____________
<=
تأبّط خير كتاب له وقد جاء من حيث غاب ابن طه فأومى إليه ادع ما قد كتب وجاء فلمّا تلاه دعاها وأوصى به سيّداً جالساً أن ادعوا له بالشفاء شفاها فقام وأدخله غيبة الا مام المغيّب من أوصياها وجاء إلى حفرة الصفّة التي هي للعين نور ضياها وأسرج آخر فيها السراج وأدناه من فمه ليراها هناك دعا الله مستغفراً وعيناه مشغولة ببكاها ومذ عاد منها يريد الصلاة قد عاود النفس منه شفاها وقد أطلق الله منه اللسان وتلك الصلاة أتمّ أداها
ولمّا بلغ الخبر إلى خرّيت صناعة الشعر السيّد المؤيد الأديب اللبيب فخر الطالبيّين، وناموس العلويّين، السيد حيدر بن السيّد سليمان الحلّي أيّده الله تعالى بعث إلى سرّ من رأى كتاباً صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم، لمّا هبّت من الناحية المقدّسة نسمات كرم الامامة فنشرت نفحات عبير هاتيك الكرامة، فأطلقت لسان زائرها من اعتقاله، عندما قام عندها في تضرّعه وابتهاله، أحببت أن أنتظم في سلك من خدم تلك الحضرة، في نظم قصيدة تتضمّن بيان هذا المعجز العظيم ونشره، وأن اُهنّئ علاّمة الزمن وغرّة وجهه الحسن، فرع الأراكة المحمديّة، ومنار الملّة الأحمديّة، علم الشريعة، وامام الشيعة، لأجمع بين العبادتين في خدمة هاتين الحضرتين، فنظمت هذه القصيدة الغرّاء، وأهديتها إلى دار اقامته وهي سامرّاء، راجياً أن تقع موقع القبول، فقلت ومن الله بلوغ المأمول:
كذا يظهر المعجز الباهرُ | ويشهده البرّ والفاجرُ |
وتروى الكرامة مأثورة | يبلّغها الغائبَ الحاضر |
يقرّ لقوم بها ناظر | ويقذي لقوم بها ناظر |
فقلب لها ترحاً واقع | وقلب بها فرحاً طائر |
أجِلْ طرف فكرك يا مستدلّ | وأنجد بطرفك يا غائر |
تصفّح مآثر آل الرسول | وحسبك ما نشر الناشر |
ودونكه نبأً صادقاً | لقلب العدوّ هو الباقر |
فمن صاحب الأمر أمس استبان | لنا معجز أمره باهر |
=>
____________
<=
بموضع غيبته مذ ألمّ أخو علّة داؤها ظاهر رمى فمه باعتقال اللسان رام هو الزّمن الغادر فأقبل ملتمساً للشفاء لدى من هو الغائب الحاضر ولقّنه القول مستأجر عن القصد في أمره جائر فبيناه في تعب ناصب ومن ضجر فكرهُ حائر إذ انحلّ من ذلك الاعتقال وبارحه ذلك الضائر فراح لمولاه في الحامدين وهو لآلائه ذاكر لعمري لقد مسحت داءه يدّ كلّ [ خلق ](1) لها شاكر يدّ لم تزل رحمة للعباد لذلك أنشأها الفاطر تحدّر(2) وإن كرهت أنفس يضيق شجى صدرها الواغر وقل انّ قائم آل النبي له النهي وهو هو الآمر أيمنع زائره الاعتقال ممّا به ينطق الزائر ويدعوه صدقاً إلى حلّة ويقضي(3) على انّه القادر ويكبو مرجّيه دون الغياث وهو يقال به العاثر فحاشاه(4) بل هو نعم المغيث إذا نضنض الحارث الفاغر(5) فهذي الكرامة لا ماغدا يلفّقه الفاسق الفاجر أدم ذكرها يا لسان الزمان وفي نشرها فمك العاطر وهنَّ بها سرّ من رآ ومن به رَبعها آهل عامر هو السيد الحسن المجتبى خضمّ الندى غيثه الهامر وقل يا تقدّست من بقعة بها يهب(6) الزلّة الغافر كلا اسميك في الناس باد له بأوجههم أثر ظاهر فأنت لبعضهم سرّ من رأى وهو نعت لهم ظاهر(7) وأنت لبعضهم ساء من رأى وبه يوصف الخاسر لقد أطلق الحسن المكرمات مهيّاك(8) فهو بهي سافر فأنت حديقة زهو(9) به وأخلافه روضك الناضر(10) عليم تربّي بحجر الهدى ونسج التقى برده الطاهر
إلى أن قال سلّمه الله تعالى:
=>
الحكاية الثالثة والثمانون:
قال المحدّث الجليل السيد نعمة الله الجزائري في كتاب (المقامات):
حدّثني رجل من أوثق اخواني في شوشتر في دارنا القريبة من المسجد الأعظم قال: لمّا كنّا في بحور الهند تعاطينا عجائب البحر، فحكى لنا رجل من الثقات، قال: روى من أعتمد عليه انّه كان منزله في بلد على ساحل البحر، وكان بينهم وبين جزيرة من جزائر البحر مسير يوم أو أقلّ، وفي تلك الجزيرة مياههم وحطبهم وثمارهم، وما يحتاجون إليه، فاتّفق انّهم على عادتهم ركبوا في السفينة قاصدين تلك الجزيرة، وحملوا معهم زاد يوم.
