الصفحة 187
فاستبشروا وقالوا: هذه المراكب التي تأتي الينا في كلّ سنة من بلاد أولاد الامام عليه السلام.

فما كان الّا قليل حتّى قدمت تلك المراكب، وعلى قولهم انّ مجيئها كان في غير الميعاد، فقدم مركب كبير وتبعه آخر وآخر حتّى كملت سبعاً، فصعد من المركب الكبير شيخ مربوع القامة، بهيّ المنظر، حسن الزيّ، ودخل المسجد فتوضأ الوضوء الكامل على الوجه المنقول عن ائمة الهدى عليهم السلام وصلّى الظهرين، فلمّا فرغ من صلاته التفت نحوي مسلّماً عليّ، فرددت عليه السلام، فقال: ما اسمك وأظنّ أنّ اسمك علي؟ قلت: صدقت فحادثني بالسرّ محادثة من يعرفني فقال: ما اسم أبيك؟ ويوشك أن يكون فاضلا، قلت: نعم، ولم أكن أشك في انّه قد كان في صحبتنا من دمشق.

فقلت: أيّها الشيخ! ما أعرفك بي وبأبي؟ هل كنت معنا حيث سافرنا من دمشق الشام إلى مصر؟ فقال: لا، قلت: ولا من مصر إلى الأندلس؟ قال: لا، ومولاي صاحب العصر، قلت له: فمن أين تعرفني باسمي واسم أبي؟

قال: اعلم أنّه قد تقدّم اليّ وصفك، وأصلك، ومعرفة اسمك وشخصك وهيئتك واسم أبيك، وأنا أصحبك معي إلى الجزيرة الخضراء.

فسررت بذلك حيث قد ذكرتُ ولي عندهم اسم، وكان من عادته انّه لا يقيم عندهم الّا ثلاثة أيام فأقام اسبوعاً وأوصل الميرة إلى أصحابها المقرّرة لهم، فلمّا أخذ منهم خطوطهم بوصول المقرّر لهم، عزم على السفر، وحملني معه، وسرنا في البحر.

فلمّا كان في السادس عشر من مسيرنا في البحر رأيت ماءً أبيض فجعلت اُطيل النظر إليه، فقال لي الشيخ واسمه محمد: ما لي أراك تطيل النظر إلى هذا الماء؟ فقلت له: انّي أراه على غير لون ماء البحر.

فقال لي: هذا هو البحر الأبيض، وتلك الجزيرة الخضراء، وهذا الماء المستدير

الصفحة 188
حولها مثل السّور من أيّ الجهات أتيته وجدته، وبحكمة الله تعالى إن مراكب اعدائنا إذا دخلته غرقت وإنْ كانت محكمة ببركة مولانا وامامنا صاحب العصر عليه السلام فاستعملته وشربت منه، فاذا هو كماء الفرات.

ثمّ إنّا لمّا قطعنا ذلك الماء الأبيض، وصلنا إلى الجزيرة الخضراء لا زالت عامرة آهلة، ثمّ صعدنا من المركب الكبير إلى الجزيرة ودخلنا البلد، فرأيته محصّناً بقلاع وأبراج وأسوار سبعة واقعة على شاطئ البحر، ذات أنهار وأشجار مشتملة على أنواع الفواكه والأثمار المنوّعة، وفيها أسواق كثيرة، وحمّامات عديدة، وأكثر عمارتها برخام شفّاف، وأهلها في أحسن الزيّ والبهاء، فاستطار قلبي سروراً لما رأيته.

ثمّ مضى بي رفيقي محمد بعدما استرحنا في منزله إلى الجامع المعظّم، فرأيت فيه جماعة كثيرة وفي وسطهم شخص جالس عليه من المهابة والسكينة والوقار ما لا أقدر [ أن ] أصفه، والناس يخاطبونه بالسيّد شمس الدين محمد العالم، ويقرؤون عليه القرآن والفقه، والعربيّة بأقسامها، وأصول الدين والفقه الذي يقرؤونه عن صاحب الأمر عليه السلام مسألة مسألة، وقضيّة قضيّة، وحكماً حكماً.

فلمّا مثلت بين يديه، رحبّ بي وأجلسني في القرب منه، وأحفى السؤال عن تعبي في الطريق وعرّفني انّه تقدّم إليه كلّ أحوالي، وانّ الشيخ محمد رفيقي انّما جاء بي بأمر من السيد شمس الدين العالم أطال الله بقاءه.

ثمّ أمر لي بتخلية موضع منفرد في زاوية من زوايا المسجد، وقال لي: هذا يكون لك إذا أردت الخلوة والراحة، فنهضت ومضيت إلى ذلك الموضع، فاسترحت فيه إلى وقت العصر، وإذا أنا بالموكّل بي قد أتى إليّ وقال لي: لا تبرح من مكانك حتى يأتيك السيد وأصحابه لأجل العشاء معك، فقلت: سمعاً وطاعة.

فما كان الّا قليل وإذا بالسيّد سلّمه الله قد أقبل، ومعه أصحابه، فجلسوا ومدّت المائدة فأكلنا ونهضنا إلى المسجد مع السيّد لأجل صلاة المغرب والعشاء، فلمّا فرغنا من الصلاتين ذهب السيد إلى منزله، ورجعت إلى مكاني وأقمت على هذه

الصفحة 189
الحال مدّة ثمانية عشر يوماً، ونحن في صحبته أطال الله بقاءه.

