الصفحة 440
وقد اعتمد الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب الغيبة على هذا السبب، وانّه لا علة تمنع من ظهوره الّا خوفه، وان منع الله تعالى الظالمين من قتله عليه السلام من غير طريق النهي بل بأسباب الالهية يوجب الجبر وينافي التكليف وينقض الغرض به باستحقاق الثواب!

والفرق بينه عليه السلام وبين آبائه الطاهرين عليهم السلام فقد كانوا ظاهرين بين الناس وكان سلاطين الجور في كل عصر واكثر الناس يخالفونهم ويعادوهم، بخلافه عليه السلام فانّه صار مستوراً عليه السلام. وأما سبب ستره دونهم عليهم السلام لأنّ السلاطين والولاة كانوا مطمئنين انهم عليهم السلام لا يرون الخروج عليهم، ولا يعتقدون انّهم يقومون بالسيف.

وليس كذلك صاحب الزمان عليه السلام لأنّ المعلوم منه انّه يقوم بالسيف ويزيل الممالك ويقهر كل سلطان ويبسط العدل على جميع وجه الأرض، فمن كانت هذه صفته فهو يعارض ويضاد الملك فبالطبع يكون خائفاً، ويسعون جاهدين في قلع جذوره وقمعه.

وبما انّه آخر الحجج فان قتله يكون ابطالا للوعد الالهي، لأنه لا يوجد أحدٌ يأتي مكانه، فلذلك أمن بحسب الامر الالهي من القتل الى ذلك الزمان الذي يظهر فيه.

فكانت غيبته واستتاره بملاحظة هذا الخوف واجبة بالحكمة(1).

وروي في العلل وكمال الدين وجه آخر للحكمة من الغيبة:

قال الراوي(2): قلت له: ما بال أمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل فلاناً وفلاناً

____________

1- نقله (رحمه الله) بالمعنى متصرفاً. وراجع النص في الغيبة (الطوسي): فصل في ذكر العلة المانعة لصاحب الامر عليه السلام من الظهور، ص 329 ـ وما بعدها من الطبعة المحققة.

2- هذه الزيادة في الترجمة، واما في المصدر (... عن محمد بن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له... الخ).


الصفحة 441
وفلاناً؟(1)

قال: لآية في كتاب الله عزوجل: { لو تزيلو لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً اليماً }(2).

قال: قلت(3): وما يعني بتزايلهم؟

قال: ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عليه السلام) لن يظهر أبداً حتى تخرج ودائع الله تعالى، فاذا خرجت ظهر على مَنْ ظهر من اعداء الله فقتلهم "(4).

ونتيجة هذا الخبر الشريف هي ان وجه الغيبة لاستخلاص النطف التي يكون منها أهل الايمان من اهل النفاق ; لأنّ بسط اليد بسبب الظهور يوجب قتل أهل الخلاف، وبقتلهم تذهب هذه الذرية الصالحة الذين هم في اصلابهم.

وفي الحكمة البالغة ان هذا امرٌ مطلوب وكان هو علّة صبر وسكوت وترك أمير المؤمنين عليه السلام جهاد الذين تقدموه، لأنه كان عليه السلام يعلم ان في اصلاب أهل الردّة نطف المؤمنين كما هو مشاهد ومحسوس بكثرة.

وان صبره وقعوده عليه السلام عن طلب حقّه هو مثل اختفاء امام العصر عليه السلام بل روى الفاضل الخبير قطب الدين الاشكوري تلميذ المحقق الداماد في (محبوب القلوب) عن سيد الشهداء عليه السلام عندما حمل يوم عاشوراء على معسكر ابن زياد فكان يقتل بعضاً ويترك آخرين مع وضوح تمكنه من قتلهم، فسئل عليه السلام عن سبب ذلك، فقال: رفع الحجاب الذي امام عيني فرأيت نطفاً في اصلابهم فعرفت اولئك الذين يخرج من نطفهم اهل الايمان فتركت قتلهم، ورأيت الذين لا يخرج منهم

____________

1- في الترجمة بدل (فلاناً... الخ) (المخالفين له).

2- من الآية 25: سورة الفتح.

3- في الترجمة بدل: (فسأل الراوي).

4- علل الشرائع: ص 147 ـ كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 641.


الصفحة 442
صالح فقتلتهم.

