مقدمة المركز:
تعتبر السنّة الشريفة المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وتكون هذه السنة امتداداً للقرآن الكريم وتفسيراً له وبياناً للأُمور الدينية التي بيّنها القرآن بصورة مجملة أو لم يتطرّق إليها بإثبات أو نفي.
وقد اهتمّ علماء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بصورة مكثفة بالسنّة الشريفة من ناحية التدوين والحفظ وبيان الكنوز المعرفية الكامنة فيها.
وتعتبر السنّة الشريفة عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أوسع مما عليه عند أبناء العامة، لأن الشيعة تعرّف السنّة الشريفة بأنّها تعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره، وبهذا التعريف تأخذ السنّة الشريفة نطاقاً واسعاً فتشمل قول أو فعل أو تقرير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).
ويذهب أتباع أهل البيت (عليهم السلام) إلى أنّ المعصومين من آل البيت (عليهم السلام) تجري أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم مجرى قول وفعل وتقرير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّهم حجج اللّه تعالى على الخلق، وهم ممن
كما يعتقد أتباع أهل البيت بأنّ ما صدر عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليس من قبيل رواية السنّة أو حكايتها أو الاجتهاد في الرأي أو الاستنباط بل تمثّل سنّتهم امتداداً لسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ كلّ إمام يتلقّى الأحكام الشرعية عن الإمام المعصوم الذي كان قبله بطريقة قد تدخّلت فيها اليد الإلهية الغيبية، لا بالطريقة السائدة المتعارفة بين المحدّثين.
ومن هذا القبيل قال الإمام عليّ (عليه السلام): "علّمني رسول اللّه ألف باب يفتح كلّ باب إلى ألف باب" (1).
وتُعتبر سنّة أهل البيت (عليهم السلام) سنّة مصانة، نتيجة تحلّي أهل البيت (عليهم السلام) بالعصمة الإلهية، وهي سنة متّصلة بسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتداداً لها، ولهذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحديث رسول اللّه قول اللّه عزّ وجلّ" (2).
والأمر الجدير بالاهتمام هو: أنّ ما تمتاز به سنة أهل البيت (عليهم السلام)
____________
1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1 / 315.
2- الكافي: 1 / 53 (باب رواية الكتب والحديث) ح14.
أن سنّة أهل البيت (عليهم السلام) هي نفسها سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنها نابعة من مصدر معصوم ومسدّد من قبل اللّه تعالى، بحيث لا يجد أحد فيها أي اختلاف، نتيجة كونها امتداداً للقرآن الذي قال عنه تعالى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (1).
ولهذا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في حديث الثقلين بالتمسّك بالقرآن وبأهل بيته (عليهم السلام)، واعتبر التمسّك بهما واقياً من الانزلاق في أودية الضلال.
في حين نجد سنّة الصحابة حاكية لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تارة، ومستعملة للاجتهاد في مقابل سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرى.
ولا يخفى بأن الاختلاف الذي نجده في تفسير القرآن أو في سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنّة أهل بيته (عليهم السلام)، لا يرتبط بأصل القرآن ولا بأصل قول وفعل وتقرير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ; بل هو ناتج في خصوص القرآن من الفهم البشري الخاطئ، وفي خصوص سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) من النقل غير الصحيح للرواة أو الفهم الخاطئ للدالة، وهذا ما أدّى إلى تأسيس علم الرجال واخضاع الرواة إلى الجرح والتعديل.
فالشيعة تجتهد للوصول إلى سنّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة أهل
____________
1- النساء: 82.
وأهل السنّة يجتهدون للوصول إلى سنة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة الصحابة.. والصحابة غير معصومين واختلفوا فيما بينهم، وخلطوا سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اجتهادات الصحابة.
وهذا الكتاب الماثل بين أيديكم ـ والذي اقتطفه المركز من كتاب الأُصول العامة للفقه المقارن لآية اللّه العلاّمة السيد محمد تقي الحكيم (قدس سره) ـ من البحوث القيّمة التي تناولت مسألة سنّة أهل البيت (عليهم السلام)، وبيّنت الأدلة على حجيّتها من الكتاب والسنّة النبوية والعقل..
