الثغور ـ فكان اماماً للمسلمين؟
واما الامامية فيقولون: ان تعيين الامام من الله عزوجل فمن ارادة صنعه(1)وآتاه الحكمة(2) وجعله اهلا للرئاسة والامامة، وعند الله تعالى يتساوى الصغير والكبير والأسود والأبيض، فيمكن ان يهبها لكل احد وعلى اية حال كان وصفة.
وجميع الأشاعرة يقولون ـ وابن حجر منهم: انّه من الممكن ان يرى الانسان أو يسمع ويفهم ويحفظ بيده أو رجله كما يكون ذلك بأذنه وعينه وحواسّه الباطنية!
فلا كلام اذن في امكان أن يؤتي الله تعالى الحكمة إلى طفل، وان ذلك ينطبق على قواعدهم، ولا يكون محلا للاعتراض.
وامّا وقوعه فيكفيه قصة عيسى عليه السلام حينما اعترض اليهود على مريم
____________
1- كما في قوله تعالى: " ولتصنع على عيني " ـ من الآية 39، سورة طه.
2- كما في قوله تعالى: " وآتيناه الحكم صبياً " من الآية 12، سورة مريم.
فكيف يكلّم العاقل الفاهم طفلا في المهد لا يعرف شيئاً ولا يقدر ان يتكلم؟
قال عيسى عليه السلام: " انّي عبد الله ".
انّي عبد الذات الاحدية الذي له جميع الصفات الجميلة والقدرة التامة التي اعطى لطفل كلما اعطاه إلى كليمه وخليله.
" آتاني الكتاب ".
وقد اعطاني الكتاب الذي اعطاه لرسله وجعله علامة لنبوتهم.
" وجعلني نبياً ".
وشرفني بخلعة النبوة ورفعني بمنصب الرسالة والسفارة.
" وجعلني مباركاً اينما كنت ".
وحيثما كنت فانّه فتح ابواب خيراتي الدينية والدنيوية والبرزخية والاُخروية والظاهرية والباطنية إلى عباده، وقد أجرى عيون الفيوضات والمنافع والبركات من قلبي ولساني وعملي لعباده.
" وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ".
ودعاني في جميع حياتي إلى الصلاة التي هي المعراج إلى حضرته المقدسة، وامرني بحبس النفس عن اللذائذ والشهوات والمنهيات.
" وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً ".
واحسن اليّ إذ عرفني حق نعمة واحسان وتربية والدتي فاقوم بشكر وحمد مشقتها وتعبها، ولم يجعلني عاصياً وشقياً أرى نفسي مستحقاً لكل احسان وخدمة ولا ارى لأحد حقاً على نفسي.
____________
1- الآية 29، سورة مريم.
وسلام وأمان الله لي من شرور وفتنة شياطين الجنّ والانس، ومن البلاء والعذاب البرزخي، ومن اهوال وشدائد يوم البعث إذ كنت من يوم الولادة وحتى ذلك اليوم في أمن وأمان من الآفات الدينية والامراض القلبية حتى آتي في محضر القرب الالهي بقلب سليم(1).
فمع التأمل والتدبّر في الجملة يظهر ان جميع اصول الشرائع وخصائص النبوة قد بينها هذا النبي المرسل ابن الاربعين يوماً مع اصول اعمال الجوارح لاُمّته.
فلم ير ولم يسمع بهذه الآيات، الجاهل الغافل ابن حجر، أو انّه اصاب القدرة الكاملة نقص. أو انّه زال القابل(2) لهذه النعمة من العباد.
وانهم لا يشترطون الاستعداد والقابلية لشيء.
وروى نعيم بن حماد في كتاب (الفتن) ان عيسى يقول للمهدي عليه السلام: { انما بعثت وزيراً ولم ابعث اميراً }.
ولا شك ان الأمير أفضل من الوزير ; وكيف يمكن مع الوزير هكذا، بينما يبقى الأمير المدة المديدة في وادي الجهل والخطأ، ومع ذلك فهو افضل منه؟!
ونظير عيسى عليه السلام يحيى عليه السلام فانه تعالى اخبر باننا فعلنا به من صباه ذلك: { يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً }.
____________
1- اشارة إلى قوله تعالى: " الاّ من أتى الله بقلب سليم " الآية 89 ـ سورة الشعراء.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: " وان من شيعته لابراهيم إذ جاء ربّه بقلب سليم " الآيات 83 و84 ـ سورة الصافات.