وأمثال هذه الاعمال التي هي عمل أهل الولاية في تدبير امور الخلق بنحو لا يلفت، اذن لا يصح ان يعترض على افعالهم، بل يجب حملها على الحكمة الاجمالية والمصالح العامة بدون حاجة للعلم التفصيلي بها.

وروي في كمال الدين ايضاً عن سدير عنه عليه السلام انّه قال: " انّ للقائم منّا غيبة يطول امدها.

فقلت له(1): يا ابن رسول الله ولِمَ ذلك؟

قال: لأنّ الله عزوجلّ أبى الّا ان تجري فيه سنن الانبياء عليهم السلام في غيباتهم، وانّه لابدّ له ـ يا سدير ـ من استيفاء مدد غيباتهم، قال الله تعالى: { لَتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق }(2) أي سنن مَنْ كان قبلكم "(3).

وهذا اشارة إلى ذلك الوجه الذي ذكرناه سابقاً.

السؤال الثامن:

مع كل هذه الاختلافات التي ظهرت بين الشيعة في الفروع والاصول، فلماذا لم يظهر لعدة من مخلصي الشيعة المسموعة أقوالهم ويرفع به الاختلاف الذي صار سبباً لتفسيق وتضليل وتكفير بعضهم لبعض، فهو الأمان الذي لا خوف فيه.

الجواب:

ان اكثر البشر على وجه الأرض ينكرون وجود الذات الأحدية المقدسة جلّ

____________

1- في الترجمة بدل (فقلت له) (فسأل سدير).

2- الانشقاق: الآية 19.

3- كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 480، ح 6.


الصفحة 443
ثناؤه، يعترفون انّ كلّ ذلك الاختلاف مراتب توحيده وصفاته وأفعاله(1) باطل وقائله ضال ويسبب الخلود في النار لأكثرهم الّا طريقة واحدة وفي كل ذلك، فلم يحذر الله تعالى أبداً من أي شيء، ولم يستخدم قدرته في رفع الاختلاف الموجود وحلّ الخصام المتنازع فيه، وايجاد المعرفة الضرورية والعلم الوجداني في النفوس والقلوب بما لا يبقى في القلب شيء الّا الحق... وهذا(2) أهم باضعاف غير متناهية من وليّه ونائبه وخليفته في الأرض.

وكل عذر يقال لترك الله عزوجل ذلك، فان وليّه اولى بذلك العذر لتركه رفع الاختلاف.

السؤال التاسع:

تقولون انتم الامامية بامامة امام سُلبت منه جميع لوازم الامامة وذاتيات الرئاسة العامة والنيابة الالهية والخلافة النبوية مثل بيان الأحكام وحلّ الخصومات واجراء الحدود وحفظ الثغور واخذ الحقوق، واعانة المظلوم، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الظالم وتجهيز العساكر وامثال ذلك الذي هو الغرض من نصب الامام سواء كان بالنص أو بالاجماع. فعليه القيام بالأمور المذكورة وتنظيم القظايا الشرعيّة واصلاح المفاسد الدينيّة والدنيويّة للمسلمين.

ومع انتفاء هذه الواجبات المذكورة عنه بسبب عدم تمكّنه من القيام بها فانّه يسقط عن الامامة، ولا يبقى شيء صار من اجله امام، والذي يليق بهذا المنصب من هو جدير بهذا اللقب. وأما مهديكم فهو من قال عنه ابن تيمية في منهاج السنة: " لا

____________

1- لعلّ الواو العاطفة عطف بيان فالتوحيد هو توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد العبادة بتفصيل مذكور في الكتب العقائدية ولعلّ المقصود من توحيد الافعال هنا هو توحيد الفاعل والعلّة الفاعليّة، والله أعلم.

2- يعني وايجاد هذه الحالة للاعتقاد بتوحيده أهم بأضعاف المرّات من الاعتقاد بوليّه... الخ.


الصفحة 444
خير فيه إذ لا نفع ديني ولا دنيوي لغيبته ".

الجواب:

امّا على طريقة أهل السنة ; فأولاً:

فينقض بغيبة أغلب الأنبياء عليهم السلام مع ان الغرض من بعثتهم هو انفاذ الاحكام المذكورة واجراء الواجبات المعروفة اصالةً ; واما الامام فهو مكلف بذلك بالنيابة عنهم.

