10ـ والله لا أخذل النبي ولا | يخذله من بني ذو حسب |
11ـ وقال رحمه الله يخاطب ملك الحبشة، ويدعوه إلى الإسلام:
أتعلم ملك الحبش أن محمداً | نبياً كموسى والمسيح ابن مريم |
أتى بالهدى مثل الذي أتيا به | فكل بأمر الله يهدي ويعصم |
وإنكم تتلونه في كتابكم | بصدق حديث لا حديث الترجم |
فلا تجعلوا لله ندا فأسلموا | فإن طريق الحق ليس بمظلم |
12ـ وقال مخاطباً أخاه حمزة رحمه الله:
فصبراً أبا يعلى على دين أحمد | وكن مظهراً للدين وفقت صابراً |
وحط من أتى بالحق من عند ربه | بصدق وعزم لا تكن حمز كافراً |
فقد سرني أن قلت: إنك مؤمن | فكن لرسول الله في الله ناصراً |
وباد قريشاً في الذي قد أتيته | جهاراً، وقل: ما كان أحمد ساحراً |
13ـ نصرت الرسول رسول المليك | ببيض تلالا كلمع البروق |
أذب وأحمى رسول الإله | حماية حام عليه شفيق |
14ـ لقد علموا: أن ابننا لا مكذب | لدينا ولا نعبأ بقول الأباطل |
15ـ أقيم على نصر النبي محمد | أقاتل عنه بالقنا والقنابل |
16ـ أنت ابن آمنة النبي محمد | عندي بمثل منازل الأولاد |
17ـ ألا إن أحمد قد جاءهم | بحق ولم يأتهم بالكذب |
18ـ أوصي بنصر نبي الخير مشهده | علياً ابني وشيخ القوم عباسا |
19ـ ودعوتني وعلمت أنك صادق | ولقد صدقت وكنت ثم أميناً |
ولقد علمت بأن دين محمد | من خير أديان البرية ديناً |
وأشعار أبي طالب عليه السلام الناطقة بإيمانه كثيرة، وقد اقتصرنا منها على هذا القدر؛ لنفسح المجال لذكر لمحة عن سائر ما قيل، ويقال في هذا الموضوع.
مدائح أبي طالب عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله:
قال المعتزلي: «قلت: كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله يقول: لولا خاصة النبوة وسرها لما كان مثل أبي طالب، وهو شيخ قريش، ورئيسها، وذو شرفها، يمدح ابن أخيه محمداً وهو شاب قد ربي في حجره. وهو يتيمه ومكفوله، وجار مجرى أولاده بمثل قوله:
وتلقوا ربيع الأبطحين محمداً | على ربوة في رأس عنقاء عيطل |
وتأوي إليه هاشم إن هاشماً | عرانين كعب آخر بعد أول |
ومثل قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يطيف به الهلاك من آل هاشم | فهم عنده في نعمة وفواضل |
فإن هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع والذنابى من الناس، وإنما هو من مديح الملوك والعظماء.
فإذا تصورت: أنه شعر أبي طالب، ذاك الشيخ المبجل العظيم في النبي محمد صلى الله عليه وآله. وهو شاب مستجير به، معتصم بظله من قريش، قد رباه في حجره غلاماً، وعلى عاتقه طفلاً، وبين يديه شاباً.
كما أن قصيدته اللامية تلك التي يقول فيها:
وأبيض يستسقى.. الخ..
وهي طويلة، وكان بنو هاشم يعلمونها أطفالهم(91) فيها الكثير مما يدل على إيمانه العميق الصادق، وقد ذكرها ابن هشام وابن كثير، وغيرهم.
وهي ظاهرة الدلالة علىعظمة الرسول صلى الله عليه وآله في نفس أبي طالب عليه السلام، وهي عظمة أوجبت خضوع قلبه له صلى الله عليه وآله، وتعامله معه تعامل التابع، المؤمن المصدق، والمسرور بهذا الإيمان، والمبتهج بذلك التصديق، والملتذ بذلك الانقياد.
النار محرمة على أبي طالب عليه السلام:
ومما يدل على إيمانه ما روي عنه صلى الله عليه وآله: أن الله عز وجل قال له على لسان جبرئيل: حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك.