فأوّل جمعة صلّيتها معهم رأيت السيّد سلّمه الله صلّى الجمعة ركعتين فريضة واجبة، فلمّا انقضت الصلاة قلت: يا سيّدي قد رأيتكم صلّيتم الجمعة ركعتين فريضة واجبة؟ قال: نعم، لأنّ شروطها المعلومة قد حضرت فوجبت، فقلت في نفسي: ربّما كان الامام عليه السلام حاضراً.

ثمّ في وقت آخر سألت منه في الخلوة: هل كان الامام حاضراً؟ فقال: لا، ولكنّي أنا النائب الخاص بأمر صدر عنه عليه السلام، فقلت: يا سيّدي! وهل رأيت الامام عليه السلام؟ قال: لا، ولكنّي حدّثني أبي رحمه الله انّه سمع حديثه ولم يَرَ شخصه وانّ جدّي رحمه الله سمع حديثه ورأى شخصه.

فقلت له: ولم ذاك يا سيدي يختصّ بذلك رجل دون آخر؟ فقال لي: يا أخي! انّ الله سبحانه وتعالى يؤتي الفضل من يشاء من عباده، وذلك لحكمة بالغة وعظمة قاهرة، كما انّ الله تعالى اختصّ من عباده الأنبياء والمرسلين، والأوصياء المنتجبين، وجعلهم اعلاماً لخلقه، وحججاً على بريّته، ووسيلة بينهم وبينه ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيي من حيّ عن بيّنة، ولم يخل أرضه بغير حجّة على عباده للطفه بهم، ولابدّ لكلّ حجة من سفير يبلغ عنه.

ثمّ انّ السيد سلّمه الله أخذ بيدي إلى خارج مدينتهم، وجعل يسير معي نحو البساتين، فرأيت فيها أنهاراً جارية، وبساتين كثيرة، مشتملة على أنواع الفواكه، عظيمة الحسن والحلاوة، من العنب والرّمان، والكمّثرى وغيرها ما لم أرَها في العراقين، ولا في الشامات كلّها.

فبينما نحن نسير من بستان إلى آخر إذ مرّ بنا رجل بهيّ الصورة، مشتمل ببردتين من صوف أبيض، فلمّا قرب منّا سلّم علينا وانصرف عنّا، فأعجبتني هيئته فقلت للسيّد سلّمه الله: من هذا الرجل؟ قال لي: اتنظر إلى هذا الجبل الشاهق؟ قلت: نعم، قال: إنّ في وسطه لمكاناً حسناً وفيه عين جارية، تحت شجرة ذات

الصفحة 190
أغصان كثيرة، وعندها قبّة مبنيّة بالآجر، وانّ هذا الرجل مع رفيق له خادمان لتلك القبّة، وأنا أمضي إلى هناك في كلّ صباح جمعة، وأزور الامام عليه السلام منها وأصلّي ركعتين، وأجد هناك ورقة مكتوب فيها ما أحتاج إليه من المحاكمة بين المؤمنين، فمهما تضمّنته الورقة أعمل به، فينبغي لك أن تذهب إلى هناك وتزور الامام عليه السلام من القبّة.

فذهبت إلى الجبل فرأيت القبّة على ما وصف لي سلّمه الله، ووجدت هناك خادمين، فرحّب بي الذي مرّ علينا وأنكرني الآخر، فقال له: لا تنكره فانّي رأيته في صحبة السيّد شمس الدين العالم، فتوجّه إليّ ورحّب بي وحادثاني وأتيا لي بخبز وعنب فأكلت وشربت من ماء تلك العين التي عند تلك القبّة، وتوضّأت وصلّيت ركعتين.

وسألت الخادمين عن رؤية الامام عليه السلام، فقالا لي: الرؤية غير ممكنة وليس معنا اذن في اخبار أحد، فطلبت منهم الدعاء، فدعيا لي، وانصرفت عنهما، ونزلت من ذلك الجبل إلى أن وصلت إلى المدينة.

فلمّا وصلت إليها ذهبت إلى دار السيّد شمس الدين العالم، فقيل لي: انّه خرج في حاجة له، فذهبت إلى دار الشيخ محمد الذي جئت معه في المركب فاجتمعت به وحكيت له عن مسيري إلى الجبل، واجتماعي بالخادمين، وانكار الخادم عليّ، فقال لي: ليس لأحد رخصة في الصعود إلى ذلك المكان، سوى السيّد شمس الدين وأمثاله، فلهذا وقع الانكار منه لك، فسألته عن أحوال السيّد شمس الدين أدام الله افضاله، فقال: انّه من أولاد أولاد الامام، وانّ بينه وبين الامام عليه السلام خمسة آباء وانّه النائب الخاص عن أمر صدر منه عليه السلام.

قال الشيخ الصالح زين الدين علي بن فاضل المازندراني المجاور بالغري على مشرّفه السلام: واستأذنت السيد شمس الدين العالم، أطال الله بقاءه في نقل بعض المسائل التي يحتاج إليها عنه، وقراءة القرآن المجيد، ومقابلة المواضع المشكلة من

الصفحة 191
العلوم الدينيّة وغيرها فأجاب إلى ذلك وقال: إذا كان ولابدّ من ذلك فابدأ أوّلا بقراءة القرآن العظيم.

