القســم الثـاني
في ما ورد من السـجود
على غير الأرض من دون أيّ عذر
1 ـ أنـس بـن مالـك: أنّ جـدّتـه مُلَـيْـكـة دعـت رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لطعام صنعته له فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأُصلّي لكم.
قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسـودّ من طول ما لُبس، فنضحته بماء.
فقام رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصففتُ، واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا.. الحديث.
أخرجه البخاري في صحيحه(1).
وفي صـحيـح النسـائي بلفـظ: إنّ أُمّ سُـلَيم(2) سـألت
____________
1- صحيح البخاري 1 / 171 ح 46، وانظر: سنن النسائي 2 / 85 ـ 86.
2- هي: أُمّ سُلَيم بنت مِلْحان بن خالد بن زيد بن النجّار، الأنصارية الخزرجية النجّارية، وهي أُمّ أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد اشتهرت بكنيتها، وقد اختُلف في اسمها، فقيل: سَهْلة، وقيل: رُمَيلة، وقيل: رُمَيثة، وقيل: مُلَيكة، وقيل: أُنَيفة، وقيل: الغُمَيصاء، وقيل: الرُمَيصاء.
كانت تغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت من عاقلات النساء وفضلياتهنّ.
تزوّجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت له أنساً، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات بها، فتزوّجت بعده أبا طلحة الأنصاري وولدت له.
روت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وروى عنها ابنها أنس بن مالك، وعبـد الله ابن عبّـاس، وعمرو بن عاصم الأنصاري، وزيد بن ثابت، وآخرون.
روى لها الجماعة سوى ابن ماجة.
انظر: أُسد الغابة 6 / 345 رقم 7471، الإصابة في تمييز الصحابة 8 / 227 رقم 12073، الاستيعاب 4 / 1940 رقم 4163، تهذيب الكمال 22 / 474 رقم 8572.
وفى لفظ ابن ماجة في سـننه، قال: صنع بعض عمومتي للنبيّ طعاماً، فقال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي أُحبّ أن تأكل في بيتي وتصلّي فيه.
قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكُنس ورُشّ، فصلّى وصلّينا معه.
فقـال: قال أبو عبـد الله ابن ماجة: الفحل هو الحصير
____________
1- سـنن النسـائي 2 / 56 ـ 57.
وفي سـنن البيهقي: كان رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقيل(2) عنـد أُمّ سُـلَيم، فتبسـط له نطعاً(3)، فتأخذ من عرقه فتجعله في طيبها، وتبسـط له الخُمرة ويصلّي عليها(4).
وفي السـنن [ أيضاً ] بلفط: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحسـن الناس خُلقاً، فربّما تحضره الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبسـاط الذي تحته فيكنس، ثمّ ينضح، ثمّ يقوم فنقوم خلفه فيصلّي بنا.
قال: وكان بسـاطهم من جريد النخل(5).
وفيه أيضاً بلفظ: إنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل بيتاً فيه فحل، فكُسـح ناحية منه ورُشّ فصلّى عليه(6).
قال في هامش السـنن: الفحل: حصير معمول من سـعف
____________
1- سـنن ابن ماجة 1 / 249 ـ 250 ح 756، وانظر: مصنّف ابن أبي شيبة 1 / 435 ح 6.
2- مِن: قال يقيل قيلولة، نام في القائلة، أي منتصف النهار، والقيلولة أيضاً: الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم ; انظر: لسان العرب 11 / 374 مادّة " قيل ".
3- النطع: بالكسر وبالفتح وبالتحريك: بساط من الأديم ; انظر: تاج العروس 11 / 482 مادّة " نطع ".
4- السـنن الكبرى 2 / 421.
5- السـنن الكبرى 2 / 436.
6- السـنن الكبرى 2 / 436.
وأخرجه الترمذي في الصحيح ـ ملخّصاً ـ عن أنس، قال: نضح بسـاط لنا فصلّى عليه(1).
2 ـ ابن عبّـاس: كان رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخُمرة(2).
قال الإمام ابن العربي المالكي: الخُمرة حصير الصلاة(3).
