الصفحة 66
الدّنيا، لكانوا اكثر عدداً منهم على اختلاف الأديان والمذاهب.

ولقد أقمنا عندهم سنة كاملة نترقّب ورود صاحب الأمر اليهم، لأنّهم زعموا انّها سنة وروده، فلم يوفّقنا الله تعالى للنظر اليه، فأمّا ابن دربهان وحسّان فانهما أقاما بالزاهرة يرقبان رؤيته، وقد كنّا لمّا استكثرنا هذه المدن وأهلها، سألنا عنها فقيل، انها عمارة صاحب الأمر عليه السلام واستخراجه.

فلمّا سمع عون الدّين ذلك، نهض ودخل حجرة لطيفة، وقد تقضّى الليل فأمر باحضارنا واحداً واحداً، وقال: ايّاكم اعادة ما سمعتم أو اجراءه على ألفاظكم وشدّده وتأكّد علينا، فخرجنا من عنده ولم يعد أحد منّا ممّا سمعه حرفاً واحداً حتى هلك.

وكنّا إذا حضرنا موضعاً واجتمع واحدنا بصاحبه، قال: أتذكر شهر رمضان، فيقول: نعم، ستراً لحال الشرط(1).

فهذا ما سمعته ورويته، والحمد لله وحده، وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطاهرين، والحمد لله ربّ العالمين(2).

يقول المؤلف:

نقل هذه القصة جماعة من العلماء فبعضهم بنحو ما ذكر، والبعض الآخر باختصار وآخرون أشاروا إليها كالسيد الجليل علي بن طاووس في أواخر كتاب (جمال الأسبوع) قال:

____________

1- في الترجمة: " فيقول: نعم وعليك بالاخفاء والكتمان ولا تظهر سرّ صاحب الزمان صلوات الله عليه ".

2- أقول ترجمها المؤلف رحمه الله مختصراً، ونقلها كاملة في كتاب جنة المأوى.

وارتأينا نقلها عن جنّة المأوى أنسب خصوصاً انها نقلت بالنص في مصادر اُخرى كما أشار إليها المؤلف رحمه الله في المتن، ونحن سنشير إليها في الحاشية ان شاء الله تعالى، وهذه القصة قريبة إلى قصة الجزيرة الخضراء.


الصفحة 67
" ووجدت رواية متّصلة الأسناد بأنّ للمهدي صلوات الله عليه (أولاد جماعة) ولاة في أطراف بلاد البحار على غاية عظيمة من صفات الأبرار "(1).

ونقل الشيخ الجليل عظيم الشأن الشيخ زين الدين علي بن يونس العاملي البياضي من علماء المائة التاسعة في الفصل الخامس عشر من الباب الحادي عشر من كتاب (الصراط المستقيم) وهو من كتب الامامية النفيسة القصة المذكورة باختصار عن كمال الدين الأنباري.

ونقلها السيد الجليل النبيل السيد علي بن عبد الحميد النيلي صاحب التصانيف الرائقة، من علماء المائة الثامنة، في كتاب (السلطان المفرج عن أهل الايمان) عن الشيخ الأجل الأمجد الحافظ حجة الاسلام الرضي البغدادي عن الشيخ الأجل خطير الدين حمزة بن الحارث بمدينة السلام... إلى آخر ما تقدّم.

وقال المدقق الأردبيلي في كتاب حديقة الشيعة:

" حكاية غريبة ورواية عجيبة قلمّا طرقت اذناً، وهي في كتاب الأربعين تصنيف أحد كبار المصنّفين وأعاظم المجتهدين من علماء أمة سيد المرسلين وخدمة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما ; ولأنها لم تصل الّا إلى قليل، فمع طولها نزيّن هذه الأوراق بنقلها، فبها تقر عيون سائر المؤمنين ; روى العالم العامل المتّقي الفاضل محمد بن علي العلوي الحسيني بسنده المتّصل إلى احمد بن محمد بن يحيى الأنباري "(2).

