المقدمة:
ثورة السماء
الأرض... هي الأرض لم تزل منذ خلقت مسرحاً لتصارع قيم السماء مع قيود الأرض المادية, فقيم السماء تريد بالإنسان الانشداد إلى الأعلى, والسير إلى الكمال المطلق, وتأبى قوانين الأرض ألا أن تُخلده إلى القاع وتجره إليها.
آدم, وهابيل, ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى و...
ثم قابيل ونمرود وفرعون وقارون وهامان وأبو جهل و...
ويشتد الصراع, فكلما أخلد البشر إلى الأرض واتبعوا أهوائهم جهلاً, بعث الله إليهم من يستنقذهم منها, ويكسّر القيود عنهم, ويرفعهم إلى السماء.
ثم كان ابن محمد صلى الله عليه وآله, إنه الحسين السبط الذي ادّخرته السماء ليقوم بالإنسان ويزيح عنه كل ما يشده إلى الأرض. إنه الإنسان الكامل, يقود الصراع كما قاده من كان قبله, فكان صراعه خلاصة صراع الأنبياء مع طواغيت
عطش, جوع, ألم, جراحات, قتل أولاد, قتل أخوة, قتل أصحاب, سبي نساء, انتهاك حرمات...
إنها ظلامة الإنسان الكامل, حينما قام بوجه الظلم.
فحق لكل إنسان أن يبكي الحسين.
تقول الكاتبة الإنجليزية فرياستارك: (إن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها من دون أن ينتابني البكاء)(1).
لقد حيرت ـ يا حسين ـ ألباب ذوي الألباب حتى عشقك البعيد والقريب.
فهذا غاندي ـ الزعيم الهندي الكبير ـ يقول: (أنا هندوسي بالولادة, ومع ذلك فلست أعرف كثيراً عن الهندوسية... ولقد تناقشت مع بعض الأصدقاء المسلمين وشعرت بأنني
____________
(1) راجع كتابها (صور بغدادية) ص 145 ـ 150.
وخاطب شعبه الهندي قائلاً: (على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين).
وقال أيضاً: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)(1).
وها هو المستشرق الأمريكي غوستاف غرونيبام يؤكد بأن أهمية ثورة الحسين امتدت إلى الكون كله فيقول في ذلك: (إن وقعة كربلاء ذات أهمية كونية, فلقد أثرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين ـ الرجل النبيل الشجاع ـ في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أية شخصية مسلمة أخرى...)(2).
بل لقد عشقك غير المسلم مع المسلم على حد سواء لأنك أيقظت ضمير الإنسان فراح يبحث عن ذاته فيك كما الفراشة تبحث عن الضوء لتحترق فيه.
____________
(1) راجع كتابه (قصص تجاربي مع الحقيقة).
(2) راجع كتابه (حضارة الإسلام).
كتابنا هذا الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ بحث علمي موجز عن سبب إقامة شعائر عاشوراء, قائم على أساس متبنيات علم النفس وهو عبارة عن محاضرات ألقاها الشيخ مصباح اليزدي نقلت بتصرف.
فهو على إيجازه كعدة الراحل خفيفة الوزن غالية الثمن, نرجو أن يروق لك. سائلين المولى عز وجل القبول والصفح, إنه نعم مسؤول, وبه المستعان.
بقلم: الشيخ محمد الكروي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.
سنبدأ بحثنا مفترضين أن شاباً قد نال حديثاً نضجه الفكري وهو يحاول أن يفهم جميع المسائل والظواهر الاجتماعية التي تحدث من حوله ويحاول الاحاطة بعللها حتى يتمتّع بتقييم واضح للمسائل والظواهر التي تحيط به.
وقد لاحظ ذلك الشاب ـ ومع بدء شهر محرم الحرام ـ تشكيل مجالس العزاء, ويرى الناس يرتدون الملابس السوداء ويرفعون الأعلام السود, ويشاهد قيام هيئات للعزاء واللطم, وينظر اليهم وعيونهم تسكب الدموع الغزيرة... إنها ظواهر لا تنتشر في الأيام العادية ولا
إذن من الطبيعي عندئذ أن يُطرح أمامة هذا السؤال وهو: لأيّ هدف تقام مثل هذه المراسم؟ لماذا لابدّ أن يرتدي الإنسان الملابس السود؟ لماذا يلطم الناس على رؤوسهم وصدورهم إلى وقت متأخر من الليل؟ لأيّ شيء تجري كل هذه الدموع؟
ويمكننا تقسيم الأسئله التي تطرح في هذا المضمار إلى أربعة أسئلة, وسوف نحاول ـ بعون الله ـ الاجابة على كل سؤال منها بشكل منفصل, حتى نوفّر الأرضية لرقي معرفة شبابنا الأعزاء بالنسبة لمراسم عاشوراء, وحتى نسلط الأضواء بصورة أكبر على ثقافة عاشوراء.
