الباب الرابع والأربعون
فيما أجاب به الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان في الجواب عن الاعتراض في الغيبة، ولم يرتض الجواب الشيخ علي بن عيسى في كتاب كشف الغمة، وذكر الكلامين قال الشيخ الفاضل علي بن عيسى (رحمه الله) في كتاب كشف الغمة: قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان وقد تقدمت الأحاديث المنقولة من كتابه هذا قال في آخر الباب الخامس والعشرون وهو آخر الأبواب في الدلالة على كون المهدي حيا باقيا منذ غيبته إلى الآن: (ولا امتناع في بقائه (عليه السلام) بدليل بقاء عيسى والخضر والياس (عليهم السلام) وبقاء الدجال وإبليس اللعين من أعداء الله، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنة وقد اتفقوا على ذلك ثم أنكروا بقاء المهدي (عليه السلام) لوجهين:
أحدهما طول الزمان، والثاني أنه في سرداب من غير أن يقوم أحد بطعامه وشرابه، وهذا مما لا يبقى به الإنسان عادة)(1).
قال مؤلف هذا الكتاب محمد بن يوسف بن محمد الكنجي: بعون الله نبتدئ، أما عيسى (عليه السلام) والدليل على بقائه من الكتاب قوله تعالى: *(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)*(2) ولم يؤمن به أحد مذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا فلا بد أن يكون ذلك في آخر الزمان، وأما السنة فما رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب بإسناده عن النواس بن سمعان في حديث طويل في قصة الدجال قال: فينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين(3)، وأيضا ما تقدم من قوله (صلى الله عليه وآله): " كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم "(4).
وأما الخضر وإلياس فقد قال ابن جرير الطبري: الخضر والياس باقيان يسيران في الأرض، وأيضا فما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي (صلى الله عليه وآله) حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا " يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي
____________
(1) كفاية الطالب: 521.
(2) النساء: 159.
(3) صحيح مسلم 8 / 198.
(4) مسند أحمد 2 / 272.
وأما الدليل على بقاء الدجال فإنه أورد حديث تميم الداري والجساسة الدابة التي تكلمهم وهو حديث صحيح ذكره مسلم في صحيحه(2) وقال: هذا حديث صحيح في بقاء الدجال قال، وأما الدليل على بقاء إبليس اللعين فآي الكتاب العزيز نحو قوله تعالى: *(قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين)*(3) وأما بقاء المهدي (عليه السلام) فقد جاء في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال سعيد بن جبير في قوله تعالى: *(ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)*(4) قال: هو المهدي (عليه السلام) من عترة فاطمة (عليها السلام).
وأما من قال أنه عيسى (عليه السلام) فلا تنافي بين القولين إذ هو مساعد للإمام (عليه السلام) على ما تقدم.
وقد قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسرين في تفسير قوله تعالى: *(وإنه لعلم للساعة)*(5) قال: هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وأماراتها.
وأما الجواب عن طول الزمان فمن حيث النص والمعنى، أما النص فما تقدم من الأخبار على أنه لا بد من وجود الثلاثة في آخر الزمان وأنهم ليس فيهم متبوع غير المهدي (عليه السلام) بدليل أنه إمام الأئمة في آخر الزمان وأن عيسى (عليه السلام) يصلي خلفه كما ورد في الصحاح ويصدقه في دعواه، والثالث هو الدجال اللعين، وقد ثبت أنه حي موجود.
وأما المعنى في بقائهم فلا يخلو من أحد قسمين أما أن يكون بقاؤهم داخلا في مقدور الله تعالى أو لا يكون، ويستحيل أن يخرج بقاؤهم عن مقدور الله تعالى لأن من بدأ الخلق من غير شئ وأفناه ثم يعيده بعد الفناء لا بد أن يكون البقاء في مقدوره، ثم اختيار البقاء لا يخلو من قسمين: أما أن يكون راجعا إلى اختياره تعالى أو اختيار الأمة، ولا يجوز أن يكون راجعا إلى اختيار الأمة، لأنه لو صح ذلك لجاز لأحدنا أن يختار البقاء لنفسه ولولده وذلك غير حاصل لنا ولا داخل تحت مقدورنا،
____________
(1) صحيح مسلم 8 / 199.
(2) صحيح مسلم 8: 205.
(3) الأعراف: 14 - 15.
(4) التوبة: 33.
(5) الزخرف: 61.