وغيبة اولئك مذكورة في كتب السير والتواريخ والأخبار النبوية عند الفريقين، ولا تقبل الانكار، ويكفي لاثبات هذا المدعى غيبة يونس عليه السلام عن قومه، بل عن كل متحرك في الأرض، بل تحت الأرض الّا ذلك الحوت الذي كان فيه بطنه، بنص القرآن المجيد.

ولا يمكن لأي مسلم ان يسلب النبوة عنه بسبب هذه الغيبة، وانّه لم يكن نبيّاً في كل هذه المدة التي فارق بها الامة وسار في السفينة وفي بطن الحوت إلى حين عودته إلى قومه، وان نبوته ونبوة غيره تدور في دائرة حضوره وسلطته التي تذهب احياناً وتعود اُخرى، ويكون النبي في بعض الاحيان رعية وتابعاً.

فانه من البديهي ان الخلق لا يخلون عن هذين الصنفين.

ولم يحتمل احد لحدّ الآن هذا الاحتمال السخيف والقول البديهي البطلان.

وايضاً فان وقت اعتزالهم يكون عندما يراد هلاك اُمتهم ; كما روى الثعلبي وغيره يؤمر النبي الذي يراد عذاب امّته بهلاكهم أن يأتي إلى مكة المكرمة ويبقى فيها يعبد الله تعالى إلى ان يحين اجله.

وأوضح واعجب من كل ذلك اختفاء وغيبة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، كما في السيرة الحلبية لبرهان الدين الشافعي، وغيرها ; فقد روي عن ابن اسحاق انّه صلى

الصفحة 445
الله عليه وآله وسلّم اختفى ثلاث سنين بعد نزول السورة المباركة: { يا أيها المدّثر، قم فأنذر } في بيت الأرقم ; فاذا أراد الصلاة، ذهب مع جماعة ممن آمن إلى شعب من شعاب مكة وصلّوا.

وقوّى هناك ان مدة الاختفاء في بيت الأرقم استمرت حتى ظهرت الدعوة وهي أربع سنوات ; وهكذا في المدة التي حوصروا فيها بشعب أبي طالب بل حبسوا فيها به.

وهكذا في الغار، ومدة من بعدها. بل في جميع ايام البعثة لم يكن له قوة وسلطة لانفاذ تلك الامور الّا الدعوة إلى التوحيد والرسالة وقليل من اعمال الجوارح.

وطبق سياق السؤال فلابد من سلب النبوة عنه صلى الله عليه وآله وسلّم ـ والعياذ بالله ـ في تلك المدة المذكورة.

ومثل هذا الشخص ـ الذي يقول هذه المقالة(1) ـ خارج عن دائرة الاسلام.

وثانياً: صرح علماء أهل السنة على ان القوة والسلطنة الفعلية ليست شرطاً في النبوة والامامة حيث إذا فقدت ذهبت النبوة والامامة.

قال الشيخ ابو مشكور السلمي الحنفي ; محمد بن عبد الرشيد بن شعيب الكشي ـ ويعدونه مجدد الالف الثاني ـ في كتاب (التمهيد في بيان التوحيد) ونقل العبارة الاولى، فلعل العلماء رأوا عدم الحاجة في نقلها في الكتب العربية:

" قال: قال بعض الناس بانّ الامام إذا لم يكن مطاعاً فانّه لا يكون اماماً ; لأنه إذا لم يكن القهر والغلبة له فلا يكون اماماً.

قلنا: ليس كذلك ; لان طاعة الامام فرض على الناس، فان لم يكن القهر فذلك يكون من تمرد الناس ; وهو لا يعزله عن الامامة.

فلو لم يُطَع الامام فالعصيان حصل منهم، وعصيانهم لا يضرّ بالامامة، ألا

____________

1- زدنا هذه العبارة لتصحيح سياق الجملة.


الصفحة 446
ترى انّ النبي ما كان مطاعاً في اول الاسلام، وما كان له القهر على اعدائه من طريق العادة والكفرة(1)، وقد تمردوا عن أمره ودينه، وقد كان هذا لا يضرّه ولا يعزله عن النبوة.

وكذا الامام خليفة النبي لا محالة.

وكذلك علي عليه السلام ما كان مطاعاً من جميع المسلمين، ومع ذلك ما كان معزولا، فصحّ ما قلنا ; ولو ان الناس كلهم ارتدوا عن الاسلام ـ والعياذ بالله تعالى ـ فانّ الامام لا ينعزل(2) عن الامامة، فكذلك بالعصيان "(3).

