الصفحة 423
فانّه يغيثك، وهو غياث وكهف لمن استغاث به.

فقل: يا مولاي يا صاحب الزمان أنا مستغيث بك.

وبرواية اُخرى قال: " وأما صاحب الزمان فاذا بلغ منك السيف ـ ووضع يده على حلقه ـ فاستعن به فانّه يعينك، فقل يا صاحب الزمان أدركني.

وفي الرواية الأولى: " قال: فناديت في نومي: يا مولاي يا صاحب الزمان أنا مستغيث بك ".

وفي رواية اُخرى: " فناديت في نومي: يا صاحب الزمان أغثني يا صاحب الزمان أدركني ".

وبرواية قبس المصباح للصهرشتي: " فناديت في نومي: يا مولاي يا صاحب الزمان أدركني فقد بلغ مجهودي ".

وبالرواية الأولى: فاذا أنا بشخص قد نزل من السماء تحته فرس، وبيده حربة من نور، فقلت: يا مولاي أكفني شرّ مَن يؤذيني.

فقال: قد كفيتك.

فأصبحت فاستدعاني إلياس، وقال: بِمَن استغثت؟

فقلت: بمن هو غياث المستغيثين "(1).

يقول المؤلف:

نقل في البحار عن مجموع الدعوات دعاءاً طويلا للتوسّل بكلّ امام من الائمة عليهم السلام للمطالب المذكورة وبهذا الترتيب(2).

____________

1- راجع الدعوات (الراوندي): ص 191 - 192، رقم الحديث 530 ـ الكلم الطيب (السيد عليخان): ص 40 - 42 ـ البحار: ج 94، ص 32 - 36.

2- راجع البحار: ج 102، ص 251 ـ 253.


الصفحة 424
ونقل في قبس المصباح دعاءاً مختصراً بهذا الطريق(1).

ودعاء التوسّل بامام العصر عليه السلام في الثاني هو: " اللهم انّي اسئلك بحقّ وليك وحجتك صاحب الزمان الّا اعنتني به على جميع أموري، وكفيتني به مؤنة كلّ مؤذ، وطاغ، وباغ، واعنتني به، فقد بلغ مجهودي، وكفيتني كلّ عدو، وهم، [ وغمّ ](2)، ودين، وولدي، وجميع أهلي، واخواني، ومن يعنيني أمره، وخاصّتي، آمين ربّ العالمين "(3).

والظاهر انّ مراد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم من هذا الكلام عدم انحصار التوسّل بامام العصر عليه السلام فيما إذا وقع في قبضة العدو وكان قاصداً لقتله، بل انّه كناية عن الوصول إلى نهاية شدّة الأمور وانقطاع الأسباب وقطع الأمل عن المخلوقين، ونفاد الصبر والتحمّل سواءاً كان بلاءاً دينياً، أو دنيوياً، وسواءاً كان من شرّ عدو انسي أو جنّي، كما يظهر من الدعاء المتقدّم.

فتكليف المضطر والعاجز الاستغاثة به عليه السلام.

واغاثة واجابة المستغيثين من مناصبه الالهية عليه السلام.

وان لم يتمكّن المضطر لشدّة قلقه واضطراره من الاستغاثة به بلسان المقال والدعاء بالمأثور فيكفيه للاستغاثة به عليه السلام أن يسأله بلسان الحال والقدرة مع انّه متوليه ومقرّ بولايته وامامته ومعرفة انحصار المربّي ووساطة الفيض الالهي في وجوده المقدّس في ظلمات تيه الغيبة.

فيعرف انّ المستغيثين في الحكايات السابقة وبالخصوص اولئك الذين كانوا في سفر الطاعة مثل الحج والزيارة، فانّهم لم ينجهم أحد الّا غوث الزمان عليه السلام، ومن

____________

1- راجع البحار: ج 94، ص 34 ـ 35.

2- سقطت من الترجمة.

3- راجع البحار: ج 94، ص 35.


الصفحة 425
جملة الشواهد على هذا المطلب انّ (الغوث) من ألقابه الخاصة به عليه السلام التي وردت في الزيارات المعتبرة، ومعناها المغيث، وليس معنى هذا اللقب الالهي مجرّد الاسم فانّه لا يتحقّق الّا إذا كان لصاحبه قوّة أن يسمع كلّ واحد في أي مكان كان، وبأي لسان استغاث، بل يعلم علم احاطة بحالات المستغيثين فهو عالم بحالاتهم حتى بدون استغاثة وتوسّل (كما صرّح بذلك في توقيعه للشيخ المفيد)(1).

