الصفحة 307
فبينا نحن كذلك فاذا بطيب قد انتشر في الهواء، وملأ الفضاء أحسن من ريح نوافج المسك الأذفر، وأروح للقلب من النسيم اذا تسحّر، ورأيت في خلال أشعة القمر إشعاعاً كشعلة النّار، قد غلب عليها، وانخمد في تلك الحال صوت ذلك الرّجل الداعي، فالتفتّ فاذا أنا بشخص جليل، قد دخل المسجد من طرف ذلك الباب المنغلق في زيّ لباس الحجاز، وعلى كتفه الشريف سجّادة كما هو عادة أهل الحرمين إلى الآن، وكان يمشي في سكينة ووقار، وهيبة وجلال، قاصداً باب مسلم ولم يبقَ لنا من الحواسّ الّا البصر الخاسر واللبّ الطّائر، فلمّا صار بحذائنا من طرف القبلة سلّم علينا.

قال رحمه الله: أمّا رفيقي فلم يبقَ له شعور أصلا، ولم يتمكّن من الرّد وأمّا أنا فاجتهدت كثيراً إلى أن رددت عليه في غاية الصعوبة والمشقّة، فلمّا دخل باب المسجد [ في ساحة مقبرة مسلم ] وغاب عنّا تراجعت القلوب إلى الصّدور، فقلنا: من كان هذا ومن أين دخل؟ فمشينا نحو ذلك الرّجل فرأيناه قد خرق ثوبه ويبكي بكاء الواله الحزين، فسألناه عن حقيقة الحال، فقال: واظبت هذا المسجد أربعين ليلة من ليالي الجمعة طلباً للتشرّف بلقاء خليفة العصر عليه السلام، وناموس الدّهر عجّل الله تعالى فرجه وهذه الليلة تمام الأربعين ولم أتزوّد من لقائه ظاهراً، غير انّي حيث رأيتموني كنت مشغولا بالدعاء فاذا به عليه السلام واقفاً على رأسي فالتفتّ إليه عليه السلام فقال: " چه مى كنى؟ " أو " چه مى خوانى؟ " أي ما تفعل؟ أو ما تقرأ؟ والترديد من الفاضل المتقدّم، ولم أتمكّن من الجواب، فمضى عنّي كما شاهدتموه، فذهبنا إلى الباب فوجدناه على النحو الذي أغلقناه، فرجعنا شاكرين متحسّرين(1).

يقول المؤلف:

سمعت مراراً الاستاذ السند وحيد عصره الشيخ عبد الحسين الطهراني أعلى الله

____________

1- راجع جنة المأوى: ص 263 ـ 264.


الصفحة 308
مقامه يمدح جناب السيد المذكور ويثني عليه ويجزيه خيراً ويقول: كان رحمه الله عالماً تقياً وشاعراً ماهراً وأديباً بليغاً، وكان غارقاً في محبة أهل بيت العصمة عليهم السلام بحيث كان اكثر ذكره وفكره فيهم ولهم، وكثيراً ما كنّا نلتقي به في الصحن الشريف، فسأله عن مسألة في علوم الآداب فيجيب عنها مستشهداً لمقصوده ببيت من الأشعار التي أنشدت في المصائب، أمّا له، أو لغيره، فتتغيّر حاله، فيشرع في ذكر مصائبهم على أحسن ما ينبغي وينقلب مجلس الشعر والأدب إلى مجلس مصيبة وكرب. وله قصائد رائقة كثيرة في المصائب دائرة على ألسن القراء رحمة الله عليه(1).

الحكاية التسعون:

حدّث الشيخ العالم الفاضل الشيخ باقر الكاظمي نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي المعروف بآل طالب انّه كان هناك رجل مؤمن في النجف الأشرف من البيت المعروف بـ (آل رحيم) يقال له الشيخ حسين رحيم(2).

وحدّثني أيضاً العالم الفاضل والعابد الكامل مصباح الأتقياء الشيخ طه من آل سماحة العام الجليل والزاهد العابد بلا بديل الشيخ حسين نجف وهو امام الجماعة في المسجد الهندي في النجف الأشرف ومقبول في التقوى والصلاح والفضل لدى الخواص والعوام:

وكان الشيخ حسين المذكور رجلا طاهر الطينة والفطرة ومن مقدسي

____________

1- راجع في ذلك جنة المأوى: ص 264 ـ 265، ونقل أبياتاً من تلك.

2- قال المؤلف رحمه الله في (جنة المأوى): " كان في النجف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمد حَسَنُ السريرة، وكان في سلك أهل العلم ذا نيّة صادقة.. ".

وللجمع بين الاسمين يحتمل انّ اسمه (محمد حسين) فمرّة سمّي باسمه الأول، والثانية سمّي باسمه الثاني، وهو متعارف بين أهل النجف، والله العالم.


الصفحة 309
المشتغلين(1).

وكان معه مرض السّعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج، لا يملك قوت يومه، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في أطراف النجف الأشرف، ليحصل له قوت ولو شعير، وما كان يتيسّر ذلك على وجه يكفيه، مع شدّة رجائه، وكان مع ذلك المرض والفقر فقد تعلّق قلبه بالتزويج بامرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده، وكان في همّ وغمّ شديد من جهة ابتلائه بذلك.

فلمّا اشتدّ به الفقر والمرض، وأيس من تزويج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرّواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء، فلابدّ أن يرى صاحب الأمر عجّل الله فرجه من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.