فلمّا توسّطوا البحر، أتاهم ريح عدلهم عن ذلك القصد، وبقوا على تلك الحالة تسعة أيّام حتّى أشرفوا على الهلاك من قلّة الماء والطعام، ثمّ انّ الهوى رماهم في ذلك اليوم على جزيرة في البحر، فخرجوا إليها وكان فيها المياه العذبة والثمار الحلوة،
____________
<=
كذا فلتكن عترة المرسلين(11) والّا فما الفخر يا فاخر؟!(12)
____________
1. في الديوان (حي).
2. في الديوان (تحدّث).
3. في الديوان (يغضي).
4. في الديوان (اُحاشيه).
5. الحارث: لقب الأسد، والفاغر: الذي فتح فاه يقال: نضنض لسانه: إذا حرّكَهُ، فالسبع أشد ما يكون إذا فغر فاه ونضنض لسانه.
6. في الديوان (يغفر).
7. في الديوان (زاهر).
8. في الديوان (محياك وهو).
9. في الديوان (أُنس).
10. في الديوان (واخلاقك... الناظر).
11. في الديوان (الأنبياء).
12. أقول راجع القصيدة بتمامها في ديوان السيد حيدر الحلّي المسمى بالدّر اليتيم والعقد النظيم: ص 176 ـ 179 وهي (55) بيت.
فلمّا بعدوا عن الساحل، نظروا إلى رجل منهم بقي في الجزيرة فناداهم ولم يتمكّنوا من الرّجوع، فرأوه قد شدّ حزمة حطب، ووضعها تحت صدره، وضرب البحر عليها قاصداً لحوق السفينة، فحال الليل بينهم وبينه وبقي في البحر.
وأمّا أهل السفينة، فما وصلوا الّا بعد مضي أشهر، فلمّا بلغوا أهلهم أخبروا أهل ذلك الرّجل فأقاموا مأتمه، فبقوا على ذلك عاماً أو أكثر، ثمّ رأوا انّ ذلك الرّجل قدم إلى أهله، فتباشروا به، وجاء إليه أصحابه فقصّ عليهم قصّته.
فقال: لمّا حال الليل بيني وبينكم بقيت تقلّبني الأمواج وأنا على الحزمة يومين حتى أوقعتني على جبل في السّاحل، فتعلّقت بصخرة منه، ولم اُطق الصّعود إلى جوفه لارتفاعه، فبقيت في الماء وما شعرت الّا بأفعى عظيمة، أطول من المنار وأغلظ منها، فوقعت على ذلك الجبل، ومدّت رأسها تصطاد الحيتان من الماء فوق رأسي فأيقنت بالهلاك وتضرّعت إلى الله تعالى فرأيت عقرباً يدبّ على ظهر الأفعى فلمّا وصل إلى دماغها لسعها بأبرته، فاذا لحمها قد تناثر عن عظامها، وبقي عظم ظهرها وأضلاعها كالسّلّم العظيم الذي له مراقي يسهل الصّعود عليها.
قال: فرقيت على تلك الأضلاع حتى خرجت إلى الجزيرة شاكراً لله تعالى على ما صنع فمشيت في تلك الجزيرة إلى قريب العصر، فرأيت منازل حسنة مرتفعة البنيان الّا انّها خالية لكن فيها آثار الانس.