ونقلها السيد نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية عن كتاب الفاضل الملقب بالرضا علي بن فتح الله الكاشاني رحمه الله قال: " روى الشريف الزاهد... الخ "(3).

وعند الحقير نسخة (أربعين) لبعض العلماء ساقطة الأول وبعد أن يذكر متنها

____________

1- جمال الأسبوع (السيد ابن طاووس): ص 512 ـ الطبعة الحجرية.

2- اقول ذكرها المقدس الأردبيلي المتوفى سنة 993 هـ. ق في كتابه (حديقة الشيعة): ص 765، ولأنه بالفارسية فقمنا بنقل قوله الى العربيّة.

3- الأنوار النعمانية (السيد نعمة الله الجزائري): ج 2، ص 58 ـ 65.


الصفحة 68
بالعربيّة يترجمها إلى الفارسية، ونحن قد اقتنعنا بتلك الترجمة.

ومع كثرة هؤلاء الناقلين فالعجيب عدم انتباه العلامة المجلسي فلم يذكرها في البحار.

وفي القصة شبهتان منشأ احداهما قلّة الاطّلاع، وثانيتهما ضعف الايمان.

الشبهة الأولى:

انه لم يعهد للحجة عليه السلام الأولاد والعيال (والزوجات) كما هو مذكور في هذه القصة، ولم ير ذلك في الأخبار، ولم يسمع ذلك من الأخبار ; ولذلك أنكر بعض أصل وجودها.

وجوابها غير خفي على الناقد البصير، وقد أشير إليه في كثير من الأخبار، مع ان نفس عدم الوصول وعدم الاطلاع عليها ليس دليلا على عدمه، وكيف يترك مثل هذه السنة العظيمة لجدّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم التي حثّ عليها بذلك الشكل من الترغيب والحثّ في فعلها والتهديد والتخويف من تركها؟ وأجدر من يأخذ بسنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هو امام العصر.

ولم يعدّ لحد الآن احدٌ ترك ذلك(1) من خصائصه ونحن نقتنع بذكر اثني عشر خبراً:

الأول: روى الشيخ النعماني تلميذ ثقة الاسلام الكليني في كتاب الغيبة، والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسندين معتبرين عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

انّ لصاحب هذا الأمر غيبتين احداهما تطول حتى يقول بعضهم مات ويقول بعضهم قتل، ويقول بعضهم ذهب، حتى لا يبقى على أمره من اصحابه الّا نفر يسير

____________

1- أي لا يكون له أولاد وزوجات.


الصفحة 69
لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره الّا المولى الذي يلي أمره(1).

الثاني: روى الشيخ الطوسي وجماعة بأسانيد متعددة عن يعقوب بن يوسف الضراب الاصفهاني انّه حج في سنة احدى وثمانين ومائتين فنزل بمكة في سوق الليل بدار تسمى دار خديجة، وفيها عجوز كانت واسطة بين الشيعة وامام العصر عليه السلام، والقصة طويلة، وذكر في آخرها انّه عليه السلام ارسل إليه دفتراً وكان مكتوب فيه صلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وباقي الأئمة وعليه صلوات الله عليه، وأمره إذا أردت أن تصلّي عليهم فصلّي عليهم هكذا وهو طويل، وفي موضع منه:

" اللهم أعْطِهِ في نفسه وذريّته وشيعته ورعيّته وخاصّته وعامّته وعدوّه وجميع أهل الدنيا ما تقرّ به عينه... ".

وفي آخره هكذا:

" اللهم صلِّ على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن الرضا، والحسين المصفى(2) وجميع الأوصياء مصابيح الدّجى(3) واعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم، وصلِّ على وليّك وولاة عهده(4) والائمة من ولده، ومدّ(5) في أعمارهم، وزد(6) في آجالهم، وبلّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنيا(7) وآخرة انّك على كلّ شيء قدير "(8).

____________

1- الغيبة (الطوسي): ص 162 ـ البحار: ج 52، ص 152، ح 5 ـ اثبات الهداة (الحر العاملي): مج 3، ص 500، ح 280 ـ الغيبة (النعماني): ص 171: ح 5 وغير ذلك من المصادر.