قال الشيخ باقر قدّس سرّه: قال الشيخ حسين:(2) فواظبت على ذلك أربعين ليلة بالأربعاء فلمّا كانت الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبّت ريح عاصفة، فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدكّة التي هي داخل في باب المسجد وكانت الدكّة الشرقيّة المقابلة للباب الأوّل تكون على الطرف الأيسر، عند دخول المسجد، ولا أتمكّن الدّخول في المسجد من جهة سعال الدّم، ولا يمكن قذفه في المسجد وليس معي شيء أتّقي فيه عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدّ عليّ همّي وغمّي، وضاقت الدّنيا في عيني، واُفكّر انّ الليالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمّلت المشاقّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الأياس من ذلك.

____________

1- يُقصَد بالمشتغلين أي المشتغلين بطلب العلوم الدينيّة في النجف الأشرف.

2- في الجنة (محمد).


الصفحة 310
فبينما أنا اُفكّر في ذلك وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت ناراً لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف، لا أتمكّن من تركها لتعوّدي بها، وكانت قليلة جدّاً إذا بشخص من جهة الباب الأوّل متوجّهاً إليّ، فلمّا نظرته من بعيد تكدّرت وقلت في نفسي: هذا أعرابي من أطراف المسجد، قد جاء إليّ ليشرب من القهوة وأبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم، ويزيد عليّ همّي وغمّي.

فبينما أنا اُفكّر إذا به قد وصل إليّ وسلّم عليّ باسمي وجلس في مقابلي فتعجّبت من معرفته باسمي، وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف فصرت أسأله من أيّ العرب يكون؟ قال: من بعض العرب فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف، فيقول: لا، لا، وكلّما ذكرت له طائفة قال: لا لست منها.

فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طُريطرة مستهزءاً وهو لفظ بلا معنى، فتبسّم من قولي ذلك، وقال: لا عليك من أينما كنت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأمور؟ فقال: ما ضرّك لو أخبرتني؟ فتعجّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلّما تكلّم ازداد حبّي له، فعملت له السبيل من التتن، وأعطيته، فقال: أنت اشرب فأنا ما أشرب، وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلا منه، ثمّ ناولني الباقي وقال: أنت اشربه فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حبّي له آناً فآناً.

فقلت له: يا أخي أنت قد أرسلك الله إليّ في هذه الليلة تأنسني أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم عليه السلام، ونتحدّث؟ فقال: أروح معك فحدّث حديثك.

فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة، مذ شعرت على نفسي، ومع ذلك معي سعال أتنخّع الدّم، وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه

الصفحة 311
وما عندي زوجة، وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر لي أخذها.

وقد غرّني هؤلاء الملّائيّة(1) وقالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمان عليه السلام وبتّ أربعين ليلة الأربعاء في مسجد الكوفة، فإنّك تراه، ويقضي لك حاجتك وهذه آخر ليلة من الأربعين، وما رأيت فيها شيئاً وقد تحمّلت هذه المشاقّ في هذه الليالي فهذا الذي جاء بي هنا، وهذه حوائجي.

فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: أمّا صدرك فقد برأ، وأمّا الامرأة فتأخذها عن قريب، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتّى تموت، وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان ابداً.

فقلت: ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال: قم، فقمت وتوجّه امامي، فلمّا وردنا أرض المسجد فقال: أَلاَ تصلّي صلاة تحية المسجد؟ فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ماسمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي: لعلّه هذا هو صاحب الزمان وذكرت بعض كلمات له تدلّ على ذلك ثمّ نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك، وهو في الصلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها على أيّ وجه كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له: أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.

____________

1- اصطلاح يطلقه بعض أهالي النجف الأشرف على عموم طلاب العلم.


الصفحة 312
فبينما أنا اُكلّم النور، وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة مسلم، فتبعته فدخل النور الحضرة، وصار في جوّ القبّة، ولم يزل على ذلك ولم أزل أندبه وأبكي حتى إذا طلع الفجر، عرج النور.

فلمّا كان الصباح التفتّ إلى قوله: أمّا صدرك فقد برأ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً وما مضى أسبوع إلّا وسهّل الله عليّ أخذ البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين(1).

الحكاية الحادية والتسعون:

حدّثني مشافهة العالم فخر الأواخر وذخر الأوائل، شمس فلك الزّهد والتّقى وحاوي درجات السّداد والهدى، الفقيه المؤيد النبيل، شيخنا الأجلّ الحاجّ المولى عليّ بن الحاجّ ميرزا خليل الطهراني المتوطّن في الغريّ حيّاً وميّتاً وكان يزور أئمة سامرّاء في أغلب السنين، ويأنس بالسّرداب المغيب ويستمدّ فيه الفيوضات ويعتقد فيه رجاء نيل المكرمات.

وكان يقول: إنّي ما زرت مرّة إلّا ورأيت كرامة ونلت مكرمة.

وفي أيام مجاورتي في سامراء فقد تشرّف عشر مرّات(2) ونزل في بيتي، وكان يستر ما يراه بشدّة، بل يستر سائر عباداته.

وقد التمست منه مرّة أن يخبرني بشيء من تلك المكرمات، فقال: تشرّفت مراراً في ليالي الظلماء والناس نيام ولا يوجد صدى حس أو حركة، فأرى عند الباب قبل النزول من الدرج نوراً يشع من سرداب الغيبة على جدران الدهليز الأول

____________

1- راجع جنة المأوى: ص 240 ـ 243.

2- أي تشرف الحاج علي لزيارة مراقد الائمة علهيم السلام في سامراء.


الصفحة 313
ويتحرّك من موضع إلى آخر، كأن بيد أحد هناك شمعة مضيئة وهو ينتقل من مكان إلى آخر فيتحرّك النور هناك بحركته، ثم أنزل وأدخل في السرداب الشريف فلا أجد أحداً ولا أرى سراجاً.