3 ـ أبو سـعيد الخدري: أنّه دخل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فرأيته يصلّي على حصير يسـجد عليه(4).
4 ـ ميمونة أُمّ المؤمنين: كان رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي وأنا حذاءه، وربّما أصابني ثوبه إذا سـجد، وكان يصلّي على خُمرة(5).
____________
1- سـنن الترمذي 2 / 154 ح 333.
2- سـنن الترمذي 2 / 151 ح 331، وانظر: مسند أحمد 1 / 269.
3- عارضة الأحوذي 1 / 360.
4- صحيح مسـلم 2 / 62 و 128، وانظر أيضاً: سـنن ابن ماجة 1 / 328 ح 1029، سـنن الترمذي 2 / 153 ح 53.
5- صحيح البخاري 1 / 171 ح 45، صحيح مسـلم 2 / 128، سـنن ابن ماجة 1 / 328 ح 1028، سـنن النسـائي 2 / 57، السـنن الكبرى 2 / 421.
5 ـ ابن عمر: كان رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخُمرة ويسـجد عليها.
أخرجه الطبراني في الكبير والأوسـط(2).
6 ـ أُمّ سـلمة أُمّ المؤمنين: كان لرسـول الله حصير وخُمرة يصلّي عليهما.
أخرجه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسـط ; ورجال أبي يعلى رجال الصحيح(3).
وعن أُمّ حبيـبة، مثله صحيحاً، كما في المجمع(4).
7 ـ أنس: كان رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخُمرة
____________
1- صحيح مسـلم 1 / 168.
2- المعجم الكبـير 24 / 8 ح 6 و 7، المعجم الأوسط 2 / 211 ح 1683 و ج 4 / 489 ح 4260 و ج 8 / 123 ح 8036، وانظر: مصنّف ابن أبي شيبة 1 / 435 ح 7.
3- مسند أبي يعلى 12 / 311 ح 6884 و ص 448 ح 7018، المعجم الكبير 23 / 351 ح 821 و 822، المعجم الأوسط 6 / 366 ح 6436.
4- مجمع الزوائد 2 / 57.
أخرجه الطبراني في الأوسـط والصغير بأسـانيد بعضها صحيح ; رجاله ثقات كما في المجمع(1).
____________
1- المعجم الأوسـط 9 / 22 ح 8835، المعجم الصغير 2 / 253 وفيه: " إنّه صلّى على الحصير "، مجمع الزوائد 2 / 57.
القسـم الثالـث
في ما ورد من السـجود
على غير الأرض لعذر
1 ـ أنس بن مالك: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يسـتطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض من شـدّة الحرّ، طرح ثوبه، ثمّ سـجد عليه(1).
وفي لفظ البخاري: كنّا نصلّي مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيضع أحدنا طرف الثوب من شـدّة الحرّ في مكان السـجود(2).
وفي لفظ مسـلم: كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شـدّة الحرّ، فإذا لم يسـتطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسـط ثوبه فسـجد عليه(3).
وفي لفظ: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيضع أحدنا
____________
1- السنن الكبرى 2 / 106.
2- صحيح البخاري 1 / 173 ح 51 و ج 2 / 143 ح 220.
3- صحيح مسـلم 2 / 109، وانظر: سنن ابن ماجة 1 / 329 ح 1033، وفيه: " لم يقدر " بدل " ولم يستطع "، سنن أبي داود 1 / 174 ح 660، مصّنف ابن أبي شيبة 1 / 301 ح 3، السنن الكبرى 2 / 106، نيل الأوطار 2 / 269 ـ 27.
قال الشـوكاني في " النيل ": الحديث يدلّ على جواز السـجود على الثياب لاتّقاء حرّ الأرض، وفيه إشـارة إلى أنّ مباشـرة الأرض عند السـجود هي الأصل، لتعليق بسـط ثوب بعدم الاسـتطاعة، وقد اسـتدلّ بالحديث على جواز السـجود على الثوب المتّصل بالمصلّي ; قال النووي: وبه قال أبو حنيفة، والجمهور(2).
2 ـ أنس بن مالك: كنّا إذا صلّينا خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بالظهائر سـجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ.
أخرجه ابن ماجة في صحيحه(3).
