الحكاية العاشرة:
حدّث السيد الجليل والعالم النبيل بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشيخ الشهيد الأول رحمه الله في كتاب الغيبة: عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ المحمود الحاج المعتمر شمس الحق والدين محمد بن قارون قال: دعيت إلى امرأة فأتيتها وأنا أعلم انّها مؤمنة من أهل الخير والصلاح فزوّجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر، ويقال له ولأقاربه: بنو بكر، وأهل فارس مشهورون بشدّة التسنّن والنصب والعداوة لأهل الايمان وكان محمود هذا أشدّهم في الباب، وقد وفّقه الله تعالى للتشيّع دون أصحابه.
فقلت لها: واعجباه كيف سمح أبوك بك؟ وجعلك مع هؤلاء النّواصب؟ وكيف اتّفق لزوجك مخالفة أهله حتى ترفضهم؟ فقالت: يا أيّها المقرئ انّ له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا انّها من العجب، قلت: وما هي؟ قال: سله عنها سيخبرك.
قال الشيخ: فلمّا حضرنا عنده قلت له: يا محمود ما الذي أخرجك عن ملّة أهلك، وأدخلك مع الشيعة؟ فقال: يا شيخ لمّا اتّضح لي الحقّ تبعته، اعلم انّه قد جرت عادة أهل الفرس(1) انّهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم، خرجوا يتلقّونهم، فاتّفق إنّا سمعنا بورود قافلة كبيرة، فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك صبيّ
____________
1- قال المؤلف رحمه الله: " الظاهر انّه بالفتح موضع لهذيل، أو بلد من بلدانهم كما في القاموس " منه رحمه الله.
أقول: أراد بذلك أن يتخلّص من تهمة النصب للفرس (التي بالضم) وهم أهل فارس والذين يتكلّمون الفارسية.
ولكنّه قبل قليل نقل ان (أهل فارس مشهورون بشدّة التسنّن والنصب والعداوة...) فلا وجه لذلك والله العالم.
فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض، قد نزل قريباً منّا، وطرح مفرشاً لطيفاً لم نَرَ مثله تفوح منه رائحة طيّبة، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض، وعلى رأسه عمامة لها ذؤابتان، فنزل على ذلك المفرش ثم قام فصلّى بصاحبه، ثمّ جلس للتعقيب.
فالتفت اليّ وقال: يا محمود! فقلت: بصوت ضعيف لبيك يا سيدي، قال: ادنُ منّي، فقلت: لا استطيع(1) لما بي من العطش والتعب، قال: لا بأس عليك.
فلمّا قالها حسبت كأن قد حدث في نفسي روح متجدّدة، فسعيت إليه حبواً فمرّ(2) يده على وجهي وصدري ورفعها الى حنكي فردّه حتّى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي، وذهب ما بي، وعدت كما كنت أوّلا.
فقال: قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل، وكان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة فقسّمها نصفين، وناولنيها، وقال: كل منها، فأخذتها منه، ولم أقدم على مخالفته وعندي أمرني أن آكل الصّبر لما أعهد من مرارة الحنظل فلمّا ذقتها فاذا هي أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك شبعت ورويت.
ثم قال لي: ادعُ صاحبك، فدعوته، فقال بلسان مكسور ضعيف: لا أقدر على الحركة، فقال له: قم لا بأس عليك، فأقبل اليه حبواً، وفعل معه كما فعل معي، ثمّ نهض ليركب، فقلنا بالله عليك يا سيّدنا الّا ما أتممت علينا نعمتك، وأوصلتنا إلى
____________
1- هذا هو الظاهر، والنسخة (لم استطع) منه رحمه الله.
2- فأمرّ ظ.
فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا، ثمّ قلت لصاحبي: ائتنا من هذا الحنظل لنأكله، فأتى به فاذا هو أمرّ من كلّ شيء، وأقبح، فرمينا به، ثمّ لبثنا هنيئة وإذا قد استدار من الوحش ما لا يعلم الّا الله عدده، وكلّما أرادوا القرب منّا منعهم ذلك الحائط، فاذا ذهبوا زال الحائط، وإذا عادوا عاد.
قال: فبتنا تلك الليلة آمنين حتى أصبحنا، وطلعت الشمس واشتدّ الحرّ وأخذنا العطش فجزعنا أشدّ الجزع، وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس، فلمّا أرادا مفارقتنا قلنا له: بالله عليك الّا أوصلتنا إلى أهلنا، فقال: أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ثمّ غابا.