السؤال الأول:
لماذا لابدّ من تخليد واقعة عاشوراء؟
لماذا لابدّ من احياء حادثة قد مر عليها ما يناهز 1360
إنّ الجواب على هذا السؤال ليس عسيراً جداً؛ لأنه من الممكن أن نبيّن لأيّ شاب أن الحوادث الماضية في كل مجتمع يمكن أن تكون لها آثار ضخمة في مصير ذلك المجتمع ومستقبله, وإحياء تلك الحوادث هو في الواقع لون من اعادة النظر والصياغة الجديدة لتلك الحادثة حتى يتيسر للناس أن ينتفعوا منها, فإذا كانت الحادثة نافعة عند حدوثها, وكانت منشأ لآثار طيبة وبركات كثيرة فإنّ إعادة النظر إليها واعادة صياغتها يمكن أن تكون منشأ لكثير من المنافع.
وعلاوة على ذلك فقد اعتادت المجتمعات البشرية
إنّ جميع العقلاء في العالم يحيون ذكريات مثل هذه الشخصيات البارزة, ويتم هذا الأمر حسب واحدة من أقدس الرغبات الفطرية التي اودعها الله سبحانه في أعماق جميع الناس, ويعبر عنها بـ "حس الاعتراف بحق الاخر او الاعتراف بالجميل للآخر", فهناك رغبة فطرية موجوده في أعماق جميع الناس وهي تدفعهم للاعتراف بحق من أسدى اليهم خدمة, وعليهم أن يتذكروها ويحترموا ذكراها, وبذلك ستكون الأفعال العظيمة لتلك
ولما كنّا نعتقد أن وقعة عاشوراء كانت حادثة عظيمة في تاريخ الإسلام, وكان لها دور مصيري في سعادة المسلمين وتبيين سبيل الهداية للناس, لهذا أصبحت تلك الواقعة ذات قيمة عظيمة عندنا, ويغدوا احياؤها وتذكّرها وإعادة صياغتها أمراً لا يمكن التفريط به؛ لأن بركات ذلك سوف تشمل مجتمعنا المعاصر.
السؤال الثاني:
لماذا لا نكتفي بالبحث والنقاش في احياء عاشوراء؟
السؤال الثاني الذي يمكن أن نستخلصه من تحليل السؤال الأول هو: إن إحياء ذكرى عاشوراء ليس منحصراً في البكاء واللطم على الصدور ورفع الأعلام السود واقامة مجالس العزاء إلى منتصف الليل, الأمر
إنّ هذا السؤال نطرحه على أساس هذا الفرض وهو: إنّ الوضع الروحي لكثير من الناس ينجسم أكثر مع الأمور المادية والاقتصادية, واهتمام الناس منصب على هذه الأمور أكثر من غيرها, وحينئذ يقيّم هؤلاء الحوادث على أساس ما لها من منافع او اضرار مادية واقتصادية.
ونحن نفترض أن هذا التساؤل قد اختلج في نفس شاب لم تكتمل بعد تربيته الدينية, فقد يخطر على باله أن هذه المجالس تستتبع أضراراً اقتصادية بسبب قلة الانتاج نتيجة ضياع الوقت, إذ إن سهر الناس في إقامة العزاء إلى منتصف الليل يفقدهم القدرة على العمل في اليوم التالي.