وخلاصة العبارة هو ما ذكر بان النبوة والامامة من المناصب الالهية وليست كالسلطنة والحكومة العرفية فاذا وصل القهر والغلبة وامكان اجراء الأوامر والنواهي الى مقام العفلية فهي باقية والّا فيكون مثله مثل السلطان بلا مُلك ولا عسكر ولا يقال له حينئذ سلطان.

وقد ورد في اخبار أهل السنة ايضاً ان الائمة من قريش.

وفي جملة منها ان الخلافة تبقى في قريش دائماً(4)، كما في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم انّه قال: " لا يزال هذا الامر (الخلافة، كما صرّح الشراح)(5) في قريش ما بقي منهم اثنان "(6).

وفي رواية اُخرى ما بقي من الناس احدٌ.

____________

1- في الكشف (والكفرة قد) باسقاط الواو العاطفة من (قد).

2- هكذا في الكشف، وفي الترجمة (لم ينعزل) بدل (لا ينعزل).

3- راجع كشف الاستار: ص 141 ـ 142.

4- في صحيح البخاري: ج 8، ص 105 ـ كتاب الاحكام: باب الامراء من قريش، ح 1، عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم: " ان هذا الامر في قريش... " ـ وفي المقدمة لابن خلدون: ص 194 (وثبت ايضاً في الصحيح لا يزال هذا الامر في هذا الحي من قريش).

5- راجع فتح الباري (ابن حجر العسقلاني): ج 13، ص 100 وما بعدها.

6- صحيح البخاري: ج 8، ص 105 ـ كتاب الاحكام: باب الامراء من قريش، ج 2.


الصفحة 447
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن العلقمي الشافعي تلميذ السيوطي في الكوكب المنير، وهو شرح للجامع الصغير لاُستاذه، بعد ذكر ما تقدم:

" ولأنّ الناس كانوا يتبعون قريش في الجاهلية، وكانوا رؤساء العرب، فصاروا تبعاً لهم في الاسلام، وهم اصحاب الخلافة، وهذه الخلافة مستمرة لهم إلى آخر الدنيا ما بقي في الناس اثنان "(1).

وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وآله وسلّم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على الملك لا ينكر ان الخلافة في قريش(2)، فاسم الخلافة باق لهم ولو انه بقي مجرد اسم.

وقد احتمل ابن حجر العسقلاني في فتح الباري الذي هو شرح على صحيح البخاري، هذا المعنى وعدّه احد احتمالات الخبر المذكور(3).

واحتمل ايضاً انّه لم يقصد منه الإخبار بل انّه امر جاء به بصورة الخبر، يعني عليكم ان تتخذوا خليفة من قريش دائماً(4).

وعلى طريقتهم فان الرعية هي التي تصنع الخليفة ومن ثمّ يأتمّون به.

وأجاب الكرماني على الاشكال ان الحكم في زماننا في غير قريش:

بانّ الخليفة في بلاد المغرب ومصر من قريش(5).

وقال في فتح الباري: " ان هذا صحيح ولكنه غير مبسوط اليد وليس له من الخلافة الّا الاسم فقط "(6).

____________

1- راجع فتح الباري، ج 13، ص 100.

2 و 3- راجع فتح الباري، ج 13، ص 101.

4- قال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري)، ج 13، ص 101: " والحديث وان كان بلفظ الخبر فهو بمعنى الأمر كأنه قال ائتمّوا بقريش خاصة... ".

5- في فتح الباري: ج 13، ص 101: (وقال الكرماني: لم يخلُ الزمان من وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل وكذا في مصر).

6- لم نجد هذه العبارة في فتح الباري.


الصفحة 448
وهذه العبارة صريحة في ان التسلط والحكومة ليستا شرطاً للخلافة والامامة، بل ان الخليفة والامام مَنْ قال الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بانّه خليفة وامام وان لم يمكّنه الغاصبون والمتغلبون.

وفي هذا المعنى فلا فرق حينئذ بين الحضور والغياب والظهور والاختفاء.

وقال ملك العلماء شهاب الدين بن عمر الدولت آبادي في كتاب (مناقب السادات) المسمّى بـ (هداية السعداء): " ان يزيد باغ متغلب خارجي، وان الخروج على الامام حرام في جميع الاديان، وان يزيد اللعين خرج على الحسين عليه السلام بدون تأويل وقتله محاربة ".