فلمّا كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا، ومعه ثلاث أحمرة، قد أقبل ليحتطب فلمّا رآنا ارتاع منّا وانهزم، وترك حميره فصحنا إليه باسمه، وتسمّينا له فرجع وقال: يا ويلكما انّ أهاليكما قد أقاموا عزاءكما، قوما لا حاجة لي في الحطب، فقمنا وركبنا تلك الأحمرة، فلمّا قربنا من البلد، دخل أمامنا، وأخبر أهلنا ففرحوا فرحاً شديداً وأكرموه وأخلعوا عليه.
فلمّا دخلنا إلى أهلنا سألوا عن حالنا، فحكينا لهم بما شاهدناه، فكذّبونا وقالوا: هو تخييل لكم من العطش.
قال محمود: ثمّ أنساني الدهر حتى كأن لم يكن، ولم يبقَ على خاطري شيء منه حتّى بلغت عشرين سنة، وتزوّجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشدّ منّي نصباً لأهل الايمان، سيّما زوّار الأئمة عليهم السلام بسرّ من رأى فكنت أكريهم الدّوابّ بالقصد لأذيّتهم بكلّ ما أقدر عليه من السرقة وغيرها وأعتقد انّ ذلك ممّا يقرّبني إلى الله تعالى.
فلمّا جاء أصحابي قمت اليهم، ولطمت على وجهي وبكيت، فقالوا: ما لك؟ وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى عليّ من اولئك القوم، فأخذوا في سبّهم ولعنهم، وقالوا: طب نفساً فانّا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا، ونصنع بهم أعظم ممّا صنعوا.
فلمّا جنّ الليل، أدركتني السعادة، فقلت في نفسي: انّ هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم، بل غيرهم إذا زهد يرجع اليهم، فما ذلك الّا لأنّ الحق معهم، فبقيت مفكّراً في ذلك، وسألت ربي بنبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلّم أن يريني في ليلتي علامة استدلّ بها على الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده.
فأخذني النوم فاذا أنا بالجنة قد زخرفت، فاذا فيها أشجار عظيمة مختلفة الألوان والثمار ليست مثل اشجار الدنيا، لأنّ أغصانها مدلاة، وعروقها إلى فوق، ورأيت أربعة أنهار: من خمر، ولبن، وعسل، وماء، وهي تجري وليس لها جرف، بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت، ورأيت نساء حسنة الأشكال، ورأيت قوماً يأكلون من تلك الثمار، ويشربون من تلك الأنهار، وأنا لا أقدر على ذلك، فكلّما أردت أن أتناول من الثمار، تصعّد إلى فوق، وكلّما هممت أن أشرب من تلك الأنهار، تغوّر إلى تحت فقلت للقوم: ما بالكم تأكلون وتشربون؟ وأنا لا أطيق ذلك؟ فقالوا: انّك لا تأتي الينا بعد.
فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم، فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: سيّدتنا فاطمة
فقمت أنا وقلت: السلام عليك يا بنت رسول الله، فقالت: وعليك السلام يا محمود! أنت الذي خلّصك ولدي هذا من العطش؟ فقلت: نعم يا سيدتي! فقالت: إن دخلت مع شيعتنا أفلحت، فقلت: أنا داخل في دينك ودين شيعتك، مقرّ بامامة من مضى من بنيك، ومن بقي منهم، فقالت: أبشر فقد فزت.
قال محمود: فانتبهت وأنا أبكي، وقد ذهل عقلي مما رأيت فانزعج أصحابي لبكائي، وظنّوا انّه ممّا حكيت لهم، فقالوا طب نفساً فو الله لننتقمنّ من الرفضة، فسكتّ عنهم حتّى سكتوا، وسمعت المؤذّن يعلن بالأذان، فقمت إلى الجانب الغربيّ ودخلت منزل اُولئك الزوّار، فسلّمت عليهم، فقالوا: لا أهلا ولا سهلا أخرج عنّا لا بارك الله فيك، فقلت: انّي قد عدت معكم، ودخلت عليكم لتعلّموني معالم ديني، فبهتوا من كلامي، وقال بعضهم: كذب، وقال آخرون: جاز أن يصدق.