وله قدرة ـ إذا رأى من المصلحة ـ على نجاة المستغيث الذي استغاث به بلسان الحال أو المقال من دوامة بحر البلاء، ولا يليق بهذا المقام الّا مَنْ له مقام الامامة ووضع قدمه على بساط الولاية.

ويؤيد هذا المقال ما اشتهر بين العرب الحضر وأهل البادية بالتعبير عن ذاته المقدّسة بأبي صالح، ولا يتوسّلون ولا يستغيثون ولا يندبون ولا يشتكون إليه الّا بهذا الاسم. وقد ذكره الشعراء المعروفون مراراً بهذه الكنية في قصائد المديح والمراثي والاستنهاض. ولم نجد مصدراً لذلك في الأخبار الخاصة الّا ما رواه احمد بن خالد البرقي في كتاب المحاسن عن أبي بصير عن الامام الصادق عليه السلام انّه قال:

" يا صالح! ويا أبا صالح! ارشدانا(2) إلى الطريق وحكمكما الله ".

قال عبيد الله:(3) فأصابنا ذلك، فأمرنا بعض مَنْ معنا أن يتنحّى وينادي كذلك، قال: فتنحّى فنادى، ثمّ أتانا فأخبرنا انّه سمع صوتاً يردّ دقيقاً يقول: الطريق يمنة أو قال يسرة، فوجدناه كما قال(4) والترديد في: يا صالح ويا أبا صالح وكذلك الترديد في

____________

1- راجع التوقيع الشريف وقد تقدّم.

2- في الترجمة (ارشدونا).

3- هكذا في المصدر المطبوع، وأما في الترجمة: " قال عبيد بن الحسين الزرندي وهو راوي الخبر عن علي بن ابي حمزة ".

4- راجع المحاسن (البرقي): ص 362 - 363، كتاب السفر من المحاسن، باب 27 ـ ارشاد الضال عن الطريق: ح 98 ـ وراجع الامان من الأخطار (السيد ابن طاووس): ص 121 - 122.

وفيه: " يا صالح ويا أبا صالح ارشدونا... الخ " وفيه: " عبيد بن الحسين الزرندي... الخ " ثم قال: " كذا وجدنا الحديث يا صالح أو يا أبا صالح ويكون السهو من الراوي، وكذا قوله (يمنة أو يسرة) ويكون الشّك ممّن رواه " انتهى.


الصفحة 426
اليمنة واليسرة من راوي الخبر فانّه سهى، كما صرّح بذلك السيد علي بن طاووس في كتاب أمان الأخطار بعد أن نقل الخبر عن المحاسن.

ونقل الشيخ البرقي في كتابه المذكور عن أبيه محمد بن خالد البرقي انّه كان في سفر مع جماعة فحادوا عن الطريق: " ففعلنا ذلك، فأرشدونا.

وقال صاحبنا:(1) سمعت صوتاً دقيقاً يقول: الطريق إلى يمنة.

فأخبرني، ولم يخبر الجماعة.

فقلت: خذوا يمنة، فأخذنا يمنة... "(2).

ولعلّ ذلك فُهِم أو وجد بأن صالح أو أبا صالح اسم أو كنية امام العصر كما تقدّم في الباب الثاني حيث عدّ بعض الأول من اسمائه، والثاني من كناه عليه السلام. ويظهر من الحكاية التاسعة والستين انّ هذا المطلب كان معهوداً بين الشيعة وفهموا منه انّه المرشد عند ضياع الطريق، وبذلك الحال ينادون الامام أو وليّه بهذا الاسم، ولضعف يقين وقصور عقيدة الراوي أو أهل المجلس لم يبين المراد.

واسماء النبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما مختلفة ومتعددة بحسب طبقات السماوات والعرش والكرسي والجنات واللوح والقلم وسائر المقامات العلوية والدركات الجهنميّة والطبقات الأرضية، وسائر العوالم وأصناف المخلوقات العلوية والسفلية، وفي كلٍّ مذكور ومكتوب ومعروف باسم يدعونه به، كما أقرّ كثير منها في محلّها.

____________

1- قال المؤلف رحمه الله: " يعني ذلك الذي تنحّى ونادى بذلك ".

