والخطب الفظيع الإصرار على المخالفة، والدؤب في ترك السنّة الثابتة المؤكّدة دائبين في الصلاة البتراء، آخذين البدعة سنّة جارية، وهذا مما يستاء منه محمّد نبيّنا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أىّ استياء، والعياذ بالله.
13- كون حبّ أهل البيت وولائهم شرطاً عامّاً في قبول مطلق الأعمال والطاعات والقربات، من الصلاة والصلات والحجّ والصوم وغيرها كما جاء منصوصاً عليه في جملة من الأحاديث، وقد فصلّنا القول حول ذلك في الجزء الثاني ص 301 - 305 ط 2 من كتابنا (الغدير).
14- ثناء الله تعالى وثناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم في الكتاب والسنّة بما خصّ بهم ولا يضاهيهم أىّ إنسان، وقد ورد فيهم جمعاً ووحداناً من الفضائل والمناقب ما يعدّ بالألاف، وعلى ما يؤثر عن ابن عبّاس: أنّها إلى ثلاثين الف أقرب.
15- بواعث الحبّ الذاتية الموجودة فيهم من طهارة المحتد، وقداسة الارومة وشرف الحسب والنسب، وما يمتازون به من الحكمة والعلم والخلق السامية، والزهد والورع والتقوى، إلى ملكات كريمة، ونفسيّات فاضلة، وفضائل وفواضل لا تحصى ومزايا من الإنسانية الّتي لا يدرك شأوها.
إلى بواعث ودواعي وموجبات، كلّ منها بمفرده عامل قوىّ في أخذ حبّهم بمجامع القلوب، وتعطّف النفوس عليهم بكلّها، وقبل هذه كلّها كونهم أمان أهل الأرض من الاختلاف ومن اقتراب ما يوعدون، فيالها من فضيلة رابية ما أعظمها؟ ويا لها من منقبة جليلة ما أجلّها؟ فالإنسان بجميع طبقاته يعيش تحت راية أمنهم وأمانهم مترهّناً بفيض وجودهم، وغيث فضلهم، وبركات حياتهم، وبهم ثبتت
أهل البيت (عليهم السلام) أمان لأهل الأرض
أخرج الحفّاظ: مسدّد، وابن أبي شيبة، وأبو أحمد الفرضي، وأبو عمرو ابن أبي عرزة، وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني، والحكيم الترمذي، والمحبّ الطبري، وابن عساكر، وآخرون من طريق سلمة بن الأكوع مرفوعاً: (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لامّتي).
قال العزيزي في السراج 3: 416 لدى شرحه: أراد بأهل بيته علماءهم، ويحتمل الإطلاق لأنّ الله تعالى لما خلق الدّنيا لأجله6 جعل دوامها بدوام أهل بيته.
وقال الحفني: وأهل بيتي أي ذريتي، فبسبب وجودهم يرفع البلاء عن الامّة. أ هـ وأخرج:
إمام الحنابلة أحمد باسناده من طريق أنس بن مالك مرفوعاً: (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون).
فقال: إنّ الله خلق الأرض من أجل النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعل دوامها بدوام أهل بيته وعترته (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وأخرج:
أحمد أيضاً من طريق علىّ (عليه السلام) مرفوعاً: (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض).
وأخرج:
الحاكم من طريق ابن عبّاس مرفوعاً: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لامّتي من الاختلاف).
وعدّ الحافظ ابن حجر في الصواعق من الآيات النازلة في أهل البيت قوله تعالى: (وَمَاكَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) فقال: أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وجود ذلك المعنى في أهل بيته، وأنّهم أمان لأهل الأرض كما كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) أماناً لهم، وفي ذلك أحاديث كثيرة. ا هـ.
وأخرج:
الحاكم من طرق أبي موسى الأشعرىّ مرفوعاً: (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض).
وأخرج:
الحاكم أيضاً بلفظ: (النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت أتاها ما يوعدون وأنا أمان لأصحابي ما كنت، فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لامّتي فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون).
وأخرج:
شيخ الإسلام الحمويني من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء).