فسألوني عن سبب ذلك، فحكيت لهم ما رأيت، فقالوا: إن صدقت فانّا ذاهبون إلى مشهد الامام موسى بن جعفر عليهما السلام، فامضِ معنا حتّى نشيّعك هناك، فقلت: سمعاً وطاعة، وجعلت أقبّل أيديهم وأقدامهم، وحملت إخراجهم وأنا أدعو لهم حتّى وصلنا إلى الحضرة الشريفة، فاستقبلنا الخدّام، ومعهم رجل علويّ كان أكبرهم، فسلّموا على الزوّار فقالوا له: افتح لنا الباب حتّى نزور سيّدنا ومولانا، فقال: حبّاً وكرامة، ولكن معكم شخص يريد أن يتشيّع، ورأيته في منامي واقفاً بين يدي سيّدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، فقالت لي: يأتيك غداً رجل يريد أن يتشيّع فافتح له الباب قبل كلّ أحد، ولو رأيته الآن لعرفته.
فلمّا تمّ أمري قال العلويّ: وسيدتك فاطمة تقول لك: سيلحقك بعض حطام الدنيا فلا تحفل به، وسيخلفه الله عليك، وستحصل في مضايق فاستغث بنا تنجُ، فقلت: السمع والطاعة، وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت وخلّف الله عليّ مثلها وأضعافها، وأصابني مضايق فندبتهم ونجوت وفرّج الله عنّي بهم، وأنا اليوم أوالي من والاهم، وأعادي من عاداهم، وأرجو بهم حسن العاقبة.
ثمّ انّي سعيت إلى رجل من الشيعة فزوّجني هذه المرأة، وتركت أهلي فما قبلت أتزوّج منهم، وهذا ما حكى لي في تاريخ شهر رجب سنة ثمان وثمانين وسبعمائة هجريّة، والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على محمد وآله(1).
يقول المؤلف:
السيد علي بن عبد الحميد من أعاظم العلماء، ومن تلاميذ فخر المحققين ابن العلامة، واستاذ ابن فهد الحلي، وقد مدحه العلماء في كتب الرجال والاجازات، وعبد الحميد جدّه وله تصانيف كثيرة رائقة.
وابن الزهدري في هذه القصة هو الشيخ جمال الدين صاحب الحكاية الأربع والأربعين الآتية، وهو ابن الشيخ نجم الدين جعفر بن الزهدري.
والشيخ نجم الدين الزهدري عالم فاضل معروف ومعاصر فخر المحققين، وشارح ترددات كتاب الشرائع للمحقق الذي ينقل عنه في الكتب الفقهية.
يقول صاحب رياض العلماء: ابن الزهدري: بعض ضبطه بزائين معجمة،
____________
1- راجع جنة المأوى (الشيخ النوري): ص 202 ـ 208.
وبعض: بالزاي المعجمة في الأولى والزاي غير المنقوطة في الثانية، ويظهر من ذلك الكتاب انّه كان من العلماء ايضاً.
ولا يخفى انّه بملاحظة مجموع هذه الحكاية يظهر انّ (محمود) من أهل العراق وكان عربياً، وكانت قصّته هناك وليس في بلاد فارس (العجم)، فلعلّ اصله كان من فارس، أو انّ المقصود من (فارس) هنا انها قرية من قرى العراق، أو يكون اسم قرية (فراسا) كما ذكر ذلك في موضع منها.
الحكاية الحادية عشرة:
قال السيد الجليل صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة رضي الدين علي بن طاووس في رسالة المواسعة والمضايقة: يقول علي بن موسى بن جعفر بن طاووس: كنت قد توجّهت أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد القاضي الآوي ضاعف الله سعادته، وشرّف خاتمته من الحلّة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر جُمادى الاُخرى سنة احدى وأربعين وستمائة، فاختار الله لنا المبيت بالقرية التي تسمّى دورة بن سنجار، وبات أصحابنا ودوابّنا في القرية، وتوجّهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور.
فوصلنا إلى مشهد مولانا علي صلوات الله وسلامه عليه قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور، فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جُمادى الاُخرى المذكورة، فوجدت من نفسي إقبالا على الله، وحضوراً وخيراً كثيراً فشاهدت ما يدلّ على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة، فحدّثني أخي الصالح محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته انّه رأى في تلك الليلة في منامه كأنّ في يدي لقمة وأنا أقول له: هذه من فم مولانا المهدي عليه السلام وقد أعطيته بعضها.