2- القابل محل نزول العلة، فلو لم يكن القابل لما امكن تحقق العلة لعدم المحل الذي تهبط فيه.. مثاله لا يمكن للحجر ان يكون عالماً لعدم وجود القابل للعلم.
وأما الطفل فعدم صلاحيته للعلم من جهة العادة وليست بالاستحالة العقلية، والامتناع العادي يمكن ان ينقض ببعض الافراد فيكون التحقق نادر مما يصلح ان يتحقق خلاف القاعدة ببعض الافراد وهو كاف للنقص.
والحمد لله الذي ظهر من هو المتجرأ.
ومن الطرائف ان علماء اهل السنة ادّعوا لبعض اطفالهم مقامات عالية، ولكنهم استغربوا ذلك لابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
يقول ابن عربي في الفتوحات: " اعلم ان الناس لا يستغربون من الحكمة الّا من الطفل الصغير لانها غير متعارفة بينهم الّا الحكمة الظاهرة التي هي من الفكر والتدبر، وليس الصبي عادةً محلا لها، فيقال ان ذلك الصبي نطق بالحكمة. وتظهر رعاية الله تعالى بهذا المحل ظاهراً وزاده في يحيى وعيسى عليهما السلام فانهم نطقوا بالحكمة يعني علموا بما قالوه، لا انّه اجري على ألسنتهم، وذلك علم ذوقي لأنه لا يصح مثل هذا التكلم في مثل هذا الزمان والعمر الّا ان يكون عن ذوق، فاعطاهم الله تعالى الحكمة في حال الصغر، وهذه الحكمة هي النبوة ولا تكون الّا بالذوق(2)... إلى أن يقول:
" وقد نطق في المهد جماعة اعني في حال الرضاعة، وقد رأينا اعظم من هذا، رأينا من تكلّم في بطن اُمّه وأدى واجباً، وذلك ان اُمّه عطست وهي حامل به، فحمدت الله، فقال لها من بطنها: يرحمك الله ; بكلام سمعه الحاضرون!
وامّا ما يناسب الكلام فان ابنتي زينب سألتها كالملاعب لها وهي في سنّ الرضاعة وكان عمرها في ذلك الوقت سنة، أو قريباً منها ; فقلت لها بحضور امّها وجدتها: يا بنية ما تقولين في الرجل يجامع أهله، ولا ينزل؟
____________
1- راجع ابن حجر (الصواعق المحرقة): ص 168.
2- قد ترجمنا هذا المقطع إلى العربية لعدم عثورنا على النص حالياً.
فتعجب الحاضرون من ذلك وغشي على جدّتها من نطقها، وفارقت هذه البنت في تلك السنة وتركتها عند امّها، وغبت عنها، واذنت لأمها في الحج في تلك السنة، ومشيت انا على العراق إلى مكة، فلما جئنا المعرف خرجت في جماعة معي أطلب أهلي في الركب الشامي، فرأتني وهي ترضع ثدي امها، فقالت: يا أمّي هذا أبي قد جاء!
فنظرت الأم حتى رأتني مقبلا على بُعْد وهي تقول: هذا أبي، هذا أبي.
فناداني خالها، فاقبلت، فعندما رأتني ضحكت ورمت بنفسها عليّ، وصارت تقول لي يا أبت يا أبت...(1)
وهذا وأمثاله من هذا الباب.
يقول المؤلف:
ان هذه المسألة التي سألها ابن عربي ابنته هي نفس المسألة التي ابتلي بها في عصر الخليفة الثاني ولم يتمكن الخليفة عليها، ويحكى جميع الصحابة عنها واجاب أمير المؤمنين عليه السلام الطفلة التي ترضع فبيض وجوه ائمتهم..
ونقل ايضاً ابن الصلاح في (علوم الحديث)، والخطيب في (الكفاية) عن ابراهيم بن سعيد الجوهري انّه قال: " رأيت صبياً ابن اربع سنين قد حُمل الى المأمون قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي غير انّه إذا جاع يبكي "(2).
وهناك حكايات من هذا النوع في تراجم جملة من عرفائهم، وان ذكرها
____________
1- نقلنا هذا المقطع من النص من كتاب الشيخ الاكبر محيي الدين ابن عربي ترجمة حياته من كلامه (محمود محمود الغراب): ص 155 ـ 156.