وقد تشرّف في وقت ظهرت فيه آثار مرض الاستسقاء، وقد تألم كثيراً، فتشرّف بالدخول إلى السرداب المطهر، وقال: استشفيت هذا اليوم باستشفاء العوام، فدخلت السرداب المطهر ووصلت إلى الصفّة الصغيرة وأدخلت رجلي بقصد الشفاء داخل تلك البئر التي يسمّيها العوام ببئر الغيبة، وعلقت روحي، فلم يمضِ وقت حتى زال المرض بالمرّة.

وعزم المرحوم على المجاورة هناك ولكن بعد رجوعه إلى النجف الأشرف منعه مانع، فعاد عليه المرض، وتوفي في آخر صفر سنة ألف ومائتين وتسعة، حشره الله تعالى مع مواليه.

الحكاية الثانية والتسعون:

حدّثني سيد الفقهاء، وسناد العلماء، العالم الرّباني، المؤيد بالألطاف الخفيّة السيد مهدي القرويني الساكن في الحلّة السيفيّة، صاحب التصانيف الكثيرة والمقامات العالية أعلى الله تعالى مقامه فيما كتب بخطّه ومشافهة قال: حدّثني والدي الرّوحاني وعمّي الجسماني جناب المرحوم المبرور العلامة الفهّامة، صاحب الكرامات، والإخبار ببعض المغيبات ; السيد محمد باقر نجل المرحوم السيد أحمد الحسيني القزويني انّ في الطاعون الشّديد الذي حدث في أرض العراق من المشاهد وغيرها في عام ستّ وثمانين بعد المائة والألف، وهرب جميع من كان في المشهد الغرويّ من العلماء المعروفين وغيرهم، حتى العلامة الطباطبائي والمحقّق صاحب كشف الغطاء وغيرهما بعدما توفّي منهم جمٌّ غفير، ولم يبقَ الّا معدودون من أهله، منهم السيّد رحمه الله.


الصفحة 314
قال: وكان يقول: كنت أقعد اليوم في الصحن الشريف، ولم يكن فيه ولا في غيره أحد من أهل العلم الّا رجلا معمّماً من مجاوري أهل العجم، كان يقعد في مقابلي وفي تلك الأيام لقيت شخصاً معظّماً مبجّلا في بعض سكك المشهد ما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده، مع كون أهل المشهد في تلك الأيام محصورين، ولم يكن يدخل عليهم أحد من الخارج، قال: ولمّا رآني قال ابتداءً منه: أنت ترزق علم التوحيد بعد حين.

وحدّثني السيد المعظّم، عن عمّه الجليل انّه رحمه الله بعد ذلك في ليلة من الليالي قد رأى ملكين نزلا عليه بيد أحدهما عدّة ألواح فيها كتابة، وبيد الآخر ميزان فأخذا يجعلان في كلّ كفّة من الميزان لوحاً يوزنانها ثمّ يعرضان الألواح المتقابلة عليّ فأقرؤها وهكذا إلى آخر الألواح، وإذا هما يقابلان عقيدة كلّ واحد من خواصّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وخواص أصحاب الائمة عليهم السلام مع عقيدة واحد من علماء الاماميّة من سلمان وأبي ذر إلى آخر البوّابين، ومن الكليني والصّدوقين، والمفيد والمرتضى، والشيخ الطوسي إلى بحر العلوم خالي العلامة الطباطبائي ومن بعده من العلماء.

قال: فاطّلعت في ذلك المنام على عقائد جميع الاماميّة من الصّحابة وأصحاب الائمة عليهم السلام وبقيّة علماء الاماميّة، وإذا أنا محيط بأسرار من العلوم لو كان عمري عمر نوح عليه السلام وأطلب هذه المعرفة، لما أحطت بعشر معشار ذلك، وذلك بعد أن قال الملك الذي بيده الميزان للمك الآخر الذي بيده الألواح: اعرض الألواح على فلان، فإنّا مأمورون بعرض الألواح عليه، فأصبحت وأنا علاّمة زماني في العرفان.

فلمّا جلست من المنام، وصلّيت الفريضة وفرغت من تعقيب صلاة الصبح فاذا بطارق يطرق الباب، فخرجت الجارية فأتت إليّ بقرطاس مرسول من أخي في الدّين المرحوم الشيخ عبد الحسين الأعشم فيه أبيات يمدحني فيها، فاذا قد جرى على لسانه في الشعر تفسير المنام على نحو الاجمال، قد ألهمه الله تعالى ذلك! وأمّا

الصفحة 315
أبيات المدح فمنها قوله شعراً:


نرجو سعادة فالي إلى سعادة فالكيك اختتام معال قد افتتحن بخالك

وقد أخبرني بعقائد جملة من الصحابة المتقابلة مع بعض العلماء الاماميّة، ومن جملة ذلك عقيدة المرحوم خالي العلامة بحر العلوم في مقابلة عقيدة بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الذين هم من خواصّه، وعقيدة علماء آخرين الذين يزيدون على السيد المرحوم المذكور أو ينقصون، الّا انّ هذه الاُمور لمّا كانت من الأسرار التي لا يمكن إباحتها لكلّ أحد، لعدم تحمّل الخلق لذلك، فقد أخذ رحمه الله عليّ العهد ألّا أبوح بها لأحد، وكانت تلك الرؤيا نتيجة قول ذلك القائل الذي تشهد القرائن بكونه المنتظر المهدي(1).

يقول المؤلف:

كان هذا السيد عظيم الشأن وجليل القدر من أعيان علماء الاماميّة وصاحب كرامات جلية، وقبة عالية تقع مقابل قبّة شيخ الفقهاء صاحب جواهر الكلام في النجف الأشرف.