2- راجع المحاسن (البرقي): ص 363 ـ وفي أمان الأخطار (السيد ابن طاووس): ص 122 وفي القضية زيادة: " فأخذنا يمنة فما سرنا الّا قليلا حتى عارضنا الطريق ".


الصفحة 427
ولعلّ جميع الائمة عليهم السلام مشتركون في تمام هذه المنقبة أو بعضها(1).

فظهر انّ الدليل في الصحاري ومرشد التائهين أبو صالح وهو الغوث الأعظم ولي العصر صاحب الزمان صلوات الله عليه.

وإذا يشبه لأحد انّه بلحاظ كرامات جملة من خواص أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثل سلمان، وسائر خاصة باقي الائمة عليهم السلام مثل ميثم واُويس، وجابر الجعفي ونظائرهم، وكرامات بعض العبّاد، والزهاد، والعلماء، والصالحين، فيحتمل انّ هذه الكرامة منهم ايضاً وانّ صدورها شيء ممكن.. أو انّ صالح اسم جني يسير في البلاد لارشاد الضائعين، وحبس الحيوان الفارّ، كما هو مروي في الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام(2).

فنقول في الجواب: ومع ثبوت هذا الاحتمال ففيه دلالة على المقصود ايضاً، فانّ الهدف الأصلي من ذكر هذه القصص هو اثبات وجوده المبارك عليه السلام، وانّه موجود بين الخلق، وانّ وجوده نافع لهم.

ومن المعلوم فانّه لا ينجي شيعته عليه السلام الّا من يشاركهم في عقيدتهم ولا

____________

1- أقول: ويصلح كشاهد على ذلك ما رواه الصدوق عليه الرحمة في الخصال: ص 626، باب حديث الاربعمائة، عن أمير المؤمنين عليه السلام (ونحن باب الغوث إذا اتقوا...).

2- أقول: راجع الخصال (الصدوق): ص 628، باب حديث الاربعمائة:

" ومن ضلّ منكم في سفر، أو خاف على نفسه فليناد: (يا صالح أغثني) فانّ في اخوانكم من الجنّ جنيّاً يسمّى صالحاً يسيح في البلاد لمكانكم، محتسباً نفسه لكم، فاذا سمع الصوت أجاب وأرشد الضال وحبس عليه دابته ".

وعقد السيد ابن طاووس في كتابه (الأمان من أخطار الأسفار والأزمان) فصلا تحت عنوان (الفصل التاسع: فيما نذكره من تصديق صاحب الرسالة انّ في الأرض من الجنّ من يدلّ على الطريق عند الضلالة): ص 123، الطبعة المحققة ـ وروى عن المحاسن (للبرقي): ص 379 وغيره ـ وراجع البحار: ج 76، ص 242 وما بعدها، باب 48، وفي هذا الباب عدّة أحاديث تناسب هذا المقام، اعرضنا عن ذكرها خشية الاطالة راجعها ان شئت.


الصفحة 428
يخالفهم في المذهب والطريقة، فانّ اكثرهم(1) يحلل دماءَهم ومالهم وعرضهم، بل يقول بعض الشافعية: إذا أوصى أحد بمال ان يعطى لأجهل الناس، فلابدّ أن يعطى للذين ينتظرون القائم المهدي.

فلا يكون ذلك الشخص الذي تظهر منه مثل هذه الكرامة الّا أن يكون كامل العقيدة ومهذباً في الأعمال والأقوال ومزكّى في الأخلاق والأفعال والحركات والخطرات، فيكون داخلا ـ بملاحظة الباب المتقدّم ـ في سلسلة الخواص الذين شربوا أحياناً من قدح الوصال.

فالمضطر المستغيث إما انّه قد رأى نفس الامام عليه السلام، أو رأى من رأى الامام عليه السلام ; وليس المطلوب الّا هذا.

ويقول الشيخ ابراهيم الكفعمي في حاشية (الجنّة الواقية) في دعاء أم داود بعد الصلوات هناك على الأوصياء والسعداء والشهداء وائمة الهدى عليهم السلام: " اللهم صلّ على الأبدال والأوتاد السيّاح، والعباد، والمخلصين، والزّهاد، وأهل الجدّ والاجتهاد ".

قال: " انّ الأرض لا تخلو من القطب، وأربعة أوتاد، وأربعين بدلا، وسبعين نجيباً، وثلاثمائة وستين صالحاً.

فالقطب هو المهدي عليه السلام.