فكان كلّما قرأت شيئاً فيه خلاف بين القرّاء أقول به: قرأ حمزة كذا، وقرأ الكسائي كذا، وقرأ عاصم كذا، وأبو عمرو بن كثير كذا.

فقال السيد سلّمه الله: نحن لا نعرف هؤلاء، وانما القرآن نزل على سبعة أحرف، قبل الهجرة من مكة إلى المدينة وبعدها لمّا حجّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حجّة الوداع، نزل عليه الروح الأمين جبرئيل عليه السلام، فقال: يا محمد اتلُ عليّ القرآن حتى أعرّفك أوائل السور، وأواخرها، وشأن نزولها.

فاجتمع إليه عليّ بن أبي طالب، وولداه الحسن والحسين عليهما السلام، واُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وحسّان بن ثابت، وجماعة من الصحابة رضي الله عن المنتجبين منهم، فقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم القرآن من أوّله إلى آخره، فكان كلّما مرّ بموضع فيه اختلاف بيّنه له جبرئيل عليه السلام وأمير المؤمنين عليه السلام يكتب ذاك في درج من أدم، فالجميع قراءة أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين.

فقلت له: يا سيّدي أرى بعض الآيات غير مرتبطة بما قبلها وبما بعدها، كأنّ فهمي القاصر لم يصر إلى غورية ذلك.

فقال: نعم، الأمر كما رأيته وذلك [ انّه ] لمّا انتقل سيّد البشر محمد بن عبد الله من دار الفناء إلى دار البقاء وفعل صنما قريش ما فعلاه، من غصب الخلافة الظاهرية، جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن كلّه، ووضعه في إزار وأتى به اليهم وهم في المسجد.

فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن أعرضه اليكم لقيام الحجّة عليكم، يوم العرض بين يدي الله تعالى، فقال له فرعون هذه الأمة ونمرودها: لسنا محتاجين إلى قرآنك، فقال عليه السلام: لقد أخبرني حبيبي محمد

الصفحة 192
صلى الله عليه وآله وسلّم بقولك هذا، وانّما أردت بذلك القاء الحجة عليكم.

فرجع أمير المؤمنين عليه السلام به إلى منزله، وهو يقول: لا إلـه الّا أنت، وحدك لا شريك لك، لا رادّ لما سبق في علمك، ولا مانع لما اقتضته حكمتك، فكن أنت الشاهد لي عليهم يوم العرض عليك.

فنادى ابن أبي قحافة بالمسلمين، وقال لهم: كلّ من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدري، وحسّان بن ثابت، وجماعات من المسلمين وجمعوا هذا القرآن، وأسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت منه، بعد وفاة سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلّم.

فلهذا ترى الآيات غير مرتبطة والقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السلام بخطّه محفوظ عند صاحب الأمر عليه السلام فيه كلّ شيء حتى أرش الخدش، وأمّا هذا القرآن، فلا شك ولا شبهة في صحّته، وانّما كلام الله سبحانه هكذا صدر عن صاحب الأمر عليه السلام.

قال الشيخ الفاضل عليّ بن فاضل: ونقلت عن السيد شمس الدين حفظه الله مسائل كثيرة تنوف على تسعين مسألة، وهي عندي، جمعتها في مجلّد وسمّيتها بالفوائد الشمسيّة ولا أطلع عليها الّا الخاص من المؤمنين، وستراه إن شاء الله تعالى.

فلمّا كانت الجمعة الثانية وهي الوسطى من جمع الشهر، وفرغنا من الصلاة وجلس السيّد سلّمه الله في مجلس الإفادة للمؤمنين وإذا أنا أسمع هرجاً ومرجاً وجزلة عظيمة خارج المسجد، فسألت من السيّد عمّا سمعته، فقال لي: انّ أمراء عسكرنا يركبون في كلّ جمعة من وسط كلّ شهر، وينتظرون الفرج فاستأذنته في النّظر اليهم فأذن لي، فخرجت لرؤيتهم، وإذا هم جمع كثير يسبّحون الله ويحمدونه، ويهلّلونه جلّ وعزّ، ويدعون بالفرج للامام القائم بأمر الله والناصح لدين الله م ح م د بن الحسن المهدي الخلف الصالح، صاحب الزمان عليه السلام.


الصفحة 193
ثمّ عدت إلى مسجد السيّد سلّمه الله فقال لي: رأيت العسكر؟ فقلت: نعم، قال: فهل عددت أمراءهم؟ قلت: لا، قال: عدّتهم ثلاثمائة ناصر، وبقي ثلاثة عشر ناصراً، ويعجّل الله لوليّه الفرج بمشيّته انّه جواد كريم.

قلت: يا سيدي ومتى يكون الفرج؟ قال: يا أخي إنّما العلم عند الله والأمر متعلّق بمشيّته سبحانه وتعالى، حتى انّه ربّما كان الامام عليه السلام لا يعرف ذلك بل له علامات وأمارات تدلّ على خروجه.

