مقدمه الاعداد

الحمد لله رب العالمين،و أفضل الصلاة و أتمّ التسليم على خير خلقه،محمّد و آله الطّيبين الطاهرين،لا سيما بقيّةاللّه في الأرضين،عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

الكلّ يعلم ما للأمور العقائدية من اهمّية في بناء فكرالفرد المؤمن و مبادئه،و يستتبعها وجوده الخاصّ من خلال المواقف التي يتّخذها كلّ يوم في خضمّ التيّارات والاتّجاهات الفكرية المختلفة التي تسودالعالم اليوم.

ومن تلك الأمور التي امتازت به الإمامية عن غيرها ـ تبعاً لكتاب الله وسُنّة رسوله الأ كرم صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ هو القول با لبداء.


الصفحة 8
ممّا جعل بقيّة الفرق التي لم تتّخذ مدرسة أهل البيت عليهم السلام منهجاً لها، جعلها تشنّع على الإمامية عقيدتهم هذه،تجاهلاً أو جهلاً بأدلّتهم عليها.

ولو أنّهم كلّفو أنفسهم جهداً قليلا، و بحثوا في ما كتبه علماء الإمامية في البداء و مفهومه،لوجدوا أنّ الحقّ معهم.

ولذالك انبرى علماءالإمامية للردّ على افتراءات المفترين و شبهات المبطلين، فأ ودعوا موسوعاتهم الحديثية ما ورد في البَداء من روايات عن العترة الطاهرة عليهم السلام،وكتبوا فيه فصولاً ومباحث خاصّة في كتبهم الكلامية والعقائدية و غيرها، كما أفردوا له كتباً و رسائل خاصّة، فلا يكاد يخلوأيّ كتاب أُلّف في العقائد أو الكلام ـوربما في غيرهاـ من البحث في البَداء.

فقد أحصى الشيخ آقا بزرك الطهراني ـرحمه الله ـفي موسوعته القيّمة«الذريعة» نحواً من 30 كتاباً أو رسالة مستقلّة صنّفت في هذا المجال،توضيحاً لمفهومه العقائدي و ما المراد منه،أو دفاعاً عن الاعتقاد به،وردّاً للشكوك والشبهات المحاكة حوله(1).

وإذا أضفنا إلى ما تقدّم كتبأً و رسائل أخرى قد ألّفت في نفس الموضوع،في الفترة التي تلت إتمام تأليف «الذريعة» أو

____________

(1) انظر: الذريعه 3/51ـ57 رقم 131ـ151 و 11/127رقم 790 و 26/87 رقم 419.


الصفحة 9
مما فات الشيخ الطهراني تسجيله فيها،لكان العدد المحصى غير هذا.

أمّا إذا حاولنا استقصاء ما كتب عن البداءـ كفصول و بحوث ـ ضمن الكتب المختلفة،لكان إحصاء ذلك أمراً عسيرًا.

من ذلك كلّه يظهر مدى اهتمام علمائنا بأمر البداء لدقّة مطلبه و حساسيته،و هذا ما سيتّضح من الرسالتين الآتيتين إن شاء الله تعالى.

المؤلّفان:

نحن نقف اليوم أمام عَلَمين من جهابذة أعلام علمائنا الإمامية في القرن الأخير،رضوان الله عليهم، فقد كانا مصداقاً حقيقياً لما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سأله معاوية بن عمّار قائلاً:

قلت لأبي عبدلله عليه السلام: رجل راوية لحديثكم،يبثُ ذالك في الناس، و يشدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ‏، و لعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الراوية، أيّهما أفضل ؟

قال:الراوية لحديثنا،يشدّد قلوب شيعتنا، أفضل من ألف عابد(2).

____________

(2) الكافي 1/25ح 9،و قد نقل شيخ الإسلام العلامة المجلسي ما بمعناه عن مصادر شتّى في بحارالأنوار 2/1ـ25ح 1ـ92 باب «ثواب الهداية والتعليم،و فضلهما و فضلهما، و فضل العلماء، و ذمّ إضلال الناس».