وقال هناك ايضاً: " عندما قُتل علي بن ابي طالب عليه السلام كانت الخلافة منه إلى الحسن بن علي عليهما السلام ثم منه إلى الحسين بن علي عليهما السلام، وبغى في عهد الحسين يزيدُ بن معاوية بغياً صار مسلطاً به ".

ويكفي لاثبات هذا المدّعى وجواب ذلك السؤال الذي لا اساس له هذا المقدار من العبارة ان شاء الله.

ولا فائدة من جمع كل كلماتهم وتناقضاتهم وهفواتهم فان هذا المقدار كاف وشاف للمنصف، وان المعاند لا يقتنع باضعاف ذلك.

واما على طريقة معاشر الامامية ايدهم الله تعالى فانهم يقولون:

ان الله إذا اراد أن يخلق الامام انزل قطرة من ماء المزن فتقع على ثمرة من ثمرات الأرض فيأكل منها حجة ذلك العصر فتنعقد نطفة الامام منها(1).

____________

1- في البحار: ج 25، ص 38، عن بصائر الصفار باسناده عن الصادق عليه السلام: " ان الله إذا أراد ان يخلق الامام انزل قطرة من ماء المزن فيقع على كل شجرة فيأكل منه ثم يواقع فيخلق الله منه الامام فيسمع الصوت في بطن اُمّه فاذا وقع على الأرض رفع له منار من نور يرى اعمال العباد... الحديث ".


الصفحة 449
فاذا مضى له أربعون ليلة سمع الصوت(1).

فاذا مضى له اربعة أشهر كتب على عضده الأيمن: " وتمت كلمة ربّك صدقاً وعدلا لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم "(2).

فاذا ولد رُفع له عمود يشرف به على الخلائق يرى اعمال العباد(3).

وينزل عليه امر الله في ذلك العمود، وان ذلك العمود نصب عينه في كل مكان ذهب(4).

ونظر وملأ الله وليه من محبته بحيث لا يمكن أن يقبل ذلك غيره، وملأه ايضاً من خوفه بحيث لا يخاف من شيء غيره، وملأه من الزهد فلا يرغب في شيء من الدنيا وغير الدنيا الّا ما يأمره به، وملأه من الكرم والجود بحيث انّه في ايثاره لا يرغب بنفسه عن بذلها في طريقه.

وملأه من الشجاعة حتى لا يهاب من اي مخلوق.

وملأه من التوكل فانّه لا يعرف ولا يرى شيئاً غيره يضرّ أو ينفع.

وعلى هذا المنوال فانّ جميع الصفات الحسنة مستقرة ومحفوظة في قلبه.

وبعكس ذلك فلم يظهر على مرآة قلبه شيء من رجس الأخلاق الذميمة،

____________

1- في البحار: ج 25، ص 39، باسناده عن الصادق عليه السلام: " إذا اراد الله ان يقبض روح امام ويخلق من بعده اماماً انزل قطرة من ماء تحت العرش إلى الأرض فيلقيها على ثمرة أو على بقلة فيأكل تلك الثمرة أو تلك البقلة الامام الذي يخلق الله منه نطفة الامام الذي يقوم من بعده.

قال: فيخلق الله من تلك القطرة نطفة في الصلب ثم يصير إلى الرحمن فيمكث فيها اربعين ليلة، فاذا مضى له اربعون ليلة سمع الصوت... الحديث ".

2- في البحار: ج 25، ص 39، ح 8.

3- في البحار: ج 25، ص 38، مع 5، ح 6 وغيرهما.

4- راجع الروايات في البحار: ج 26، ص 132 ـ ص 136 (باب ان الله تعالى يرفع للامام عموداً ينظر به إلى اعمال العباد).


الصفحة 450
وتظهر بها حقيقة الأشياء، ويعرف ويرى قبائح بواطن المعاصي فينفر منها بالطبع، ويوكل به روح القدس فيؤيده ويسدده ولا يفارقه.

وليس يعتريه غفلة أو سهو أو نسيان.

وقلبه مثل البيت المعمور والعرش فهو محل نزول الملائكة وطوافها وعروجها دائماً.

وقد اعطي انواعاً من ابواب العلوم.

وهو علة حركة الفلك وايجاد الخلائق من الفلك إلى الأفلاك، فكلّها كانت به ووحدت لأجله.

ويحيى من طفولة وجوده يأكل ويشرب، ويعبد الله كما يريده الله تعالى ويفعل ما يشاءه ويسبّح ويمجّد ويهلّل ويكبّر ويصلّي ويصوم ويحجّ ويفعل كلّ ذلك.