وحدّثني أخي الصّالح محمد بن محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته، بعدّة بشارات رواها لي منها انّه رأى كأنّ شخصاً يقصّ عليه في المنام مناماً، ويقول له: قد رأيت كأنّ فلاناً ـ يعني عنّي ـ وكأنّني ـ كنت حاضراً لمّا كان المنام يقصّ عليه ـ راكب فرساً وأنت ـ يعني الأخ الصّالح الآوي ـ وفارسان آخران قد صعدتم جميعاً إلى السماء، قال: فقلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم لا أدري، فقلت: أنت ـ يعني عنّي ـ ذلك مولانا المهدي صلوات الله وسلامه عليه.
وتوجّهنا من هناك لزيارة أوّل رجب بالحلّة، فوصلنا ليلة الجمعة، سابع عشر جُمادى الآخرة بحسب الاستخارة، فعرّفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة انّ شخصاً فيه صلاح يقال له: عبد المحسن، من أهل السّواد(1) قد حضر بالحلّة وذكر انّه قد لقيه مولانا المهدي صلوات الله عليه ظاهراً في اليقظة، وقد أرسله إلى عندي برسالة، فنفذت قاصداً وهو محفوظ بن قرا فحضرا ليلة السّبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المقدّم ذكرها.
____________
1- قال المؤلف رحمه الله: " يعني قرى العراق ".
فلمّا كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيديّة، فخرج فقصد النهر، والنهر في جهة المشرق، فما أحسّ بنفسه الّا وهو في تلّ السّلام في طريق مشهد الحسين عليه السلام في جهة المغرب، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر شهر جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين وستمائة التي تقدّم شرح بعض ما تفضّل الله عليّ فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
فجلست(1) اُريق ماءً وإذا فارس عندي ما سمعت له حسّاً ولا وجدت لفرسه حركة ولا صوتاً، وكان القمر طالعاً، ولكن كان الضباب كثيراً.
فسألته عن الفارس وفرسه، فقال: كان لون فرسه صدءاً(2) وعليه ثياب بيض وهو متحنّك بعمامة ومتقلّد بسيف.
فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن: كيف وقت الناس؟ قال عبد المحسن: فظننت انّه يسأل عن ذلك الوقت، قال: فقلت الدّنيا عليه ضباب وغبرة، فقال: ما سألتك عن هذا، أنا سألتك عن حال الناس، قال: فقلت: النّاس طيّبين مرخّصين آمنين في أوطانهم وعلى أموالهم.
فقال: تمضي إلى ابن طاووس، وتقول له كذا وكذا، وذكر لي ما قال صلوات الله
____________
1- في الترجمة زيادة: " قال عبد المحسن: ".
2- قال المؤلف رحمه الله: " احمر غامق مائل للسواد ".
قال: فتوجّهت ذلك الوقت(2) إلى مشهد الحسين عليه السلام وعزمت انّني ألزم بيتي مدّة حياتي أعبد الله تعالى، وندمت كيف ما سألته صلوات الله عليه عن أشياء كنت أشتهي أسأله فيها.
قلت له: هل عرّفت بذلك أحداً؟ قال: نعم، عرّفت بعض من كان عرف بخروجي من المعيديّة، وتوهّموا انّي قد ضللت وهلكت بتأخيري عنهم، واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولأنهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه عليه السلام فوصّيته أن لا يقول ذلك لأحد أبداً، وعرضت عليه شيئاً، فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير.
فقمت أنا وهو فلمّا قام عنّي نفذت له غطاءً وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلّة، فقمت وكنت أنا وهو في الروشن(3) في خلوة، فنزلت لأنام فسألت الله زيادة كشف في المنام في تلك الليلة أراه أنا.
فرأيت كأنّ مولانا الصادق عليه السلام قد جاءني بهديّة عظيمة، وهي عندي وكأنّني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله، وصعدت الروشن لصلاة نافلة
____________
1- قال المؤلف رحمه الله: " هكذا في النسخة والصحيح: قصدني عن ابن طاووس ".
2- في نسخة بدل (اليوم).
3- الروشن: الكوة.
فناديت إلى فتح، وقلت: من أين ملأت الابريق؟ فقال: من المصبّة، فقلت: هذا لعلّه نجس فاقلبه وطهره(2) واملأه من الشط فمضى وقلّبه وأنا أسمع صوت الابريق وشطفه وملأه من الشط، وجاء به فلزمت عروته وشرعت اُقلب منه على كفّي فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عنّي ومنعني منه.