وبكلام مختصر فإنه يقال: سلمنا بأن إحياء ذكرى عاشوراء وما جرى على الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) يرجع بالنفع لنا, وله آثار ممتازة في مجتمعنا, فإنه يطرح سؤال ثانٍ وهو: لماذا لابدّ أن يتم هذا الإحياء بهذه الصورة؟ ونحن نلاحظ في كل أرجاء العالم أن الشعوب التي تريد إحياء ذكرى عظمائها فإنها تعقد الندوات ومجالس البحث والنقاش؛ فلماذا نصرّ نحن على إحياء ذكرى عاشوراء بهذه الصورة؟
إن الجواب على هذا السؤال سيكون أكثر تعقيداً من
ويتخلص الجواب على هذا السؤال: بأن البحث حول شخصية سيد الشهداء (عليه السلام) , وتنظيم الندوات والمحاضرات, وكتابة المقالات وأمثال هذه الاعمال الثقافية والعلمية؛ هي أمور نافعة وضرورية وتجري في مجتمعنا ببركة إقامة العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام) , إذ يتم من خلال إقامة العزاء البحث والتحقيق حول هذه الأمور ويستفيد الناس معارفاً قيمه في هذا المجال.
إنّ هذه النشاطات ضرورية في مجالها ولكن هل هي كافية لكي ننتفع بشكل كامل من حادثة عاشوراء؟ أم هناك أمور أخرى ضرورية ـ أيضاً ـ مثل اقامة العزاء في مجاله الخاص؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يتوقف على القيام بتحليل نفسي للإنسان لمعرفة العوامل المؤثرة في سلوكه الواعي.
عندما نتأمل في سلوكنا ندرك أنّ هناك - على أقل تقدير - طائفتين من العوامل تنهض بالدور الرئيسي في هذا المضمار:
الطائفة الأولى: عوامل المعرفة, ويكون تأثيرها من بعد أن يفهم الإنسان شيئاً ويتقبله, ومن البديهي أن يستدل على الموضوع المطلوب بما يتناسب معه من الأدلة, فإن كان الموضوع عقلياً ـ كما في الفلسفة ـ استدل عليه بأدلة عقلية, وإن كان الموضوع تجريبياً ـ كما في الكيمياء والفيزياء ـ استدل عليه بأدلة تجريبية, و... الخ.
ومن الواضح جداً أن للمعرفة تأثيراً كبيراً في سلوكنا
وتسمى هذه العوامل بـ(الدوافع أو الأحاسيس أو العواطف أو الميول أو الرغبات), إنّها مجموعة من العوامل الباطنية النفسية المؤثرة في سلوكنا.
كلما قمت بتحليل سلوكك ـ سواء أكان السلوك المتعلق بالحياة الفردية أم الحياة العائلية أم الحياة الاجتماعية أم الحياة السياسية ـ فستلاحظ أن الأمر الأساسي الذي دفعك للقيام بذلك السلوك هو هذه البواعث والعوامل المحركة.
ويوجد في هذا المجال تشبيه لطيف حيث يشبه السلوك الإنساني بالسيارة التي تسير في ظلمة الليل فهي تحتاج إلى عاملين لتتحرك: أحدهما الطاقة الميكانيكية للسيارة حتى تتيسر لها الحركة بواسطتها, والعامل الآخر هو أنه لابدّ للسيارة أيضا من مصباح يُضاء به الطريق حتى
فلو فرضنا أن السيارة تتحرك في تلك الأجواء فحتى لو كانت ماكنتها تعمل بشكل جيد وتنتج طاقة ميكانيكية كافية فإن سائقها اذا لم يرَ الطريق فلعله يواجه مخاطر عظيمة ويتعرض لحادثة قد تودي بحياته مع جميع الركاب.
وكذا الأمر في سلوك الإنسان فهو بحاجة إلى لونين من العوامل.
أحدهما: لابدّ من توفره في أعماقه حتى يبعثه ويحركه ويوفر له الرغبة في الفعل كي يشتاق إليه يوماً ويقوم به.
والثاني: لابدّ أن يعرف لماذا يجب القيام بهذا الفعل؟ ما الفائدة من هذا الفعل بالنسبة إليه؟ وكيف ينبغي انجازه؟
فعلينا ـ إذن ـ أن نتأمل في مثل هذه العوامل ونتعرف عليها اما عن طريق التجربة وإما عن طريق الاستدلال.
ومن الضروري الرجوع إلى المصادر المناسبة للفعل الذي نريد القيام به لكي نظفر بالمعارف اللازمة [أي العامل الأول]، لكن المعرفة وحدها غير كافية لتدفعنا نحو الحركة، وإنما نحن بحاجة إلى عامل نفسي آخر ليبعثنا نحو ذلك الفعل ويقودنا إلى انجازه, ومثل هذه العوامل يطلقون عليها اسم الدوافع النفسية, ولها أسماء أخرى كالأحاسيس والعواطف وغير ذلك.