من جملتها أن ينطق ذو الفقار بأن يخرج من غلافه، ويتكلّم بلسان عربي مبين: قم يا وليّ الله على اسم الله، فاقتل بي اعداء الله.

ومنها ثلاثة أصوات يسمعها الناس كلّهم، الصوت الأول: أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين، والصوت الثاني: أَلاَ لعنة الله على الظالمين لآل محمد عليهم السلام، والثالث بدن يظهر فيرى في قرن الشمس يقول: انّ الله بعث صاحب الأمر م ح م د بن الحسن المهدي عليه السلام فاسمعوا له وأطيعوا.

فقلت: يا سيدي قد روينا عن مشايخنا أحاديث رويت عن صاحب الأمر عليه السلام انّه قال لمّا أمر بالغيبة الكبرى: من رآني بعد غيبتي فقد كذب، فكيف فيكم من يراه؟! فقال: صدقت انّه عليه السلام انّما قال ذلك في ذلك الزّمان لكثرة اعدائه من أهل بيته وغيرهم من فراعنة بني العباس، حتّى انّ الشيعة يمنع بعضها بعضاً عن التحدّث بذكره، وفي هذا الزّمان تطاولت المدّة وأيس منه الأعداء وبلادنا نائية عنهم وعن ظلمهم وعنائهم، وببركته عليه السلام لا يقدر أحد من الأعداء على الوصول إلينا.

قلت: يا سيدي! قد روت علماء الشيعة حديثاً عن الامام عليه السلام انّه أباح الخمس لشيعته، فهل رويتم عنه ذلك؟ قال: نعم، انّه عليه السلام رخّص وأباح الخمس لشيعته من ولد علي عليه السلام وقال: هم في حلّ من ذلك، قلت: وهل رخّص للشيعة أن يشتروا الاماء والعبيد من سبي العامّة؟ قال: نعم، ومن سبي غيرهم لأنّه عليه السلام قال: عاملوهم بما عاملوا به أنفسهم، وهاتان المسألتان زائدتان على المسائل التي

الصفحة 194
سمّيتها لك.

وقال السيّد سلّمه الله: انّه يخرج من مكة بين الرّكن والمقام في سنة وتر فليرتقبها المؤمنون.

فقلت: يا سيّدي قد أحببت المجاورة عندكم إلى أن يأذن الله بالفرج، فقال لي: اعلم يا أخي انّه تقدّم اليّ كلام بعودك الى وطنك، ولا يمكنني وايّاك المخالفة، لأنّك ذو عيال وغبت عنهم مدّة مديدة، ولا يجوز لك التخلّف عنهم أكثر من هذا، فتأثّرت من ذلك وبكيت.

وقلت: يا مولاي وهل تجوز المراجعة في أمري؟ قال: لا، قلت: يا مولاي وهل تأذن لي في أن أحكي كلّما قد رأيته وسمعته؟ قال: لا بأس أن تحكي للمؤمنين لتطمئنّ قلوبهم، الّا كيت وكيت، وعيّن ما لا أقوله.

فقلت: يا سيدي أما يمكن النظر إلى جماله وبهائه عليه السلام؟ قال: لا، ولكن اعلم يا أخي انّ كلّ مؤمن مخلص يمكن أن يرى الامام ولا يعرفه، فقلت: يا سيّدي أنا من جملة عبيده المخلصين، ولا رأيته.

فقال لي: بل رأيته مرّتين ; مرّة منها لمّا أتيت إلى سرّ من رأى وهي أوّل مرّة جئتها، وسبقك أصحابك وتخلّفت عنهم، حتى وصلت إلى نهر لا ماء فيه فحضر عندك فارس على فرس شهباء، وبيده رمح طويل، وله سنان دمشقي، فلمّا رأيته خفت على ثيابك، فلمّا وصل اليك قال لك: لا تخف اذهب إلى أصحابك، فانّهم ينتظرونك تحت تلك الشجرة، فأذكرني والله ما كان، فقلت: قد كان ذلك يا سيّدي.

قال: والمرّة الأخرى حين خرجت من دمشق تريد مصراً مع شيخك الأندلسي، وانقطعت عن القافلة، وخفت خوفاً شديداً، فعارضك فارس على فرس غرّاء محجّلة، وبيده رمح ايضاً، وقال لك: سر ولا تخف إلى قرية على يمينك ونم عند أهلها الليلة، وأخبرهم بمذهبك الذي ولدت عليه، ولا تتّق منهم فانّهم مع قرى

الصفحة 195
عديدة جنوبي دمشق، مؤمنون مخلصون، يدينون بدين علي بن أبي طالب والائمة المعصومين من ذرّيته عليهم السلام.

أكان ذلك يا ابن فاضل؟ قلت: نعم، وذهبت إلى عند أهل القرية ونمت عندهم فأعزّوني وسألتهم عن مذهبهم، فقالوا لي ـ من غير تقيّة مني ـ: نحن على مذهب أمير المؤمنين، ووصيّ رسول ربّ العالمين علي بن أبي طالب والائمة المعصومين من ذرّيته عليهم السلام فقلت لهم من أين لكم هذا المذهب؟ ومَنْ أوصله اليكم؟ قالوا: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه حين نفاه عثمان إلى الشام، ونفاه معاوية إلى أرضنا هذه، فعمّتنا بركته، فلمّا أصبحت طلبت منهم اللحوق بالقافلة فجهّزوا معي رجلين ألحقاني بها، بعد أن صرّحت لهم بمذهبي.