2- في الترجمة (المصطفى).

3- في الترجمة (ومصابيح الدجى) بزيادة واو العاطفة.

4- في الترجمة (وولاة عهدك).

5- في الترجمة (وزد) بدل (ومدّ).

6- في المصدر المطبوع (وأزد) وفي نسخ (وزد).

7- في المطبوع بحذف واو العطف.

8- الغيبة (الطوسي): ص 280 ـ البحار: ج 52، ص 17، ح 14 ـ دلائل الامامة (الطبري): ص 300 إلى 304 ـ مدينة المعاجز (السيد هاشم البحراني): ص 608، الطبعة الحجرية ـ تبصرة الولي: ح 70، وغيرها من المصادر الأخرى.


الصفحة 70
الثالث: في زيارته المخصوصة التي تقرأ في يوم الجمعة، ونقل السيد رضي الدين علي بن طاووس في كتاب (جمال الأسبوع):

" صلّى الله عليك وعلى آل بيتك الطيّبين الطاهرين ".

وفي موضع آخر منها: " صلوات الله عليك وعلى آل بيتك هذا يوم الجمعة ".

وفي آخرها قال: " صلوات الله عليك وعلى أهل بيتك الطاهرين ".

الرابع: نقل في آخر كتاب (مزار) بحار الأنوار عن كتاب (مجموع الدعوات) لهارون بن موسى التلعكبري سلاماً وصلاة طويلة لرسول الله وواحد واحد من الائمة صلوات الله عليهم، وبعد ذكر سلام وصلاة على الحجة عليه السلام ذكر سلاماً وصلاةً على ولاة عهد الحجة عليه السلام وعلى الائمة من ولده ودعا لهم:

" السلام على ولاة عهده، والائمة من ولده، اللهم صلّ عليهم وبلّغهم آمالهم وزد في آجالهم وأعزّ نصرهم وتمم لهم ما أسندت من أمرك، واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً فانّهم معادن كلماتك وخزائن علمك وأركان توحيدك ودعائم دينك وولاة أمرك، وخلصائك من عبادك، وصفوتك من خلقك، واوليائك وسلائل أوليائك وصفوة أولاد أصفيائك وبلّغهم منّا التحيّة والسلام، واردد علينا منهم السلام والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته ".

الخامس: نقل السيد ابن طاووس رحمه الله وغيره زيارة له عليه السلام وإحدى فقراتها هذا الدعاء بعد صلاة تلك الزيارة وهو:


الصفحة 71
" اللهم أعطِهِ في نفسه وذريّته وشيعته ورعيّته وخاصّته وعامّته و [من ](1)جميع أهل الدنيا ما تقرّ به عينه، وتسرّ به نفسه... "(2).

السادس: قصة الجزيرة الخضراء التي ستأتي فيما بعد.

السابع: نقل الشيخ الكفعمي في مصباحه ان زوجته عليه السلام هي احدى بنات أبي لهب.

الثامن: روى السيد الجليل علي بن طاووس في كتاب (عمل شهر رمضان) عن ابن أبي قرة دعاءاً لابدّ أن يقرأ في جميع الأيام لحفظ وجود الامام الحجة عليه السلام وسوف يأتي في الباب التاسع ان شاء الله.

ومن فقرات هذا الدعاء: " وتجعله وذريّته من الائمة الوارثين ".

التاسع: روى الشيخ الطوسي بسند معتبر عن الامام الصادق عليه السلام خبراً ذكرت فيه بعض وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لأمير المؤمنين عليه السلام في الليلة التي كانت فيها وفاته ومن فقراتها انه قال: " فاذا حضرته(3) الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوّل المقرّبين(4)... إلى آخره "(5).

____________

1- سقطت من الترجمة.

2- البحار: ج 102، ص 100 ـ 101.

3- في الترجمة (فاذا حضرت القائم عليه السلام).