وأما سبب بقاء عيسى (عليه السلام) فلقوله تعالى: *(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)*(1) ولم يؤمن به منذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا أحد، فلا بد أن يكون هذا في آخر الزمان.
وأما الدجال اللعين فلقوله (صلى الله عليه وآله): " إنه خارج منكم الأعور الدجال وإن معه جبال من خبز تسير معه " إلى غير ذلك من علاماته فلا بد أن يكون ذلك في آخر الزمان لا محالة، وأما الإمام المهدي (عليه السلام) مذ غيبته عن الأبصار إلى يومنا هذا لم يملأ الأرض قسطا وعدلا كما تقدمت الأخبار في ذلك فلا بد أن يكون ذلك مشروطا آخر الزمان فقد صارت هذه الأسباب لاستيفاء الأجل المعلوم فعلى هذا اتفقت أسباب بقاء الثلاثة لصحة أمر معلوم وهما صالحان نبي وإمام، وطالح وهو الدجال، وقد تقدمت الأخبار من الصحاح بما ذكرناه في صحة بقاء الدجال مع صحة بقاء عيسى (عليه السلام)، فما المانع من بقاء المهدي مع كون بقائه باختيار الله تعالى وداخلا تحت مقدوره وهو آية الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فعلى هذا هو أولى بالبقاء من الاثنين الآخرين لأنه إذا بقي المهدي كان إماما آخر الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا كما تقدمت الأخبار، فيكون بقاؤه مصلحة للمكلفين ولطفا لهم من عند الله تعالى، بخلاف الدجال فإن في بقائه مفسدة لادعائه الربوبية على ما ذكر وفتكه بالأمة ولكن في بقائه ابتلاء من الله تعالى ليعلم المطيع منهم من العاصي والمحسن من المسئ والمصلح من المفسد، وهذا هو الحكمة في بقاء الدجال.
وأما بقاء عيسى (عليه السلام) فهو سبب إيمان أهل الكتاب للآية والتصديق بنبوة سيد الأنبياء محمد خاتم الأنبياء رسول رب العالمين، ويكون تبيانا لدعوى الإمام عند أهل الإيمان ومصدقا لما دعا إليه عند أهل الطغيان بدليل صلاته خلفه ونصرته إياه ودعائه إلى الملة المحمدية التي هو إمام فيها فصار بقاء المهدي (عليه السلام) أصلا، وبقاء الاثنين فرعا على بقائه، فكيف يصح بقاء الفرعين مع عدم بقاء الأصل لهما؟ ولو صح ذلك لصح وجود المسبب من دون وجود السبب وذلك مستحيل في العقول، وإنما قلنا: إن بقاء المهدي أصل لبقاء الاثنين لأنه لا يصح وجود عيسى (عليه السلام) بانفراده غير ناصر لملة الإسلام وغير مصدق للإمام لأنه لو صح وجود عيسى (عليه السلام) لكان منفردا بدولة ودعوة وذلك يبطل دعوة الإسلام من حيث أراد أن يكون تبعا فصار متبوعا، وأراد أن يكون فرعا فكان
____________
(1) النساء: 159.
وأما الجواب عن إنكارهم بقاءه في السرداب من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه ففيه جوابان:
أحدهما بقاء عيسى (عليه السلام) في السماء من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، وهو بشر مثل المهدي (عليه السلام) فكما جاز بقاؤه في السماء والحال هذه فكذلك المهدي في السرداب.
فإن قلت: إن عيسى (عليه السلام) يغذيه رب العالمين من خزانة غيبه.
قلت: لا تفنى خزائنه بانضمام المهدي إليه في غذائه فإن قلت: إن عيسى ليس من طبيعته البشرية قلت هذا دعوى باطلة لأنه تعالى قال لأشرف أنبيائه: *(قل إنما أنا بشر مثلكم)*(1).
فإن قلت: اكتسب ذلك من العالم العلوي، قلت: هذا يحتاج إلى توقيف ولا سبيل إليه: والثاني:
بقاء الدجال في الدير على ما تقدم بأشد الوثائق، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبه بالحديد، وفي رواية في بئر موثوق، وإذا كان بقاء الدجال ممكنا على الوجه المذكور من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، فما المانع من بقاء المهدي (عليه السلام) مكرما من غير الوثاق إذ الكل في مقدور الله تعالى؟ فثبت أنه غير ممتنع شرعا ولا عادة، ثم ذكر بعد هذه الأبحاث خبر سطيح ووقايع وحوادث تجرى وزلازل من فتن، ثم إنه يذكر خروج المهدي (عليه السلام) وإنه يملأ الأرض عدلا وتطيب الدنيا وأهلها في أيام دولته(2).