ولا تكون الأوتاد اقلّ من أربعة لأن الدنيا كالخيمة، والمهدي صلوات الله عليه كالعمود، وتلك الأربعة أطنابها، وقد تكون الأوتاد اكثر من أربعة.

والأبدال اكثر من أربعين.

والنجباء اكثر من سبعين.

والصالحون أكثر من ثلاثمائة وستين.

والظاهر انّ الخضر، والياس عليهما السلام من الأوتاد، فهما ملاصقان لدائرة

____________

1- أي من يخالفهم في العقيدة.


الصفحة 429
القطب.

وأما صفة الأوتاد فهم قوم لا يغفلون عن ربّهم طرفة عين، ولا يجمعون من الدنيا الّا البلاغ(1) ولا تصدر منهم هفوات البشر، ولا يشترط فيهم العصمة. وشرط ذلك في القطب.

وأما الأبدال فدون هؤلاء في المرتبة، وقد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكر، ولا يتعمّدون ذنباً.

وأما النجباء دون الأبدال.

وأما الصالحون فهم المتّقون الموصفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال الله تعالى: { اِنَّ الَّذِينَ اتَّقوا اِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَاِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ }(2).

ثمّ قال الشيخ الكفعمي: " جعلنا الله من القسم الأخير، لأنا لسنا من القسم الأول، لكن دين الله بحبهم وولايتهم، ومن أحبّ قوم حشر معهم.

وقيل: إذا نقص أحدٌ من الأوتاد الأربعة وضع بدله من الأربعين، وإذا نقص احدٌ من الأربعين وضع بدله من السبعين، واذا نقص احدٌ من السبعين، وضع بدله من الثلاثمائة والستين، وإذا نقص أحد من الثلاثمائة والستين وضع بدله من سائر الناس "(3).

تمّ كلام الشيخ المذكور.

ولم اعثر لحدّ الآن على خبر بهذا الترتيب المذكور ; ولكن الشيخ المذكور كان

____________

1- البلاغ: الكفاية، راجع مختار الصحاح (الرازي): ص 63.

2- الآية 201 من سورة الأعراف ـ قال المؤلف في ترجمة الآية الشريفة: " (انّ الذين اتقّوا إذا مسّهم طائف) في قلبهم (من الشيطان) وسوس لهم، أو يكون عذاب من جنس مرض الماليخوليا (الهذيان) والجنون (تذكروا) وهو أحد أركان التوبة الأربعة ".

3- راجع الجنة الواقية: ص 534 ـ 535.


الصفحة 430
متقدّم عصره في الاطلاع والتتبّع وكانت عنده كثير من كتب القدماء التي لا أثر لها في هذا العصر. وبالطبع فاني لم أره في محلّ معتبر ولا يوجد في مثل هذا الكتاب الشريف، ويوجد قريب من هذه العبارة في كتب جماعة الصوفية السنة، ولكن ليس هناك ذكر لإمام العصر عليه السلام فيها، ولا أساس لكلماتهم.


*  *  *


الصفحة 431


الباب العاشر
في ذكر شمّة من تكاليف العباد
لإمام العصر (عليه السلام)





الصفحة 432

الصفحة 433

الباب العاشر


في ذكر شمّة من تكاليف العباد بالنسبة إلى امام العصر صلوات الله عليه، وآداب العبودية ومراسم امتثال اوامره وكيفية اطاعته ومعرفة انّه عبد طاعته وأكل فتات مائدة احسان وجوده العام، وانّه الامام المعظّم، وانّه واسطة وصول الفيوضات الالهية والنِعَم غير المتناهية الدنيوية والأخروية ; فانّ تلك التكاليف هي من آداب مراسم العبودية، ولوازم الاحترام والتوقير لازمة له عليه السلام، ولا غاية من القيام بها الّا ذلك، وإن كانت سبباً للخيرات العاجلة والآجلة، ودخول العامل لها في زمرة المحبين المطيعين، أو تظهر من المقدّمات ما يكون وسيلة إليه عليه السلام لكسب المنافع الدنيوية والأخروية ودفع الشرور الأرضية والسماوية، فلا طريق لذلك الكسب والدفع الّا بالتشبث بأذياله عليه السلام والالتماس منه ولي النعم بلسان القوّة(1) والحال أو بلسان التضرّع والمقال.