كما قام المؤلّف (رضوان اللّه عليه) بردّ الشبهات المثارة حول هذا الموضوع، ومناقشة أقوال المخالفين، وغربلة أدلّتهم حول سنّة الصحابة وحجّيتها.
وكلّنا أمل في أن يملأ هذا البحث القيّم الفراغ الموجود في الساحة الإسلامية من جهل وتجاهل لسنّة أهل البيت (عليهم السلام)، لنرى المسلمين وقد ارتقوا بأنفسهم من المحبّة السطحية لأهل البيت (عليهم السلام) إلى اتباعهم والأخذ بسنّتهم والسير على هديهم صلوات اللّه عليهم.
مركز الأبحاث العقائدية
فارس الحسون
تمهيد:
ما يصلح للدليلية
وقد استدلّ الشيعة على حجّية سنّة أهل البيت (عليهم السلام) بأدلّة كثيرة، يصعب استعراضها جميعاً واستيفاء الحديث فيها، وحسبنا أن نعرض منها الآن نماذج لا تحتاج دلالتها إلى مقدّمات مطوية، ليسهل استيعاب الحديث فيها.
وأهم ما ذكروه من أدلّتهم على اختلافها ثلاثة: الكتاب، السنة النبوية، العقل.
والذي يهمّنا من هذه الأدلة التي عرضوها لإثبات مرادهم: هو كلّ ما دل أو رجع إلى لزوم التمسّك بهم، والرجوع إليهم، واعتبار قولهم حجة يستند إليها في مقام إثبات الواقع.
ومجرّد مدحهم والثناء عليهم من قبل الله عزوجل أو النبي (صلى الله عليه وآله) لا يكفي في اعتبار الحجية لما يصدر عنهم، وإن قربت دلالته في كتب الشيعة الكلامية بعد ذكر مقدّمات مطوية قد لا يخلو بعضها من مناقشة.
وقد سبق أن تحدّثنا فيما يشبه الموضوع مع الشاطبي عندما
____________
1- ذكر المؤلّف في كتابه الأصول العامة للفقه المقارن: 135 ـ 143 بحثاً مفصّلا عن موضوع "سنة الصحابة"، وبما أننا انتقينا بحث "سنة أهل البيت (عليهم السلام) " من كتابه المذكور ليطبع مستقلاًّ، كان من المناسب ـ وتتميماً للموضوع ـ أن نلحق به بحث "سنة الصحابة".
قال المؤلّف رضوان اللّه عليه:
يقول الشاطبي: سنة الصحابة (رض) سنة يعمل عليها ويرجع إليها، والدليل على ذلك أمور [الموافقات 4/74].
والأمور التي ذكرها لا تنهض بإثبات ما يريده، نعرضها ملّخصة:
أحدها: ثناء اللّه عليهم من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها، كقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]، وقوله: (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 142]، ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأُمم، وذلك يقضي باستقامتهم على كلّ حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية العدالة المطلقة، وذلك يدلّ على ما دلّت عليه الأُولى [الموافقات 4 / 74].
والجواب على الآية الأُولى يقع من وجوه:
أ ـ إنّ إثبات الأفضلية لهم على سائر الأُمم، كما هو مفاد أفعل التفضيل في كلمة (خَيْرَ أُمَّة) لا تستلزم الاستقامة لكلّ فرد منهم على كلّ حال، بل تكفي الاستقامة النسبية لأفرادها، فيكون معناها: أنّ هذه الأمة مثلا في مفارقات أفرادها أقل من الأمم التي سبقتها، فهي خير من هذه الناحية.
=>
____________
<=
هذا إذا لم نقل إنّ الآية إنّما فضّلتهم من جهة تشريع الأمر بالمعروف لهم والنهي عن المنكر، كما هو ظاهر تعقيبها بقوله تعالى: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، فلا تكون واردة في مقام جعل الحجية لأقوالهم أصلا.