وقال الحافظ ابن حجر في الصواعق لدى حديث السفينة: قال بعضهم: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الّذين هم أمان علماؤهم، لأنهم الّذين يهتدى بهم كالنجوم،
____________
1- سورة الانفال الاية: 33.
ويحتمل وهو الأظهر عندي أنّ المراد بهم سائر أهل البيت، فانّ الله لما خلق الدّنيا بأسرها من أجل النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته، لأنّهم يساوونه في أشياء مرّ عن الرازي بعضها(1) ولأنّه قال في حقهم: (اللّهمّ انّهم منّي وأنا منهم) ولأنّهم بضعة منه بواسطة أنّ فاطمة أمّهم بضعته، فأُقيموا مقامه في الأمان.ا هـ.
ولعلّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) يومىء إلى هذا المعنى في خطبة له بقوله: إنّا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا.
قال ابن أبي الحديد في شرحه 3: 451: هذا الكلام عظيم عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الّذي أنعم علينا فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل، ظاهره ما سمعت، وباطنه انّهم عبيد الله وانّ الناس عبيدهم.
وربما يستفاد هذه المأثرة من قول عمر بن الخطاب للحسين السبط: هل أنبت الشّعر على الرأس غيركم؟ وفي لفظ الدارقطني: هل أنبت الشعر في الرأس بعد الله إلاّ أنتم؟.
وقوله في حديث ابن سعد: هل أنبت على رؤسنا الشعر إلاّ أنتم؟ وفي لفظ إنّما أنبت الشعر في رؤسنا ما ترى الله ثمّ أنتم.(2)
____________
1- ايعاز الى كلمة الرازي في تفسيره وقد اسلفناها ص: 10.
2- أخرجه ابن سعد، والدارقطني، وابن عساكر، والحافظ الكنجي وآخرون، وصححه ابن حجر في الاصابة 2: 15 وقال: سنده صحيح.
حب الأمة يقصر عن حدّ البواعث
الأخذ بمجاميع تلكم الجهات الداعية إلى حبّ أهل البيت وولائهم يعطينا خبراً بأنّ حبّنا لهم يقصر عن مدى تلكم الدواعي، ويشذّ ويبعد عن حدود تلك الجهات المختصّة بهم بمراحل ومراحل إلى ألف مرحلة، نظراً إلى قصور مبلغنا من العلم بجوهريّتها وحاقّها، وقلّة الاستطلاع عليها والإحاطة بها، والبون الشاسع بيننا وبين النيل إلى معرفة كنهها ومنتهاها.
وأنّى ثمّ أنّى لنا أن نقف نحن على حقيقة ما هم عليه من الصفات وهم هم عليهم السلام، ونحن نحن، فهل يسع للجاهل الأمّي مثلاً أن يعرف العلم وحقيقته ومبدأه ومبلغه ومنتهاه وأصوله وفروعه، وأصنافه وطرقه ومناهجه وأبحاثه ودروسه ومواضعه وفنونه وأقسامه ومعالمه، وتكوينه وتشريعه، وكمّه وكيفه، وعرضه وطوله، وعدّه وحدّه، وتعلّقه بما كان وبما يكون وبما هو كائن، أو بالإضافة إلى
____________
1- سورة المائدة الاية: 55.
هذه النسبة بيننا وبينهم في العلم، وهي تطّرد إلى جميع ما لهم من الملكات والنفسيات والمقامات والكرامات.
ونحن لم نعرف، وأمّ الدّنيا أيضاً لم تعرف، إنساناً في أطراف العالم أعطاه الله تعالى الإحاطة كلّ الإحاطة بهاتيك الجهات، والعلم بجميع ما منح الله أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عوامل الودّ وأصول الولاية وشؤون الخلافة والإمامة بأسرها وبرمّتها، والاطّلاع على قيمها ومقاديرها حتّى يسع له تحديد لازمها من الحبّ والوقوف على حدّه.