2- علوم الحديث (ابن الصلاح): ص 131 ـ الكفاية في علم الرواية (الخطيب البغدادي): ص 64.
امّا ما قيل أنّه لماذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هذه المنقبة في ضمن اوصافه عليه السلام فيجاب عليه: انّه يعرف من الجواب السابق، وبالاضافة إلى ذلك نقول: ان هذا الوصف في أهل بيته كان شائعاً ومرتكزاً في الاذهان فكانوا من طفولتهم اصحاب العلم والحكمة والكمال بدون أي تردد، ولم يتعلموا عند احد، وهو ثابت ومبين في محلّه ; وان الحسنين داخلان في آية التطهير، وليس هناك رجس اقبح من الجهل وعدم العلم ; وفي الأخبار المشهورة عند الفريقين ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم اشار اليهما عليهما السلام وقال: " هذان ولداي امامان قاما أو قعدا "(1).
يعني قاما إلى الجهاد، أو سكتا وقعدا ; سواءاً دعيا الناس إلى انفسهما، ام لم يدعوا.
أو انّه كناية عن ثبوت هذا المنصب لهما على كل حال.
وظاهر العبارة، بل صريحها ان هذا المنصب ثابت لهما من ذلك الوقت ـ فانّه من المستهجن جداً أن يقول أحد ان هذا الشخص الحاضر عالم أو شجاع أو كريم، ويقصد به انّه يكون كذلك بعد ثلاثين سنة، أو بعد أربعين سنة! ـ وان عمر هذين الامامين لم يتجاوز السبع أو الثمان سنين حين وفاة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، والله أعلم في أي وقت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هذه العبارة.
روى يوسف السلمي في عقد الدرر عن الحافظ ابي عبد الله نعيم بن حماد انّه روى عن الامام الباقر عليه السلام انّه قال: يكون هذا الأمر في اصغرنا سناً، واجملنا
____________
1- مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب): ج 3، ص 367 ـ بحار الأنوار: ج 43، ص 278 وغيرهما.
السؤال الخامس:
ان عمراً بهذا الطول من خواريق العادة، ولم يحدث لحدّ الآن في هذه الأمة مثله.
وسيأتي جوابه في آخر الباب السابع مفصلا، ولا فائدة هنا في تكراره.
السؤال السادس:
تقولون معاشر الامامية ان المهدي دخل سرداب بيت أبيه، وأمّه تنظر إليه، وما زال هناك وينتظر حتى يخرج من هناك، ولم يره احد هناك، وهذا بعيد من جهتين:
أولاهما: عدم وجود الطعام والشراب، ولازمه ان يعيش انسان بدون غذاء.
والاُخرى: عدم رؤيته في ذلك المكان مع توفر شروط الرؤية.
ويظهر من الگنجي وغيره ان هذه النسبة مسلّمة عند علمائهم، وهذه عبارة الذهبي في تاريخ الاسلام: " محمد ابن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن الجواد بن علي الرضا ; أبو القاسم العلوي الحسيني خاتم الاثنى عشر اماماً للشيعة وهو منتظر الرافضة الذين يزعمون انّه المهدي، وانّه صاحب الزمان، وانه الخلف الحجة، وهو صاحب السرداب بسامراء "... إلى أن يقول:
" ولهم اربعمائة سنة وخمسون سنة ينتظرون ظهوره، ويدّعون انّه دخل سرداباً في البيت الذي لوالده وأمّه تنظر إليه، ولم يخرج منه إلى الآن، فدخل
____________
1- عقد الدرر (يوسف السلمي): ص 42.
وقال في أحوال الامام العسكري عليه السلام بعد أن ذكر انّه والد الامام الحجة:
" وهم ـ أي الرافضة ـ يدّعون بقاءهُ في السرداب من أربعمائة سنة، وانّه صاحب الزمان، وانّه حيّ يعلم علم الاولين والآخرين، ويعترفون انّه لم يره احدٌ.
وبالجملة جهل الرافضة عليه مزيد فنسأل الله ان يثبت عقولنا وايماننا ".
وسيأتي الجواب مفصلا في الباب السابع، مع انّه لم يدّعِ أحد من علماء الامامية مثل هذا الادّعاء في أي كتاب فضلا عن نسبة ذلك اليهم جميعاً ; ومع هذا الافتراء العظيم فانّه يدعو الله ان يثبت عقله وايمانه.