فعدت وصبرت، ودعوت بدعوات، وعاودت الابريق وجرى مثل ذلك، فعرفت انّ هذا منع لي من صلاة الليل تلك الليلة، وقلت في خاطري لعلّ الله يريد أن يجري عليّ حكماً وابتلاءاً غداً ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك.
فنمت وأنا جالس، وإذا برجل يقول لي ـ يعني عبد المحسن الذي جاء بالرسالة ـ: كان ينبغي أن تمشي بين يديه، فاستيقظت ووقع في خاطري انّني قد قصرت في احترامه واكرامه، فتبت إلى الله جلّ جلاله، واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أبداً [ فم ] الابريق وتركت على عادتي فتطهّرت وصلّيت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل، وفهمت انّني ما قمت بحقّ هذه الرسالة.
فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن، وتلقّيته وأكرمته، وأخذت له من خاصّتي
____________
1- قال المؤلف رحمه الله: " فتح: اسم غلامه ".
2- قال المؤلف رحمه الله: " في نسخة الفاضل الهندي: فاشطفه، وهو الأصح لغة، وبقرينة ما يأتي ".
فقلت: انّ رسول مثله عليه الصلاة والسلام، يعطي لأجل الاكرام لمن أرسله لا لأجل فقره وغناه، فامتنع، فقلت له " مبارك " أمّا الخمسة عشر، فهي من غير خاصّتي، فلا اُكرهك على قبولها، وأمّا هذه الستّة دنانير فهي من خاصّتي فلابدّ أن تقبلها منّي فكاد أن يؤيسني من قبولها، فألزمته فأخذها، وعاد تركها، فألزمته فأخذها، وتغدّيت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما اُمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان، والحمد لله وصلّى الله على سيّد المرسلين محمد وآله الطاهرين.
ومن عجيب زيادة بيان هذا الحال: انّي توجهت في ذلك الأسبوع يوم الاثنين الثالث من جمادى الآخرة سنة احدى وأربعين وستمائة إلى مشهد الحسين عليه السلام لزيارة اول رجب، أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد ضاعف الله سعادته.
فحضر عندي سحر ليلة الثالث اول رجب المبارك سنة احدى واربعين وستمائة المقرئ محمد بن سويد في بغداد، وذكر ابتداءاً من نفسه انّه رأى ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المتقدّم ذكرها كأنني في داري وقد جائني رسول اليك، وقالوا هو من عند الصاحب.
قال محمد بن سويد: فظنّ بعض الجماعة انّه من عند استاد الدار قد جاء اليك برسالة.
قال محمد بن سويد: وأنا عرفت انّه من عند صاحب الزمان عليه السلام.
قال: فغسل محمد بن سويد يديه وطهّرهما، وقام إلى رسول مولانا المهدي عليه
____________
1- قال المؤلف رحمه الله: " ستانير، كذا في النسخ والظاهر انّه مخفف (ستة دنانير) ".
قال المقرئ محمد بن سويد: فتسلمت الكتاب من رسول مولانا المهدي عليه السلام بيدي المشطوفة، قال: وسلّمه اليك.
يعني عنّي.
قال: وكان أخي الصالح محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته حاضراً فقال: ما هذا؟
فقلت: هو يقول لك(1).
قال علي بن موسى بن طاووس: فتعجّبت من ان هذا محمد بن سويد قد رأى المنام في الليلة التي حضر عندي فيها الرسول المذكور، وما كان عنده خبر من هذه الأمور والحمد لله(2).
يقول المؤلف:
السيد رضي الدين محمد بن محمد الآوي المذكور اختاره السيد علي بن طاووس اخاً له، وهو ممن تشرف برؤيته عليه السلام وروى عنه أحد أنواع الاستخارة كما نقل ذلك العلامة وغيره كما يأتي.
وآوي نسبة إلى بلدة آوة، التي يقال لها آبة، بينها وبين ساوة خمسة أميال.
ومسك الابريق ومنع السيد من صلاة الليل الذي ورد في الحكاية لصدقه ما جاء في الأخبار المعتبرة انّ عقوبة بعض الذنوب الحرمان من مجموعة من العبادات وبالخصوص صلاة الليل.
وروى الكليني والصدوق عن الامام الصادق عليه السلام: انّ الرجل ليكذب
____________
1- يعني: هو يقصّ عليك الحكاية، ويقصد به محمد بن سويد المقريء.