فقلت له: يا سيدي هل يحجّ الامام عليه السلام في كلّ مدّة بعد مدّة؟ قال لي: يا ابن فاضل! الدّنيا خطوة مؤمن، فكيف بمن لم تقم الدّنيا الّا بوجوده ووجود آبائه عليهم السلام، نعم يحجّ في كلّ عام ويزور آباءه في المدينة والعراق، وطوس، على مشرّفيها السلام، ويرجع إلى أرضنا هذه.

ثمّ إنّ السيّد شمس الدين حثّ عليّ بعدم التأخير بالرّجوع إلى العراق وعدم الاقامة في بلاد المغرب، وذكر لي انّ دراهمهم مكتوب عليها: لا إلـه الّا الله محمد رسول الله عليٌ ولي الله محمد بن الحسن القائم بأمر الله. وأعطاني السيّد منها خمسة دراهم وهي محفوظة عندي للبركة.

ثمّ إنّه سلّمه الله وجّهني مع المراكب التي أتيت معها إلى أن وصلنا إلى تلك البلدة التي أوّل ما دخلتها من أرض البربر، وكان قد أعطاني حنطة وشعيراً فبعتها في تلك البلدة بمائة وأربعين ديناراً ذهباً من معاملة بلاد المغرب، ولم أجعل طريقي على الأندلس امتثالا لأمر السيّد شمس الدين العالم أطال الله بقاءه، وسافرت منها مع الحَجِيج المغربيّ إلى مكة شرّفها الله تعالى وحججت، وجئت إلى العراق وأريد المجاورة في الغريّ على مشرّفيها السلام حتى الممات.


الصفحة 196
قال الشيخ زين الدّين عليّ بن فاضل المازندراني: لم أرَ لعلماء الاماميّة عندهم ذكراً سوى خمسة: السيّد المرتضى الموسوي، والشيخ أبو جعفر الطوسي، ومحمد بن يعقوب الكليني، وابن بابويه، والشيخ أبو القاسم جعفر بن اسماعيل الحلّي(1).

[ وقال الشيخ علي بن فاضل ايضاً: انّ لي بهذه السنة ثمان سنوات ونصفاً من زمان كنت في تلك الناحية المقدّسة إلى هذا الوقت وأنا أنقل لكم ذلك في الحلّة.

وقد سمعت عند خروج الشيخ علي بن فاضل من الحلّة انّه اقام مدّة في مسجد السهلة لأنّه كان قد أوعد، وان مولد وموطن الشيخ علي بن فاضل هو في اقليم مازندران في بلدة يقال لها ابريم والله الهادي ](2).

يقول المؤلف:

نقل العلامة المجلسي في البحار، والفاضل الخبير الميرزا عبد الله الاصفهاني في رياض العلماء عن رسالة الجزيرة الخضراء انّ صاحب الرسالة قال: وجدت بخط الشيخ الفاضل الفضل بن يحيى في خزانة أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يشيروا إلى اسم الواجد وجامع الحكاية مَنْ هو، واكتفوا بهذا المقدار في الاعتبار.

ولكن الفاضل الصالح الآخوند الملاّ كاظم الهزار جريبي تلميذ الاستاذ الاكبر العلامة البهبهاني، قال في كتاب مناقبه: انّ هذه الحكاية منقولة عن خط الشيخ الأجل الأفضل الأعلم، الأعمل، الأكمل، عمدة الفقهاء والمجتهدين مجدد مراسم

____________

1- راجع البحار: ج 52، ص 159، وغيرها من المصادر الأخرى التي ذكرناها.

ولا يخفى اننا نقلنا النص عن البحار، مع انّ المؤلف قد ترجم النص عن مصدر آخر لم يذكره ونبّه إلى وجه الاختلاف بين البحار وبين ذلك المصدر، وقد ارتأينا ان ننقل النص الموجود في البحار لأننا خفنا أن نرجع النص الذي ترجمه المؤلف رحمه الله للفارسيّة ; إلى العربيّة أن نقع بمحذور عدم الاحتفاظ بنص أقرب للنص الذي قاله الراوي لما تعمله الترجمة، فضلا عن ترجمتين الأولى نقل المؤلف النص الى الفارسيّة، والثانية ارجاعنا إيّاها إلى العربيّة.

2- هذه الزيادة ترجمناها لعدم عثورنا على مصدرها.


الصفحة 197
الائمة الطاهرين عليهم السلام محمد بن مكي المعروف بالشهيد بنقل جماعة من المؤمنين الأتقياء الثقات المعتمدين باللفظ العربي، وأما ترجمته بالفارسية فهي هكذا:(1) يقول الشيخ الأجل الشهيد السعيد المشار إليه: وجدت بخطّ الامام العالم الفضل بن يحيى... إلى آخره.

ومن هذا يظهر انّ صاحب الرسالة هو الشهيد.