وعلى فرض التسليم ; فقد اجبنا على الاستبعاد الاول هناك كما أجاب به الگنجي ايضاً.
وقد أجبنا على الاستبعاد الثاني على النحو الاوفى هناك في ذيل الحكاية الثانية قصة مدن اولاده عليه السلام، والحكاية السابعة والثلاثين قصة الجزيرة الخضراء، ونكتفي بنقل عبارة الميبدي في شرح الديوان ; روى عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم انّه قال:
" انّ لله تبارك وتعالى ثلاثمائة شخص قلوبهم على قلب آدم عليه السلام، وله أربعون شخص قلوبهم على قلب موسى عليه السلام، وله سبعة اشخاص قلوبهم على قلب ابراهيم عليه السلام، وله خمسة اشخاص قلوبهم على قلب جبرئيل عليه السلام، وله ثلاثة اشخاص قلوبهم على قلب ميكائيل، وله شخص واحد قلبه على قلب اسرافيل كلما مات واحد جعل الله تعالى محلّه واحداً من الثلاثة، وكلما مات واحد من الثلاثة جعل الله تعالى مكانه واحداً من الخمسة، وكلما مات واحداً من الخمسة جعل الله مكانه واحداً من السبعة، وكلما مات واحد من السبعة جعل الله تعالى مكانه واحداً من الاربعين، وكلما مات واحد من الاربعين جعل الله تعالى مكانه واحداً من
وقال الشيخ علاء الدولة في العروة:
" يطوى لهم الأرض ويمشون على الماء، ويتسترون عن أعين الناس، ويجتمعون في مكان ضيق مملوء من أهل الشهادة ولا يكون بدنهم غير ممسوس، ولا يرى لهم ظل، ويرتلون القرآن عالياً وينشدون الشعر ويبكون وتأخذهم الوجد والرقص ولا يسمع احد انشادهم ; ويمكن ان يجعلون من الخسيس نفيساً، ومن النفيس خسيساً ويؤثرون على المحتاجين، ويمشون في بلاد الربع المسكون، ويجتمعون بالسنة مرّتين، مرة في يوم عرفة بعرفات، ومرة في رجب في المكان الذي يؤمرون به ".
وملاّ حسين الميبدي من علمائهم المعروفين وهو من الذين يستشهدون بكلامه وقد ذكر جملة من مؤلفاته الكاتب الچلبي في (كشف الظنون)، مثل (شرح هداية الحكمة) و (شرح الكافية) و (جام گيتي نما) و (شرح الديوان) المذكور.
وما قيل بأنهم يثبتون له علم الاولين والآخرين فهو قول صحيح، ولكن من غير المعلوم ان ما يقوله جمهور الامامية في حقه عليه السلام اكثر مما يقوله اهل السنة لأقطابهم ومشايخهم.
نقل الشيخ عبد الوهاب الشعراني في المبحث الخامس والأربعين من (اليواقيت) عن أبي الحسن الشاذلي: ان للقطب خمس عشرة علامة ; ان يمدّ بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة، ومدد حملة العرش، ويكشف له عن حقيقة الذات ـ يعني ذات الحق جلّ وعلا ـ واحاطة الصفات.. الخ(2).
____________
1- لعدم وجود المصدر بين ايدينا قمنا بترجمة النص الفارسي.
2- راجع كشف الاستار: ص 150 ; وتكملته: (ويكرم بكرامة الحلم والفضل بين الموجودين، وانفصال الاول عن الاول، وما انفصل عنه الى منتهاه، وما ثبت فيه وحكم من قبل وما بعد، وحكم ما لا قبل له ولا بعد، وعلم الاحاطة بكل معلوم ما بدا من السر الاول إلى منتهاه ثم يعود اليه) انتهى.
ونقل الميبدي في شرح الفصوص عن الجندي: " انه نقل الشيخ صدر الدين عن ابن عربي: عندما وصلت إلى بحر الروم من بلاد الاندلس قررت في نفسي حينها ان لا أجلس في السفينة فانكشفت لي تفاصيل احوالي الظاهرة والباطنة إلى آخر عمري، والتي ظهرت كلها بعد التوجه التام والمراقبة الكاملة حتى صحبة ابيك اسحاق بن محمد وجميع أحوالك واتباعك من الولادة إلى الموت وأحوالكم في البرزخ، وكان ثابتاً حينها ان منشأ هذا الاطلاع هو معدن العلم الالهي " انتهى.