ويبين منها(2) عدّة أشياء بعضها قلبية، وبعضها جوارحيه، وبعضها لسانية،

____________

1- القوة: مقابل الفعل، وتأتي بمعنى القابلية والاستعداد.

2- أي التكاليف.


الصفحة 434
وبعضها مالية:

الأول:(1)

أن يكون مهموماً له عليه السلام في أيام الغيبة والفراق، وسببه متعدّد:

الأول: لمستوريّته ومحجوبيّته وعدم الوصول إلى أذيال وصاله، والعيون لم تقرّ بالنظر إلى نور جماله، مع وجوده بين الأنام، واطّلاعه عليه السلام على خفايا اعمال العباد في آناء الليل والأيام، فلا يكون الانسان صادقاً بادّعائه بالوصول إلى درجة الايمان هذه بمجرّد القول باللسان الّا أن تكون محبّته لمواليه عليهم السلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ـ على ما نقله الشيخ الصدوق في الأمالي، والشيخ الطوسي في الأمالي، وابن شيرويه في الفردوس ـ:

" لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذاتي أحبّ إليه من ذاته.

قال: فقال رجل من القوم: يا أبا عبد الرحمن! ما تزال تجيء بالحديث يحيي الله به القلوب "(2).

ولعلّ هذا المقام هو أوّل درجة الايمان عندما تكون محبّته لمواليه عليهم السلام مثل محبّته لأخصّ أولاده وأقربهم وأكملهم عنده.

فالعارف بخصائصهم الذاتية وكمالاتهم النفسانية ونعمهم واحسانهم اللامتناهي للعباد يصل ـ بمقدار علمه ومعرفته ـ انّه لا يستحق أحد الحبّ في الخلق إلّا اُولئك المعظمين عليهم السلام، وإذا كانت رؤيته لانتسابه وعلاقته ـ وإن كانت جزئية ـ بآل بيت

____________

1- أي التكليف الأول.

2- راجع الصدوق (الأمالي): ص 274 ـ 275، المجلس 54، ح 9.


الصفحة 435
الرحمة والعظمة.. وإذا شرب الانسان في الواقع جرعة من شراب المحبّة السائغ لإمامه، وتعلّق قلبه بالفطرة والرياضة بوجوده المقدّس، فطبيعتاً سوف يكون مهموماً لفراقه بحيث يسلب النوم من عينه، وتسلب لذّة الطعام والشراب من فمه، وقد روي في (الخصال) و (من لا يحضره الفقيه) عن الامام الصادق عليه السلام انّه قال:

" خمسة لا ينامون ـ إلى انّ عدّ منها ـ والمحبّ حبيباً يتوقّع فراقه "(1).

وبالطبع فانّ مثل هذا الشخص إذا ابتلي بالفراق فسوف يزداد همّه، ويكون قلقه غير محدود، ويزداد اضطرابه، وينسى لذّة النوم بالمرّة لفراق ذلك الشخص الذي هو بهذه العظمة والجلالة والكثير الرأفة، والاحسان، والعطف، والذي هو أرحم من ألف أب حاضر وناظر، ولكنّه أخفي في ستر وحجاب من الحجب الالهية بحيث لا تصل إلى أذياله يد، ولا تقع على جماله عين، ولا يأتي خبر من مقر سلطنته، ولا أثر عن محلّ اقامته ورحله، ويُرى كلّ دان ورذيل الّا ذلك الذي لولاه لا يُرى احدٌ، ويسمع كلّ لغو غير لائق وكلّ منكر الّا ذلك الكلام الذي لولاه ما سُمِع كلام.

وروي في عيون أخبار الرضا عليه السلام في خبر متعلّق به عليه السلام ; انّه قال عليه السلام: " كم من حرى مؤمنة وكم من مؤمن متأسّف حيران(2) حزين عند فقدان الماء المعين "(3) يعني الحجة عليه السلام(4).

____________

1- الخصال (الصدوق): ص296، باب الخمسة، ح64 ـ من لا يحضره الفقيه (الصدوق): ج1، ص 503، الباب 78، رقم الحديث 1446.

2- في العيون المطبوع (حيران) كما في الترجمة وكذلك في (مكيال المكارم) ولكن في (كمال الدين) حرّان بدل حيران.

3- راجع كمال الدين (الصدوق): ج 2، ص 370 - 371 ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام (الصدوق): ج 2، ص 7 ـ مكيال المكارم (السيد محمد تقي الموسوي الاصفهاني): ج 2، ص 166.