ومما يؤيد هذا الكلام في أنّه لابدّ أن يكون مؤلفها هو الشهيد أو مَنْ هو نظيره مَنْ لا يتكلّم في نقله وهو المير محمد لوحي المعاصر للعلامة المجلسي في كتاب (كفاية المهتدي في معرفة المهدي)، فهو مع طعنه الكثير في نقل العلامة المتقدّم ذكره وفهمه، ومع كثرة اشكالاته عليه فهو يقول في أحد مواضع ذلك الكتاب:(2) " وهو من الأخبار المعتبرة النادرة التي ذكر فيها مدينة الشيعة والجزيرة الخضراء والبحر الأبيض والتي تقول انّ لصاحب الزمان عليه السلام عدّة أولاد.

وقد وفقنا مع هذا الحديث الصحيح في كتاب رياض المؤمنين ".

وإن لم يكن اعتبار تلك الرسالة معلوم وواضح، فلكان مجال الطعن ـ حتى مع جزئيته ـ ميداناً واسعاً، فيطعن ويشكل على العلامة المذكور في انّه نقل مثل تلك القصّة الطويلة التي لا أساس لها في كتاب لجمع الأخبار المعتبرة.

ويقول العالم الجليل والحبر النبيل الشيخ اسد الله الكاظميني في أوّل المقابيس في ضمن توصيفه فضائل المحقق صاحب الشرائع:

"... رئيس العلماء، حكيم الفقهاء، شمس الفضلاء، بدر العرفاء، المنوّه باسمه وعلمه في قصّة الجزيرة الخضراء... الخ "(3).

____________

1- ولعدم وجود الأصل العربي فقد ارجعنا ما ترجمه المؤلف رحمه الله للفارسيّة، إلى العربية مرّة اُخرى.

2- أي كتاب (كفاية المهتدي في معرفة المهدي).

3- مقاييس الأنوار: ص 16، الطبعة الحجرية، سنة 1322 في شهر صفر المظفّر.


الصفحة 198
وقال في (كشف القناع) في ضمن الشواهد على امكان الرؤية في الغيبة الكبرى وتلقي حكم منه عليه السلام:

" [ ومن جملتها ](1) قصة الجزيرة الخضراء المعروفة المذكورة في البحار، وتفسير الائمة عليهم السلام وغيرهما "(2).

وقال الشهيد الثالث القاضي نور الله رحمه الله في كتاب مجالس المؤمنين:

" إنّ المخالفين والمؤالفين متّفقون طبق الروايات على أنّه عند الظهور تظهر لصاحب الأمر عليه السلام على الأرض جميع المخبئات الكنوز المستورة تحت الأرض.

وانّه سوف يغلب ظلمة وجبابرة الأرض، ويكون الملك بقبضته بقوّة وبارادته عليه السلام، ويتنوّر العالم بنور عدله وقسطه، ويهب ربّ العزّة له عليه السلام جميع هذه الأمور مع التمكين والقدرة، فيمكنه أن يتصرّف بها فلا يدع أحداً وبأثر اشارته العليّة أن لا يكون في ذلك الطريق، وان ذلك محال.

ويقيم بالخصوص لملازمي حريمه الخاصين ما يناسب الحال هناك.

ويقوم هناك ويفعل يقيناً بما يلزم كلّ أمر يراه صواباً بمقتضى المصلحة الدينية، كما يستفاد ذلك من قصّة البحر الأبيض والجزيرة الخضراء المشهورة "(3) انتهى.

ويظهر من هذا الكلام الشريف انّ هذه القصة كانت معروفة ومشهورة عند تلك الطبقة، ويحتمل انّهم قد حصلوا عليها بسند آخر، ونقل عن (تاريخ جهان آرا)

____________

1- هذه الزيادة من المؤلف رحمه الله.

2- كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع: ص 231، وعبارته: " على ما يظهر من كلام الشهيد وكما هو مروي عنه في قصة الجزيرة الخضراء... الخ ".

3- اقول تكرّرت في عبارات علمائنا الأبرار التعبير عن قصة الجزيرة الخضراء بأنها مشهورة.

ولا يضرّ بالشهرة عدم تسجيلها في كتبهم، بل انّ ذكرها في كتبهم والاشارة إليها في موارد عدّة كما في عبارات الوحيد البهبهاني والمحقق أسد الله التستري وغيرهما والشهيد الثالث وتعبيرهم عنها بالشهرة يكفي لشهرتها، والله العالم.


الصفحة 199
الذي هو من كتب التاريخ المعتبرة، وفي (رياض العلماء) وغيره، انّه قد ذكر فيها:

انّ الجزيرة الخضراء والبحر الأبيض، جزيرة تقع في بلاد ولاية البربر وسط بحر الأندلس وهو فيها عليه السلام وأولاده وأصحابه، وهي معمورة وعامرة، وفي ساحل ذلك البحر موضع على شكل الجزيرة يقول لها الأندلسيون جزيرة الرافضة، وان سكان جميع ذلك الساحل شيعة، اماميّون، ويأتيهم ما يحتاجون إليه من الجزيرة الخضراء التي هي مقام تواجده عليه السلام، في كلّ سنة مرّتين مع دليل لتلك السفن من طريق البحر الأبيض الذي هو محيط بتلك الناحية المقدّسة، وانّه يرجع بعد أن يقسمه على أهل تلك الجزيرة.