2- الفوائد المدنيّة (الأستر آبادي): ص 39، الطبعة الحجرية.
والمقصود من الرزق هو الرزق الحلال، إذا كان المقصود هو وسائل الحياة الجسمانية من المأكول والمشروب وغيرهما ; وامّا اذا لم تكن هي المقصودة فالمقصود العلوم والمعارف والهدايات الخاصة التي يكون قوام حياة الروح بها.
وروى الأجلاّن: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين انّي قد حرمت الصلاة بالليل.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: " أنت رجل قيدتك ذنوبك "(2).
وروي في عدّة الداعي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم انّه قال: " انّ العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه... "(3).
وروي في كتاب الجعفريّات عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال: " لا أحسب أحدكم ينسى شيئاً من أمر دينه الّا بخطيئة اخطأها "(4).
____________
1- راجع جامع احاديث الشيعة: ج 7، ص 125 و126 ـ وسائل الشيعة: ج 5، ص 278، ح 3 ـ المقنعة (للشيخ المفيد): ص 142، الطبعة المحققة ـ علل الشرايع (الصدوق): ص 362 ـ ثواب الأعمال (الصدوق): ص 65 و66، الطبعة المحققة ـ تهذيب الأحكام: ج 2، ص 122، رقم الحديث العام (463)، رقم الحديث الخاص (231) ـ ولا يوجد الحديث في كتاب الكليني رحمه الله.
2- رواه الشيخ الصدوق في (علل الشرائع): ص 362 ـ والكليني في (الكافي): ج 3، ص450، كتاب الصلاة، باب صلاة النوافل، ح 34 ـ والشيخ الطوسي في (التهذيب): ج 2، ص 121، رقم الحديث العام (459) ورقم الحديث الخاص (227) ـ وفي وسائل الشيعة: ج5، ص279، ح 5 ـ وفي جامع احاديث الشيعة: ج 7، ص 126، رقم الحديث العام (630) ورقم الحديث الخاص (39).
3- راجع عدّة الداعي (ابن فهد الحلّي): ص 197، الباب الرابع في الأدعية بعد الدعاء وعدم ارتكاب ذنب بعده ـ ونقله عنه المجلسي في (البحار): ج 73، ص 377، ح 14.
4- نقله المؤلف رحمه الله في كتابه الكبير (مستدرك وسائل الشيعة): ج 2، ص 311 ـ أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 40، ح 4، عن الجعفريّات.
" اوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): انّ أهون ما أنا صانع بعبد غير عامل بعلمه من سبعين عقوبة باطنية ان أخرج من قلبه حلاوة ذكري "(1).
وروي في (معاني الأخبار) عن الامام السجاد عليه السلام في خبر طويل بتقسيم الذنوب، وقال هناك: " والذنوب التي تدفع القسم(2): اظهار الافتقار، والنوم عن العتمة، وعن صلاة الغداة، واستحقار النّعم، وشكوى المعبود عزوجل... الخ "(3).
وان ما فهمه السيد من عمله الذي كان سبباً لحرمانه من صلاة الليل التي هي من الأرزاق الالهية النفيسة، هو من هذا النوع من الذنوب، فقد جاء في الأخبار المعتبرة انّ السائل على باب الدار رسول ربّ العالم، فلابدّ من احترامه واكرامه، وقد جاءت في الشرع آداب للتصرّف معه، سجلنا منها أربعين في كتاب (الكلمة الطيّبة).
فمع كل ما جاء من الذم والنهي والتهديد من أجل احترام السائل وسؤاله، فبالطبع، لابدّ من مراعاة أضعاف ذلك الاكرام والاعتزاز لرسوله الخاص عليه السلام الذي هو بالحقيقة رسول من قبل الرب ; والمقصر في ذلك يستحق الحرمان من حصول نعمة الصلاة ا لتي هي معراج المؤمن، وبالخصوص صلاة الليل التي مقدار ثوابها خارج عن حدّ الإحصاء.
وروى الشيخ الطبرسي في كتاب (عدّة السفر وعمدة الحضر) ركعتي صلاة للشكر على نحو مخصوص تصلّى بعد كل فريضة يقرأ في الركعة الأولى سورة الحمد
____________
1- عدّة الداعي (ابن فهد الحلي): ص 69، الباب الثاني في العالم غير العامل بعلمه.
2- قال المؤلف رحمه الله: " الرزق المقسوم ".
