ونظائر تلك الخرافات التي هي محتوى وحاصل تلك العقائد لجميع الأشعرية.
وأمّا الاماميّة: فنقلوا في باب معاجز رسول الله وائمة الهدى صلوات الله عليهم نظير الحكاية المتقدّمة من هذا اللحاظ أخباراً كثيرة، كما أشير إليه سابقاً، بل نقلوا أخباراً كثيرة متواترة بحسب المعنى انّ في المشرق والمغرب مدينتين عظيمتين يقال لأحدهما جابلسا والأخرى جابلقا، بل مدن متعدّدة.
وإنّ الذين في تلك المدن انّما هم من انصار القائم عليه السلام ويخرجون معه يسبقون فيها اصحاب السلاح ويدعون الله عزوجل أن يجعلهم ممن ينتصر بهم لدينه، ويتعاهدون الأوقات التي يأتي فيها الائمة عليهم السلام ويتعلّمون فيها معالم الدين، ويعلمونهم الحكمة الالهية الحقة، ولا يسأمون من العبادة ولا يفترون، يتلون كتاب الله عزوجل كما أنزل، ويتعلّمونه منهم، وان فيه ما لو تُلِيَ على الناس لكفروا به، وانكروه، ويسألون الائمة عليهم السلام عن الشيء إذا ورد عليهم من القرآن لا يعرفونه، فاذا أُخبروا به انشرحت صدورهم لما يستمعون منهم، وانهم أصحاب أسرار ومقدّسون وزهاد وصالحون مَنْ يراهم يرى الخشوع والاستكانة وطلب ما يقربهم إلى الله عزوجل، وعمر أحدهم ألف سنة، وفيهم الكهول والشبّان، فاذا رأى شاب منهم الكهل جلس بين يديه جلسة العبد لا يقوم حتى يأمره، ينتظرون القائم عليه السلام، ويدعون الله عزوجل أن يكونوا معه.
لهم طريق أعلم به من الخلق إلى حيث يريد الامام عليه السلام، فاذا أمرهم
لو أنّهم وردوا ما بين المشرق والمغرب من خلق لأفنوهم في ساعة واحدة.
لا يختل فيهم الحديد، لهم سيوف من حديد غير هذا الحديد، لو ضرب أحدهم بسيفه جبلا لقدّه حتى يفصله.
ويغزو بهم الامام عليه السلام الهند، والديلم، والترك، والكرد، والروم، والبربر، وفارس.
وبين جابرسا إلى جابلقا لا يأتون على أهل دين الّا دعوهم إلى الله عزوجل، وإلى الاسلام، والإقرار بمحمد صلى الله عليه وآله وسلّم، والتوحيد، وولاية أهل البيت عليهم السلام، فمن أجاب منهم ودخل في الاسلام تركوه وأمّروا عليه أميراً منهم، ومن لم يجب ولم يقر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلّم، ولم يقرّ بالاسلام ولم يُسلم قتلوه.
منهم جماعة لم يضعوا السلاح منذ كانوا ينتظرون القائم عليه السلام.
إذا احتبس الامام عنهم ظنّوا ذلك من سخط، يتعاهدون أوقات الامام التي يأتيهم بها.
لا يشركون بالله شيئاً، ولم يعصوا قطّ، يتبرّؤون من فلان وفلان(1)، وغير ذلك من حالات وصفات وأفعال تلك الجماعة وصفات ووضع مدينتهم فانّها مفصلة في الأخبار.
وبحسب ظاهر الشرع المطهّر وطريقة أهل الشريعة فانّه لا يمكن حمل كل تلك التفاصيل على عالم المثال، أو المنازل القلبية لأهل الحال كما يفعله أهل التأويل(2).
____________
1- الروايات في هذا المعنى متضافرة، راجع: بصائر الدرجات (محمد بن الحسن الصفار): ج10، الباب 14، ص 490 - 494 ـ وبحار الأنوار (المجلسي): ج 57، ص 327 وما بعدها.