ولم يخفَ خافياً انّ اسم والد المحقق حسن وهو ابن يحيى بن سعيد الهذلي الحلي، وقد حرف في القصة المذكورة، أو انّ اسماعيل ذلك اسم شخص جليل من أجداده ينسب إليه هناك.

وأما الفضل بن يحيى راوي أصل الحكاية فهو من العلماء المعروفين، قال الشيخ الحرّ في أمل الآمل: " الشيخ مجد الدين الفضل بن يحيى [ بن علي ](1) بن المظفر الطيبي الكاتب بواسط.

فاضل، عالم جليل، يروي كتاب كشف الغمة عن مؤلفه علي بن عيسى الأربلي، كتبه بخطّه، وقابله، وسمعه من مؤلفه، وله(2) منه اجازة سنة ستمائة وواحد وتسعون.

وسمع منه(3) جماعة قد ذكرناهم بأماكنهم، وهم اثنا عشر رجلا... "(4).

وقال الفاضل الميرزا عبد الله الاصفهاني في رياض العلماء: " [ ورأيت ] في

____________

1- سقطت من الترجمة، واثبتت في المصدر المطبوع.

2- في الترجمة زيادة (وله من علي بن عيسى).

3- قال المؤلف رحمه الله: " يعني هذا الكتاب ".

4- أمل الآمل (الحر العاملي): ج 2، ص 217 ـ 218.


الصفحة 200
نسخة عتيقة من كشف الغمّة انّ الفضل المذكور قد قابل الشيخ فضل بن يحيى المذكور في مستهل المحرم من سنة تسع وتسعين وستمائة بواسط صورة خط المأمون في ولاية عهده للرضا عليه السلام وما كتبه الرضا على ظهره مع خط المأمون وخط الرضا "(1).

ولا يخفى انّ الكلام في هذه الحكاية وشبهة الاستبعاد من وجود مثل هذه البلاد العظيمة على وجه الأرض وعدم اطّلاع أحد عليها مع كثرة السفر والمجيء والذهاب.

وتقدّم في ذيل الحكاية الثانية انّه لا استبعاد في وجودها وحجبها عن أنظار الخلائق مع عموم قدرة الله تعالى.

وأعجب من ذلك سدّ الاسكندر ذي القرنين، وكهف اصحاب الكهف فانّهما موجودان بصريح القرآن، ولم يخبر أحد عنهما.

ونقل في مجلد السماء والعالم من البحار عن كتاب (قسمة أقاليم الأرض وبلدانها) تأليف أحد علماء أهل السنة، قال:

" بلد المهدي مدينة حسنة حصينة بناها المهدي الفاطمي، وجعل لها أبواباً من حديد، في كل باب ما يزيد على المائة قنطار، ولمّا بناها وأحكمها، قال: الآن أمنت على الفاطميين "(2).

وروى الشيخ المقدّم أحمد بن محمد بن عياش في الجزء الأول من كتاب (مقتضب الأثر) باسناده إلى الشعبي انّه قال:

انّ عبد الملك بن مروان دعاني فقال: يا أبا عمرو انّ موسى بن نصير العبدي كتب إليّ ـ وكان عامله على المغرب ـ يقول: بلغني انّ مدينة من صفر كان ابتناها نبيّ الله تعالى سليمان بن داود عليه السلام، أمر الجن أن يبنوها له، فاجتمعت العفاريت من الجن على بنائها وانّها من عين القطر التي ألانها الله لسليمان بن داود عليه السلام وانّها في

____________

1- رياض العلماء: ج 4، ص 375 ـ 376.

2- البحار: ج 60، ص 229.


الصفحة 201
مفازة الأندلس، وانّ فيها من الكنوز التي استودعها سليمان عليه السلام وقد أردت أن اتعاطى الارتحال إليها، فأعلمني العلام بهذا الطريق انّه صعب لا يتمطى الّا بالاستعداد من الظهور، والازواد الكثيرة مع بُعد المسافة وصعوبتها، وانّ أحداً لم يهتم بها الاّ قصر عن بلوغها، الاّ دارا ابن دارا فلمّا قتله الاسكندر، قال: والله لقد جئت الأرض والأقاليم كلّها ودان لي أهلها، وما أرض الّا وقد وطئتها الّا هذه الأرض من الأندلس، فقد أدركها دارا ابن دارا، وانّي لجدير بقصدها كي لا أقصر عن غاية بلغها دارا، فتجهّز الاسكندر واستعدّ للخروج عاماً كاملا، فلمّا ظنّ انّه قد استعدّ لذلك، وقد كان بعث رواده فأعلموه انّ موانع دونها، فكتب عبد الملك بن مروان إلى موسى بن نصير يأمره بالاستعداد والاستخلاف على عمله، فاستعدّ وخرج فرآها وذكر أحوالها، فلمّا رجع كتب إلى عبد الملك بحالها وقال في آخر الكتاب: فلمّا مضت الأيام وفنيت الأزواد سرنا نحو بحيرة ذات شجر، وسرت مع سور المدينة فصرت إلى مكان من السور فيه كتاب بالعربيّة، فوقفت على قرائته وأمرت بانتساخه فاذا هو شعر:


ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومنيرجو الخلود وما حيّ بمخلود
لو انّ خلقاً ينال الخلد في مهللنال ذاك سليمان بن داود
سالت له القطر عين القطر فائضةبالقطر منه عطاء غير مصدود(1)
فقال للجن ابنوا لي به أثراًيبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودى(2)
فصيّروه صفاحاً ثم هيل لهإلى السماء بأحكام وتجويد
وأفرغ القطر فوق السور منصلتافسار أصلب من صماء صيخود(3)

____________

1- في الترجمة (غير مردود).