قال الشيخ الفاضل في كتاب كشف الغمة بعد أن ذكر ما ذكرناه عقيب: هذه الأبحاث والجوابات لا تثبت لنا حجة ولا تقطع الخصم ولا تضره لما يرد عليها من الإيرادات وتطويله في إثبات بقاء المسيح (عليه السلام) وإبليس والدجال، فهي مثل الضروريات عند المسلمين فلا حاجة إلى التكلف لتقريرها، والجواب المختصر ما ذكرته آنفا وهو أن النقل قد ورد به من طرق المؤالف والمخالف، والعقل لا يحيله فوجب القطع به، فأما قوله: إن المهدي (عليه السلام) في سرداب وكيف يمكن بقاؤه من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه فهذا قول عجيب وتصور غريب فإن الذين أنكروا وجوده (عليه السلام) لا يوردون
____________
(1) الكهف: 110.
(2) كفاية الطالب: 521 - 533.
الأولى: أنه كان في بلاد الحلة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها هرقل مات في زماني وما رأيته (ولكن حكى) وحكى لي ولده شمس الدين قال: حكى لي والدي أنه خرج فيه وهو شاب على فخذه الأيسر توثة مقدار قبضه الإنسان وكانت في كل ربيع تشقق ويخرج منها دم وقيح ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله، وكان مقيما بهرقل، فحضر إلى الحلة يوما ودخل إلى مجلس السيد السعيد رضي الدين علي بن طاووس (رحمه الله) وشكا إليه ما يجده منها فقال:
أريد أن أداويها فأحضر له أطباء الحلة وأراهم الموضع فقالوا: هذه التوثة فوق العرق الأكحل في علاجها خطر، إن قطعت خيف أن يقطع العرق فيموت، فقال السعيد رضي الدين قدس الله روحه:
أنا متوجه إلى بغداد وربما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء فاصحبني، فصعد معه وحضر الأطباء فقالوا كما قال أولئك فضاق صدره فقال له السعيد أن الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب وعليك الاجتهاد في الاحتراس، فلا تغرر بنفسك والله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله فقال والدي: إذا كان الأمر هكذا وقد وصلت إلى بغداد فتوجه في زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرفه السلام ثم انحدر إلى أهلي، فحسن ذلك فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجه.
قال: فدخلت المشهد وزرت الأئمة (عليهم السلام) ونزلت السرداب استغثت بالله تعالى وبالإمام (عليه السلام) وقضيت بعض الليل في السرداب وبت في المشهد إلى الخميس، ثم مضيت إلى دجلة فاغتسلت ولبست ثوبا نظيفا وملأت إبريقا كان معي وصعدت أريد المشهد فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم فالتقينا فرأيت شابين أحدهما عبد مخطوط وكل واحد فهما متقلد بسيف، وشيخا منقبا بيده رمح والآخر مقلد بسيف وعليه فرجية ملونة فوق السيف وهو متحنك بعذبته فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعب الرمح على الأرض، ووقف الشابان عن يسار الطريق وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي، ثم سلموا عليه فرد عليهم السلام فقال له صاحب الفرجية: أنت غدا تروح إلى أهلك؟ فقال له: نعم فقال له: تقدم حتى أبصر ما يوجعك، قال: فكرهت ملامستهم وقلت
قال: فقال لي الشيخ: هذا هو الإمام (عليه السلام)، قال: فتقدمت إليه واحتضنته وقبلت فخذه ثم إنه ساق وأنا أمشي معه محتضنه، فقال: إرجع فقلت: لا أفارقك أبدا فقال: المصلحة رجوعك فأعدت عليه مثل القول الأول فقال الشيخ: يا إسماعيل ما تستحي، يقول لك الإمام مرتين ارجع وتخالفه، فجبهني بهذا القول فوقفت، فتقدم خطوات والتفت إلي وقال: إذا وصلت بغداد فلا بد أن يطلبك أبو جعفر يعني الخليفة المنتصر(1)، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئا فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى علي بن عوض فإنني أوصيه يعطيك الذي تريد، ثم سار وأصحابه معه فلم أزل قائما أبصرهم حتى بعدوا وحصل عندي أسف لمفارقته، فقعدت إلى الأرض ساعة ثم مضيت إلى المشهد فاجتمع القوم حولي وقالوا: نرى وجهك متغيرا، أوجعك شئ؟ قلت: لا، قالوا: أخاصمك أحد؟ قلت: لا، ليس عندي مما تقولون خبر، ولكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم فقالوا: هم الشرفاء أرباب الغنم فقلت: لا، بل هو الإمام فقالوا: الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية، فقلت: هو صاحب الفرجية فقالوا: أريته المرض الذي كان فيك؟ فقلت: هو قبضه بيده فأوجعني، ثم كشفت رجلي فلم أر لذلك المرض أثرا، فداخلني الشك من الدهش فأخرجت رجلي الأخرى فلم أر شيئا.