ومع تمكن الاطلاع على المعدن المذكور فلا يبقى فرق بين الماضي والمستقبل، والقلة والكثرة، والعلوم الظاهرة والباطنة، واما ما قاله وقد اعترف به انّه لا يمكن لأحد ان يرى ذلك، فهو ايضاً كذب لم يخجل من ارتكابه، مع تلك الجلالة والشأن الذي اعطوه له.
أما في الغيبة الصغرى وهي حدود سبعين سنة فقد وصل إلى خدمته عليه السلام خلق كثير، وقد ثبتت اسماؤهم في اغلب كتب الامامية، وقد ألّفت بعضها في ايام ولادته، وبعضها في الغيبة الصغرى، وقريب منها، وهي موجودة إلى الآن، والظاهر ان الذهبي لم ير شيئاً منها.. بل قد تقدّم ان البلاذري الحافظ المعتبر عندهم قد روى عنه عليه السلام في الحديث المسلسل الذي جميع سلسلته من المعروفين وكل واحد منهم يوصف بصفة متفرد بها في عصره مثل السيوطي والجزري ونظائرهما ; وسوف يأتي انه تشرف بخدمته عليه السلام جماعة في الغيبة الكبرى ايضاً، حتى ان منهم من تشرّف إلى لقائه عليه السلام وقد أشرنا إلى اسمائهم سابقاً.
السؤال السابع:
ما هي الحكمة في غيبة هذا الامام، فانّه مع هذا العمر الطويل قد تجنب الخلق خائفاً على الدوام، ولم ير احد من الخاصة والعامة شيئاً منه ; يقول ابن تميمية الحنبلي ـ مؤسس الطريقة وباني طائفة الوهابية الخبيثة في نجد، وقد أخذ الشيخ عبد الوهاب تلك المذاهب الفاسدة من كتبه ـ في كتاب (منهاج السنة) الذي كتبه رداً على (منهاج الكرامة) لآية الله العلامة الحلي: (مهدي الرافضة لا خير فيه إذْ لا نفع ديني ولا دنيوي لغيبته).
الجواب:
بعد الاعتراف بامامة الحجة بن الحسن عليه السلام وبقائه بالنصوص والمعجزات وقاعدة اللطف، فكيف يترك العباد إلى انفسهم مع كل هذا الجهل والحسد والتباغض والتكالب والتقارب والتضاد واتّباع الهوى بدون رئيس وبلا اضطرار يبين لهم الصلاح والفساد والنفع والضرر الديني والدنيوي في دينهم وعقلهم وروحهم وبدنهم وعرضهم ومالهم، ويحركهم الى ذلك ويفعلون ما يقول لهم ويحفظهم ويؤمنهم من الخطأ والنسيان والسهو والمعصية، فانّ ذلك سيكون نقضاً لغرض التكليف وبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، لأنهم عليهم أن يطيعوا وينقادوا ويسمعوا لكلامه ويطيعوا لأوامره بلا استثناء لأنّ الحجة قد تمّت عليهم به وخرس لسان عذرهم، كما هو مفصل في الكتب الكلامية.
أو انّهم يعترفون ويسلمون بهذا المدّعى مماشاة مع الخصم، لأن هناك مسائل اُخرى فلا موقع لهذا السؤال، حتى من معاشر الامامية.
أمّا من ناحية اهل السنة ; أولا:
ان طول عمر المهدي عليه السلام واخفاؤه عن الخلق انما هو من الافعال الالهية،
وعليه فلا يحق لأهل السنة أن يسألوا عن وجه الحكمة لهذا الفعل الالهي وباقي افعاله.
وثانياً: لا ضرر من عدم العلم بوجه الحكمة في فعل الهي على وجوب الاعتقاد بصدور ذلك الفعل، كما قد خفيت الحكمة عن الأمة في أكثر أحكام الدين واسرار العبادات، وخفيت اغلب مفاسد كثير من النواهي.
وكذلك لم تكن جملة من أفعال وأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الّا من جهة الوحي والأمر الالهي، ولم يكن هذا الجهل سبباً لضعف العقيدة بالصدور أو رفع اليد عمّا كان محلا للتكليف بالضرورة.