أما الصلب فعبد الله، وأما البطن فآمنة، وأما الحجر فعمه، يعني أبا
النبي صلى الله عليه وآله يحب عقيلاً حبين:
ومما يدل دلالة واضحة على إيمانه: حب النبي صلى الله عليه وآله إياه، حتى لقد روي عن ابن عباس؛ قال: قال علي للنبي صلى الله عليه وآله: إنك لتحب عقيلاً.
قال: إي والله إني لأحبه حبين، حباً له، وحباً لحب أبي طالب له. وإن ولده لمقتول في محبة ولدك.. الخ..(93)
ورسول الله صلى الله عليه وآله لا يحب أعداء الله سبحانه، ولا يحب إلا من يحبه الله.
كان على دين الله:
وكان الإمام علي عليه السلام يعجبه أن يروى شعر أبي طالب عليه السلام، وأن يدوَّن، وقال: تعلموه، وعلموه أولادكم، فإنه كان على دين
المسلم المؤمن:
وعن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلماً مؤمناً(95)
خلاصة جامعة:
وبعد كل ما تقدم نقول: إن إسلام أي شخص أو عدمه، إنما يستفاد من أمور أربعة:
1 ـ من مواقفه العملية، ومعلوم أن مواقف أبي طالب عليه السلام، قد بلغت الغاية التي ما بعدها غاية في الوضوح والدلالة على إخلاصه وتفانيه في الدفاع عن هذا الدين.
2 ـ من إقراراته اللسانية بالشهادتين، وقد تقدم قدر كبير من ذلك في شعره وفي غيره في المناسبات المختلفة.
3 ـ من موقف نبي الإسلام ورائد الحق الذي لا ينطق عن الهوى. والموقف الرضي هذا أيضاً ثابت منه صلى الله عليه وآله تجاه أبي طالب عليه السلام على أكمل وجه.
وقد قلنا: إنهم مجمعون على ذلك.
بل إن نفس القائلين بكفره لما لم يستطيعوا إنكار مواقفه العملية، ولا الطعن بتصريحاته اللسانية، حاولوا: أن يخدعوا العامة بكلام مبهم، لا معنى له؛ فقالوا:
«إنه لم يكن منقاداً»!!(96)
كل ذلك رجماً بالغيب، وافتراء على الحق والحقيقة، من أجل تصحيح ما رووه عن المغيرة بن شعبة وأمثاله من أعداء آل أبي طالب عليه السلام، كما سنشير إليه حين ذكر أدلتهم الواهية إن شاء الله تعالى.
رواياتهم تدل أيضاً على إيمانه:
ومن أجل أن نوفي أبا طالب عليه السلام بعض حقه، نذكر بعض ما يدل على إيمانه من الروايات التي رويت في مصادر غير الشيعة عموماً ونترك سائره، وهو يعد بالعشرات، لأن المقام لا يتسع لأكثر من أمثلة قليلة معدودة، نجملها في العناوين التالية:
النبي صلى الله عليه وآله يرجو الخير لأبي طالب عليه السلام:
قال العياص: يا رسول الله، ما ترجو لأبي طالب؛ قال: كل الخير
أبو بكر فرح بإسلام أبي طالب عليه السلام:
جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يقوده، وهو شيخ أعمى، يوم فتح مكة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا تركت الشيخ في بيته حتى نأتيه؟!
قال: أردت أن يؤجره الله. لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحاً مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك الخ(98)
والعلامة الأميني في الغدير، لا يوافق على أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله قد قال لأبي بكر: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه.
ونحن نوافقه على ذلك أيضاً، فإن الشيوخ الذين أسلموا على يديه صلى الله عليه وآله كثيرون، وكان إسلام كثير منهم أصح من إسلام أبي قحافة.
وربما تكون هذه العبارة زيادة من بعض المتزلفين، كما عودونا في أمثال هذه المناسبات.
التشهد قبل الموت:
قال المعتزلي: «روي بأسانيد كثيرة، بعضها عن العباس بن عبد المطلب، وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة: أن أبا طالب ما مات حتى قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله»(99)
وتقدم في شعره تصريحات كثيرة بذلك أيضاً.