4- في الترجمة (اول المهديين) ولكن في المصادر الأخرى (المقرّبين) أو (المقرين). نعم قبل المقطع: " يا أبا الحسن انه يكون بعدي اثنا عشر اماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهديّاً.

فأنت يا علي أول الاثنى عشر اماماً... إلى أن يقول يعدّ الائمة عليهم السلام اماماً اماماً حتى يأتي على آخرهم خاتمهم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ثم يقول: فذلك اثنا عشر اماماً، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً، فاذا حضرته الوفاة... الخ ".

5- الغيبة (الطوسي): ص 150 و151 ـ الايقاظ من الهجعة (الحر العاملي): ص 393 ـ البحار: ج 36، ص 260، ح 81 ـ اثبات الهداة (الحرّ العاملي): ج 1، ص 549، ح 376 وغير ذلك.


الصفحة 72
العاشر: قال الشيخ الكفعمي في مصباحه: " روى يونس بن عبد الرحمن عن الرضا عليه السلام انه كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر عليه السلام بهذا الدعاء: اللهم ادفع عن وليّك... إلى آخره "(1).

وانه ذكر في آخره: " اللهم صلّ على ولاة عهده والائمة من بعده... "(2) إلى آخر ما تقدّم قريب منه.

وقال في الحاشية: " اي صلّ عليه اولا، ثم عليهم ثانياً من بعد أن تصلّي عليه، ويريد بالائمة من بعده أولاده عليه السلام لأنهم علماء أشراف، والعالم امام مَنْ اقتدى به، ويدل على ذلك قوله: (والائمة من ولده) في الدعاء المروي عن المهدي "(3).

الحادي عشر: والمروي في مزار محمد بن المشهدي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال لأبي بصير: كأنّي أرى نزول القائم عليه السلام في مسجد السهلة بأهله وعياله...(4).

الثاني عشر: نقل العلامة المجلسي في مجلّد الصلاة من البحار في أعمال صبح يوم الجمعة عن أصل قديم من مؤلفات قدمائنا دعاءاً طويلا يقرأ بعد صلاة الفجر، ومن فقرات الدعاء للحجة عليه السلام هناك هو:

" اللهم كن لوليّك في خلقك وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتّعه منها طولا، وتجعله وذريّته فيها الائمة الوارثين... الدعاء "(5).

____________

1- المصباح (الكفعمي): ص 548 ـ الطبعة الحجرية.

2 و 3- المصباح (الكفعمي): ص 550 ـ الطبعة الحجرية.

4- راجع البحار: ج100، ص436، ح7 ـ ورواه عن قصص الأنبياء: ج100، ص435، ح3.

5- راجع بحار الأنوار: ج 89، ص 340.


الصفحة 73
ولم يصل خبر يعارض هذه الأخبار الّا حديث رواه الشيخ الثقة الجليل الفضل بن شاذان النيسابوري في غيبته بسند صحيح عن الحسن بن علي الخراز قال: دخل علي بن أبي حمزة على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فقال له: أنت امام؟

قال: نعم.

فقال له: انّي سمعت جدّك جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: لا يكون الامام الّا وله عقب.

فقال: أنسيت يا شيخ أو تناسيت؟! ليس هكذا قال جعفر عليه السلام، انما قال جعفر عليه السلام: لا يكون الامام الّا وله عقب الّا الامام الذي يخرج عليه الحسين بن علي عليهما السلام فانّه لا عقب له.

فقال له: صدقت جعلت فداك هكذا سمعت جدّك يقول(1).

وقال السيد محمد الحسيني الملقّب بـ (مير لوحي) تلميذ المحقق الداماد في كفاية المهتدي بعد أن ذكر هذا الخبر: " قد وفق في رياض المؤمنين بأنّ هذا خبر مدينة الشيعة والجزيرة الخضراء والبحر الأبيض الذي ذكر فيه ان لصاحب الزمان عليه السلام عدّة أولاد هذا أقل اعتبار بالنسبة إلى هذا الحديث الصحيح، ومن أراد أن يطّلع على ذلك فليرجع إلى الكتاب المذكور ".