وحدّثني جناب السيد مهدي أعلى الله مقامه: انّه أخبرنا قبل سنتين من مجيء الطاعون إلى العراق والمشاهد المشرفة في سنة ألف ومائتين وستة وأربعين أخبرنا بمجيء الطاعون وكتب لكلّ واحد منّا من اقربائه دعاءاً، وقال: انّي آخر من يموت بالطاعون، ولا يموت أحد بعدي، وأخبر انّه رأى أمير المؤمنين عليه السلام في المنام وأخبره، وقال هذا الكلام: " وبك يختم يا ولدي ".

وكانت له خدمات في ذلك الطاعون للاسلام والمسلمين مما تحيّر العقول، فكان متكفّلا بتجهيز جميع أموات البلد وخارجها، وكانوا أكثر من أربعين ألف، وكان يصلّي عليهم جميعاً، وكان يصلّي على ثلاثين وعشرين وأكثر وأقل صلاة

____________

1- راجع جنة المأوى: ص 280 ـ 282.


الصفحة 316
واحدة، وصلّى في يوم على ألف جنازة بصلاة واحدة.

وقد فصّلنا هذه الخدمة وجملة من كراماته ومقاماته في المجلّد الأول من كتاب دار السلام(1). وكان من مقام اخلاصه بحيث كان يحتاط من أن يقبل يده أحد، فكان الناس يترقّبون مجيئه إلى الحرم المطهّر، فيكون هناك بحالة إذا قبلوا يده لا ينتبه لذلك { وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء }.

الحكاية الثالثة والتسعون:

حدّثني جماعة من الأفاضل والصلحاء والعلماء القاطنين في النجف الأشرف والحلّة منهم السيّد السند والحبر المعتمد، زبدة العلماء [ الأعلام، وعمدة الفقهاء العظام، حاوي فنون الفضل والأدب، وحائز معالي الحسب والنسب ] وقدوة الألباء الآميرزا صالح دام علاه ابن سيّد المحقّقين ونور مصباح المجاهدين، وحيد عصره [ وفريد دهره سيّدنا المعظّم ] السيد مهدي المتقدّم ذكره أعلى الله مقامه، ورفع في الخلد اعلامه وقد كنت طلبت منه سلّمه الله أن يكتب لي تلك الحكايات الثلاث الآتية المنسوبة إلى والده المعظّم أعلى الله مقامه التي سمعت بعضها منه بلا واسطة، ولكن بما اني سمعتها في وقت لم أكن بصدد تسجيلها فطلبت من جناب الميرزا صالح أن يكتبها لي بما سمعه من المرحوم، فانّ أهل البيت أدرى بما فيه، اضافة إلى ما هو عليه من الاتقان والحفظ والضبط والصّلاح والسّداد والاطلاع، وقد صاحبته في طريق مكّة المعظمة ذهاباً وإياباً فوجدته ـ أيّده الله ـ بحراً لا ينزح وكنزاً لا ينفد، فكتب إليّ مطابقاً لما سمعته من تلك الجماعة.

وكتب أخوه العالم النحرير، وصاحب الفضل المنير، السيّد الأمجد السيّد محمّد سلّمه الله تعالى في آخر ما كتبه: سمعت هذه الكرامات الثلاثة سماعاً من لفظ الوالد

____________

1- راجع كتاب دار السلام: ج 2، ص 201 ـ 203.


الصفحة 317
المرحوم المبرور عطّر الله مرقده. صورة ما كتبه:

بسم الله الرحمن الرحيم، حدّثني بعض الصلحاء الأبرار من أهل الحلّة قال: خرجت غدوة من داري قاصداً داركم لأجل زيارة السيّد أعلى الله مقامه فصار ممرّي في الطريق على المقام المعروف بقبر السيّد محمد ذي الدّمعة فرأيت على شباكه الخارج الى الطّريق شخصاً بهيّ المنظر يقرأ فاتحة الكتاب، فتأمّلته فاذا هو غريب الشكل، وليس من أهل الحلّة.

فقلت في نفسي: هذا رجل غريب قد اعتنى بصاحب هذا المرقد، ووقف وقرأ له فاتحة الكتاب، ونحن أهل البلد نمرّ ولا نفعل ذلك، فوقفت وقرأت الفاتحة والتوحيد، فلمّا فرغت سلّمت عليه، فردّ السلام، وقال لي: يا عليّ أنت ذاهب لزيارة السيّد مهديّ؟ قلت: نعم، قال: فانّي معك.

فلمّا صرنا ببعض الطريق قال لي: يا عليّ لا تحزن على ما أصابك من الخسران وذهاب المال في هذه السنة، فانّك رجل امتحنك الله بالمال فوجدك مؤدّياً للحقّ وقد قضيت ما فرض الله عليك، وأمّا المال فانّه عرض زائل يجيء ويذهب.

وكان قد أصابني خسران في تلك السنة لم يطّلع عليه أحد مخافة الكسر، فاغتممت في نفسي وقلت: سبحان الله كسري قد شاع وبلغ حتّى إلى الأجانب، الّا انّي قلت له في الجواب: الحمد لله على كلّ حال، فقال: انّ ما ذهب من مالك سيعود اليك بعد مدّة، وترجع كحالك الأوّل، وتقضي ما عليك من الدّيون.

قال: فسكتّ وأنا مفكّر في كلامه حتّى انتهينا إلى باب داركم، فوقفت ووقف، فقلت: ادخل يا مولاي فأنا من أهل الدار فقال لي: أدخل أنت أنا صاحب الدّار، فامتنعت فأخذ بيدي وأدخلني أمامه فلمّا صرنا إلى المسجد وجدنا جماعة من الطّلبة جلوساً ينتظرون خروج السيّد قدّس سرّه من داخل الدار لأجل البحث، ومكانه من المجلس خال لم يجلس فيه أحد احتراماً له، وفيه كتاب مطروح.