ب ـ إنّ التفضيل الوارد فيها إنّما هو بلحاظ المجموع ـ ككل ـ لا بلحاظ تفضيل كلّ فرد منها على كلّ فرد من غيرها لنلتزم لهم بالاستقامة على كلّ حال، ولذا لا نرى أية منافاة بين هذه الآية وبين ما يدلّ ـ لو وجد ـ على تفضيل حواري عيسى مثلا على بعض غير المتورعين من الصحابة.
ج ـ إنّها واردة في مقام التفضيل لا مقام جعل الحجية لكلّ ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وتقريرات، إذ هي أجنبية عن هذه الناحية، ومع عدم إحراز كونها واردة لبيان هذه الجهة لا يمكن التمسّك بها بحال.
د ـ إنّ هذا الدليل لو تمّ، فهو أوسع من المدّعى بكثير، لكون الأمة أوسع من الصحابة، ولا يمكن الالتزام بهذا التعميم.
وقد تنبّه الشاطبي لهذا الاشكال ودفعه بقوله: ولا يقال إنّ هذا عام في الأمة، فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم، لأنا نقول: أولا ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلاّ بقياس وبدليل آخر. وثانياً على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب، فإنّهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي. وثالثاً إنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلاّ هم، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح [الموافقات 4 / 75].
ولكن هذه المناقشات لا يتضح لها وجه:
أما الأولى: فلأن اختصاص الخطاب بهم مبني على ما سبقت الإشارة إليه
=>
____________
<=
من اختصاص الحجية بخصوص المشافهين، لامتناع خطاب المعدوم، وقد تقدّم ما فيه، بالإضافة إلى أنّ هذا الاشكال لو تم فهو لا ينفع المستدل، لاختصاصه بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب، لامتناع خطاب غير الحاضر; وإذن تختص الآية بخصوص من حضروا المجلس عند نزول الآية، وليس كلّ الصحابة، على أنّ دليل المشاركة وحده كاف في التعميم.
وأما المناقشتان الثانية والثالثة: فهما واضحتا البطلان، لإنكار الأولية، والأولوية في القضاء التي يكون مساقها مساق القضية الحقيقة، لأنّ نسبتها إلى الجميع تكون نسبة واحدة من حيث الدلالة اللفظية، على أنّ أولية الدخول أو أولويته لا يستلزم صرف الخطاب إليهم وقصره عليهم، لأنّ مقتضاهما يوجب مشاركة الغير لهم في الدخول مع تأخير في الزمان أو الرتبة، فما ذكره من الاختصاص بهم من هذه الجهات لا يخلو من مؤاخذة.
ومع ثبوت التعميم لا يمكن إثبات أحكام السنة لجميع الأمة كما هو واضح.
وما يقال عن هذه الآية يقال عن الآية الثانية، فهي بالاضافة إلى هذه المؤاخذات على الاستفادة منها والغض عن تسليم إفادتها لعدالتهم جميعاً، أنّ مجرد العدالة لا يوجب كون كلّ ما يصدر عنهم من السنة، وإلاّ لعمّمنا الحكم إلى كلّ عادل، سواء كان صحابياً أم غير صحابي، لورود الحكم على العنوان كما هو الفرض، وغاية ما تقتضيه العدالة هو كونهم لا يتعمدون الخطيئة، أما مطابقة ما يصدر عنهم للأحكام الواقعية ليكون سنة فهذا أجنبي عن مفهوم العدالة تماماً.
والثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأنّ سننهم في طلب الاتباع كسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كقوله: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
=>
____________
<=
المهديين، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ..." [مسند أحمد: مسند الشاميّين ح16522]، وقوله: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة" قالوا: ومن هي يا رسول اللّه؟ قال "ما أنا عليه وأصحابي" [سنن الترمذي 5/26 ح2641]، وعنه أنّه قال: "أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلاّ به"، وعنه أيضاً: "إنّ اللّه اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلّهم خير" [مجمع الزوائد 10/16]، ويروى في بعض الأخبار: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" [لسان الميزان 2/488]، إلى غير ذلك مما في معناه [الموافقات 4/76].
والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها ـ بعد التغافل عن أسانيدها وحساب ما جاء في بعضها من الطعون أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث أصحابي كالنجوم من أنه: حديث موضوع مكذوب باطل، وقال أحمد: حديث لا يصح، وقال البزار: لا يصح هذا الكلام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ـ: أنّ هذه الروايات لايمكن الأخذ بظاهر بعضها، ولا دلالة للبعض الآخر على المدعى.
وأول ما يرد على الرواية الأولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم: استحالة صدور مضمونها من المعصوم، لاستحالة أن يعبّدنا الشارع بالمتناقضين، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الأمور لمن قرأ تاريخهم، واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث.
وحسبك أنّ سيرة الشيخين مما عرضت على الإمام علي (عليه السلام) يوم الشورى، فأبى التقيّد بها ولم يقبل الخلافة لذلك، وقبلها عثمان، وخرج عليها بإجماع المؤرخين، وفي أيام خلافة الإمام نقض كلّ ما أبرمه الخليفة عثمان،
=>
____________
<=
وخرج على سيرته، سواء في توزيع الأموال أم المناصب أم أسلوب الحكم، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة: فأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وعمر فاوت فيها، وأبو بكر كان يرى طلاق الثلاث واحداً وعمر شرّعه ثلاثاً، وعمر منع عن المتعتين ولم يمنع عنهما الخليفة الأول، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.
وعلى هذا، فأية هذه السير هي السنة؟! وهل يمكن أن تكون كلّها سنة حاكية على الواقع؟! وهل يتقبّل الواقع الواحد حكمين متناقضين؟!
وما أحسن ما ناقض الغزالي أمثال هذه الروايات بقوله: فإن من يجوّز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقوله مع جواز الخطأ؟! وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟! وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف المعصومان؟! كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه، ثلاثة أدلة قاطعة [المستصفى 1/135].
على أنّ بعض هذه الروايات أضيق من المدّعى، لأختصاصها بالخلفاء الراشدين، كالرواية الأولى، فتعميمها إلى مختلف الصحابة لا يتضح له وجه، والروايات الباقية أجنبية عن إفادة إثبات جعل الحجية لما يصدر عنهم، وغاية ما تدلّ عليه ـ لو صحت أسانيدها ـ مدحهم والثناء عليهم، والمدح والثناء لا يرتبطان بعالم جعل الحجية للممدوحين.
على أنّ هذه الروايات ـ على تقدير تمامية دلالتها ـ مخصصة بما دلّ على
=>
____________
<=
ارتداد أكثرهم:
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "بينا أنا قائم، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتّدوا بعدك على أدبارهم القهقرى; ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى; فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم" [صحيح البخاري: كتاب الرقاق، ح6099].
وفي روايته الأخرى عن سهل بن سعد قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنّي فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم"، قال أبو حازم: فسمعني النعمان أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: "فأقول: إنّهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي" [صحيح البخاري: كتاب الرقاق ح 6097، وكتاب الفتن ح 6528].
وفي روايته الثالثة عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "ليردن عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك" [صحيح البخاري: كتاب الرقاق ح6096].
إلى غير هذه الروايات مما عرضها البخاري في باب الحوض وغيره، كما عرضها غيره من أصحاب الصحاح وسائر السنن، ولا يهم عرضها، وطبيعة الجمع بين الأدلة تقتضي تقييد تلكم الأدلّة بغير المرتدين، فمع الشك في ارتداد أحد الصحابة لا يمكن التمسّك بتلكم العمومات، لعدم إحراز
=>
____________
<=
موضوعها، وهو الصحابي غير المرتد، ويكون التمسّك بها من قبيل التمسّك بالعالم في الشبهات المصداقية.
والتحقيق: أنّه لا يسوغ، لأن القضية لا تثبت موضوعها، بل تحتاج إلى إثباته من خارج نطاق الدليل.