2- في الترجمة (ولا يؤد).

3- الصماء: الصخرة التي ليس فيها خرق ولا صدع ـ وميخود: الصخرة الشديدة.


الصفحة 202

وبثّ فيه كنوز الأرض قاطبةوسوف يظهر(1) يوماً غير محدود
وصار في قعر بطن الأرض مضطجعاًمصمّداً بطوابيق الجلاميد(2)
لم يبق من بعده للملك سابقةحتى يضمن رمساً غير أخدود
هذا ليعلم انّ الملك منقطعالّا من الله ذي النعماء والجود
حتى إذا ولدت عدنان صاحبهامن هاشم كان منها خير مولود
وخصّه الله بالآيات منبعثاًإلى الخليقة منها البيض والسود
له مقاليد أهل الأرض قاطبةوالأوصياء له أهل المقاليد
هم الخلائف اثنا عشرة حججاًمن بعده الأوصياء السادة الصيد
حتى يقوم بأمر الله قائمهممن السماء إذا ما باسمه نودي

فلما قرأ عبد الملك الكتاب وأخبره طالب بن مدرك وكان رسوله إليه بما عاين من ذلك، وعنده محمّد بن شهاب الزهري قال: ماذا ترى في هذا الأمر العجيب؟ فقال الزهري: أرى وأظنّ انّ جنّاً كانوا موكلين بما في تلك المدينة حفظة لها، يخيلون إلى من كان صعدها، قال عبد الملك: فهل علمت من أمر المنادي باسمه من السماء شيئاً؟ قال: الهَ عن هذا يا أمير المؤمنين! قال عبد الملك: وكيف ألهو عن ذلك وهو أكبر أوطاري؟ لتقولنّ بأشدّ ما عندك في ذلك سائني أم سرّني؟ فقال الزهري: أخبرني علي بن الحسين عليه السلام انّ هذا المهدي من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال عبد الملك: كذبتما لا تزالان تدحضان في بولكما، وتكذبان في قولكما، ذلك رجل منّا! قال الزهري: أمّا أنا فرويته لك عن علي بن الحسين عليه السلام فإنْ شئت فاسأله عن ذلك ولا لوم عليّ فيما قلته لك، فإن يكُ كاذباً فعليه كذبه، وإن يكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم، فقال عبد الملك: لا حاجة لي إلى سؤال

____________

1- في الترجمة (وسوف تظهر).

2- الجلاميد جمع جلمود: وهو الصخر.


الصفحة 203
أبي تراب، فخفض عليك يا زهري بعض هذا القول فلا يسمعه منك أحد، قال الزهري: لك عليّ ذلك(1).

وكانت الأندلس بيد الافرنج لسنين طويلة، ومع شدّة اهتمامهم لمعرفة أوضاع الأرض وقدرتهم على ذلك فانّهم لم يكن عندهم خبر عن هذه المدينة.

وليس عند جميع أهل الأديان طرق استبعاد وخصوصاً أهل الاسلام ـ الذين هم أكمل وأعلم جميع الأمم ببركة وجود خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلّم وتكميله العباد في مراتب توحيد الذات وصفات وأفعال الباري ومصنوعات الحق جلّ وعلا العجيبة وآثاره الغريبة ـ بل انّ أهل السنة ومخالفينا اتّخذوا من أمثال الحكايات السابقة سببَ طعن واستهزاء بالطائفة الاماميّة.

وكان ينبغي لهم قبول هذا النوع من الأخبار لأنها مؤيدة لبعض الأمثلة التي استشهدوا بها لدعاواهم.

ولو انّها لا تؤيد أصل مذهبهم، فانّ الاشعرية ـ وقد استقرّ مذهب أهل السنة فيهم ـ يقولون في بيان قدرة الله عزوجل وعدم وجود اي سبب ومؤثر الّا ارادة ومشيئة الباري تعالى، فمن الممكن أن يكون في جبهتنا جبال شاهقة ارتفاعها من الأرض الى السماء متلألئة بألوان مختلفة، وليس هناك حجاب بيننا وبينهم، ويشع عليها نور الشمس وانها تتلألأ بتلألؤ شعاع الشمس، وتبقى العين وصاحب العين سالمين وليس في ذلك عيب ولا علّة وبينه وبين تلك الجبال أقل من شبر واحد، ومع ذلك فانّه لا يرى تلك الجبال.

ويقولون: يجوز أن يكون في صحراء خالية من البشر طولها وعرضها مائة فرسخ بمائة فرسخ، وان تلك الصحراء ملوءة من الخلائق لا يعلم عدّتهم أحد، وهم مشغولون بمحاربة بعضهم البعض الآخر والمنازعة والمسابقة والرمي وهجوم بعضهم

____________

1- راجع مقتضب الأثر (لابن عياش): ص 44 ـ 45، وهو في أول الجزء الثالث.