فلمّا لم تك تعرف كلّ واحدة من تلكم الجهات المذكورة الخاصة بهم أهل البيت الطاهر، وعشرات وعشرات أمثالها ممّا لم يذكر على حقيقتها ومقاييسها ولم تبيّن بقدرها وخصوصياتها. فالقول بالغلوّ فيما يتبعها وينبعث منها من الحبّ تافه سرف، جزاف من القول لا مغزى له. وإنّما الغلوّ كما مرّ آنفاً هو التجاوز عن الحدّ وذلك لا يتصورّ إلاّ بعد عرفان الحدّ والقياس، وأنّى لنا بذلك. قل هلمّ شهداءكم الّذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا.
على أنّ القول فيما يوصف به العترة الطاهرة من العلم والإرادة والقدرة والتصرّف والرضا والغضب والحلم والعفو والرحمة والتفضّل والتكرّم إلى ما سواها و إن بلغ ما بلغ، وبالغ فيها الواصف ما بالغ، فانّما هو واقف لدى حدود الإمكان لا محالة، ولا مماثلة ولا مشاكلة قطّ بينها وبين صفات الواجب تعالى،
____________
1- سورة الاعراف الاية: 42.
2- يوجد بيان كل هذه الجمل بصورة ضافية في غضون مجلدات كتابنا (الغدير) من طريق السنة الثابتة.
وكذلك بين ما لا يكيّف بكيف ولا يؤيّن بأين، وبين ما يقترن بألف كيف وأين؟ وهكذا بين التأصلّي الاستقلالي، وبين التبعىّ المكتسب من الغير؟
ومثل ذلك بين الأزلي الأبدىّ، وبين الحادث المتغير؟
فمع هذه الفوارق اللازمة لصفات الممكن، لا يتصوّر شىء من الشرك والغلوّ قطّ.
نعم يتأتّى الغلوّ بأحد الأمرين: القول باتّصافهم بما لم يجعل الله لهم مثل الاعتقاد بالتفويض والتألّه بهم. القول بنفي قيود الإمكان وسلبها عمّا فيهم من الصفات. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيراً، ونعوذ بالله من أن نكون من الجاهلين.
هذا حبّنا طبقاً على سنّة رسول الله6 يوافقها حتّى قيد الشّعرة، ويرادف العقل والمنطق الصحيح، والعلم الناجع، ولا غلوّ فيه ولا فرطا، لو لم نك فرّطنا منه في شىء.
وأما حسيننا ومأتمه وكربلاؤه:
فإنّ من المتسالم عليه لدى الامّة المسلمة نظراً إلى النبوّة الخاتمة وشؤونها الخاصة، الإذغان بعلم النبىّ الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) الملاحم والفتن وما جرى على أهل بيته وعترته وذي قرباه قُلّه وكُثره وكثره من المصائب الهائلة، وطوارق الدهر المدلهمّة، والنوازل الشديدة، والنوائب الفادحة، والدواهي والكوارث، والقتل الذريع، إلى جميع ما دهمهم من العذاب والنكال والسوء والأسر والسباء.
وعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا من شؤون ولايته الكبرى المطلقة العامّة الشاملة على كافّة البريّة كما أنّ ترك العمل بذلك العلم، وجعله وراء الصفح والصبر كأن لم يكن أمراً مقضيّاًَ وعدم ترتّب أىّ أثر عليه من أخذ اولئك الرجال، رجال الجور والظلم، رجال العيث والفساد بما يعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، وإقامة الحدّ قبل الاعتداء، والقصاص قبل الجناية، والعقوبة قبل الاساءة، أو قطع الصلات عن الفئة الباغية، وعدم حسن
وهذا موضوع هامّ واسع النطاق جدا من علوم الدين لو فصّلنا القول فيه ليأتي كتاباً صخماً مفرداً.