الصفحة 318
فذهب الرجل، وجلس في الموضع الذي كان السيّد قدّس سرّه يعتاد الجلوس فيه ثمّ أخذ الكتاب وفتحه، وكان الكتاب شرائع المحقّق قدّس سرّه ثمّ استخرج من الكتاب كراريس مسوّدة بخطّ السيّد قدّس سرّه، وكان خطّه في غاية الضعف لا يقدر كلّ أحد على قراءته، فأخذ يقرأ في تلك الكراريس ويقول: للطلبة: ألا تعجبون من هذه الفروع وهذه الكراريس؟ هي بعض من جملة كتاب مواهب الافهام في شرح شرائع الاسلام وهو كتاب عجيب في فنّه لم يبرز منه ا لّا ستّ مجلّدات من أوّل الطهارة إلى أحكام الأموات.

قال الوالد أعلى الله درجته: لمّا خرجت من داخل الدّار رأيت الرجل جالساً في موضعي فلمّا رآني قام وتنحّى عن الموضع فألزمته بالجلوس فيه، ورأيته رجلا بهيّ المنظر، وسيم الشّكل في زيّ غريب، فلمّا جلسنا أقبلت عليه بطلاقة وجه وبشاشة، وسؤال عن حاله واستحييت أن أسأله من هو وأين وطنه؟ ثمّ شرعت في البحث فجعل الرّجل يتكلّم في المسألة التي نبحث عنها بكلام كأنّه اللؤلؤ المتساقط فبهرني كلامه فقال له بعض الطلبة: اسكت ما أنت وهذا، فتبسّم وسكت.

قال رحمه الله: فلمّا انقضى البحث قلت له: من أين كان مجيؤك إلى الحلّة؟ فقال: من بلد السليمانيّة، فقلت: متى خرجت؟ فقال: بالأمس خرجت منها، وما خرجت منها حتّى دخلها نجيب باشا فاتحاً لها عنوة بالسيف وقد قبض على أحمد باشا الباباني المتغلّب عليها، وأقام مقامه أخاه عبد الله باشا، وقد كان أحمد باشا المتقدّم قد خلع طاعة الدولة العثمانية وادّعى السلطنة لنفسه في السليمانيّة.

قال الوالد قدّس سرّه: فبقيت متفكّراً في حديثه وانّ هذا الفتح وخبره لم يبلغ إلى حكّام الحلّة، ولم يخطر لي أن أسأله كيف وصلت إلى الحلّة وبالأمس خرجت من السليمانيّة، وبين الحلّة والسليمانيّة ما تزيد على عشرة أيام للراكب المجدّ.

ثمّ انّ الرجل أمر بعض خدمة الدّار أن يأتيه بماء فأخذ الخادم الإناء ليغترف به ماء من الحبّ فناداه: لا تفعل! فانّ في الإناء حيواناً ميّتاً فنظر فيه، فاذا فيه سامّ

الصفحة 319
أبرص ميّت فأخذ غيره وجاء بالماء إليه فلمّا شرب قام للخروج.

قال الوالد قدّس سرّه فقمت لقيامه فودّعني وخرج فلمّا صار خارج الدّار قلت للجماعة هلاّ أنكرتم على الرّجل خبره في فتح السليمانيّة؟ فقالوا: هلاّ أنكرت عليه؟

قال: فحدّثني الحاج عليّ المتقدّم بما وقع له في الطريق وحدّثني الجماعة بما وقع قبل خروجي من قراءته في المسوّدة، واظهار العجب من الفروع التي فيها.

قال الوالد أعلى الله مقامه: فقلت: اطلبوا الرجل وما أظنّكم تجدونه هو والله صاحب الأمر روحي فداه، فتفرّق الجماعة في طلبه فما وجدوا له عيناً ولا أثراً فكأنّما صعد في السماء أو نزل في الأرض.

قال: فضبطنا اليوم الذي أخبر فيه عن فتح السليمانيّة فورد الخبر ببشارة الفتح إلى الحلّة بعد عشرة أيّام من ذلك اليوم، وأعلن ذلك عند حكّامها بضرب المدافع المعتاد ضربها عند البشائر، عند ذوي الدولة العثمانية(1).

يقول المؤلف:

الموجود فيما عندنا من كتب الأنساب أنّ اسم (ذا الدّمعة) حسين ويلقّب أيضاً بذي العبرة، وهو ابن زيد الشهيد ابن علي بن الحسين عليهما السلام ويكنّى بأبي عاتقة، وانما لقّب بذي الدمعة لبكائه في تهجّده في صلاة الليل، وربّاه الصادق عليه السلام فورّثه علماً جمّاً وكان زاهداً عابداً وتوفّي سنة خمس وثلاثين ومائة وزوج ابنته للمهدي الخليفة العباسي، وله أعقاب كثيرة، ولكنّه سلّمه الله أعرف بما كتب(2).

الحكاية الرابعة والتسعون:

وبالسند والتفصيل المذكور قال سلّمه الله: وحدّثني الوالد أعلى الله مقامه قال: لازمت

____________

1- جنة المأوى: ص 282 ـ 285.

2- جنة المأوى: ص 286.


الصفحة 320
الخروج إلى الجزيرة مدّة مديدة لأجل ارشاد عشائر بني زبيد إلى مذهب الحقّ، وكانوا كلّهم على رأي أهل التسنّن، وببركة هداية الوالد قدّس سرّه وارشاده، رجعوا إلى مذهب الاماميّة كما هم عليه الآن، وهم عدد كثير يزيدون على عشرة آلاف نفس وكان في الجزيرة مزار معروف بقبر الحمزة بن الكاظم، يزوره الناس ويذكرون له كرامات كثيرة، وحوله قرية تحتوي على مائة دار تقريباً.