وقال الإمام السـندي في شـرحه: " الظهائر " جمع ظهيرة ; وهي شـدّة الحرّ نصف النهار.. " سـجدنا على ثيابنا " الظاهر أنّها الثياب التي هم لابسـوها، ضرورة أنّ الثياب في ذلك الوقت قليلة، فمن أين لهم ثياب فاضلة؟! فهذا يدلّ على جواز أن يسـجد المصلّي على ثوب هو لابسـه كما عليه الجمهور(4).
____________
1- السنن الكبرى 2 / 106.
2- نيل الأوطار 2 / 270.
3- سـنن ابن ماجة، وانظر صحيح البخاري 1 / 228 ح 19، سـنن النسـائي 2 / 216.
4- حاشية السندي ـ المطبوع مع سنن النسائي ـ 2 / 216 ـ 217.
وأخرج البخاري في الصحيح، في باب السـجود على الثوب في شـدّة الحرّ: وقال الحسـن: كان القوم يسـجدون على العمامة والقلنسـوة ويداه في كـمّه(2).
____________
1- مسند أبي يعلى 4 / 335 ح 2448، المعجم الكبير 11 / 84 ح 11178.
2- صحيح البخاري 1 / 172.
لفــت نظــر
هناك حديث حمله الفقهاء على هذه الصورة أيضاً، مع أنّه ليس فيه ذِكر عن السـجدة على الثوب! ألا وهو:
عن ابن عبّـاس: رأيت رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي في كسـاء أبيض في غداة باردة، يتّقي بالكسـاء برد الأرض بيده ورجله(1).
وفي لفظ أحمد: لقد رأيت رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم مطير وهو يتّقي الطين إذا سـجد بكسـاء عليه يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سـجد(2).
وعن ثابت بن صامت: أنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام يصلّي في مسـجد بني عبـد الأشـهل، وعليه كسـاء ملتفٌّ به، يضع يده عليه يقيه برد الحصا(3).
وفي لفظ: رأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سـجد(4).
____________
1- السنن الكبرى 2 / 108.
2- مسند أحمد 1 / 265، وانظر أيضاً: جامع المسانيد والسنن ـ لابن كثير ـ 31 / 349 ح 2072، نيل الأوطار 2 / 271.
3- السنن الكبرى 2 / 108.
4- نيل الأوطار 2 / 271.
قال الشـوكاني في " نيل الأوطار ": الحديث يدلّ على جواز الاتّقاء بطرف الثوب الذي على المصلّي ولكن للعذر، أمّا عذر المطر ـ كما في الحديث ـ أو الحرّ والبرد ـ كما في رواية ابن أبي شـيبة ـ، وهذا الحديث مصرّح بأنّ الكسـاء الذي سـجد عليه كان متّصلا به(2).
ونحن لم نر هذا الحمل في محلّه، إذ الحديث لا يدلّ بظاهره إلاّ على اتّقاء رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكسـاء برد الأرض بيده ورجله فحسـب، وليس فيه إيعاز قطّ إلى السـجدة والجبهة، وسـبيله سـبيل حديث السـيّدة عائشـة: كان رسـول الله إذا صلّى لا يضع تحت قدميه شـيئاً إلاّ أنّا مُطرنا يوماً فوضع تحت قدمه نطعاً(3).
وهناك مرفوعة أخرجها أحمد في " المسـند " عن محمّـد ابن ربيعة، عن يونس بن الحارث الطائفي، عن أبي عون، عن
____________
1- سـنن ابن ماجة 1 /328 ـ 229 ح 1031، وانظر: السـنن الكبرى 2 / 108.
2- نيل الأوطار 2 / 271.
3- المعجم الأوسـط 6 / 112 ح 5777، سـنن البيهقي 2 / 436، مجمع الزوائد 2 / 57.
والإسناد ضعيف بالمرّة، وبمثله لا يستدلّ في الأحكام..
فيه: يونس بن الحارث(2):
قال أحمد: أحاديثه مضطربة.
وقال عبـد الله بن أحمد: سـألته عنه مرّة أُخرى، فضعّفه.
وعن ابن معين: لا شـيء.
وقال أبو حاتم: ليس بقوي.