وقد أخذ المؤلف رحمه الله المعاني التي ذكرها من روايات الأبواب في الكتب التي ذكرناها، لم ننقلها لك خشية الإطالة.
2- قد أجاد العلامة المجلسي رحمه الله في تفصيل الكلام حول هذه المسألة والأقوال التي فيها في: بحار الأنوار: ج 57، ص 351 وما بعدها.
وقال الفيروز آبادي في القاموس:
" جابَلَص بفتح الباء واللام أو سكونها، بلد بالمغرب وليس وراءه إنسي(2)، وجابلق بلد بالمشرق "(3).
وروى الشيخ حسن بن سليمان الحلّي تلميذ الشهيد الأول، في كتاب المختصر خبراً شريفاً في كيفية اتّهام أحد المنافقين لأمير المؤمنين عليه السلام عند خروجه في بعض الليالي من المدينة، وقد راقبه ذلك المنافق في ليلة، فأخذه عليه السلام إلى إحدى المدن التي تبعد عن المدينة مسيرة سنة وتركه هناك، ورؤيته حالات تلك البلاد، وكان من جملتها اعتماد أهلها على لعن ذلك المنافق في الزرع وغيره، وذلك انهم عندما ينثرون البذور فبسبب لعنه تخضر فوراً وتحمل وينضح حملها، فيحصدونه، وبعد اُسبوع جاء عليه السلام وأخذه معه ورجع، والخبر طويل وكان الفرض متعلقاً بمجمل
____________
1- لعدم عثورنا على مصدر الخبر حالياً فقد قمنا بترجمته. نعم، في بحار الأنوار: ج 57، ص329 رواية عن الامام الحسن عليه السلام قريب هذا المعنى نقلها عن البصائر باسناده عن أبي سعيد الهمداني قال: قال الحسن بن علي عليهما السلام: انّ لله مدينة في المشرق، ومدينة في المغرب، على كلّ واحدة سور من حديد، في كلّ سور سبعون ألف مصراع، يدخل من كل مصراع سبعون ألف لغة آدمي ليس منها لغة الّا مخالف الأخرى، وما منها الّا وقد علمناها، وما فيهما وما بينهما ابن نبي غيري وغير أخي، وأنا الحجة عليهم ": مختصر بصائر الدرجات (الشيخ حسن الحلّي): ص 11 ـ 13.
2- القاموس المحيط (الفيروز آبادي): ج 2، ص 297.
3- القاموس المحيط (الفيروز آبادي): ج 3، ص 217.
ونكتفي بهذا المقدار لرفع شبهة أهل الدين، بل قاطبة المليين.
تنبيه شريف:
ولا يخفى انّ الشيخ زين الدين علي بن فاضل سأل السيد شمس الدين في تحليله عليه السلام الخمس للشيعة في أيام الغيبة، وتصديق السيّد ذلك الخبر، وليس المراد من ذلك على الظاهر سقوط مطلق الخمس من سهم الامام عليه السلام وسهم السادة كما نقل عن سلار والمحقق السبزواري وصاحب الحدائق وبعض معاصريه.
وليس المراد سقوط سهم الامام عليه السلام في أيام الغيبة كما قاله صاحب المدارك والمحدّث الكاشاني نظراً لظاهر جملة من الأخبار التي تقول انّا أحللنا الخمس لشيعتنا لتطيب نطفهم(1).
وبهذا المضمون وقريب منه أخبار كثيرة، لكنّها تخالف ظاهر الكتاب والأخبار المعتبرة الصريحة ببقاء القسمين، بل التشديد والتأكيد عليه والتهديد والوعيد في التسامح فيه، ويكفي في ذلك التوقيع الشريف الذي ورد عن امام العصر عليه السلام على يد أبي جعفر محمد بن عثمان النائب الثاني ـ كما رواه الصدوق في كمال الدين ـ ويشتمل ذلك التوقيع الجواب على جملة من المسائل أحدها:
" وأمّا ما سألت عنه مِنْ أمر مَنْ يستحل ما في يده من أموالنا، ويتصرّف فيه تصرّفه في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو ملعون، ونحن خصماؤه يوم القيامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: المستحل من عترتي ما حرّم الله ملعون على لساني،
____________
1- وردت مجموعة من الأخبار بهذا المضمون، راجع الوسائل: كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالامام، الباب الرابع ـ وكذلك مستدرك الوسائل: كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالامام عليه السلام، الباب 4 (اباحة حصة الامام عليه السلام من الخمس للشيعة مع تعذر ايصالها إليه وعدم احتياج السادات...)، ج 1، ص 555، الطبعة الحجرية.