فلو عرف الإنسان بصورة يقينية أن غذاءً ما مفيد لجسمه فإنه لن يندفع لتناوله ما لم تتحرك الرغبة في نفسه لذلك الغذاء ويشتهيه, فلو فرضنا أن الرغبة قد انعدمت عند شخص أو أنه ابتلي ـ والعياذ بالله ـ بمرض لا يكون معه راغباً في شيء, فمهما قيل له إن هذا الغذاء نافع
إذن, بالإضافه إلى المعرفه لابدّ من وجود الرغبة والدافع في أعماق الإنسان.
والقضايا الاجتماعية والسياسية لها نفس هذا الحكم, فحتى لو عرف الشخص أن هناك حركة اجتماعية حسنة ونافعة فإنه لا يتحرك نحوها ما لم يكن هناك دافع للقيام بتلك الحركة, وحتى لو صرح ذلك الشخص نفسه بأن القيام بهذه الحركة حسن لكنه لابدّ له من دافع وعامل يحركه للقيام بذلك الفعل.
ثم بعد أن عرفنا وسلمنا بأن السلوك والحركات الإنسانية الواعية تحتاج إلى طائفتين من العوامل إحداهما عوامل المعرفة والثانية عوامل العواطف والأحاسيس, وبعد أن عرفنا مدى ما لحركة سيد الشهداء (عليه السلام) من دور مهم في سعادة الناس؛ فإننا سوف نلتفت إلى أن المعرفة وحدها لا تحقق فينا الحركة, ومعرفة تلك الوقعة
إذن, تحقق مثل هذا الأمر يحتاج إلى طائفتين من العوامل.
وجلسات البحث والتحقيق والخطابة توفر لنا الطائفة الأولى من تلك العوامل, أي إنها تزودنا بالمعارف اللازمة, لكن لابدّ لنا من الطائفة الثانية حتى يتم من خلالها تنمية العواطف وتقوية المشاعر, ومن الواضح أن للمعرفة ذاتها دوراً في تذكر ودراسة الواقعة, لكن الدور الأساسي تنهض به الأمور التي لها تأثير مباشر على العواطف والمشاعر, ويلاحظ ذلك عندما تعاد صياغة مشهد معين ويتأمل المرء في ذلك المشهد عن كثب فإن هذا يختلف كثيراً عمّا لو اكتفى بسماعه فقط.
إنّ هذا الموضوع يمكننا تجربته في حياتنا ويمكننا أيضا أن نلاحظه في المصادر الدينيه.
وفي هذا المضمار نشير إلى قصة واردة في القرآن الكريم تصلح أن تكون مثالاً على ما ذكرناه:
فنحن نعلم أن النبي موسى (عليه السلام) قد دُعيَ من قبل الله تعالى إلى جبل الطور ليعبد الله تعالى هناك, وقيل لقومه:
ولم يكن بنو إسرائيل عالمين بهذه الليالي العشر الإضافية, وقد كان هذا اختباراً لهم ليتبيّن مدى تمسكهم بإيمانهم.
ولما انتهت الليالي الثلاثون جاء بنو إسرائيل إلى هارون (عليه السلام) ـ وهو خليفة موسى (عليه السلام) ـ وسألوه عن سبب عدم عودة أخيه؟ فأجاب بأننا منتظرون وسوف يعود سريعاً, وفي اليوم التالي لم يعد موسى (عليه السلام) , فكرروا السؤال عنه, وبدأ هاجس الخوف يلوح عندهم بالأفق, فظنوا أن تأخر موسى يعني أنه تركهم وذهب إلى حال
____________
(1) سورة الأعراف : الآيه 142.
لقد خدعهم مدعياً أن هذا العجل الذي صنعته لكم إله موسى الذي دعاه للمناجات في جبل الطور والذي بعث موسى بالرسالة إلى الناس, فوقع كثير من بني أسرائيل ساجدين لهذا العجل وراحوا يعبدونه.
فأوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) مخبراً إياه بما جرى لقومه ـ بنو إسرائيل ـ وأنهم قد عبدوا العجل خلال غيبته عنهم في هذه الليالي العشر, وقد سمع موسى (عليه السلام) بهذا النبأ ولكنه لم يبد رد فعل عليه.
انتهت الليالي الأربعون وعاد موسى (عليه السلام) إلى بني إسرائيل وهو يحمل الألواح السماوية التي أُنزلت عليه
____________
(1) سورة طه: الآيه 88.