فالحالة هذه تقتضي أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناظراً طيلة حياته إلى كلّ تلكم الحوادث والرزايا والمصائب الحالّة بساحة أهل بيته وأعزّائه، وأفلاذ كبده، وجلدة ما بين عينيه من حبيبته وبضعته وابن عمّها الصّديق الأكبر وما ولدا من الذرّية الطيبة، كأنه كان ينظر إليها من وراء ستر رقيق، وكان مهما ينظر إلى أحد منهم من كثب يتجسّم بطبع الحال بين عينيه ما كان تحويه هواجسه، فكان مدى حياته يبدو الحزن والكآبة في أساريره بحكم الطبيعة، والشجو والأسى لا يفارقانه، كان منغصّ العيش يسرّ الزّفرة ويخفي الحسرة، ويجرع الغصّة.
ومهما وجد جوّا صافياّ يعالج لوعة فؤاده، ويطفىء لهفة قلبه، ويخمد نائرة الحزن بأن يضمّ أحداً من أهله على صدره، ويشمّه ويقبّله، ساكباً عبرته، باكي العينين، وفي لسانه ما يتسلّى به خاطره.
فتراه يلتزم عليّاً سيّد عترته وابن عمّه وأبا ولده في قارعة الطريق ويقبّله ويكرّر قوله: بأبي الوحيد الشهيد. كما أخبرت بذلك السيّدة عائشة أمّ المؤمنين فيما أخرجه عنها الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده، وأخذه عنه جمع من الأعلام، وقد ذكرناهم في كتابنا الغدير.
وأخرج الحفّاظ بأسانيدهم الصحيحة عن ابن عبّاس: (خرجت أنا والنبىّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلىّ رضي الله عنه في حيطان المدينة، فمررنا بحديقة فقال علىّ رضي الله عنه: ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله؟ فقال: حديقتك في الجنّة أحسن منها. ثمّ أومأ بيده
وفي لفظ عن أنس بن مالك: (ثمّ وضع النبىّ رأسه على إحدى منكبي علىّ فبكى، فقال له، ما يبكيك يا رسول الله؟ صلى الله عليك! قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتّى افارق الدّنيا). الحديث(1).
وفي لفظ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : (فلمّا خلا لي الطريق، اعتنقني ثمّ أجهش باكياً، قلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي). الحديث24 وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحفيه عن صبره وجلده ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم) له (عليه السلام) : كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه؟ وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه، فقال علىّ: أما بليت ما بليت فليس ذلك من مواطن الصبر، وإنّما هو من مواطن البشرى والكرامة(2) فيتسلّى (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك الكلام الطيّب المعرب عن عظمة نفسيّات علىّ (عليه السلام) ومبلغ تفانيه في الله تعالى.
وتراه يضمّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا محمّد الحسن السبط إلى صدره ويقبّله من فمه وسرّته لما يتذكّر بأنّ أحشاءه من فمه إلى سرّته ستقطع بالسمّ النقيع.
ويضمّ الحسين السبط إليه ويشمّه ويقبّله ويقبّل منه مواضع السيوف والرماح والطعون ويخصّ من جوارحه بالقُبلة شفتيه، علماّ منه بأنّهما ستضربان بالقضيب.
يقيم (صلى الله عليه وآله وسلم) على حسينه وريحانته مأتماً حيناً بعد حين في بيوت أمّهات المؤمنين ومهما اشتدّ عليه حزنه يأخذ حسينه على حضنه ويأتي به إلى المسجد إلى مجتمع الصحابة هو يبكي، وعيونه تدمع، ودموعه تسيل، فيريهم الحسين
____________
1- أخرجه بالطرق الثلاث، البزار في مسنده، والطبراني في الكبير، وأبو يعلى في المسند، وابن عساكر في تاريخ الشام، والهيثمي في المجمع، وجمع آخر ذكرناهم في كتابنا (الغدير) لدى مسند أمير المؤمنين، وابن عباس، وأنس.
2- أخرجه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير الموجود لدينا ولله الحمد.
أو يأخذ تربته: تربة كربلاء ويشمّها ويبكي وفي لسانه ذكر مقتله ومصرعه، وهو يقول: ريح كرب وبلاء.
أو يقول: ويح كرب وبلاء. أو يقول: كربلاء، أرض كرب وبلاء.