فمن ظلمنا كان من جملة الظالمين، وكان لعنة الله عليه لقوله تعالى: { أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينِ }(1).
وفي موضع من هذا التوقيع:
" ومن أكل من أموالنا شيئاً فانّما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً "(2).
وفي توقيع آخر عنه عليه السلام:
" بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على مَنْ استحلّ من مالنا درهماً "(3).
قال أبو الحسين الأسدي (رضي الله عنه)(4): [ فوقع في نفسي انّ ذلك فيمن استحلّ من مال الناحية درهماً دون مَنْ أكل منه غير مستحلّ له ](5).
وقلت في نفسي: انّ ذلك(6) في جميع مَنْ استحلّ محرّماً، فأيّ فضل في ذلك للحجة عليه السلام على غيره؟
قال:[ فو الّذي بعث محمداً بالحق بشيراً ](7) لقد نظرت بعد ذلك في التوقيع فوجدته قد انقلب إلى ما وقع في نفسي:
" بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على مَنْ أكل مِنْ مالنا درهماً حراماً "(8).
____________
1- كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 520 ـ 521.
2- كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 521.
3- في الترجمة زيادة (الخ، قال راوي التوقيع أبو الحسين...).
4- سقطت (رضي الله عنه) من الترجمة.
5- سقطت من الترجمة.
6- في الترجمة زيادة شرح (العذاب والتهديد).
7- سقطت من الترجمة، واثبت بدلها القسم بالله عزوجل.
8- كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 523.
وغير ذلك(2).
ولهذا(3) رفع المحققون الفقهاء رضوان الله عليهم أيديهم عن ظاهر تلك الطائفة من الأخبار، وحملوها على محامل لكلّ منها شواهد من الأخبار، مثل حمل البعض على اقاصي الأرض(4)، وبعضها بعنوان الخمس، وبعضها بعنوان الأنفال التي هي مال الامام عليه السلام، ويحلّ للشيعة التصرّف في أيام الغيبة مثل خمس الأرض التي يسيطر عليها المسلمون من الكفّار بالقوة باذن النبي أو الامام صلوات الله عليهما.
ومنها الأرض الموات. وكلّ ما يؤخذ بدون اذن، أو هلك أهله وتواروا.
وقمم الجبال، وسيف البحر، والآجام وغير ذلك.
وبعضها على ما يكون حلالا من الخمس الذي يتعلّق بمال كان بيد الكفار أو
____________
1- من جملتها ما في (الوسائل): كتاب الخمس، ابواب الأنفال وما يختص بالامام، باب3، ح1، الكليني عن علي بن ابراهيم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمّد بن سهل وكان يتولّى له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة الآف درهم في حلّ، فانّي قد انفقتها.
فقال: انت في حلّ.
فلمّا خرج صالح، قال أبو جعفر عليه السلام: أحدهم ليثب على أموال [ حق خ.ل ] آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم فيأخذه، ثم يجيء، فيقول: اجعلني في حلّ، أتراه ظنّ انّي أقول: لا افعل، والله ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثاً.
2- أي وغير ذلك من الأخبار التي دلت على ذلك المعنى.
3- يعود على أوّل المطلب حيث قال رحمه الله: " ولكن بما انها تخالف ظاهر الكتاب والأخبار المعتبرة الصريحة ببقاء القسمين... الخ ".