الصفحة 10
و هما:

1 ـ العلّامة المجاهد آية الله الشيخ محمّد جواد البلاغي (1282 ـ 1352 هـ)

الذي ما فتئ يقارع الفرق الباطلة و الأفكار الهدّامة،و يدكّ حصونها و يفنّد مزاعمها و مفترياتها،فبرع في ردّ كيدهم و دحض أبا طيلهم، فكان أكثر من نصف مجموع ما جاد به يراعه الشريف ـ الذي تجاوز الخمسين مصنّفاً ـ هو في مجال العقائد، و البقيّة في الفقه و الأصول و التفسير و غيرها.

فكان من الأفذاذ الذين يندر وجودهم في الأزمان ممّن حامى و ذبّ عن قدس الشريعة و المذهب؛ قدّس الله نفسه الزكية، و نوّر مرقده،و جعل الجنّة مـأواه (3).

2ـ آيةالله العظمى السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413هـ)

الذي كان نجماً لامعاً في سماء المرجعية الدينية و الحوزات العلمية، فربّى و تخرّج على يديه- في غضون أكثر من ستّين سنة من التدريس و الإفادة - مئات من العلماء و الأفاضل و المجتهدين، فصار منهم من هو مرجع تقليد للشيعة اليوم، و منهم المتخصّصين في شتّى علوم المعرفة، كفقهاء و محقّقين و باحثين و مفكّرين و خطباء و مرشدين وأساتذة

____________

(3) لمزيد الاطلاع على ترجمة - قدّس سرّه - انظر على سبيل المثال:أعيان الشيعة 4/255، نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1/323 رقم 663، الكنى و الأ لقاب 2/83 رقم 5، ا‎لأعلام 6/74.


الصفحة 11
أكفاء في الحوزات العلمية.

فهو بحقّ أستاذ الفقهاء والمجتهدين، وزعيم الحوزات العلمية، و مروّج الشريعة في العقود الأخيرة، إذ لا تكاد تجد قضيّة من القضايا أو مسأ لة من المسائل لم يكن له فيها رأي، مع الدقّة في العرض و القوه في الاستدلال والمبنى؛ قدّس الله روحه الطاهرة، و نوّر مضجعه، و جعل الجنّة مآله و مثواه (4).

الرسالتان... و منهج العمل فيهما

هما من أفضل ما كُتب في «البداء» فهما بعيدتان عن الاختصار المخلّ، والتطويل المملّ، و هما على قصرهما تغنيان الباحث عن الحق عن غيرهما، ممّا يثبت و يؤكّد منزلة المؤلفَيْن العلمية السامية، فقد كتبتا بأسلوب واضح جليّ، و بنيتا على استدلال جميل ظاهر، ولم تشحنا بالاصطلاحات العلمية و التعبيرات الغامضة التي لا يفهمها الكثيرون، و قد استقصى المؤلفان - قدّس الله سرّهما -فيهما كلّ جوانب المسألة، و لم يتركا تساؤلاً إلا وأجابا عنه بالدليل القويّ المقنع.

امّا الرسالة الْأولى،

فهي للشيخ البلاغي عطّرالله مرقده، كان قد حرّرها جواباً عن استفسار ورد إليه عن البَداء.

____________

(4) لمزيد الاطلاع على ترجمته - قدّس سرّه - انظر على سبيل المثال:معجم رجال الحديث 22/17 رقم 14697، نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1/71 رقم 164.


الصفحة 12
كانت قد نشرت لأ ول مرّة في أواسط الخمسينات من هذا القرن الميلادي، باسم:«مسألة في البداء» في آخر المجموعة الرابعة من سلسلة «نفائس المخطوطات» التي كان يصدرها في بغداد الشيخ محمّد حسن آل ياسين.

فأعدت العمل عليها بما يناسب عصرنا الحالي من الإ خراج الفنّي، مثل توزيع النصّ و الاستفادة من علامات الترقيم الحديثة، و تخريج الروايات اعتماداً على مصادرها الأ صلية، فأدرجت هذه في الهامش مع توضيحات أخرى.