وقد نقل هذا الخبر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة ان مقصود الامام عليه السلام من انه لا ولد له، أي أن لا يكون له ولد يكون إماماً يعني انّه عليه السلام خاتم الأوصياء وليس له ولد امام.

أو ان الذي يرجع عليه الحسين بن علي (عليهما السلام) ليس له ولد.

فلا يعارض الأخبار المذكورة والله العالم.

____________

1- الغيبة (الطوسي): ص 224 ـ بحار الأنوار: ج 53، ص 75، ح 77 ـ الايقاظ من الهجعة (الحر العاملي): ص 354، ح 96 وغيرها.


الصفحة 74

الشبهة الثانية:

ان السواح والبحارة المسيحيين وغيرهم اشتغلوا ولسنين مع كامل اعدادهم في السفر والسياحة وتحديد طول وعرض البر والبحر، وذهبوا لمرّات إلى القطب الشمالي وساروا برحلات كاملة من الشرق إلى الغرب، ولم يجدوا لحدّ الآن مثل هذه الجزائر والبلاد، ولا يمكن بحسب المعتاد أن يعبروا اكثر درجات خطوط الطول والعرض ولا يشاهدون هذه البلاد العظيمة؟

وإذا كانت هذه الشبهة من اُولئك الذين ينكرون وجود الصانع الحكيم المختار القادر فلا يتصوّر ولا يمكن أن يجابوا قبل اثبات وجوده القدسي جلت عظمته.

وأما إذا كان الاستبعاد من اُولئك الذين جاءوا تحت وطأة الأمة واعترفوا بوجود حكيم وقادر على الاطلاق يقدر أن يفعل كلّما يريد، وقد أجرى ذلك مراراً على يد الأنبياء والأوصياء (سلام الله عليهم) والأولياء بلا واسطة أحد مما لا يصدر عادة ويعجز البشر عن الاتيان بمثله.

فنقول: انّ الله تعالى يقول: { وَاِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً }(1).

ونقل المفسّرون الخاصة والعامّة ان الآية الشريفة نزلت في حق أبي سفيان والنضر بن الحارث وأبي جهل وأم جميل زوجة أبي لهب، فانّ الله عزوجل أخفى نبيّه عن أعينهم عندما يقرأ القرآن فيأتون إليه ويذهبون ولا يرونه.

وروى القطب الراوندي في الخرائج: " انّه صلى الله عليه وآله وسلّم كان يصلّي مقابل الحجر الأسود ويستقبل الكعبة، ويستقبل بيت المقدّس، فلا يُرى حتى يفرغ من

____________

1- الآية 45 من سورة الاسراء.


الصفحة 75
صلاته "(1).

وروى ايضاً ان أبا بكر كان جالساً عنده صلى الله عليه وآله وسلّم فجاءت أم جميل أخت أبي سفيان وأرادت أن تؤذيه صلى الله عليه وآله وسلّم فقال أبو بكر: لو تنحيت.

فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: انّها لن تراني.

فجاءت حتى قامت عليه، فقالت: يا أبا بكر أرأيت محمداً؟ قال: لا، فمضت راجعة(2).

وقد نقل ابن شهر آشوب وآخرون حكايات كثيرة من هذا النوع له صلى الله عليه وآله وسلّم وللائمة عليهم الصلاة والسلام خارجة عن حدّ التواتر.

فمع امكان وجود انسان بين جماعة قائماً أو جالساً يقرأ أو يذكر ويسبّح ويمجّد ويراهم جميعاً ولا يرونه ; فلماذا يستبعد وجود مثل هذه البلاد العظيمة في البراري أو البحار وقد حجبها الله عزوجل عن عيون الجميع؟ وإذا عبروا من هناك فلا يرون الّا صحراء قفراء وبحراً عجيباً، ولعلّ تلك البلاد تنتقل من مكان إلى آخر.