وثالثاً: النقض بالدجال ; بانّه موجود في خبر بل في اخبار في كتب صحاحهم، ويأتي في آخر الباب السابع، انّه كان موجوداً قبل مدّة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهو محبوس في جزيرة في اطراف الجزائر المغربية وعالمٌ بفتن آخر الزمان وما سوف يفعله بنفسه، وسوف يبقى حيّاً إلى أن يقتل بيد المهدي عليه السلام أو عيسى عليه السلام.
وهو شريكه عليه السلام في طول العمر والغيبة ; فاذا كانوا لعدم علمهم بحكمة وجوده وغيبته رفعوا ايديهم عن الدجال ; فنحن ـ نعوذ بالله ـ نسحب أيدينا عن مهدينا صلوات الله عليه.
وللگنجي الشافعي هناك كلام ذكرناه في الباب المذكور.
ورابعاً: وفي الأخبار الصحيحة عند الفريقين ـ ونحن قد سجلنا اكثر من
وكان لأكثر الانبياء عليهم السلام غيبات طويلة وغير طويلة ابتعدوا فيها عن اممهم بأمر الهي ولم يكن لأحد علم عنهم.
ذكر شيخ المؤرخين علي بن الحسين المسعودي (الذي ينقل أهل السنة من كتبه، مثل مروج الذهب واخبار الزمان، ويعتمدون عليه، وقد مدحه محمد بن شاكر الكتبي في فوات الوفيات وذكر كتبه) غيبات للأنبياء والاوصياء في كتاب (اثبات الوصية).
وإذا لم يكن في هذه الامة غيبة للحجة ـ الذي باعترافهم افضل من عيسى عليه السلام، وانّه افضل من جميع الانبياء والمرسلين غير اولي العزم منهم، وانّه لا يأتي حجة غيره بعد ذلك إلى يوم القيامة ـ فيلزم تكذيب تلك الأخبار الصريحة المتواترة بحسب المضمون.
ولا فرق بين طول وقصر زمان الغيبة لأن هذا الاختلاف كان موجوداً هناك ايضاً.
وأما من ناحية معاشر الامامية فانهم يعترفون ان لغيبته عليه السلام حكمة طبعاً، بل حِكَم ; ولكنهم ممنوعون من ائمتهم عليهم السلام عن البحث والتفتيش في فهم سرّها.
بل ان بعض العلماء حرّم ذلك ; قال الشيخ المقدم ابو محمد الحسن بن موسى النوبختي في كتاب (الفرق والمقالات) بعد أن ذكر مذهب الامامية في حق المهدي صلوات الله عليه وغيبته عليه السلام:
" لأنه ليس للعباد أن يبحثوا عن امور الله ويقضوا بلا علم لهم، ويطلبوا آثار ما ستر عنهم، ولا يجوز ذكر اسمه، ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك، إذ هو
والمروي في علل الشرائع، واكمال الدين انّه قال عليه السلام(2): " ان لصاحب هذا الامر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كل مبطل.
فقلت له(3): ولِمَ جعلت فداك؟
قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم.
قلت(4): فما وجه الحكمة في غيبته؟
قال: وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره ; ان وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف الّا بعد ظهوره، كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، واقامة الجدار، لموسى عليه السلام الّا وقت افتراقهما.
يا ابن الفضل! ان هذا الأمر امرٌ من الله، وسرٌّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا انّه عزوجل حكيم صدّقنا بأن أفعاله كلّها حكمة، وان كان وجهها غير منكشف لنا "(5).
ومع ذلك فقد ورد ان بعض الرواة عندما يسألون عن حكمة الغيبة فانهم عليهم السلام يجيبون بما يسكت الراوي، ويظهر من الخبر المتقدم ان ما يقولونه عليهم السلام ليس هو السرّ الحقيقي وليس هو تمام وجه الحكمة، كما ورد في اخبار كثيرة ان سبب غيبته عليه السلام هو خوف القتل.
____________
1- فرق الشيعة (النوبختي): ص 109 ـ 110.
2- عن الامام الصادق عليه السلام.
3 و 4- في الترجمة: فسأله الراوي.
5- علل الشرائع (الصدوق): ج 1، ص 246، ح 8 ـ كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 482.