وقال النسـائي: ضعيف.
وقال مرّةً: ليس بالقوي.
وقال ابن أبي شـيبة: سـألت ابن معين عنه فقال: كنّا نضعّفه ضعفاً شـديداً.
وقال السـاجي: ضعيف، إلاّ أنّه لا يُتّهم بالكذب.
وفيه: أبو عون عبيـد الله بن سـعيد الثقفي الكوفي:
قال أبو حاتم في " الجرح والتعـديل " لابنه: هو مجهـول(3).
____________
1- مسـند أحمد 4 / 254، وانظر أيضاً: سـنن أبي داود 1 /174 ح 659، السـنن الكبرى 2 / 420.
2- انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 9 / 458 رقم 8185.
3- الجرح والتعديل 5 / 316 ـ 317 رقم 1505.
على أنّ متن المرفوعة سـاكت عن السـجدة وحكمها، والملازمة بين الصلاة على الفروة والسـجدة عليها منتفية.
____________
1- تهذيب التهدذيب 5 / 379 ـ 380 رقم 4427.
القـول الفصـل
هذا تمام ما ورد في الصحاح والمسـانيد ـ مرفوعاً وموقوفاً ـ في ما يجوز السـجود عليه برمّته، ولم يبق هناك حديث لم نذكره، وهي تدلّ بنصّها على أنّ الأصل في ذلك لدى القدرة والإمكان الأرضُ كلّها، ويتبعها المصنوع ممّا ينبت منها، أخذاً بأحاديث الخُمرة والفحل والحصير والبسـاط، ولا مندوحة عنها عند فقدان العذر.
وأمّا في حال العذر وعدم التمكّن منها، فيجوز السـجود على الثوب المتّصل دون المنفصل، لعدم ذِكره في السُـنّة.
وأمّا السـجدة على الفراش والسـجّاد والبسـط المنسـوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها والثوب المنفصل، فلا دليل يسـوّغها قطّ، ولم يرد في السُـنّة أيّ مستند لجوازها.
وهـذه الصحـاح السـتّة وهي تتكـفّل بيان أحكام الدين، ولا سـيّما الصلاة التي هي عماده، لم يوجد فيها ولا حديث واحد، ولا كلمة إيماء وإيعاز إلى جواز ذلك.
وكذلك بقية أُصول الحديث من المسـانيد والسـنن، المؤلّفة في القرون الأُولى الثلاثة، ليس فيها أيّ أثر يمكننا
فالقول بجواز السـجود على الفرش والسـجّاد، والالتزام بذلك، وافتراش المسـاجد بها للسـجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة، وأمر محدَث غير مشـروع، يخالف سُـنّة الله وسُـنّة رسـوله، ولن تجد لسُـنّة الله تحويلا.
وقد أخرج الحافظ الكبير الثقة أبو بكر ابن أبي شـيبة بإسـناده في " المصنّف " في المجلّد الثاني، عن سـعيد بن المسـيّب وعن محمّـد بن سـيرين، أنّ الصلاة على الطنفسـة محـدَث(1).
وقد صحّ عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " شـرّ الأُمور محدَثاتها، وكلّ محدَثة بدعة "(2).
____________
1- المصنّف 1 / 438 ح 1 و 2.
2- صحيح مسلم 3 / 11، مسند أحمد 3 / 319 و 371، السنن الكبرى 3 / 207 و 213 و 214، المعجم الأوسط 9 / 269 ح 9418، مجمع الزوائد 1 / 171.
الســـجـدة
علـى تربـة كربـلاء
السـجدة على تربة كربـلاء
هـذا، وأمّا السـجدة على تربة كربلاء واتّخاذها مسـجداً، فإنّ الغاية المتوخّاة منها ـ للشـيعة ـ إنّما هي تسـتند إلى أصلين قويمَين، وتتوقّف على أمرين قـيّمَين:
أوّلهما:
اسـتحسـان اتّخاذ المصلّي لنفسـه تربة طاهرة طيّبة يتيقّن بطهارتها، من أيّ أرض أُخذت، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها ذات شـرع سـواء سـواسـية، لا امتياز لإحداهنّ على الأُخرى في جواز السـجود عليها.