4- فقد حمل الفقهاء في أحد الوجوه التي حملوا بها مداليل تلك الأخبار المحلة للخمس على اباحة حصة الامام عليه السلام من الخمس للشيعة مع تعذر ايصالها إليه، وعدم احتياج السادات، وجواز تصرّف الشيعة في الانفال والفيء وسائر حقوق الامام مع الحاجة وتعذّر الايصال.
ومثل الخمس المتعلّق بعين مال فيحل لهم شراؤه من تجار تلك الطوائف الذين لا يؤدون الخمس أبداً.
وشراء الغنائم التي يغنمها المخالفون من الكفار في الحروب التي هي جميعها ملك الامام عليه السلام وقد أحلّت للشيعة.
وبعضها على جواز التصرّف في مال تعلّق الخمس بعينه، وقبل أن يخرج الخمس يضمنه في ذمّته، ثم يتصرّف في ذلك المال.
والخلاصة: فبعد التأمل في الأخبار فلا يبقى خافياً انّ الأمر في الخمس وخصوصاً سهم الامام عليه السلام شديد، بل لابدّ أن يراعى غاية الاحتياط في صرف القسم الثاني إلى مستحقّيه، وذلك بأن يصرفه صاحبه باذن الفقيه المأمون، أو يعطيه إلى الحاكم المطاع في الدين المأمون الأمين ليوصله إلى أهله، فلا طريق في التصرّف في مال الامام عليه السلام الّا بشاهد الحال القطعي.
وليس له عليه السلام علاقة أو تعلّق بذلك المال، بل بجميع الدنيا وما فيها ليلزم حفظه بدفنه كحفظ أموال الغائبين، ويوصى به من يد إلى يد حتى ظهوره المبارك، كما قال به بعض العلماء.
بل مع وجود الضعفاء والعجزة والأرامل والأيتام من السادات وغيرهم وشدّة احتياجهم واستغنائه عليه السلام عنه فمن الطبيعي يكون راضياً بصرف تلك الأموال على هؤلاء.
ولكن المشكل في تشخيص محلّه، وأي صنف وطبقة تعطى ذلك المال من الشيعة، المطيعون والعاصون والمقصّرون، والعارفون بحقهم والمستضعف والمستبصر وامثالهم؟ وأي مقدار يعطى لكل منهم؟ والمتيقّن هو ما يكون راضياً عليه السلام في العطاء للمحتاجين بما يعطيه هو في حكمه وغلبته.
روى الشيخ المقدّم محمد بن ابراهيم النعماني في كتاب الغيبة بعدّة أسانيد عن الامام الصادق عليه السلام انّه قال: " فو الله ما لباسه الّا الغليظ، ولا طعامه الّا الجشب، وما هو الّا السيف، والموت تحت ظل السيف "(1).
وفي رواية اُخرى قال: " وما طعامه الّا الشعير الجشب "(2).
وروي ايضاً عن [ معمر ](3) بن خلاد قال: ذكر القائم عند أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: انتم اليوم أرخى بالا منكم يومئذ.
قالوا: وكيف؟
قال: لو خرج قائمنا عليه السلام لم يكن الّا العلق(4) والعرق(5)، والنوم على السروج، وما لباس القائم عليه السلام الّا الغليظ، وما طعامه الّا الجشب "(6).
وروي في دعوات الراوندي عن المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لو كان هذا الأمر اليكم لعشنا معكم.
فقال: والله لو كان هذا الأمر الينا لما كان الّا أكل الجشب، ولبس الخشن(7).
وقال عليه السلام للمفضّل بن عمر: لو كان هذا الأمر الينا لما كان الّا عيش
____________
1- راجع الغيبة (النعماني): ص 233، الباب 13، ح 20.
2- راجع الغيبة (النعماني): ص 234، الباب 13، ح 21.
3- سقطت من الترجمة.
4- قال المؤلف رحمه الله: " الدم ".
5- قال المؤلف رحمه الله: " يعني من كثرة القتل والذبح ".
6- الغيبة (النعماني): ص 285، باب 15، ح 5.
7- الدعوات (الراوندي): ص 296 ـ وعنه في البحار: ج 52، ص 340.