وعندما اضطرب أبو بكر في الغار اضطراباً شديداً ولم يطمئن قلبه بمواعظه ونصائحه وبشاراته صلى الله عليه وآله وسلّم رفس صلى الله عليه وآله وسلّم ظهر الغار فانفتح منه باب إلى بحر وسفينة فقال له: اسكن الآن، فانهم ان دخلوا من باب الغار خرجنا من هذا الباب وركبنا السفينة فسكن عند ذلك(3).

ومن هذا النوع من المعجزات كثيراً ما ظهرت في مدينة أو بيت أو بحر أو جالسين في السفينة، وقد سيّروا الخواص من مواليهم في مثل هذه البلاد الموجودة في هذه الدنيا، وقد نقل الشيخ الصدوق ومجموعة من مفسري الخاصّة والعامّة

____________

1- الخرائج (القطب الراوندي): ج 1، ص 87.

2- راجع النص في الخرائج: ج 2، ص 775 ـ 776.

3- راجع الرواية في بحار الأنوار: ج 19، ص 74 ـ الخرائج (للقطب الراوندي): ج 1، ص 145، ح 242.


الصفحة 76
ومؤرخيهم قصّة لبستان إرم وقصر شداد مع انها مخفية عن أعين الخلق وسوف تبقى كذلك ولم يرها أحد الّا واحد في عهد معاوية مع انها تقع في صحراء اليمن.

ومن خصائص وجود الامام الحجة عليه السلام المبارك انّه ينزل مع أصحابه في أي مكان بلا ماء ولا نبات ويستقر موكبه الشريف هناك فانّه ينبت الزرع فوراً ويجري الماء، وإذا تحرّك من هناك فانه يرجع إلى حاله الأول.

وبالجملة، فانّ أصل وجوده المبارك وطول عمره الشريف وكونه محجوباً عن أنظار الأغيار من آيات الله تبارك وتعالى العجيبة، ولا فرق بينه وبين أضعف الموجودات في مقام القدرة والأمر الالهي، والكل متساوون بالنسبة إلى ذلك المتعلّق والمنسوب اليه.

ومن لوازم سلطته الخفيّة الالهيّة أن يكون له خدم وحشم ومقر وغيرها، وكلّها من الآيات العجيبة التي تجيزها عقولهم ولا طريق لتكذيب المخبر ببعضها.

فاستبعاد ذلك لم يكن الّا من ضعف الايمان، ومثل هذا الانسان له شبهة في أصل وجود الامام الحجة عليه السلام ويستبعده مثل غير العقلاء من المعاندين { ذلك هو الخسران المبين }.

وسوف يأتي تمام الكلام في ذيل الحكاية السابعة والثلاثين قصة الجزيرة الخضراء.

الحكاية الثالثة:

نقل السيد محمد الحسيني المتقدّم ذكره في كتاب الأربعين الذي سمّاه بكفاية المهتدي، عن كتاب الغيبة للحسن بن حمزة العلوي الطبري المرعشي، وهو الحديث السادس والثلاثون من ذلك الكتاب قال: حدّثنا رجل صالح من أصحابنا قال: خرجت سنة من السّنين حاجّاً إلى بيت الله الحرام، وكانت سنة شديدة الحرّ كثيرة

الصفحة 77
السّموم فانقطعت عن القافلة، وضللت الطريق فغلب عليّ العطش حتى سقطت وأشرفت على الموت، فسمعتُ صهيلا ففتحت عينيّ فاذا بشاب حسَنِ الوجه حسنِ الرائحة، راكب على دابّة شهباء، فسقاني ماء أبرد من الثّلج وأحلى من العسل ونجاني من الهلاك، فقلت: يا سيدي من أنت؟

قال: أنا حجة الله على عباده، وبقيّة الله في أرضه، أنا الذي أملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً، أنا ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ثم قال: اخفض عينيك، فخفضتهما. ثم قال: افتحهما ففتحتهما فرأيت نفسي في قدام القافلة ثمّ غاب عن نظري صلوات الله عليه(1).