4- هذا التفسير من المؤلف رحمه الله وقد تقدّمت عدّة روايات في تفسير الماء المعين بأحاديث اُخرى بالامام عموماً عليه السلام وبالحجة عليه السلام.


الصفحة 436
وقد أشير إلى هذا المقام في فقرات شريفة من دعاء الندبة المعروف الذي يقرأ في الأعياد الأربعة ويوم الجمعة وليلته(1)، ومحصل مضمون بعضها بعد أن ذكر بعض أوصافه ومناقبه أرواحنا فداه:

" ليت شعري أين استقرّت بك النوى، بل أيُّ أرض تقلّك أو ثرى، أبِرَضوَى أو غيرها أم ذي طوى..

عزيز عليّ أن أرى الخلق ولا ترى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى.

عزيز عليّ أن تحيط بك دوني البلوى، ولا ينالك منّي ضجيج ولا شكوى.

بنفسي أنت من مغيّب لم يخل منّا.

بنفسي أنت من نازح ما نزح عنّا.

بنفسي أنت أمنيّة شائق يتمنّى من مؤمن ومؤمنة ذكر فحنّا...

عزيز عليّ أن أبكيك ويخذلك الورى..

عزيز عليّ أن يجري عليك دونهم ما جرى..

هل من معين فاُطيل معه العويل والبكاء..

هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا..

هل قذيت(2) عين فساعدتها عيني على القذى..

هل إليك يا ابن احمد سبيل فتلقى..

هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى..

____________

1- يوم الجمعة هو رابع الأعياد الأربعة، وذكر المجلسي في البحار: ج 102، ص 104 عن السيد ابن طاووس في مصباح الزائر انّه يدعى بدعاء الندبة في الأعياد الأربعة، ولكن المؤلف النوري قدّس سرّه زاد في كتابه تحيّة الزائر استحبابه في ليلة الجمعة كاستحبابه في الأعياد الأربعة، والله العالم ـ راجع مكيال المكارم: ج 2، ص 93.

2- قال المؤلف رحمه الله: " هي كناية عن كثرة البكاء ".


الصفحة 437
متى نرد مناهِلك الروية فنروى..

متى ننتقع من عذب مائك فقد طال الصدى..

متى نغاديك ونراوحك فنقر عيناً..

متى ترانا ونراك وقد نشرت لواء النصر.... إلى آخر الدعاء(1) وهو نموذج لشكوى ألَم القلب الذي شرب كأساً من عين محبّته عليه السلام، وينبغي أن يُشتكى بأمثال هذه الكلمات، ويُصبُّ على نار هجرانه كفّ من ماء الوجد.

الثاني: لمنعه ذلك السلطان العظيم الشأن عن لباس الخلافة والسلطة الظاهرية على جميع العالم التي ما خيطت لأحد إلّا له بقامته المعتدلة، فله الرتق والفتق واجراء الأحكام والحدود وتبليغ الأوامر الالهية ومنع الاعتداء والجوار، واعانة الضعيف، واغاثة المظلوم، وأخذ الحقوق، واظهار واعلان الحق، وإبطال وإزهاق الباطل، وهو عليه السلام الذي لا يأتيه الظلم والعدوان.

وبالاضافة إلى سلبه جميع مظاهر السلطنة الظاهرية، وحكم البلاد والعباد والأموال ; فهو غير متمكّن من اظهار نفسه المعظمة خوفاً من الظالمين، وفي طول هذا الزمان يسيح وحده أو مع بعض مواليه الخاصّين في البراري والقفار، ويرى حقّه بيد غيره، ويدعه ويصبر للأمر الالهي.

وبالطبع فانّه عليه السلام على أقل غيرة يكون مهموماً وحزيناً، ويكون حاله مثل حال ابن السلطان العادل جميع احكامه طبق قانون العدل والقسط رحيماً على رعاياه، فيغلبه عدو، ويضعه في زاوية سجن، ويأخذ على يده فلا تصل إلى شيء،

____________

1- راجع دعاء الغيبة في (البحار): ج 102، ص 104 ـ مفاتيح الجنان (الشيخ عباس القمي): ص 536 و537 ـ مكيال المكارم: ج 2، ص 93 ـ زاد المعاد (المجلسي): ص 491 ـ تحفة الزائر (المجلسي): ص 414 ـ جمال الأسبوع (السيد ابن طاووس): ص 553، وغير ذلك من المصادر.