استغفار النبي صلى الله عليه وآله لـه:
وفي المدينة حينما استسقى النبي صلى الله عليه وآله لأهلها، فجاءهم الغيث، ذكر صلى الله عليه وآله أبا طالب عليه السلام، وقال صلى الله عليه وآله:
لله در أبي طالب، لو كان حياً لقرت عينه، من ينشدنا قوله.. فأنشده الإمام علي عليه السلام من قصيدته أبياتاً فيها قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
ورسول الله صلى الله عليه وآله يستغفر لأبي طالب عليه السلام على المنبر(100)
تشيع جنازته ومراسم دفنه:
ولما مات أبو طالب عليه السلام تبع رسول الله صلى الله عليه وآله جنازته، مع أنهم يروون أن ثمة نهياً عن المشي في جنازة المشرك.
كما أنهم يروون أنه صلى الله عليه وآله أمر الإمام علياً عليه السلام بأن يغسله ويكفنه ويواريه(101)
وحين التشييع اعترض النبي الأكرم صلى الله عليه وآله نعشه، وقال: برقة وحزن وكآبة: وصلت رحماً، وجزيت خيراً يا عم، فلقد ربيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً(102)
لماذا لم يأمر بالصلاة عليه؟:
وإنما لم يأمر علياً عليه السلام بالصلاة عليه، لأن صلاة الجنازة لم تكن فرضت بعد.
ولأجل ذلك قالوا: إن خديجة لم يصل عليها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حينما توفيت، مع أنها سيدة نساء العالمين.
وقد فصلت ذلك الرواية التي رواها علي بن ميثم، عن أبيه عن جده: أنه سمع علياً عليه السلام يقول: تبع أبو طالب عبد المطلب في كل أحواله حتى خرج من الدنيا وهو على ملته، وأوصاني أن أدفنه في قبره، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فقال: اذهب فواره، وانفذ لما أمرك به.
فغسلته، وكفنته، وحملته إلى الجحون، ونبشت قبر عبد المطلب، فرفعت الصفيح عن لحده، فإذا هو موجه إلى القبلة، فحمدت الله تعالى على ذلك، ووجهت الشيخ، وأطبقت الصفيح عليهما، فأنا وصي الأوصياء وورثت خير الأنبياء.
قال ميثم: والله ما عَبَدَ علي، ولا عَبَدَ أحد من آبائه غير الله تعالى، إلى أن توفاهم الله تعالى(103)
رثاء علي عليه السلام لأبيه:
وقد رثاه ولده الإمام علي عليه السلام حينما توفي بقوله:
أبا طالب عصمة المستجير | وغيث المحول ونور الظلم |
لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ | فصلى عليك ولي النعم |
ولقاك ربك رضوانه | فقد كنت للطهر من خير عم(104) |
ولا أبو سفيان كأبي طالب عليه السلام:
وكتب أمير المؤمنين عليه السلام رسالة مطولة لمعاوية جاء فيها:
«ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق»(105)
فإذا كان أبو طالب عليه السلام كافراً وأبو سفيان مسلماً، فكيف يفضل الكافر على المسلم، ثم لا يرد عليه ذلك معاوية بن أبي سفيان؟.
ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً؛ فإن أبا سفيان هو الذي قال: «إنه لا يدري ما جنة ولا نار» كما ذكرناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم في أواخر غزوة أحد(106)
أبو طالب عليه السلام الداعية إلى الإسلام:
كما أن أبا طالب عليه السلام الذي يدعو ملك الحبشة إلى الإسلام، هو الذي دعا ولده جعفراً إلى ذلك، وأمره بأن يصل جناح ابن عمه في الصلاة(107)
وهو أيضاً الذي دعا زوجته فاطمة بنت أسد إلى الإسلام(108)
وأمر حمزة بالثبات على هذا الدين، وأظهر سروره بإسلامه ومدحه على ذلك.
وكذلك الحال بالنسبة لولده أمير المؤمنين عليه السلام.