وإنْ هو إلاّ كرعاية المصلّي طهارة جسـده وملبسـه ومصلاّه، يتّخذ المسـلم لنفسـه صعيداً طيّباً يسـجد عليه في حلّه وترحاله، وفي حضره وسـفره، ولا سـيّما في السـفر، إذ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ويتّخذها مسـجداً لا تتأتّى له في كلّ موضع من المدن، والرسـاتيق، والفنادق، والخانات، وباحات النزل، والسـاحات، ومحالّ المسـافرين، ومحطّات وسـائل السـير والسـفر، ومهابط فئات الركاب، ومنازل الغرباء،
فأيّ وازع من أن يسـتحيط المسـلم في دينه، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها، يسـجد عليها لدى صلاته، حـذراً مـن السـجدة على الرجاسـة والنجاسـة والأوسـاخ التـي لا يتقرّب بها إلى الله قـطّ، ولا تجـوّز السُـنّة السـجود عليهـا، ولا يقبله العقل السـليم بعد ذلك التأكيد التامّ البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسـه، والنهي عن الصلاة في مواطن، منها: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمّام، ومعاطن الإبل(1)، والأمر بتطهير المسـاجد وتطييبها(2)؟!
وكأنّ هذه النظرة الصائبة القيّمة الدينية كانت متّخذة لدى رجال الورع من فقهاء السـلف في القرون الأُولى.
____________
1- سنن الترمذي 2 / 131 ح 317، سنن أبي داود 1 / 129 ح 49 و ص 130 ح 492 و 493، سـنن ابن ماجة 1 / 246 ح 745 ـ 747 و ص 252 ـ 253 ح 768 ـ 770 و ج 2 / 131 ح 317، مسند أحمد 3 / 83 و 96 و ج 4 / 86 و ص 303، مصنّف ابن أبي شـيبة 1 / 421 ح 1 ـ 8 و ص 422 ح 14 و 17 و 18، سنن النسائي 2 / 56، السنن الكبرى 2 / 435 و ص 448 ـ 449، فتح الباري 1 / 696، مجمع الزوائد 2 / 26، كنز العمّال 7 / 339 ح 19166 و ص 342 ـ 343 ح 19181 ـ 19187 و ص 345 ح 19198.
2- سـنن ابن ماجة 1 / 250 ح 757 ـ 760.
فأخرج بإسـنادين أنّ مسـروقاً كان إذا سـافر حمل معه في السـفينة لبنة يسـجد عليها(2).
هذا هو الأصل الأوّل لدى الشـيعة، وله سـابقة قدم منذ يوم الصحابة الأوّلين التابعين لهم بإحسـان.
____________
1- مسروق بن الأجدع عبـد الرحمن بن مالك الهمداني، أبو عائشة، المتوفّى 62، تابعي عظيم، من رجال الصحاح السـتّة، يروي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، كان فقيهاً عابداً، ثقة صالحاً، كان في أصحاب ابن مسعود الّذين كانوا يعلّمون الناس السُـنّة، وقال حين حضره الموت ـ كما جاء في طبقات ابن سعد ـ: اللّهمّ لا أموت على أمر لم يسـنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر ولا عمر.
راجع: التاريخ الكبيـر 4 ق 2 / 35، الطبقات الكبرى 6 / 565، الجرح والتعديل ـ لابن أبي حاتم ـ 4 ق 1 / 396، تهذيب التهذيب 10 / 109 ـ 111.
وانظر: تهذيب الكمال 18 / 45 ـ 48 رقم 6493، سير أعلام النبلاء 4 / 63 ـ 69 رقم 17، تهذيب التهذيب 8 / 133 ـ 134 رقم 6873، الثقات 5 / 456.
2- المصنّف 2 / 172 ح 1 و 3.
وأمّا الأصل الثاني:
فإنّ قاعدة الاعتبار المطّردة تقتضي التفاضـل بين الأراضي، بعضها على بعض، وتسـتدعي اختلاف الآثار والشـؤون والنظرات فيها، وهذا أمر طبيعي عقلي متسـالم عليه، مطّرد بين الأُمم طرّاً، لدى الحكومات والسـلطات والملوك العالمية برمّتهم، إذ بالإضافات والنِسَـب تُقبل الأراضي والأماكن والبقاع خاصة، ومزيّة بها تجري عليها مقرّرات، وتنتزع منها أحكام لا يجوز التعدّي والصفح عنها.