وروى الشيخ النعماني عن المفضل، قال:
كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بالطواف فنظر إليّ، وقال لي: يا مفضل! ما لي أراك مهموماً متغيّر اللون؟
قال: فقلت له: جعلت فداك، نظري إلى بني العباس، وما في أيديهم من هذا الملك والسلطان والجبروت، فلو كان ذلك لكم لكنّا فيه معكم.
فقال: يا مفضل! أما لو كان ذلك(2) لم يكن الّا سياسة الليل، وسياحة النهار، وأكل الجشب، ولبس الخشن شبه أمير المؤمنين عليه السلام، والّا فالنار، فزوي(3) ذلك عنّا، فصرنا نأكل ونشرب، وهل رأيت ظلامة جعلها الله نعمة مثل هذا؟(4) وروى عن عمرو بن شمر قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام في بيته، والبيت غاصٌّ بأهله، فأقبل الناس يسألونه، فلا يُسأل عن شيء الّا أجاب فيه، فبكيت من ناحية الدار ; فقال: ما يبكيك يا عمرو؟
قلت: جعلت فداك، وكيف لا أبكي، وهل في هذه الأمة مثلك، والباب مغلق عليك، والستر لمرخىً عليك؟!!
فقال: لا تبكِ يا عمرو، نأكل اكثر الطيب، ونلبس الليّن، ولو كان الذي نقول لم يكن الّا أكل الجشب، ولبس الخشن، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والّا فمعالجة الاغلال في النار(5).
وروى الشيخ عن حماد بن عثمان قال الامام أبو عبد الله عليه السلام: "... انّ قائمنا
____________
1- الدعوات (الراوندي): ص 296 ـ وعنه البحار: ج 52، ص 340.
2- قال المؤلف رحمه الله: " يعني السلطنة ".
3- قال المؤلف رحمه الله: " تلك السلطنة ".
4- راجع الغيبة (النعماني): ص 287، الباب 15، ح 7.
5- راجع الغيبة (النعماني): ص 287 و288، الباب 15، ح 8.
وفي هذا المضمون أخبار كثيرة.
ولعلّ غناه وعدم احتياجه لقناعته وتركه للدنيا واقتصاره على القدر الضروري للحياة من المأكول والملبوس والمشروب، والمسكن والنكاح، وعدم احتياجه لشيء اكثر من ذلك ليرفع حاجته.
وهكذا ورد إنّ صاحب الزكاة وغيرها من الحقوق ـ في الدولة الحقة ـ ويسير في البلاد، ويطلب مستحقها فلا يجد من يأخذها.
وليس المقصود من غناهم بكثرة المال والمنال والضياع والعقار(2) فانها تنافي غرض بعثته عليه السلام الذي هو دعوة الخلق الى الله تبارك وتعالى ويكملهم بالعلم والعمل ; فاذا كان عمله نفسه عليه السلام هكذا(3) فكيف يرضى أن يصرف ماله في فضول المعاش وزخارف الدنيا والأمتعة النفيسة والأطعمة اللذيذة، والألبسة الفاخرة، والمساكن العالية، حاشا أن يحصل منه مثل هذا الرضا.
فعلى المعطي والآخذ لسهم الامام عليه السلام أن يضع أمام عينيه سيرته وسلوكه
____________
1- راجع الكافي ـ الأصول ـ (الكليني): ج 1، ص 411، ح 4 ـ وعنه الحر العاملي في (الوسائل): ج 3، ص 348، باب 2، ح 7 ـ والسيد هاشم البحراني في (حلية الأبرار): ج 1، ص 341، باب 26 ـ والمجلسي في (البحار): ج 40، ص 336، باب 98، ح 18 ـ وفي البحار: ج 47، ص 54 و55، باب 26، ح 92.
ونسبة الرواية للشيخ لعلّها ناشئة من خطأ مطبعي أو من النساخ بسقوط كلمة (الكليني).