ولا يخفى ان الحسن بن حمزة بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام هو من أجلاء فقهاء طائفة الشيعة ومن علماء المائة الرابعة.

وذكر ابن شهر آشوب في كتاب معالم العلماء من جملة تصانيفه كتاب الغيبة(2).

وقال الشيخ الطوسي: كان فاضلا اديباً عارفاً فقيهاً زاهداً ورعاً كثير المحاسن... الخ(3).

____________

1- راجع كفاية المهتدي: الحديث السادس والثلاثون، ص 140 ـ المخطوط ـ وفي أربعين الخاتون آبادي (كشف الحق): ص 65.

2- معالم العلماء (ابن شهر آشوب): ص 36، تحت رقم (215).

3- الفهرست (الشيخ الطوسي): ص 52، تحت رقم (184).

أقول: وقال النجاشي في رجاله، ص 48، الطبعة الحجرية: " كان من أجلاء هذه الطائفة وفقهائها قدم بغداد ولقيه شيوخنا في سنة ست وخمسين وثلاث مائة ومات في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، له كتب منها... كتاب في الغيبة... ".

وقال الشيخ في رجاله، ص 465 في (باب من لم يرو عن الائمة عليهم السلام) تحت رقم (24): " زاهد عالم أديب فاضل روى عنه التلعكبري... الخ ".


الصفحة 78

الحكاية الرابعة:

وقال السيد الفاضل المتقدّم ذكره في الأربعين:

" ويقول كاتب هذا الأربعين: بيني وبين الله أعرف عليلا رآه عليه السلام مراراً وكان في زمان من الأزمنة مبتلىً بمرض مهلك فتكرّم عليه السلام فشافاه شفاءاً كاملا "(1).

واسم هذا الأربعين: " كفاية المهتدي في معرفة المهدي ".

وتاريخ نسخة الحقير سنة 1185(2).

الحكاية الخامسة:

يقول العالم الفاضل علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة:

وحدّثني بهما جماعة من ثقات اخواني كان في البلاد الحلية شخص يقال له اسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها هرقل، مات في زماني وما رأيته، حكى لي ولده شمس الدين قال: حكى لي والدي انّه خرج فيه ـ وهو شباب ـ على فخذه الأيسر توثة(3) مقدار قبضة الانسان، وكانت في كل ربيع تشقق ويخرج منها دم وقيح، ويقطعه ألَمها عن كثير من أشغاله ; وكان مقيماً بهرقل، فحضر الحلة يوماً

____________

1- راجع كفاية المهتدي في معرفة المهدي عليه السلام (السيد مير لوحي): ص 189 ـ مخطوط.

2- في المطبوع سنة (185) ومن المقطوع به السقط فاحتملنا سقوط رقم (1) من بداية التاريخ والله تعالى العالم ; علماً ان تاريخ النسخة التي اعتمدنا عليها قد كتب هكذا في آخر النسخة: " قد فرغ كتابته في يوم السبت من عشر الثالث من شهر الحادي عشر في سنة الاحدى من عشر الثاني من مائة الثانية بعد الألف الأول من الهجرة النبويّة المصطفويّة صلوات الله عليه وعلى آله... " نقلناه كما هو بدون تصحيح مع كثرة الأخطاء.

فيكون التاريخ: يوم السبت، العشر الثالث / 11 / 1111 هـ.

3- التوثة: بثرة متقرحة.