أو يقول: والّذي نفسي بيده أنّه ليحزنني، فمن هذا يقتل حسيناً بعدي؟ أو يأخذ حسيناً على حجره وفي يده تربته الحمراء وهو يبكي ويقول: ياليت شعري من يقتلك بعدي؟.(1)
وترى الصدّيقة الطاهرة لمّا يخبرها أبوها (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّها لحوقاّ به من أهل بيته يسرّها هذا النبأ وتأنس به(2)، وإن هو إلاّ لعلمها بأنّ حياة آل محمّد حفّت بالمكاره والقوارع والطامّات، ولولا الحذر والجزع من تلكم المصائب الهائلة النازلة بساحتهم فأىّ مسوّع للزهراء فاطمة في استيائها من حياتها؟ وحياتها السعيدة هي أحسن حياة وأحلاها وأسعدها وأجملها وأعظمها فخراً، زوجٌ هو شاكلة أبيها في فضائله وفواضله وأولادٌ من البنين مثل الحسنين ريحانتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، سيدي شباب أهل الجنّة لا يمثلان بنظير، ويقصر عن بلوغ نعتهما وصف كل بليغ طلق ذلق، ومن البنات مثل العقيلة زينب، جوهرة القدس والكمال والشرف والمنعة.
فلماذا تستاء عندئذ فاطمة عليها السلام من الحياة وهي بعد في عنفوان شبيبتها الغضّة لم تبلغ مناها، ولم تنل آمالها من الحياة؟
ولماذا تدعو وتسأل ربّها أن يعجّل لها وفاتها، وهي بعد لم تدرك من أولادها ما تتمنّاه الامّهات، وتهون دون تلكم الأماني عليهنّ المصائب، وتحلو لديهنّ مرارة
____________
1- ستوافيك أحاديث هذه كلها بأسانيدها ومصدرها ونصها وفصها بعيد هذا.
2- أخرج حديثه أحمد في المسند، وأبو يعلى في المسند، وابن أبي شيبة في المصنف والنسائي في الخصائص والترمذي في الصحيح، وابو الحسن الحربي في جزء له.
والطحاوي في مشكل الاثار، والدارقطني في العلل، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل وآخرون كثيرون بأسانيدهم الصحيحة عن السيدة عائشة أم المؤمنين
ولماذا ترفع اليد عن حضانة أولادها، وتفرغ منهم حجرها، وترضى بيتمهم وهم بعد ما شبّوا وما زهوا؟
ولماذا تأنس بذبول أورادها آل محمّد وهي بدوّ النضارة ولم تحظ بعدُ من تلكم الأزهار؟ ولماذا تعيف أنوار حقلها الزاهي ولم تفتح بعد أكمامها؟
ولماذا يُحبّ فراق بعلها، وتدع حبيبها أليف الأسى والهمّ والجوى، حزنه بعدها سرمد، وليله في فراقها مسهّد؟.
ولماذا ذلك الفرح والجذل من اقتراب الأجل ودنوّ الموت؟.
إن كلّ هذه إلاّ تخلّصاً من هول تلكم النوائب الّتي كانت تعلمها أخذاً من أبيها الصادق المصدوق، ولم تك فاطمة سلام الله عليها تتصوّر لنفسها منجى ومرتجى وملجأ تثق بالطمأنيية لديها، وسكون الخاطر في حماها غير جوار ربّها الكريم، والغضّ عن هذه الحياة ومرارتها وحلاها.
ماذا تصنع فاطمة بالحياة وهي ترى أباها (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة حياته حليف الشجون؟ قد قضى حياته بعين عبرى، وقلب مكمد محزون، وزفرة وحسرة ولهفة دفينة بين جوانحه كمداّ على أهل بيته، يقيم لحسينه السبط المأتم من لدن ولادته وهلّم جرّاً يوم كان رضيعاً وفطيماً وفتياً، يقيم لحسينه السبط المأتم من لدن ولادته وهلّم جرّاً يوم كان رضيعاً وفطيماً وفتياً، وقد اتّخذ الله بيوت نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دار حزن وبكاء منذ ولد ريحانة رسول الله الحسين العزيز، يأتي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ملائكة ربّه أفواجاً زرافاتاً ووحدانا، حينا بعد حين، مرّة بعد أخرى، بين فينة وفينة، ينعون الحسين، ويأتون إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتربته الحمراء ممثّلين بذلك مصرعه ومقتله.