وبعد أن ألطفه من ألطافه واحسانه ونعمه غير المتناهية وأوصله إلى الكمال الذي يمكن للممكن أن يصله ; زينه بأمر ارشاد وهداية خلقه بما لا يخرجه عن اختياره ورغبته ويكون قابلا لاستحقاق الثواب والمكرمة.

وانه عليه السلام يُظهِر الدعوة مع عدم وجود مفسدة(1) في اظهارها، فمن سمع أحسن لنفسه ; الا(2) جلس في فلك كبريائه سكت أو غاب. وان جميع مراتب هدايته وارشاده للخلق التي هي من مناصبه انما هي بالنسبة إلى مقاماته عليه السلام بنسبة القطرة الى البحر، وكلّما كان ممكناً فانّه لا يظهر فيه نقص ولا ينقص من مقاماته الّا ما شاء الله بمضمون قوله: { ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي اوحينا اليك }(3)يأخذ كل ما اعطاه.

____________

1- المفسدة بمعنى الضرر.

2- أي ومع وجود مفسدة في اظهار دعوته فانّه يجلس... الخ.

3- الاسراء: الآية 86.


الصفحة 451
فلو ان عالماً عابداً زاهداً متبحراً يسقط عن مقامه لو حبس في مطمورة ويذهب منه علمه وزهده، ولا يقال له عالم زاهد، فكذلك الامام فيسقط من مقام الامامة بغيبته عن الخلق، مع ان الفرق بينهما اكثر من ما بين الثرى والثريّا.

ويقولون ثانياً: ان كل اقسام الخير والنعم والبركة قد وصلت منه عليه السلام إلى جميع الخلائق، ودفع بوجوده عليه السلام كل انواع البلاء والعذاب على اختلافه الذي استحقوه بأعمالهم القبيحة وافعالهم السيئة، بينما فنت الاُمم السابقة بارتكاب عشر معشار ذلك وانتهت بالمسخ والخسف والغرق والحرق.

وانّه عليه السلام قائم مقام جدّه الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم في دفع العذاب لوجوده بين الخلق، بمضمون: " ما كان الله ليعذبهم وانت فيهم "(1).

ويقولون: لو لم يكن الامام ولو يوماً واحداً في الأرض لتلاشت جميع اجزاء وجود الخلق منها.

فبسببه ينزل المطر إلى الأرض، وتخضر وتثمر الاشجار ويدرّ الحيوان لبناً، ويدرك العقل، وتبصر العين، وتسمع الاذن، ويتكلم اللسان.

له الطاف خاصة لمحبيه ويتلطف عليهم بأنواع الألطاف والاحسان يدركوها احياناً ولا يدركوها احياناً اُخرى، بل ان بوجوده وبقاءه بقاء الشريعة وحفظ قوانينها من التغيير والتبديل، وهو اصل ثبت به وجوب نصب الامام والحاجة إلى وجوده. فلا يلزم من تعذّر تصرّفه في الاحكام الجزئية أي ضرر مع حفظ الاصول والقوانين الكليّة.

فامتناع تنفيذ الامور الجزئية لعارض خارجي لا يمنع ثبوت اصل الولاية ولا في تحققها باعتبارها من الامور الكليّة المهمّة، وكذلك فانّ ذلك المانع لا يمكن ان

____________

1- الأنفال: الآية 33.


الصفحة 452
يردها أو يعطّلها.

وروي ايضاً في اخبار الفريقين ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: " النجوم أمان لأهل السماء واهل بيتي أمان لأهل الأرض... "(1).

وسوف يأتي في الباب السابع والعاشر توضيح اكثر ان شاء الله تعالى لاثبات خيره ونفعه عليه السلام في الغيبة الكبرى.

ويقولون ثالثاً: انّ الامام الذي نقول به ونعترف بامامته هو حجة من الله تبارك وتعالى على الملائكة والانس وجميع انواع الحيوانات والجن ومخلوقات جميع العوالم، والبلدان والمدن التي هي خارج سلطة الجبارين مثل (جابلسا وجابلقا) وغيرها مما سوف يشار اليها في قصة الجزيرة الخضراء، وانها جميعاً في دائرة قدرته وسلطته الفعلية عليه السلام ويأتمرون بأمره وانهم لا يعصونه ويطيعونه بكل ما يقوله لهم ويعملون بأمره الّا هذا لنوع من بني آدم في وجهي الأرض الذين لا وجود لهم بالنسبة إلى اولئك.