الاعتراف بممارسة التقية:
وقد صرح أبو طالب عليه السلام في وصيته بأنه كان قد اتخذ سبيل التقية في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله قد قبله الجنان وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن. وأوصى قريشاً
موقف النبي صلى الله عليه وآله من أبي طالب عليه السلام:
ثم هناك ترحم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عليه، واستغفاره له باستمرار، وجزعه عليه عند موته(110)
ولا يصح الترحم إلا على المسلم، ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وآله لسفانة بنت حاتم الطائي: لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه(111)
أنا على دين أبي طالب عليه السلام:
وحمل محمد بن الحنفية يوم الجمل على رجل من أهل البصرة، قال: فلما غشيته قال: أنا على دين أبي طالب، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه(112)
شفاعة النبي صلى الله عليه وآله لـه:
وورد عنه صلى الله عليه وآله أيضاً قوله: إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي، وأمي، وعمي أبي طالب، وأخ لي كان في الجاهلية(113)
إقراره على زواجه بمسلمة:
وسئل الإمام السجاد عليه السلام عن إيمان أبي طالب عليه السلام، فقال:
واعجباً، إن الله نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر؛ وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات(114)
ونزول آية النهي عن الإمساك بعصم الكوافر في المدينة، لا يوجب بطلان هذه الرواية، لإمكان أن يكون النهي عن ذلك نهياً قولياً على لسانه صلى الله عليه وآله، قبل نزول القرآن.
وعدم خضوع بعض المسلمين لذلك حينئذ ربما كان لظروف معينة فرضت عليهم ذلك.
من لم يقر بإيمان أبي طالب عليه السلام:
وأخيراً، فقد كتب بعضهم يسأل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن إسلام أبي طالب عليه السلام، فإنه قد شك في ذلك، فكتب عليه السلام إليه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}(115)
وبعدها: إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار(116)
دفاع النبي صلى الله عليه وآله عن أبي طالب عليه السلام:
وسيأتي في غزوة بدر: أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لم يقبل من شهيد بدر عبيدة بن الحارث أن يعرض بعمه أبي طالب عليه السلام، ولو بمثل أن يقول: إني أولى بما قال منه.
بعد قتل الفرسان الثلاثة:
وفي بدر العظمى، وبعد قتل عتبة وشيبة والوليد، وقطع رجل عبيدة بن الحارث، حمل حمزة والإمام علي عليهما السلام عبيدة بن الحارث من المعركة، وأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وألقياه بين يديه، وإن مخ ساقه ليسيل، فاستعبر، وقال: يا رسول الله، ألست شهيداً؟!
قال: بلى، أنت أول شهيد من أهل بيتي (مما يشير إلى أنه لسوف
قال: أبو طالب، حيث يقول:
كذبتم وبيت الله يُبْزى محمد | ولما نطاعن دونه ونناضل |
ونسلمه حتى نصرع دونه | ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
فقال صلى الله عليه وآله: أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله، وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة؟!.
قال: يا رسول الله، أسخطت علي في هذه الحالة؟
قال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي، فانقبضت لذلك(117)
وبلغ عبيدة مع النبي صلى الله عليه وآله الصفراء، فمات، فدفن بها..
قالوا: ونزل في هؤلاء الستة قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ}(118)
وفي البخاري: أن أبا ذر كان يقسم: أنها نزلت فيهم(119)
ونزل في علي، وحمزة، وعبيدة أيضاً قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}(120)
وقيل: نزلت في علي وحده(121)
وثمة عدة آيات أخرى نزلت في بدر في الثناء على أمير المؤمنين عليه السلام(122) فراجع.
غضب النبي صلى الله عليه وآله لأبي طالب عليه السلام:
ونقول:
إنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله يغضب لذكر عمه، ولو بهذا النحو من التعريض المهذب، والمحدود، فماذا سيكون موقفه ممن يرمي أبا طالب عليه السلام بالشرك والكفر، ويعتبره مستحقاً للعذاب الأليم في نار الله المؤصدة؟! وفي ضحضاح من نار يغلي منه دماغه؟!
فهل تراه سوف يكون مسروراً ومرتاحاً لهذا الكلام، الذي لا سبب له إلا السياسة، وما أدراك ما السياسة؟!