الصفحة 79
ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدين علي بن طاووس رحمه الله وشكا إليه ما يجده منها، وقال: أريد أن أداويها فأحضر له أطباء الحلة وأراهم الموضع، فقالوا: هذه التوثة فوق العرق الأكحل وعلاجها خطر ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق فيموت، فقال له السعيد رضي الدين قدّس الله روحه: أنا متوجّه إلى بغداد وربّما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء فاصحبني فاصعد معه وأحضر الأطباء فقالوا كما قال اُولئك فضاق صدره، فقال له السعيد: ان الشرع قد فسح لك في الصلوة في هذه الثياب وعليك الاجتهاد في الاحتراس، ولا تغرر بنفسك فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله، فقال له والدي: إذا كان الأمر على ذلك وقد وصلت إلى بغداد فأتوجّه إلى زيارة المشهد الشريف بسرّ من رأى على مشرفه السلام، ثم أنحدر إلى أهلي فحسّن له ذلك، فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجّه، قال: فلمّا دخلت المشهد وزرت الائمة عليهم السلام ونزلت في السّرداب واستغثت بالله تعالى وبالامام عليه السلام وقضيت بعض الليل في السّرداب وبتّ في المشهد الى الخميس، ثم مضيت إلى دجلة واغتسلت ولبست ثوباً نظيفاً، وملأت ابريقاً كان معي، وصعدت أريد المشهد، فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم فالتقينا فرأيت شابّين أحدهما عبد مخطوط وكل واحد منهم متقلد بسيف، وشيخاً منقباً بيده رمح والآخر متقلّد بسيف، وعليه فرجية(1) ملوّنة فوق السيف وهو متحنّك بعذبته ; فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعبه في الأرض، ووقف الشابان عن يسار الطريق ; وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي، ثمّ سلّموا عليه فردّ عليهم السلام، فقال له صاحب الفرجية: أنت غداً تروح إلى أهلك؟ فقال: نعم، فقال له تقدم حتى أبصر ما يوجعك؟ قال: فكرهت ملامستهم، وقلت في نفسي أهل البادية ما يكادون

____________

1- الفرجية نوع من أنواع الملابس.


الصفحة 80
يحترزون من النجاسة: وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول، ثمّ انّي بعد ذلك تقدّمت إليه فلزمني بيده ومدّني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده، فأوجعني ثم استوى في سرجه كما كان، فقال لي الشيخ: أفلحت يا اسماعيل، فعجبت من معرفته باسمي، فقلت: أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله ; قال: فقال لي الشيخ: هذا هو الامام، قال: فتقدّمت إليه فاحتضنته وقبّلت فخذه.

ثمّ إنّه ساق وأنا أمشي معه محتضنة، فقال: ارجع، فقلت: لا أفارقك أبداً، فقال: المصلحة رجوعك، فأعدت عليه مثل القول الأوّل ; فقال الشيخ: يا اسماعيل ما تستحيي، يقول لك الامام مرّتين ارجع وتخالفه؟ فجبهني(1) بهذا القول، فوقفت فتقدّم خطوات والتفت إليّ وقال: إذا وصلت بغداد فلابدّ أن يطلبك أبو جعفر يعني الخليفة المستنصر رحمه الله، فاذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى علي بن عوض، فإنّني أوصيه يعطيك الذي تريد، ثمّ سار وأصحابه معه، فلم أزل قائماً أبصرهم إلى أن غابوا عنّي، وحصل عندي أسف لمفارقته فقعدت إلى الأرض ساعة ثم مشيت إلى المشهد، فاجتمع القوّام حولي وقالوا نرى وجهك متغيّراً أوجعك شيء؟ قلت: لا، قالوا: أخاصمك أحد؟ قلت: لا، ليس عندي ممّا تقولون خبر، لكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم، فقالوا: هم من الشرفاء أرباب الغنم، فقلت: لا، بل هو الامام عليه السلام، فقالوا: الامام هو الشيخ أو صاحب الفرجية، فقلت: هو صاحب الفرجية، فقالوا: أريته المرض الذي فيك؟ فقلت: هو قبضه بيده وأوجعني ; ثم كشفت رجلي فلم أَر لذلك المرض أثراً، فتداخلني الشك من الدهش، فأخرجت رجلي الأخرى فلم أرَ شيئاً، فانطبق الناس عليّ ومزّقوا قميصي فأدخلني القوّام خزانة ومنعوا الناس عنّي، وكان ناظراً بين النهرين بالمشهد، فسمع الضجة وسأل عن الخبر فعرّفوه، فجاء إلى الخزانة

____________

1- فجبهني: نكس رأسه.