هذه مواقف تاريخيّة إسلامية هامّة سجّل لنا التاريخ منها شطراً وإن لم تبق لنا الظروف الغابرة منها إلاّ النزر اليسير، فاليك نبذة منها:
ـ 1 ـ
مأتم الميلاد!
أخرج الحافظ أحمد بن الحسين البيهقيّ قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمّد المفسّر، أخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الله الحفيد، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي بالبصرة، حدثني أبي، حدثني علىّ بن موسى، حدثني أبي موسى بن جعفر حدثني أبي جعفر بن محمّد، حدثني أبي محمّد بن علىّ، حدثني أبي علىّ بن الحسين قال: حدّثتني أسماء بنت عميس قالت قبلت جدّتك فاطمة بالحسن والحسين فلما ولد الحسن.
الحديث بطوله الى قولها:
فلما ولد الحسين فجاءني النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أسماء هاتي ابني! فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذّن في اذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره وبكى قالت أسماء: فقلت فداك أبي وأمّي ممّ بكاؤك؟ قال: على ابني هذا، قلت: إنّه ولد الساعة، قال: يا أسماء يقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي، ثمّ قال: يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا، فإنّها قريبة عهد بولادته. الحديث.
وأخرجه الحافظ أبو المؤيّد الخوارزمىّ(1) خليفة الزمخشري في مقتل الحسين 1: 87، 88 باسناده عن الحافظ البيهقي.
وذكره الحافظ محبّ الدين الطبري في (ذخاير العقبى)ص 119 نقلاً عن مسند الامام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) . والسيد محمّد الشيخاني المدني في (الصراط
____________
1- ترجمنا له في الجزء الرابع من كتابنا الغدير ص 398 - 407.
ونحن فصّلنا القول في مسند الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من كتابنا الغدير في مبلغ اعتبار مسند الإمام أبي الحسن الرضا لدى أعلام السلف وأخذ أمّة من الحفّاظ ومشايخ الحديث عنه، وثقتهم واحتجاجهم به، وتعاطيهم نسختها بالمال.
قال الاميني:
لعلّ هذا أوّل حفل تابين أُقيم للحسين الطهر الشهيد في الإسلام المقدّس بدار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تسمع أُذن الدنيا قبل هذا أن ينعقد لمولود غير وليد الزهراء الصديقة في بسيط الأرض مأتماً حين ولدته أمّه بدلا من حفل السرور والحبور والتباشير.
ولم يقرع قطّ سمعاً نبأ وليد ينعى به منذ استهلاله، حين قدم مستوى الوجود بدل نشيد التهاني، ويذكر من أوّل ساعة حياته حديث قتله ومقتله ومصرعه.
ولم ينبىء التاريخ من لدن آدم إلى الخاتم عن وليد يهدى إلى أبيه عوض هدايا الأفراح تربة مذبحه حتّى يتمكّن منه الحزن في أعماق قبله، وحبّة فؤاده.
فكأنّ يوم ولادة الحسين له شأن خاصّ لدى الله العلىّ العظيم، ذلك تقدير العزيز العليم، لم يقدّره يوم سرور لآل الله، أهل البيت الطاهر، وكأنّ الأسى تاءمة في الولادة، فكدّر عليهم صفو العيش، ونغص طيب حياتهم، واجتثّ من تلكم البيوت الّتي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه اصول المسرّة، بهجة التداعة، وجعلها لأهلها دار الحزن.