قال: فاستترت في موضع منها فلمّا صار العصر رأيت عبيداً وخدماً كلّ واحد منهم على بغل فنزلوا وفرشوا فرشاً نظيفة، وشرعوا في تهيئة الطعام، وطبخه، فلمّا فرغوا منه رأيت فرساناً مقبلين، عليهم ثياب بيض، وخضر، وتلوح من وجوههم الأنوار، فنزلوا وقدّم اليهم الطعام.
فاخترت على شقاوتي بلادي فلمّا دخل الليل أمر لي بمركب وأرسل معي عبداً من عبيده، فسرنا ساعة من الليل وأنا أعلم انّ بيني وبين أهلي مسيرة أشهر وأيام، فما مضى من الليل قليل منه الّا وقد سمعنا نبيح الكلاب، فقال لي ذلك الغلام: هذا نبيح كلابكم، فما شعرت ا لّا وأنا واقف على باب داري، فقال: هذه دارك انزل إليها.
فلمّا نزلت، قال لي: قد خسرت الدّنيا والآخرة، ذلك الرجل صاحب الدّار عليه السلام فالتفتّ إلى الغلام فلم أَرَه، وأنا في هذا الوقت بينكم نادماً على ما فرّطت، هذه حكايتي(1).
وتقدمت في الحكاية الثامنة والثلاثين قضيّة قريبة إلى هذا المضمون، والله العالم بالتعدد والاتحاد.
الحكاية الرابعة والثمانون:
حدّثني العالم العامل، والفاضل الكامل، قدوة الأتقياء، وزين الصلحاء السيد محمد ابن العالم السيد هاشم بن مير شجاعتعلي الموسوي الرضوي النجفي المعروف بالهندي سلّمه الله تعالى وهو من العلماء المتّقين، وكان يؤمّ الجماعة في داخل حرم أمير المؤمنين عليه السلام وله خبرة وبصيرة بأغلب العلوم المتداولة والغريبة، قال: كان رجل
____________
1- راجع جنّة المأوى: ص 307 ـ 309.
فلمّا انتهينا إلى قريب من البئر التي في نصف الطريق لاح لي أسد على قارعة الطريق، والبريّة خالية من الناس ليس فيها الّا أنا وهذا الرجل، فوقفت عن المشي، فقال: ما بالك؟ فقلت: هذا الأسد، فقال: امشِ ولا تبالِ به، فقلت: كيف يكون ذلك؟! فأصرّ عليّ، فأبيت، فقال لي: إذا رأيتني وصلت إليه ووقفت بحذائه ولم يضرّني، أفتجوز الطريق وتمشي؟ فقلت: نعم، فتقدّمني الى الأسد حتى وضع يده على ناصيته، فلمّا رأيت ذلك أسرعت في مشيي حتى جزتهما وأنا مرعوب، ثمّ لحق بي وبقي الأسد في مكانه.
قال نوّر الله قلبه: قال الشيخ باقر وكنت في أيّام شبابي خرجت مع خالي الشيخ محمد علي القارئ ـ مصنّف الكتب الثلاثة في علم القراءة ومؤلّف كتاب التعزية [ جمع فيه تفصيل قضيّة كربلاء من بدئها إلى ختامها بترتيب حسن وأحاديث منتخبة ] ـ الى مسجد السّهلة وكان في تلك الأوقات موحشاً في الليل ليس فيه هذه العمارة الجديدة، والطريق بينه وبين مسجد الكوفة كان صعباً أيضاً ليس بهذه السّهولة الحاصلة بعد الاصلاح.
فلمّا صلّينا تحيّة مقام المهدي عليه السلام نسي خالي سبيله وتُتُنه، فذكر ذلك بعدما
____________
1- نسبة إلى (آل ازيرج) ويسمّون (آل الازرق) وهي عشيرة كبيرة تقطن منطقة العمارة.
فلمّا دخلت وقت العشاء إلى المقام فتناولت ذلك الكيس والسبيل، وجدت جمرة نار كبيرة تلهب في وسط المقام، فخرجت مرعوباً منها فرآني خالي على هيئة الرّعب، فقال لي: ما بالك؟ فأخبرته بالجمرة، فقال لي: سنصل إلى مسجد الكوفة، ونسأل العبد الصّالح الحاج عبد الله عنها، فانّه كثير التردّد إلى هذا المقام، ولا يخلو من أن يكون له علم بها.