قال قدّس سرّه: فكنت أستطرق الجزيرة وأمرّ عليه ولا أزوره لما صحّ عندي انّ الحمزة بن الكاظم مقبور في الرّي مع عبد العظيم الحسني، فخرجت مرّة على عادتي ونزلت ضيفاً عند أهل تلك القرية، فتوقّعوا منّي أن أزور المرقد المذكور فأبيت وقلت لهم: لا أزور من لا أعرف، وكان المزار المذكور قلّت رغبة الناس فيه لإعراضي عنه.

ثمّ ركبت من عندهم وبتُّ تلك الليلة في قرية المزيديّة، عند بعض ساداتها، فلمّا كان وقت السحر جلست لنافلة الليل وتهيّأت للصلاة، فلمّا صلّيت النافلة بقيت أرتقب طلوع الفجر، وأنا على هيئة التعقيب إذ دخل عليّ سيد أعرفه بالصلاح والتقوى، من سادة تلك القرية، فسلّم وجلس.

ثمّ قال: يا مولانا بالأمس تضّيفت أهل قرية الحمزة، وما زرته؟ قلت: نعم، قال: ولم ذلك؟ قلت: لأنّي لا أزور من لا أعرف، والحمزة بن الكاظم مدفون بالريّ، فقال: ربّ مشهور لا أصل له، ليس هذا قبر الحمزة بن موسى الكاظم وإن اشتهر انّه كذلك، بل هو قبر أبي يعلى حمزة بن القاسم العلوي العباسي أحد علماء الاجازة وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرّجال في كتبهم، وأثنوا عليه بالعلم والورع.

فقلت في نفسي: هذا السيّد من عوام السادة، وليس من أهل الاطّلاع على الرّجال والحديث، فلعلّه أخذ هذا الكلام عن بعض العلماء، ثمّ قمت لأرتقب طلوع الفجر، فقام ذلك السيد وخرج واُغفلت أن أسأله عمّن أخذ هذا لأن الفجر قد طلع، وتشاغلت بالصلاة.


الصفحة 321
فلمّا صلّيت جلست للتعقيب حتّى طلعت الشمس، وكان معي جملة من كتب الرجال فنظرت فيها وإذا الحال كما ذكر، فجاءني أهل القرية مسلّمين عليّ وفي جملتهم ذلك السيد، فقلت: جئتني قبل الفجر وأخبرتني عن قبر الحمزة انّه أبو يعلى حمزة بن القاسم العلوي، فمن أين لك هذا وعمّن أخذته؟ فقال: والله ما جئتك قبل الفجر ولا رأيتك قبل هذه السّاعة، ولقد كنت ليلة أمس بائتاً خارج القرية ـ في مكان سمّاه ـ وسمعنا بقدومك فجئنا في هذا اليوم زائرين لك.

فقلت لأهل القرية: الآن ألزمني الرجوع إلى زيارة الحمزة فانّي لا أشك في انّ الشخص الذي رأيته هو صاحب الأمر عليه السلام، قال: فركبت أنا وجميع أهل تلك القرية لزيارته، ومن ذلك الوقت ظهر هذا المزار ظهوراً تامّاً على وجه صار بحيث تشدّ الرحال إليه من الأماكن البعيدة.

قلت: في رجال النجاشي: حمزة بن القاسم بن علي بن حمزة بن الحسن ابن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام أبو يعلى ثقة جليل القدر من أصحابنا كثير الحديث له كتاب " من روى عن جعفر بن محمد عليهما السلام من الرّجال "(1).

ويظهر من كلمات العلماء والأساتذة انّه من علماء الغيبة الصغرى وكان معاصراً للصدوق علي بن بابويه.

الحكاية الخامسة والتسعون:

وبالسند المذكور عن السيد المؤيد المتقدّم ذكره، وسمعت ايضاً مشافهة عن نفس المرحوم قدّس سرّه انّه قال: خرجت يوم الرابع عشر من شهر شعبان من الحلّة اُريد زيارة الحسين عليه السلام ليلة النصف منه، فلمّا وصلت إلى شطّ الهنديّة، وعبرت

____________

1- جنة المأوى: ص 286 ـ 287.


الصفحة 322
إلى الجانب الغربيّ منه، وجدت الزوّار الذاهبين من الحلّة وأطرافها، والواردين من النجف ونواحيه، جميعاً محاصرين في بيوت عشيرة بني طرف من عشائر الهنديّة، ولا طريق لهم إلى كربلاء لأنّ عشيرة عنزة قد نزلوا على الطريق، وقطعوه عن المارّة، ولا يدَعون أحداً يخرج من كربلاء ولا أحداً يلج إلّا انتهبوه.

قال: فنزلت على رجل من العرب وصلّيت صلاة الظهر والعصر، وجلست أنتظر ما يكون من أمر الزوّار، وقد تغيّمت السماء ومطرت مطراً يسيراً.

فبينما نحن جلوس إذ خرجت الزوار بأسرها من البيوت متوجّهين نحو طريق كربلاء، فقلت لبعض من معي: اخرج واسأل ما الخبر؟ فخرج ورجع إليّ وقال لي: إنّ عشيرة بني طرف قد خرجوا بالأسلحة النارية، وتجمّعوا لايصال الزوّار إلى كربلاء، ولو آل الأمر إلى المحاربة مع عنزة.