وما لأحد عنده من نعمة تجزى:
ثم إننا نجد النبي صلى الله عليه وآله نفسه يقول:
«اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة»(123)
كما أنه صلى الله عليه وآله قد رد هدية حكيم بن حزام؛ لأنه كان مشركاً، قال، عبيد الله:
حسبت أنه قال: إنا لا نقبل من المشركين شيئاً، ولكن إن شئت أخذناها بالثمن(124)
ورد أيضاً هدية ملاعب الأسنة، وقال: لا أقبل هدية مشرك(125)
عن عياض المجاشعي: أنه أهدى إلى النبي هدية فأبى قبولها، وقال: إني نهيت عن زبد المشركين(126)
ولم يكن ذلك منه صلى الله عليه وآله إلا لأن قبولها يوجب احتراماً ومودة من المهدى إليه بالنسبة لمن أهدى.
ملاحظة: معالجة رواية الكشي:
إلا أن الكشي ذكر رواية تقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرد هدية على يهودي ولا نصراني»(127)
الفصل الخامس
أبو طالب عليه السلام المظلوم المفترى عليه
الأدلة الواهية:
لقد حاول الذين يشتهون إثبات كفر أبي طالب عليه السلام أن يتشبثوا بطحالب واهية زعموا: أنها أدلة، نشير ههنا إليها، فنقول:
1 ـ حديث الضحضاح:
عن أبي سعيد الخدري، أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله، وقد ذكر عنده عمه، فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه.
وحسب نص آخر: أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وآله: ما أغنيت عن عمك؟!، فوالله، كان يحوطك ويغضب لك!!.
قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار(129)
أولاً: لقد ناقش كل من الأميني والخنيزي جميع أسانيد هذه الرواية، وبيَّنا وهنها وضعفها، وتناقض نصوصها العجيب. إلى حد أن بعض الروايات تجزم بأنه قد جعل في ضحضاح من نار، وأن الشفاعة قد نفعته فعلاً..
لكن بعضها الآخر يقول: لعله تنفعه شفاعتي، فيجعل في ضحضاح يوم القيامة..
ونحن نحيل القارئ الذي يرغب في التوسع إلى ما ذكره الأميني والخنيزي في كتابيهما حول هذا الموضوع(130)
ثانياً: إنه إذا كان صلى الله عليه وآله قد نفع أبا طالب عليه السلام، وأخرجه من الدرك الأسفل إلى الضحضاح؛ فلماذا لا يتمم معروفه هذا، ويخرجه من هذا الضحضاح أيضاً؟!.
ثالثاً: لقد رووا: أن النبي صلى الله عليه وآله قد طلب من أبي طالب حين حضرته الوفاة: أن يقول كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ ليستحل له بها الشفاعة يوم القيامة، فلم يعطه إياها.
فهذا يدل على أنه قد أناط صلى الله عليه وآله مطلق الشفاعة بكلمة لا إله إلا الله(131)
رابعاً: إنهم يروون: أن الشفاعة لا تحل لمشرك. فلماذا حلت لهذا المشرك بالذات، بحيث أخرجته من الدرك الأسفل إلى الضحضاح؟(132)
خامساً: قال المعتزلي: إن الإمامية والزيدية «قالوا: وأما حديث الضحضاح، فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد، وهو المغيرة بن شعبة، وبغضه لبني هاشم، وعلي عليه السلام بالخصوص مشهور ومعلوم، وقصته وفسقه غير خاف(133)
غير أننا نقول: إنه يمكن المناقشة في ذلك بأنهم قد رووا ذلك عن غير المغيرة أيضاً، فراجع البخاري وغيره.
فلعل رواية غير المغيرة قد حدثت في وقت متأخر بهدف تكذيب الشيعة، ونقض استدلالهم، فتلقفها البخاري.
وذلك لأن من غير المعقول أن يورد الشيعة على غيرهم بذلك إن لم يكن له واقع..
سادساً: سئل الإمام الباقر عليه السلام عما يقوله الناس: إن أبا طالب في ضحضاح من نار؟
فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفة أخرى لرجح إيمانه.
ثم قال: ألم تعلموا: أن أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان يأمر أن يحج عن عبد الله، وابنه، وأبي طالب في حياته، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم(134)
سابعاً: سئل الإمام علي عليه السلام في رحبة الكوفة عن كون أبيه معذباً في النار أو لا، فقال للسائل:
مه، فض الله فاك!!، والذي بعث محمداً بالحق نبياً، لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم. أبي معذب في النار، وابنه قسيم الجنة والنار؟!(135)