فلمّا سأله خالي عنها قال: كثيراً ما رأيتها في خصوص مقام المهدي عليه السلام من بين المقامات والزّوايا(1).
الحكاية الخامسة والثمانون:
وقال نضّر الله وجهه: وأخبرني الشيخ باقر المزبور عن السيّد جعفر ابن السيد الجليل السيد باقر القزويني صاحب الكرامات الظاهرة قدّس الله روحه قال: كنت أسير مع أبي إلى مسجد السّهلة فلمّا قاربناها قلت له: هذه الكلمات التي أسمعها من الناس انّ من جاء إلى مسجد السّهلة في أربعين أربعاء فانّه يرى المهدي عليه السلام أرى انّها لا أصل لها، فالتفت اليّ مغضباً وقال لي: ولِمَ ذلك؟ لمحض انّك لم تَرَه؟ أو كلّ شيء لم تره عيناك فلا أصل له؟ وأكثر من الكلام عليّ حتى ندمت على ما قلت.
ثمّ دخلنا معه المسجد، وكان خالياً من الناس فلمّا قام في وسط المسجد ليصلّي ركعتين للاستجارة أقبل رجل من ناحية مقام الحجة عليه السلام ومرّ بالسيّد فسلّم عليه وصافحه والتفت اليّ السيد والدي وقال: فمن هذا؟ فقلت: أهو المهدي عليه السلام فقال: فمن؟ فركضت أطلبه فلم أجده في داخل المسجد ولا في خارجه(2).
____________
1- راجع جنة المأوى: ص 243 ـ 245.
2- راجع جنة المأوى: ص 245.
الحكاية السادسة والثمانون:
وقال أصلح الله باله: وأخبر الشيخ باقر المزبور عن رجل صادق اللهجة كان دلاكاً(1) وله أب كبير مسنّ، وهو لا يقصر في خدمته، حتّى انّه يحمل له الابريق إلى الخلاء، ويقف ينتظره حتى يخرج فيأخذه منه ولا يفارق خدمته الّا ليلة الأربعاء فانّه يمضي إلى مسجد السهلة ثمّ ترك الرّواح إلى المسجد، فسألته عن سبب ذلك، فقال: خرجت أربعين أربعاء فلمّا كانت الأخيرة لم يتيسّر لي أن أخرج إلى قريب المغرب، فمشيت وحدي وصار الليل وبقيت أمشي حتى بقي ثلث الطريق وكانت الليلة مقمرة.
فرأيت أعرابياً على فرس قد قصدني، فقلت في نفسي هذا سيسلبني ثيابي، فلمّا انتهى إليّ كلّمني بلسان البدو من العرب وسألني عن مقصدي، فقلت: مسجد السهلة، فقال: معك شيء من المأكول؟ فقلت: لا، فقال: أدخل يدك في جيبك (هذا نقل بالمعنى وأمّا اللفظ: دورك يدك لجيبك).
فقلت: ليس فيه شيء، فكرّر عليّ القول بزجر حتى أدخلت يدي في جيبي، فوجدت فيه زبيباً كنت اشتريته لطفل عندي ونسيته فبقي في جيبي.
ثم قال لي الاعرابي: أوصيك بالعود، أوصيك بالعود، أوصيك بالعود ـ والعود في لسانهم اسم للأب المسن ـ ثم غاب عن بصري فعلمت أنّه المهدي عليه السلام وانّه لا يرضى بمفارقتي لأبي حتى في ليلة الأربعاء فلم أعد إلى المسجد(2).
ونقل لي هذه الحكاية ايضاً أحد علماء النجف الأشرف المعروفين.
____________
1- في الجنة (حلاق) وفي الترجمة (دلاك).
2- راجع جنة المأوى: ص 245 ـ 246.
الحكاية السابعة والثمانون:
وقال أدام الله إكرامه: رأيت في رواية ما يدلّ على أنّك إذا أردت أن تعرف ليلة القدر، فاقرأ " حم الدّخان " كلّ ليلة في شهر رمضان مائة مرّة إلى ليلة ثلاث وعشرين، فعلمت ذلك وبدأت في ليلة الثلاث والعشرين أقرأ على حفظي بعد الفطور إلى أن خرجت إلى الحرم العلوي في أثناء الليل، فلم أجد لي موضعاً استقرّ فيه الّا أن أجلس مقابلا للوجه، مستدبراً للقبلة، بقرب الشمع المعلّق لكثرة الناس في تلك الليلة.