3- راجع معاني الأخبار (الصدوق): ص 270، باب معنى الذنوب التي تغيّر النعم، والتي تورث الندم... الخ، ح 2 ـ ورواه عنه في (البحار): ج 73، ص 375، ح 12 ـ ورواه ابن فهد الحلّي في (عدّة الداعي): ص 199، الباب الرابع في بيان اقسام الذنوب وتبعاتها، فصل واعلم انّه قد ورد في أدعيتهم عليهم السلام الاستعاذة من أنواع الذنوب... الخ.
ويقول في الركوع وسجدتي الركعة الأولى: " الحمد لله شكراً شكراً لله وحمداً ".
ويقول في الركوع وسجدتي الركعة الثانية: " الحمد لله الذي قضى لي حاجتي، واستجاب لي دعائي، واعطاني مسألتي ".
وليعلم أنّ الحرمان من النعمة المذكورة أو أي نعمة بسبب تقصير أو ذنب يكون احياناً عقوبة وخزياً وخذلاناً.
وليعلم أنّ ذلك الحرمان يكون سبباً للتذكّر وندامة صاحبه مثل أغلب الخلائق الذين هم محرومون من أكثر هذا القسم من النعم الجليلة لأعمالهم السيئة أو انّهم لم ينتبهوا إلى ما فعلوا والى ما ضاع من أيديهم حتى ذلك اليوم الذي ينكشف لهم فيتحسّروا فلا يمكنهم أن يتداركوه.
وأحياناً يكون(1) من اللطف والعناية والتنبيه بأنّه مرتكبٌ ذنباً فينتبه إلى قبح الفعل وسوء عاقبته فيتلافاه، ويفعل هذا مع أولئك الذين كان قصدهم من البداية عدم تجاوز الحدود الالهية، ويلاحظون رضا الله تبارك وتعالى في جميع حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأعمالهم وتصرّفاتهم.
فاذا بدر احياناً ذنب منهم، ولبعض المصالح التي ليس هنا محلّ ذكرها، فانّهم يجازون به وبسرعة وينبهون ليرفعوا ايديهم عنه، وبعد ذلك يكون حالهم أحسن من حالهم السابق.
وما يظهر فيهم من الانكسار والحياء والخجل يرفع عملهم، كما يظهر ذلك في خبر نزاع جبرئيل وميكائيل، ولا يسع المقام اكثر من هذا.
ولا يخفى ان بني طاووس المعروفين بين العلماء، هم جماعة من أفاضل آل
____________
1- أي الحرمان.
الثاني: اخوه العالم النبيل احمد الذي كان وحيد عصره بالفقه والرجال.
وهو المقصود بابن طاووس في الكتب الفقهية والرجالية.
الثالث: ابنه غياث الدين عبد الكريم بن احمد بن طاووس صاحب كتاب فرحة الغري وهو من أجلّة العلماء، وكان وحيد الدهر بالحفظ وجودة الفهم.
الرابع: ابن السيد عبد الكريم، رضي الدين ابو القاسم علي بن عبد الكريم.
الخامس: السيد رضي الدين علي بن طاووس صاحب كتاب زوائد الفوائد، وهو شريك أبيه الماجد في الاسم، والكنية.
واحياناً يطلق ابن طاووس ايضاً على أخيه السيد جلال الدين بن محمد، وقد صنّف أبوه الماجد له كتاب (كشف المحجة)، ومذكور في حكاية مجيء (هولاكو) إلى بغداد انّه ذهب السيد مجد الدين بن طاووس مع سديد الدين والد العلامة وجماعة آخرون من العلماء واخذوا الأمان للحلّة.
ونقل في رياض العلماء عن تاريخ المولى فخر الدين التباكني انّ السيد مجد الدين محمد بن الحسن بن طاووس الحلّي وسديد الدين يوسف بن المطهر بعثا كتاباً إلى هولاكو وأظهرا الطاعة وقالا: انّا وجدنا في اخبار علي عليه السلام انّك تتسلّط على هذه البلاد.
وذكرا الخبر المروي عن علي عليه السلام في خروج هولاكو وغلبته على بغداد. فأكرمهما وأعطى الأمان للحلّة(1).
وقال الفاضل المؤرخ المعاصر في ناسخ التواريخ في ذكر بني طاووس: انّ أحد
____________
1- لم نجد هذا النص في نسخة الرياض التي عندنا فترجمنا النص.