أمّا تعضيدالروايات الواردة فيها بمصادر أ خرى، فقد استغنيت عنه في هذه الرسالة بما جاء منه في الرسالة الثانية، فمن لم يرو غليله إجمال الرسالة الأولى انتقل ‎إلى الثانية؛ لأ نّها أكثر تفصيلاً.

إذ أنّني لم اقدّم الأ ولى على الثانية إلا لأنّها أقدم تاريخاً، و أصغر حجماً؛ ولأنّ الشيخ البلاغي كان أستاذ السيّد الخوئي في علم الكلام، رحمهما الله رحمة واسعة.

امّا الرسالة الثانية

، فهي احدى فصول كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي طيب الله مضجعه، تحت عنوان: «البداء في التكوين» كتبه استطراداً لمبحث «النسخ في التشريع» فاستللتها منه، و أعدت العمل عليها كما مرَّ آنفا.

وقد تصرّفت بالفقرة التي سبقت تمهيد السيّد الخوئي بما يناسب جعل الفصل المستلّ كرسا لة مستقلّة، و وضعت


الصفحة 13
ذلك بين معقوفتين ‎[ ].

كما أعدت ترتيب و صياغة التخريجات في هوامشها، إذ ربما نقل السيّد الخوئي - قدس سره - الرواية بالواسطة لا من المصدر الأصلي، و ذلك بإ حالتها على مصادرها الأ صلية أوّلاً، و أثبتّ ما تضمّنته من اختلافات، و من ثمّ ألحقت بها المصادر الوسيطة، كالجوامع الحديثية: بحار الأنوار و الوافي، واعتمدت في ذلك كلّه على الطبعات الجديدة للمصادر؛ لأنها أكثر تداولاً، و أيسر تناولاً.

وأبقيت على التخريجات القديمة كما هي، التي ربما اعتمد فيها السيد الخوئي على الطبعات الحجرية، و جعلتها بين قوسين () محافظة على الأصل من ناحية، و ليستفيد منها من يمتلك تلك الطبعات من المصادر من نا حية أخرى؛ و ليكون الجمع أتم و أكمل، كما إنّني لم أدقّق في صحّة هذه التخريجات، لعدم توفّر تلك الطبعات لديّ، و لذلك لم أدرجها في قائمة المصادر، كما وقد أشرت في الهامش إلى ما كان منقولاً منه بالواسطة.

كما أدرجت تخريجات الآيات الكريمة في الهامش بدلاً عن إلحاقها بها في المتن كما كانت عليه في السابق.

ثمّ انّ السيد الخوئي كان قدأحال على ثلاث تعليقات في آخر كتابه، فأدرجتها في محالّها من الهامش.

كما أضفت بعض الهوامش التوضيحية، فما كان منه


الصفحة 14
مستقلاً ألحقت به حرف (م) وما كان منه ملحقاً بالهامش الأصلي جعلته بين معقوفتين‎[ ‎] وألحقت به حرف(م) أيضاً، ليعلم أنّه ممّا ليس في الأصل، فهو مضاف مزيد، أمّا ما كان في ثنايا الهامش فاكتفيت بجعله بين المعقوفتين [ ‎] لتميّز عمّا كان في الأصل.

فكل ما في الهوامش هو منه قدّس سره، إلا ما كان بين معقوفتين [ ] أو ملحقاً به حرف (م).. فأصبحت الهوامش هي هي، و هي غيرها.

في الختام:

ما كان عملي هذا إلا خدمة للحقّ ابتغاء مرضاة الله تبارك و تعالى، و ما هو إلا من منّه وفضله، عسى الله أن ينفع به، فهو وليّ ذلك، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

والحمد لله اوّلاً و آخراً

9 ربيع الاول 1414 هـ
ذكرى اليوم الاول من إمامة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف
محمد علي الحكيم /قم المشرّفة