2- في غيبة النعماني: ص 150، باب 10، ح 8، عن الكاهلي عن أبي عبد الله عليه السلام من جملة حديث قال: "... ليأتينّ عليكم وقت لا يجد أحدكم لديناره ودرهمه موضعاً ".
" يعني لا يجد عند ظهور القائم عليه السلام موضعاً يصرفه فيه لاستغناء الناس جميعاً بفضل الله وفضل وليّه... ".
والظاهر انّ المقطع الثاني للنعماني رحمه الله شرحاً للحديث والله العالم.
3- يقصد: هكذا بالزهد وترك الدنيا.
الحكاية الثامنة والثلاثون:
قال العالم الفاضل المتقي الميرزا محمد تقي بن الميرزا كاظم بن الميرزا عزيز الله بن المولى محمد تقي المجلسي رحمهم الله سبط العلامة المجلسي الملقّب بالألماسي في رسالة بهجة الأولياء، كما نقله عنه تلميذه المرحوم الفاضل البصير الألمعي السيد محمد باقر بن السيد محمد شريف الحسيني الاصفهاني في كتاب نور العيون: حدّثني بعض أصحابنا عن رجل صالح من أهل بغداد وهو حي إلى هذا الوقت أي سنة ستّ وثلاثين بعد المائة والألف، قال: إنّي كنت قد سافرت في بعض السنين مع جماعة، فركبنا السفينة وسرنا في البحر، فاتّفق انّه انكسرت سفينتنا، وغرق جميع من فيها
فلمّا وصلت إليه رأيته محيطاً بالبحر الّا طرفاً منه يتّصل بالصحراء واستشممت منه رائحة الفواكه، ففرحت وزاد شوقي، وصعدت قدراً من الجبل حتّى إذا بلغت إلى وسطه في موضع أملس مقدار عشرين ذراعاً لا يمكن الاجتياز منه ابداً، فتحيّرت في أمري، فصرت أتفكّر في أمري فاذا أنا بحيّة عظيمة كالأشجار العظيمة تستقبلني في غاية السرعة، ففررت منها منهزماً مستغيثاً بالله تبارك وتعالى في النجاة من شرّها كما نجّاني من الغرق.
فاذا أنا بحيوان شبه الأرنب قصد الحيّة مسرعاً من أعلى الجبل حتى وصل إلى ذنبها فصعد منه حتى إذا وصل رأس الحيّة الى ذلك الحجر الأملس وبقي ذنبه فوق الحجر، وصل الحيوان إلى رأسها وأخرج من فمه حمّة(1) مقدار أصبع فأدخلها في رأسها ثمّ نزعها وأدخلها في موضع آخر منها وولّى مدبراً فماتت الحية في مكانها من وقتها، وحدث فيها عفونة كادت نفسي أن تطلع من رائحتها الكريهة فما كان بأسرع من أن ذاب لحمها، وسال في البحر، وبقي عظامها كسلّم ثابت في الأرض يمكن الصعود منه.
فتفكّرت في نفسي، وقلت: ان بقيت هنا أموت من الجوع فتوكّلت على الله في ذلك، وصعدت منها حتى علوت الجبل، وسرت من طرف قبلة الجبل فاذا أنا بحديقة بالغة حدّ الغاية في الغضارة والنضارة والطراوة والعمارة، فسرت حتى دخلتها وإذا فيها أشجار مثمرة كثيرة، وبناء عال مشتمل على بيوتات، وغُرف كثيرة في وسطها.
فأكلت من تلك الفواكه، واختفيت في بعض الغرف وأنا اتفرّج الحديقة
____________
1- الحمة: ـ وزن ثبة ـ الاُبرة يضرب بها الزنبور والحيّة ونحو ذلك أو يلدغ بها وتاؤها عوض عن اللاّم المحذوفة لأن أصلها حمو، أو حمى.