وذلك بعد ما فاوض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل (عليه السلام) حول أمر ولده القتيل، وعلم باليقين التامّ أنّه أمر لا مردّ له من الله كما جاء فيما أخرجه الحافظ أبو الحسين
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّذ يوم ذاك كتمان هذا النعي من امّ ريحانته شفقة وانعطافاً عليها، ولحديث عهدها بالولادة، والامّ عطوف حنون، والمرأة ليس فيها تجلّد الرجل تجاه المصائب، والرضيع أليف ثديها، وربيب حجرها، ووردة صدرها طيلة اللّيل والنهار، فكيف التصبّر لها عندئذ لو اطّلعت على مقدّرات ولدها؟ وبأىّ تنشّط وطيب نفس بعد تحاضنه؟ وبأيّة امنيّة ورغبة في أمل ترضعه، وتقاسي دون تربيته الشدائد؟ وبأىّ طمأنينة وسكون خاطر جذلان تداعبه وتلاعبه؟ وبأىّ أنشودة فرح تطوف حل مهده وترقده؟ وبأىّ لسان وبيان ومقال تناغيه؟.
ولا بدّ للامّ من أن تناغيه.
نعم: تناغيه، وحقّ لامّ الحسين أن تناغيه وانشودتها:
واحسيناً. واحسيناً. واحسيناً.
أو تقتبس من كلام أبيها الآتي وتناغيه.
كربلاء يا كربلاء يا كربلاء | كربلا لازلت كربا وبلاء |
أفهل بقي ذلك السرّ الفجيع مكتوماً من الزهراء الصدّيقة إلى التالي؟ لاها الله. أنّى، ثمّ أنّى يبقى ستيراّ إلى النهاية من امّ الوليد القتيل وإن كتمه أبوها (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالغ في كتمانه منها؟.
____________
1- وأخرجه الشيخ الاكبر حافظ دمشق ابن عساكر في تاريخ الشام لدى ترجمة الحسين السبط (صلى الله عليه وآله وسلم)
ـ 2 ـ
مأتم الرضوعة!
أخرج الحافظ الحاكم النيسابوري في (المستدرك الصحيح) 3: 176 قال: أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن علىّ الجوهرىّ ببغداد، ثنا أبو الأحوص محمّد بن الهيثم القاضي، ثنا محمّد بن مُصعَب، ثنا الاوزاعي، عن أبي عمّار شدّاد ابن عبد الله، عن أمّ الفضل بنت الحارث.
انّها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إنّي رأيت حلماً منكراًً الليلة، قال: وما هو؟ قالت: إنّه شديد قال وما هو؟ قالت: رأيت كأنّ قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : رأيت خيراً، تلد فاطمة - إن شاء الله - غلاماً فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري - كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فدخلت يوماً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعته في حجره، ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهريقان من الدّموع! قالت: فقلت: يا نبىّ الله بأبي أنت وأمّي مالك؟ قال: أتاني جبرئيل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أنّ أمّتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا؟ فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء.
فقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه في ص 179 قال: حدثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، ثنا محمّد بن إسحاق الصنعاني، ثنا محمّد بن إسماعيل بن أبي سمينة، ثنا محمّد بن مصعب، ثنا الأوزاعىّ عن أبي عمّار عن أمّ الفضل قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - والحسين في حجره -: إنّ جبريل عليه الصلام السلام أخبرني أنّ امّتي تقتل الحسين.
فقال: قد اختصر ابن أبي سمينّة هذا الحديث، ورواه غيره عن محمّد بن مصعب بالتمام.
وأخرجه الحافظ البيهقي في (دلائل النبوّة) لدى ترجمة الحسين (عليه السلام) قال: حدّثني محمّد بن عبد الله الحافظ - يعني الحاكم النيسابوري - أخبرنا أبو عبد الله
وأخرجه الحافظ ابن عساكر في (تاريخ الشام) قال: أخبرنا عالياّ أبو عبد الله الغراوي، أنبأ أبو بكر البيهقي، نا محمّد بن عبد الله الحافظ باسناد الحاكم ولفظه الأوّلين.