فلمّا سمعت قلت لمن معي: هذا الكلام لا أصل له، لأنّ بني طرف لا قابليّة لهم على مقابلة عنزة في البرّ، واظنُّ هذه مكيدة منهم لإخراج الزوّار عن بيوتهم لأنهم استثقلوا بقاءهم عندهم، وفي ضيافتهم.

فبينما نحن كذلك إذ رجعت الزوار إلى البيوت، فتبيّن الحال كما قلت فلم تدخل الزوّار إلى البيوت وجلسوا في ظلالها والسماء متغيّمة، فأخذتني لهم رقّة شديدة، وأصابني انكسار عظيم، وتوجّهت إلى الله بالدعاء والتوسّل بالنبي وآله، وطلبت اغاثة الزوّار مما هم فيه.

فبينما أنا على هذا الحال إذ أقبل فارس على فرس رابع كريم لم أرَ مثله وبيده رمح طويل وهو مشمّر عن ذراعيه، فأقبل يخبُّ به جواده حتى وقف على البيت الذي أنا فيه، وكان بيتاً من شعر مرفوع الجوانب، فسلّم فرددنا عليه السلام ثم قال: يا مولانا ـ يسمّيني باسمي ـ بعثني من يسلّم عليك، وهم كنج محمّد آغا وصفر آغا، وكانا من قوّاد العساكر العثمانية يقولان فليأت بالزوّار، فإنّا قد طردنا عنزة عن الطريق، ونحن ننتظره مع عسكرنا في عرقوب السليمانيّة على الجادّة.


الصفحة 323
فقلت له: وأنت معنا إلى عرقوب السليمانية؟ قال: نعم، فأخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعتان ونصف تقريباً، فقلت: بخيلنا، فقُدِّمت إلينا، فتعلّق بي ذلك البدوي الذي نحن عنده وقال: يا مولاي لا تخاطر بنفسك وبالزوار وأقم الليلة حتى يتّضح الأمر، فقلت له: لابدّ من الركوب لإدراك الزيارة المخصوصة.

فلمّا رأتنا الزوّار قد ركبنا، تبعوا أثرنا بين حاشر وراكب فسرنا والفارس المذكور بين أيدينا كأنّه الأسد الخادر، ونحن خلفه، حتى وصلنا إلى عرقوب السليمانية فصعد عليه وتبعناه في الصعود، ثمّ نزل وارتقينا على أعلى العرقوب فنظرنا ولم نَرَ له عيناً ولا أثراً، فكأنّما صعد في السماء أو نزل في الأرض ولم نَرَ قائداً ولا عسكراً.

فقلت لمن معي: أبقي شك في انّه صاحب الأمر؟ فقالوا: لا والله، وكنت ـ وهو بين أيدينا ـ أطيل النظر إليه كأنّي رأيته قبل ذلك، لكنّني لا أذكر أين رأيته فلمّا فارقنا تذكّرت انّه هو الشخص الذي زارني بالحلة، وأخبرني بواقعة السليمانيّة.

وأمّا عشيرة عنزة، فلم نَرَ لهم أثراً في منازلهم، ولم نَرَ أحداً نسأله عنهم سوى انّا رأينا غبرة شديدة مرتفعة في كبد البرّ، فوردنا كربلاء تخبّ بنا خيولنا فوصلنا إلى باب البلاد، وإذا بعسكر على سور البلد فنادوا من أين جئتم؟ وكيف وصلتم؟ ثمّ نظروا إلى سواد الزوّار ثمّ قالوا سبحان الله هذه البرية قد امتلأت من الزوّار أجل أين صارت عنزة؟ فقلت لهم: اجلسوا في البلد وخذوا أرزاقكم ولمكّة ربّ يرعاها.

ثم دخلنا البلد فاذا أنا بكنج محمد آغا جالساً على تخت قريب من الباب فسلّمت عليه فقام في وجهي، فقلت له: يكفيك فخراً انّك ذكرت باللسان، فقال: ما الخبر؟ فأخبرته بالقصّة، فقال لي: يا مولاي من أين لي علم بانّك زائر حتّى أرسل لك رسولا وأنا وعسكري منذ خمسة عشر يوماً محاصرين في البلد لا نستطيع أن نخرج خوفاً من عنزة، ثمّ قال: فأين صارت عنزة؟ قلت: لا علم لي سوى أنّي رأيت غبرة شديدة في كبد البرّ كأنّها غبرة الظعائن ثمّ أخرجت الساعة وإذا قد بقي

الصفحة 324
من النهار ساعة ونصف، فكان مسيرنا كلّه في ساعة وبين منازل بني طرف وكربلاء ثلاث ساعات ثمّ بتنا تلك الليلة في كربلاء.

فلمّا أصبحنا سألنا عن خبر عنزة فأخبر بعض الفلّاحين الذين في بساتين كربلاء قال: بينما عنزة جلوس في أنديتهم وبيوتهم إذا بفارس قد طلع عليهم على فرس مطهّم، وبيده رمح طويل، فصرخ فيهم بأعلى صوته يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزُّؤام عساكر الدّولة العثمانية تجبّهت عليكم بخيلها ورجلها، وها هم على أثري مقبلون فارحلوا وما أظنّكم تنجون منهم.

فألقى الله عليهم الخوف والذّل حتّى أنّ الرجل يترك بعض متاع بيته استعجالا بالرحيل، فلم تمضِ ساعة حتّى ارتحلوا بأجمعهم وتوجّهوا نحو البرّ، فقلت له: صف لي الفارس فوصف لي وإذا هو صاحبنا بعينه، وهو الفارس الذي جاءنا والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين(1).