ثمّ أحضروا الطعام، فقال لهم ذلك السيد: انّ لنا في هذا اليوم ضيفاً في الغرفة الفلانية ولابدّ من دعوته إلى الطعام فجاء بعضهم في طلبي فخفت وقلت: اعفني من ذلك، فأخبر السيد بذلك، فقال: اذهبوا بطعامه إليه في مكانه ليأكله، فلمّا فرغنا من الطعام، أمر باحضاري وسألني عن قصّتي، فحكيت له القصّة، فقال: أتحبّ أن ترجع إلى أهلك؟ قلت: نعم، فأقبل على واحد منهم، وأمره بايصالي إلى أهلي، فخرجت أنا وذلك الرجل من عنده.
فلمّا سرنا قليلا قال لي الرجل: انظر فهذا سور بغداد! فنظرت إذا أنا بسوره وغاب عنّي الرجل، فتفطّنت من ساعتي هذه، وعلمت انّي لقيت سيّدي ومولاي عليه السلام، ومن سوء حظّي حرمت من هذا الفيض العظيم، فدخلت بلدي وبيتي في غاية من الحسرة والندامة(1).
يقول المؤلف:
قد بينا أحوال الميرزا محمد تقي الألماسي المذكور مفصلا في رسالة (الفيض القدسي في أحوال المجلسي رحمه الله).
وقال الفاضل المذكور(2) قبل هذه الحكاية بعدة أوراق: كان فاضلا عالماً ورعاً ديّناً. وكان قد سبق أقران المير في الفتاوى والزهد في الدنيا وكثرة العبادة والبكاء.
وكان في الفقه والحديث مرجع الطلبة من أهل زمانه، وبالتماس جماعة من
____________
1- راجع جنة المأوى: ص 259 ـ 260.
2- السيد محمد باقر بن السيد محمد شريف الحسيني الاصفهاني تلميذ الميرزا محمد تقي الألماسي.
وقد قرأ هذا العبد الحقير كثيراً من الأحاديث والرجال عند ذي الخصال الحميدة.
واستفدت مقداراً من فروع الفقه وغيره عنده ايضاً.
والحق انّه كان رؤوفاً بهذا الضعيف اكثر من الأب.
وكانت أول اجازاتي في الفقه والحديث والأدعية من هذا الأجل، وقد انتقل إلى جوار رحمة القدس الالهي في سنة ألف ومائة وتسعة وخمسين، انتهى(1).
ويقال له الألماسي لأنّ أباه الميرزا كاظم كان غنيّاً وثريّاً، وقد اهدى الماسة إلى حضرة أمير المؤمنين عليه السلام وقد وضعت في محل الاصبعين. وكان قيمتها خمسة آلاف تومان، ولهذا عرف بالألماسي.
الحكاية التاسعة والثلاثون:
وروى السيد محمد باقر المذكور في كتاب نور العيون عن جناب الميرزا محمد
____________
1- أقول: هكذا في الترجمة وفيها بعض الاختلاف عمّا في الفيض القدسي: ص 120، والنصّ فيه بما يلي: " وكان عالماً فاضلا ورعاً ديّناً، وكان في الزّهد والعبادة وحيد عصره، وفي الفقه والحديث مرجع الطلاب، وبالتماس جماعة من الفضلاء والأعيان تولّى صلاة الجمعة في المسجد الجديد العباسي باصبهان مع احتياط تام، وكان يخطب بخطب بليغة فصيحة، وكان لا يفتر عن البكاء حين الخطبة بلحظة. وقد قرأت عليه كثيراً من الأحاديث والرجال، وقدراً من الفقه والفروع وغيره، وكان يلطف بي ويشفق عليّ اكثر من الوالد الشفيق، وهو اوّل من أجازني في الفقه والأحاديث والأدعية وتوفي في سنة 1195 م ".
وقال العلامة النوري في الفيض القدسي: ص 119، عن سبب تسميته بألماسي: " انّ والده نصب في داخل شبّاك امير المؤمنين عليه السلام عند الموضع المعروف بجاي دو انگشت حجراً من الجوهرة المعروفة بالألماس كان قيمته في ذلك الوقت سبعة آلاف توامين، وهو موجود لحدّ الآن في الموضع المذكور ولهذا لقّب بألماسي.. " انتهى.