فتربّعت واستقبلت الشبّاك، وبقيت أقرأ " حم " فبينما أنا كذلك إذ وجدت إلى جنبي أعرابياً متربّعاً أيضاً معتدل الظهر أسمر اللون حسن العينين والأنف والوجه، مهيباً جداً كأنّه من شيوخ الأعراب الّا انّه شاب، ولا أذكر هل كان له لحية خفيفة أم لم تكن، وأظنّ الأول.
فجعلت في نفسي أقول: ما الذي أتى بهذا البدوي إلى هذا الموضع؟ ويجلس هذا الجلوس العجمي؟ وما حاجته في الحرم؟ وأين منزله في هذا الليل؟ أهو من شيوخ الخزاعة وأضافه بعض الخدمة مثل الكليددار أو نائبه، وما بلغني خبره، وما سمعت به؟!
ثمّ قلت في نفسي: لعلّه المهدي عليه السلام وجعلت أنظر في وجهه، وهو يلتفت يميناً وشمالا إلى الزّوار من غير اسراع في الالتفات ينافي الوقار، وجلست امرأة قدّامي لاصقة بظهرها ركبتي، فنظرت إليه متبسّماً ليراها على هذه الحالة فيتبسّم على حسب عادة الناس، فنظر إليها وهو غير متبسّم واليّ ورجع إلى النظر يميناً وشمالا، فقلت: أسأله انّه أين منزله؟ أو من هو؟
فلمّا هممت بسؤاله انكمش فؤادي انكماشاً تأذّيت منه جدّاً، وظننت أنّ وجهي اصفرّ من هذه الحالة، وبقي الألم في فؤادي حتى قلت في نفسي: اللهم انّي لا أسأله، فدعني يا فؤادي وعد إلى السلامة من هذا الألم، فانّي قد أعرضت عمّا أردت من سؤاله، وعزمت على السكوت، فعند ذلك سكن فؤادي وعدت إلى التفكّر في
وهممت مرّة ثانية بالاستفسار منه، وقلت: أيّ ضرر في ذلك؟ وما يمنعني من أن أسأله فانكمش فؤادي مرّة ثانية عندما هممت بسؤاله، وبقيت متألّماً مصفرّاً حتى تأذّيت، وقلت: عزمت أن لا أسأله ولا أستفسر إلى أن سكن فؤادي، وأنا أقرأ لساناً وانظر إلى وجهه وجماله وهيبته، واُفكّر فيه قلباً، حتّى أخذني الشوق إلى العزم مرّة ثالثة على سؤاله، فانكمش فؤادي وتأذّيت في الغاية وعزمت عزماً صادقاً على ترك سؤاله، ونصبت لنفسي طريقاً إلى معرفته، غير الكلام معه، وهو انّي لا اُفارقه وأتبعه حيث قام ومشى حتّى أنظر أين منزله إن كان من سائر الناس أو يغيب عن بصري إن كان الامام عليه السلام.
فأطال الجلوس على تلك الهيئة، ولا فاصل بيني وبينه، بل الظاهر انّ ثيابي ملاصقة لثيابه، وأحببت أن أعرف الوقت والساعة، وأنا لا أسمع من كثرة أصوات الناس صوت ساعة الحرم، فصار في مقابلي رجل عنده ساعة، فقمت لأسأله عنها، فخطوت خطوة، ففاتني صاحب الساعة لتزاحم الناس، فعدت بسرعة إلى موضعي، ولعلّ احدى رجلي لم تفارقه، فلم أجد صاحبي وندمت على قيامي ندماً عظيماً، وعاتبت نفسي عتاباً شديداً(1).
الحكاية الثامنة والثمانون:
حدّثني السيد الثقة التقي الصالح السيّد مرتضى النجفي رحمه الله وكان من الصلحاء المجاورين وقد أدرك الشيخ شيخ الفقهاء [وعمادهم ] الشيخ جعفر النجفي وكان معروفاً عند علماء العراق بالصّلاح والسّداد [ وصاحبته سنين سفراً وحضراً فما وقفت منه على عثرة في الدّين ] قال: كنّا في مسجد الكوفة مع جماعة فيهم أحد من
____________
1- راجع جنة المأوى: ص 246 ـ 248.