وقد يقال: إنّ المراد بالمرتدّين هم أصحاب الردة الذي قاتلهم الخليفة أبو بكر، وهم معلومون، فلا تصل النوبة إلى الشك والتوقف عن التمسك بتلكم العمومات.
ولكن هذا الاحتمال بعيد جداً، لمنافاته بصراحة لرواية أبي هريرة السابقة التي صرحت بقولها: "فلا أراه يخلص إلاّ مثل همل النعم"، وهي أبلغ كناية عن القلّة، ومعنى ذلك أنّها حكمت على أكثرهم بالارتداد، ومعلوم أنّ هؤلاء المرتدّين الذين حاربهم الخليفة لا يشكلون إلاّ أقل القليل.
ولولا أنّنا في مقام التماس الأدلّة إلى أحكام اللّه عزّ وجل، وهو يقتضينا أن لا نترك ما نحتمل مدخليته في مقام الحجية رفعاً أو وضعاً، لكنّا في غنى عن عرض هذه الأخبار والأحاديث والتحدّث فيها.
وما يقال عن هذه الأحاديث، يقال عن آية: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ) [آل عمران: 144]، وكأن هذه الأحاديث واردة مورد التفسير لهذه الآية، ومؤكدة لتحقق مضمونها بعد وفاته.
الثالث: أنّ جمهور العلماء قدّموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا، وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلا، وبعضهم يعدّ قول الصحابة على الاطلاق حجة ودليلا، ولكل قول من هذه الأقوال متعلّق من السنة، وهذه الآراء وإن ترجّح عند العلماء خلافها
=>
____________
<=
ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلّي هو المعتمد في المسألة وذلك أنّ السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثّرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين، فتجدهم إذا عيّنوا مذاهبهم قدّموا ذكر من ذهب إليها من الصحابة، وما ذاك إلاّ لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة، وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه; وقد نقل عن الشافعي أنّ المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع من تقليد الصحابة ويمنع من غيره، وهو المنقول عنه في الصحابي: كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته؟ ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم [الموافقات 4/77].
والجواب على هذا النوع من الاستدلال: أنه أجنبي على اعتبار ما يصدر عنهم من السنة، وغاية مايدل عليه ـ لو صح ـ أنّ جمهور العلماء كانوا يرونهم في مجالات الرواية أو الرأي أوثق أو أوصل من غيرهم، والصدق والوثاقة وأصالة الرأي شيء وكون ما ينتهون إليه هو من السنة شيء آخر، وقول الشافعي الذي نقله نفسه يبعدهم عن هذا المجال، إذ كيف يمكن له أن يحج من كان قوله سنة؟! وهل يستطيع أن يقول مثل هذا الكلام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
على أنّ هذا النوع من الترجيح لأقوالهم لا يعتمد أصلا من أصول التشريع، والعلماء لم يتفقوا عليه ليشكل اتفاقهم إجماعاً يركن إليه.
الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم، وذم من أبغضهم، وأنّ من أحبهم فقد أحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنّما هو لشدّة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته
=>
ثم إنّ الأحاديث التي وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله) واستدلّوا بها على الحجية تختلف في أسانيدها، فبعضها يرجع إلى أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم، وينفرد ـ أو يكاد ـ بروايته شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وبعضها الآخر مما يتفق على روايته الشيعة وأهل السنة على السواء.
والذي يحسن أن نذكره في أحاديثنا هذه منها هو خصوص ما اتفق عليه الطرفان، ووثقوا رواته، اختصاراً لمسافة الحديث وإبعاداً لشبهة من لا يطمئن إلى غير أحاديث أرباب مذهبه، لاحتمال تحكّم بعض العوامل الشعورية أو اللاشعورية في صياغتها، وتخلّصاً من شبهة الدور التي أثارها فضيلة الأستاذ الشيخ سليم البشري في مراجعاته القيمة مع الإمام شرف الدين، فقد جاء في إحدى مراجعاته له:
____________
<=
ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة [الموافقات 4/79].