قلت: ولم تكن هذه الكرامات منه ببعيدة، فانّه ورث العلم والعمل من عمّه الأجلّ الأكمل السيد باقر القزويني صاحب سرّ خاله [ السيد الأعظم، والطود الأشيم ]، بحر العلوم أعلى الله تعالى درجتهم، وكان عمّه أدّبه وربّاه وأطلعه على الخفايا والأسرار، حتّى بلغ مقاماً لا يحوم حوله الأفكار، وحاز من الفضائل والخصائص ما لم يجتمع في غيره من العلماء الأبرار:

الأول: انّه بعد ما هاجر من النجف الأشرف إلى الحلّة واستقرّ فيها وشرع في هداية الناس وايضاح الحقّ وابطال الباطل، صار ببركة دعوته من داخل الحلّة وأطرافها من الأعراب قريباً من مائة ألف نفس شيعياً إمامياً مخلصاً موالياً لأولياء الله، ومعادياً لأعداء الله.

____________

1- راجع جنة المأوى: ص 288 ـ 292.


الصفحة 325
بل حدّثني طاب ثراه انّه لمّا ورد الحلّة لم يكن في الذين يدّعون التشيّع من علائم الامامية وشعائرهم إلّا حمل موتاهم إلى النجف الأشرف، ولا يعرفون من أحكامهم شيئاً حتّى البراءة من أعداء الله، وصاروا بهدايته صلحاء أبرار أتقياء وهذه منقبة عظيمة اختصّ بها [ من بين من تقدّم عليه وتأخّر ].

الثاني: الكمالات النفسانية من الصبر والتقوى، وتحمل أعباء العبادة، وسكون النفس، ودوام الاشتغال بذكر الله تعالى، وكان رحمه الله لا يسأل في بيته عن أحد من أهله وأولاده ما يحتاج إليه من الغداء والعشاء والقهوة والشاي والغليان وغيرها عند وقتها، ولا يأمر عبيده وإماءه بشيء منها، ولولا التفاتهم ومواظبتهم لكان يمرّ عليه اليوم والليلة من غير أن يتناول شيئاً منها مع ما كان عليه من التمكّن والثروة والسلطنة الظاهرة، وكان يجيب الدعوة، ويحضر الولائم والضيافات، لكن يحمل معه كتباً ويقعد في ناحية، ويشتغل بالتأليف، ولا خبر له عمّا فيه القوم، ولا يخوض معهم في حديثهم الّا أن يسأل عن أمر دينيّ فيجيبهم.

وكان دأبه في شهر الصيام أن يصلّي المغرب في المسجد ويجتمع الناس، ويصلّي بعده النوافل المرتّبة في شهر رمضان وهي الألف ركعة المقسمة على أيامه، ثمّ يأتي منزله ويفطر ويرجع ويصلّي العشاء بالناس، ثمّ يصلّي نوافلها المرتّبة، ثمّ يأتي منزله والناس معه على كثرتهم فلمّا اجتمعوا واستقرّوا، شرع واحد من القرّاء فيتلو بصوت حسن رفيع آيات من كتاب الله في التحذير والترغيب والموعظة، ممّا يذوب منه الصخر الأصمّ ويرقّ القلوب القاسية، ثمّ يقرأ آخر خطبة من مواعظ نهج البلاغة، ثمّ يقرأ آخر تعزية أبي عبد الله عليه السلام ثمّ يشرع أحد من الصلحاء في قراءة أدعية شهر رمضان ويتابعه الآخرون إلى أن يجيء وقت السحور، فيتفرّقون ويذهب كلّ إلى مستقرّه.

وبالجملة فقد كان في المراقبة، ومواظبة الأوقات والنوافل والسنن والقراءة معه

الصفحة 326
كونه طاعناً في السنّ آية في عصره، وقد كنّا معه في طريق الحجّ ذهاباً وإياباً وصلّينا معه في مسجد الغدير، والجحفة، وتوفي حين العودة رحمه الله [ في ] الثاني عشر من ربيع الأول سنة (1300 هـ) قبل الوصول إلى السماوة بخمس فراسخ تقريباً، ودفن في النجف الأشرف في جنب مرقد عمّه الأكرم وبني على قبره قبّة عالية، وقد ظهر منه حين وفاته من قوّة الايمان والطمأنينة والإقبال وصدق اليقين ما يقضي منه العجب، وظهر منه حينئذ كرامة باهرة بمحضر من جماعة، من الموافق والمخالف ليس هنا مقام ذكرها.

الثالث: التصانيف الرائقة الكثيرة، في الفقه والأصول والتوحيد والامامة والكلام وغيرها، ومنها كتاب في إثبات كون الفرقة الناجية فرقة الامامية أحسن ما كتب في هذا الباب، طوبى له وحسن مآب(1).

الحكاية السادسة والتسعون:

نقل المحدّث النبيل والعالم الجليل الشيخ يوسف البحريني في اللؤلؤة في ترجمة العالم المحقّق الخبير الشيخ ابراهيم القطيفي المعاصر للمحقّق الثاني، عن بعض أهل البحرين أنّ هذا الشيخ دخل عليه الامام الحجة عليه السلام في صورة رجل يعرفه الشيخ فسأله أيّ الآيات من القرآن في المواعظ أعظم؟ فقال الشيخ: { اِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى آيَاتِنَا لاَ يخْفُونَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يلْقى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَاْتِى آمِناً يَوْم الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ اِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(2) فقال: صدقت يا شيخ، ثمّ خرج منه، فسأل أهل البيت: خرج فلان؟ فقالوا: ما رأينا أحداً داخلا ولا خارجاً(3).

____________

1- راجع جنة المأوى: ص 291 ـ 292.

2- الآية 40 من سورة فصلت.

3- راجع جنة المأوى: ص 255.