قال: ولمّا حضر وقت صلاة المغرب جلس الشيخ لدى المحراب للصلاة والجماعة في تهيئة الصلاة بين جالس عنده، ومؤذن ومتطهّر، وكان في ذلك الوقت في داخل الموضع المعروف بالتّنّور ماء قليل من قناة خربة وقد رأينا مجراها عند عمارة مقبرة هانيء بن عروة، والدّرج التي تنزل إليه ضيّقة مخروبة، لا تسع غير واحد.
فجئت إليه وأردت النزول، فرأيت شخصاً جليلا على هيئة الأعراب قاعداً عند الماء يتوضأ وهو في غاية من السكينة والوقار والطّمأنينة، وكنت مستعجلا لخوف عدم إدراك الجماعة، فوقفت قليلا فرأيته كالجبل لا يحرّكه شيء، فقلت: وقد اُقيمت الصّلاة ما معناه لعلّك لا تريد الصلاة مع الشيخ؟ أردت بذلك تعجيله فقال: لا، قلت: ولم؟ قال: لأنّه الشيخ الدّخني، فما فهمت مراده، فوقفت حتى أتمّ وضوءه، فصعد وذهب ونزلت وتوضأت وصلّيت، فلمّا قضيت الصلاة وانتشر الناس وقد ملأ قلبي وعيني هيئته وسكونه وكلامه، فذكرت للشيخ ما رأيت وسمعت منه فتغيّرت حاله وألوانه، وصار متفكّراً مهموماً فقال: قد أدركت الحجة عليه السلام وما عرفته، وقد أخبر عن شيء ما اطّلع عليه الّا الله تعالى.
اعلم انّي زرعت الدّخنة(1) في هذه السنة في الرّحبة وهي موضع في الطرف الغربيّ من بحيرة الكوفة، محلّ خوف وخطر من جهة أعراب البادية المتردّدين إليه، فلمّا قمت إلى الصلاة ودخلت فيها ذهب فكري إلى زرع الدّخنة وأهمّني أمره، فصرت
____________
1- كلمة عامية عراقية ويقصد بها (الدّخن) وهو حبّ ناعم صغير جداً معروف.
ولأني سمعت هذه القصة قبل اكثر من عشرين سنة فأحتمل فيها الزيادة والنقصان نسأل الله العفو والعصمة من الهفوات.
الحكاية التاسعة والثمانون:
حدّثني العالم النبيل، والفاضل الجليل، الصالح الثقة العدل الرضي الذي قلّ له النظير والبديل، الحاج المولى محسن الاصفهاني المجاور لمشهد أبي عبد الله عليه السلام وهو معروف في الأمانة والديانة والتثبّت والانسانية، وكان من أوثق أئمة الجماعة في ذلك البلد الشريف، قال: حدّثني السيد السند، والعالم العامل المؤيد، التقي الصفي السيد محمد بن السيد مال الله بن السيد معصوم القطيفي رحمهم الله، قال: قصدت مسجد الكوفة في بعض ليالي الجمع، وكان في زمان مخوف لا يتردّد إلى المسجد أحد الّا مع عدّة وتهيئة، لكثرة من كان في أطراف النجف الأشرف من القطّاع واللّصوص، وكان معي واحد من الطلاّب.
فلمّا دخلنا المسجد لم نجد فيه الّا رجلا واحداً من المشتغلين فأخذنا في آداب المسجد، فلمّا حان وقت غروب الشمس، عمدنا إلى الباب فأغلقناه، وطرحنا خلفه من الأحجار والأخشاب والطوب والمدر إلى أن اطمأننّا بعدم امكان انفتاحه من الخارج عادة.
ثمّ دخلنا المسجد واشتغلنا بالصلاة والدعاء فلمّا فرغنا جلست أنا ورفيقي في دكّة القضاء مستقبل القبلة، وذاك الرجل الصالح كان مشغولا بقراءة دعاء كميل في الدّهليز القريب من باب الفيل بصوت عال شجيّ، وكانت ليلة قمراء صاحية وكنت متوجّهاً نحو السماء.
____________
1- راجع جنة المأوى: ص 257 ـ 258.