والجواب عن هذا الاستدلال أوضح من سابقه، لأنّ ما ذكره من التعليل لا يكفي لإعطائهم صفة المشرّعين أو إلحاق منزلتهم بمنزلة النبوة، وغاية ما يصوّرهم أنهم أُناس لهم مقامهم في خدمة الإسلام والالتزام بتعاليمه، ولكنه لا ينفي عنهم الخطأ أو السهو أو الغفلة; على أنّ لأرباب الجرح والتعديل حساباً مع الكثير من روايات هذا الباب، لا يهم عرضها الآن.
هذا كلّه من حيث اعتبار ما يصدر عنهم من السنة، أما جعله الحجية لأقوالهم من حيث كونهم رواة ومجتهدين فلذلك حساب آخر يأتي في موضعه في مبحث (مذهب الصحابي).
2 ـ فإن كلام أئمتكم لا يصلح لئن يكون حجة على خصومهم، والاحتجاج به في هذه المسألة دوري، كما تعلمون (1).
وربما قرب الدور بدعوى أنّ حجّية أقوال أهل البيت (عليهم السلام) موقوفة على إثبات كونها من السنة، وإثبات كونها من السنة موقوف على حجية أقوالهم، ومع إسقاط المتكرر ينتج أنّ إثبات كونها من السنة موقوف على إثبات كونها من السنة، ونظير هذا الدور ما سبق (2) أن
____________
1- المراجعات: 26، المراجعة 7.
ويحسن لكلّ مسلم أن يطلع على هذه المراجعات، فإنّ فيها من أدب المناظرة وعمق البحث ما يقلّ نظيره في هذا المجال.
2- قال المؤلّف قدّس اللّه سرّه في كتابه الأصول العامة في الفقه المقارن: 127 ـ 128: "3 ـ دلالة السنّة على حجّية نفسها: وقد استدل بها غير واحد من الأصوليين.
يقول الأستاذ سلام: كما دلّ على حجّيتها ومنزلتها من الكتاب قوله (صلى الله عليه وسلم) في حجّة الوداع: تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدها أبداً كتاب اللّه وسنة نبيّه، واقراره لمعاذ بن جبل لمّا قال: أقضي بكتاب اللّه فإن لم أجد فبسنّة رسوله [المدخل للفقه الإسلامي: 225].
ويقول الأستاذ عمر عبد اللّه وهو يعدّد أدلّته على حجّية السنة: ثانياً: إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) اعتبر السنّة دليلا من الأدلّة الشرعية ومصدراً من مصادر التشريع،
=>
ولكن الجواب عن هذا الدور هنا واضح، إذا تصورنا أنّ حجية أقوال أهل البيت (عليهم السلام) هذه لا تتوقف على كونها من السنة، وإنّما يكفي في إثبات الحجية لها كونها مروية من طريقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وصدورها عنهم باعتبارهم من الرواة الموثوقين.
وإذن يختلف الموقوف عن الموقوف عليه، فيرتفع الدور، ويكون إثبات كون ما يصدر عنهم من السنة موقوفاً على روايتهم الخاصة لا على أقوالهم كمشرّعين.
نعم، لو أُريد من أقوال الأئمة غير الرواية عن النبي، بل باعتبارها نفسها سنة، وأُريد إثبات كونها سنة بنفس الأقوال، لتحكّمت شبهة الدور ولا مدفع لها.
وعلى أيّ حال، فإنّ الذي يحسن بنا ـ متى أردنا لأنفسنا الموضوعية في بحوثنا هذه ـ أن نتجنب هذا النوع من الأحاديث، ونقتصر على خصوص ما اتفق الطرفان على روايته، ووجد في كتبهم المعتمدة لهم.
____________
<=
كما دلّ على ذلك حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول إلى اليمن [سلم الوصول: 261].
وهذا النوع من الاستدلال لا يخلو من غرابة، لوضوح لزوم الدور فيه، لأنّ حجّية هذه الأدلة موقوفة على كونها من السنة، وكون السنة حجة، فلو توقف ثبوت حجّية السنّة عليها لزم الدور.