وقال أخبرنا أبو القاسم ابن السمرقندي، أنا أبو الحسين ابن النقور، أنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عمران المعروف بابن الجندي، نا أبو روق أحمد بن محمّد بن بكر الهراتي(1)، نا الرقاشي(2) - يعني العبّاس بن الفرج، نا محمّد بن إسماعيل أبو سمينة عن محمّد بن مصعب بالإسناد بلفظ:
رأيت يا رسول الله رؤيا اعظمك أن أذكرها لك قال: اذكريها قالت: رأيت كأنّ بضعة منك قطعت فوضعت في حجري! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : فاطمة حبلى تلد غلاماً أسميّه حسيناً وتضعه في حجرك، قالت: فولدت فاطمة فكان في حجري أربيّه فدخل علىّ يوماً وحسينٌ معي فأخذ يلاعبه ساعة ثمّ ذرفت عيناه فقلت: ما يبكيك؟ قال: هذا جبريل يخبرني أنّ أمّتي تقتل ابني هذا!.
رجال الاسانيد:
1- أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن علىّ بن مخلد البغدادي الجوهري الرئيس المعروف بابن المحرم المتوفّى سنة 357 عن ثلاث وتسعين سنة.
2- محمّد بن الهيثم بن حمّاد بن واقد أبو عبد الله أبو الأحوص قاضي عكبر البغدادي المتوفّى سنة 279، قال ابن خراش: كان من الأنبات المتقنين، وقال الدارقطنىّ: من الثقات الحفّاظ: وقال أيضا: ثقة مأمون حافظ، وذكره ابن حبّان في الثقات وقال: مستقيم الحديث، وقال مسلمة بن قاسم: ثقة.
3- محمّد بن مصعب بن صدقه أبو عبد الله القرقساني نزيل بغداد المتوفّى سنة 208.من رجال الترمذي وابن ماجة قال ابن قانع: ثقة وقال الخطيب: كان كثير
____________
1- كذا والصحيح: الهزاني بكسر الهاء وفتح المعجمة المشددة بطن من العتيك من ربيعة.
2- كذا والصحيح: الرياشي.
4- عبد الرحمن ابن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه المتوفّى سنة 158 من رجال الصحاح الستّ، وثقّه الدارمىّ وابن معين وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً صدوقاً فاضلاً خيّراً كثير الحديث والعلم والفقه، ووثقّه يعقوب بن شيبة وآخرون وقال العجلي: شامىّ ثقة من خيار المسلمين، وأثنى عليه بالامامة جمع.
5- شدّاد بن عبد الله القرشي أبو عمّار الدمشقي. من رجال الصحاح غير البخاري وهو في الأدب المفرد، وثّقه العجلي، وأبو حاتم، والدارقطني ويعقوب بن سفيان وغيرهم.
6- امّ الفضل لبابة بنت الحارث أخت ميمونة أمّ المؤمنين صحابيّة من رواة الصحاح الستّ.
7- أبو العبّاس محمّد بن يعقوب الأصمّ المتوفّى سنة 346 لم يختلف في ثقته وصدقه وصحّة سماعاته، وكانت الرحلة إليه من البلاد متصّلة، ترجم له كثيرون من رجال المعاجم.
8- محمّد بن إسحاق بن جعفر أبو بكر الصاغاني نزيل بغداد المتوفّى سنة 270 من رجال الصحاح غير البخاري، كان أحد الحفّاظ الرحّالين، ثقة ثبتاً صدوقاً مأموناً متقناً مع صلابة في الدين، واشتهار بالسنّة، واتّساع في الرواية، وثقّه النسائي وابن خراش، والدارقطني وقال: ثقة وفوق الثقة، ومسلمة بن قاسم، وأبوحاتم.
9- محمّد بن إسماعيل ابن أبي سمينة أبو عبد الله البصرىّ المتوفّى سنة 230 حافظ ثقة من رجال البخاري وأبي داود، وثّقه أبو حاتم، وصالح بن محمّد، وذكره ابن حبّان في الثقات.
10 - الحافظ أحمد بن الحسين بن علىّ أبو بكر البيهقىّ المتوفّى سنة 458 عن 74 عاماً قال السبكي في طبقاته. أحد أئمّة المسلمين، وهُداة المؤمنين والدعاة إلى حبل الله المتين، فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحرير، زاهد ورع، قانت لله