ألا ترى أنّ المسـتقلاّت، والسـاحات، والقاعات، والدور، والدوائر الرسـمية المضافة إلى الحكومات، وبالأخصّ ما ينسـب منها إلى البلاط الملكي، ويعرف باسـم عاهل البلاد وشـخصه، لها شـأن خاصّ، وحكم ينفرد بها، يجب للشـعب رعايته، والجري على ما صدر فيها من قانون.
فكذلك الأمر بالنسـبة إلى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسـوبة إلى الله تعالى، فإنّ لها شـؤوناً خاصة، وأحكاماً وطقوسـاً، ولوازم وروابط لا مناص ولا بُـدّ لمن أسـلم وجهه لله من أن يراعيها، ويراقبها، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسـلام من القيام بواجبها والتحفّظ عليها،
فبهذا الاعتبار المطّرد العامّ المتسـالم عليه انتُزع للكعبة حكمها الخاصّ، وللحرم شـأنّ يُخصّ به، وللمسـجدين الشـريفين ـ جامع مكّة والمدينة ـ أحكامهما الخاصة بهما، وللمسـاجد العامة والمعابد والصوامع والبِيَع التي يُذكر فيها اسـم الله، في الحرمة والكرامة، والتطهير والتنجيس، ومنع دخول الجنب والحائض والنفسـاء عليها، والنهي عن بيعها نهياً باتاً نهائياً من دون تصوّر أيّ مسـوّغ لذلك قطّ، خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامّة التي لها صور مسـوّغة لبيعها وتبديلها بالأحسـن، إلى أحكام وحدود أُخرى منتزعة من اعتبار الإضافة إلى ملك الملوك، ربّ العالمين.
فاتّخاذ مكّة المكرّمة حرماً آمناً، وتوجيه الخلق إليها، وحجّهم إليها من كلّ فجّ عميق، وإيجاب كلّ تلكم النُسُـك وجعل كلّ تلكم الأحكام، حتّى بالنسـبة إلى نبتها وأبّها، إنْ هي إلاّ آثار الإضافة، ومقرّرات تحقّق ذلك الاعتبار، واختيار الله إيّاها له من بين الأراضي.
وكذلك عدّ المدينة المنوّرة حرماً إلهياً محترماً، وجعل كلّ تلكم الحرمات الواردة في السُـنّة الشـريفة لها، وفي أهلها وتربتها، ومن حلّ بها، ومن دفن فيها، إنّما هي لاعتبار ما فيها من الإضافة والنسـبة إلى الله تعالى، وكونها عاصمة عرش نبيّه
وهذا الاعتبار وقانون الإضافة، كما لا يُخَصّ بالشـرع فحسـب، بل هو أمـر طبيعي أقرّ الإسـلام الجري عليـه..
كذلك لا ينحصر هو بمفاضلة الأراضي، وإنّما هو أصل مطّرد في باب المفاضلة في مواضيعها العامّة، من الأنبياء، والرسـل، والأوصياء، والأولياء، والصدّيقين، والشـهداء، وأفراد المؤمنين وأصنافهم.. إلى كلّ ما يتصوّر له فضل على غيره لدى الإسـلام المقـدّس.
بل هذا الأصل هو محور دائرة الوجود، وبه قوام كلّ شـيء، وإليه تنتهي الرغبات في الأُمور، ومنه تتولّد الصلات والمحبّات، والعلائق والروابط، وتتولّد عوامل البغض والعداء والشـحناء والضغائن.
وهو أصل كلّ خلاف وشـقاق ونفاق.
كما إنّه أسـاس كلّ وحدة واتّحاد وتسـالم ووئام وسـلام.
وعليه تبنى صروح الكلّيات، وتتمهّد المعاهـد الاجتماعية.
وفي أثره تشـكَّل الدول، وتختلف الحكومات، وتحدث المنافسـات والمشـاغبات والتنازع والتلاكم والمعارك والحروب الدامية.