وعلى فرض التسليم ان من شروط الامامة القدرة الفعلية، فاننا لا نسلم انها يجب ان تكون له القدرة الفعلية على كل من يبعث اليهم والّا لزم سقوط جميع الانبياء والخلفاء عن مرتبة النبوة والخلافة، لأنّه لم يتحقق الاقتدار الكامل لأحد منهم.

____________

1- نقله المؤلف (رحمه الله) في كشف الاستار: ص 135، عن أبي عمر مسدد وابن ابي شيبة وأبو يعلي في مسانيدهم والطبراني.

وفي الترجمة (اهل بيتي امان لأهل الأرض كما ان النجوم امان لأهل السماء).

وفي كشف الأستار زيادة (من أمتي) بعد (لأهل الأرض) أقول وفي مستدرك الحاكم: ج 3، ص 162 ـ كتاب معرفة الصاحب ـ 4715 / 313 باسناده عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: (النجوم امان لأهل الأرض من الغرق واهل بيتي امان لأمتي من الاختلاف فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس).

وفي الكشف عن مناقب احمد باسناده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (النجوم امان لأهل الأرض، فاذا ذهب اهل بيتي ذهب اهل الأرض).


الصفحة 453

السؤال العاشر:

إذا أراد سلاطين الجور ان يتوبوا ويرجعوا حقه إليه فلا طريق لهم إليه ليسلموا إليه حقه ويفرغوا ذمتهم، فلا يمكن قبول توبتهم ابداً.

الجواب:

يكفي لتوبتهم برفع أيديهم عن ما هم مشغولون به، ويندمون على جلوسهم في مقام لم يجز لهم ان يجلسوا فيه، ويعزمون على عدم العود إليه.

وهو عليه السلام وحسب الأمر الالهي اعلم بتكليفه في ان يظهر حينئذ أو لا يظهر.

وغير ذلك من الشبهات التي هي شبيهة ببيت العنكبوت وصاحبها كالغريق يتشبث بكل قشة، كما قال بعضهم: من أين له أن يطمئن بأنّه إذا ظهر لم يُقتَل؟

وان ذكرها والجواب عليها مضيعة للوقت والورق والقلم ووقت القراء.

ولا يخفى ان جملة من الشبهات المذكورة تعرض اليها علماؤنا المتكلمون في الكتب الكلامية وكتب الامامة واجابوا عليها طبق الاصول الامامية والقواعد الكلامية، وكذلك عن الاشكالات الواردة عليها(1).

وبما انه لم يكن مبنى المؤلف استقصاء جميع المطالب المتعلقة به عليه السلام، بل كان بنائه جمع نوادر ومستطرفات الحالات التي قلّما جمعت في كتاب، بالاضافة إلى ذلك فان الطرف المقابل ليس له ذلك المقدار من المعرفة بالادلة العقلية ; فلذلك اقتنعت بالنقض ونقل اخبار وكلمات علمائهم فانّه احسن طريق لاسكاتهم، وليس المقصود الّا هذا ; والّا فانّهم لا يرجعون عن سيرتهم بهذه الأجوبة أبداً.

____________

1- يعني اجابوا على الاشكالات الواردة على اجوبتهم التي اجابوا بها على تلك الشبهات.


الصفحة 454
وأما استبصار بعض علمائهم أو عامتهم فانما يكون من طرق اخرى(1).

نعم انها تنفع(2) أهل العلم خاصة بأنْ لا يقعوا بتلك الشبهات، وليس للعوام حظّ منها، وانهم ينتفعون بصورة أحسن بأمثال ما ذكرناه.

وبما ان هدف هذا الكتاب هو نفع العامة المتكلمين باللغة الفارسية فلذلك لاحظنا حالهم عند نقل تلك الكلمات، وبحمد الله تعالى فهي موجودة في كثير من الكتب الفارسية ومنتشرة في كل البلاد، وأملي بالألطاف الالهية ان لا يكون انتفاعهم من هذا الكتاب أقل من الانتفاع من كثير من الكتب المؤلفة في هذا الباب والحمد لله.


*  *  *

____________

1- يعني تمّ استبصارهم غالباً بغير الطرق العقلية.

2- أي الاستدلال بالادلة العقلية.