فانطبق الناس علي ومزقوا القميص، وأدخلني القوام خزانة ومنعوا الناس عني وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجة وسأل عن الخبر فعرفوه فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي فسألني: منذ كم خرجت من بغداد؟ فعرفته أني خرجت من بغداد أول الأسبوع فمشى عني، وبت بالمشهد وصليت الصبح وخرجت وخرج الناس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عني ووصلت إلى إيوان فبت بها، وبكرت منها أريد بغداد فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان فسألوني عن اسمي وعن نسبي ومن أين جئت؟
فعرفتهم فاجتمعوا علي ومزقوا ثيابي ولم يبق لي في روحي حكم، وكان الناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرفهم الحال ثم حملوني إلى بغداد وازدحم الناس علي وكادوا يقتلوني من كثرة
____________
(1) في المصدر: المستنصر.
قال: فخرج رضي الدين ومعه جماعة فتوافينا باب النوبى فرد أصحابه الناس عني فلما رآني قال: أعنك يقولون؟ قلت: نعم، فنزل عن دابته وكشف فخذي فلم ير شيئا فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول: يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي، فسألني الوزير عن القصة فحكيت له فاحضر الأطباء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها وقالوا ما دواؤها إلا القطع بالحديد، ومتى قطعها مات، فقال لهم الوزير: بتقدير أن تقطع ولا يموت في كم يبرأ؟
فقالوا: في شهرين وتبقى في مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر، وسألهم الوزير: متى رأيتموه فقالوا: منذ عشرة أيام، فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم وهي مثل أختها ليس فيها أثر أصلا، فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح فقال الوزير: حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها، ثم إنه أحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصة فعرفه بها كما جرى، فتقدم له بألف دينار فلما حضرت قال: خذ هذه فأنفقها فقال ما أجرأ آخذ منه حبة واحدة فقال الخليفة: ممن تخاف؟ فقال من الذي فعل معي هذا قال: لا تأخذ من أبي جعفر شيئا فبكى الخليفة وتكدر، وخرج من عنده ولم يأخذ شيئا.
قال الشيخ الفاضل علي بن عيسى في كشف الغمة عقيب ذلك: كنت في بعض الأيام أحكي هذه القصة لجماعة عندي، وكان شمس الدين محمد ولده عندي، وأنا لا أعرفه فلما انتقضت الحكاية قال: أنا ولده لصلبه فعجبت من هذا الاتفاق فقلت: هل رأيت فخذه وهي مريضة؟ فقال: لا لأني أصبو عن ذلك ولكني رأيت بعد ما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر.
وقال علي بن عيسى أيضا: وسألت السيد صفي الدين محمد بن محمد بن بشر العلوي الموسوي ونجم الدين حيدر بن الأيسر رحمهما الله وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي الهيئات منهم، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي فأخبراني بصحة هذه القصة وأنهما رأياها في حال مرضها وحال صحتها، وحكى لي ولده هذا أنه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه (عليه السلام) حتى إنه جاء إلى بغداد وأقام بها فصل الشتاء، وكان كل يوم يزور سامراء ويعود إلى بغداد فزارها في تلك السنة أربعين مرة طمعا أن يعود له الوقت الذي مضى، أو يقضي له الحظ بما قضى، ومن الذي أعطاه دهره الرضا أو ساعده بمطالب صرف القضا؟ فمات بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصته، والله يتولاه وإيانا برحمته وكرامته.
ثم قال الثانية: علي بن عيسى في كشف الغمة: وحكى لي السيد باقي عطوة العلوي الحسيني
والأخبار عنه (عليه السلام) في هذا الباب كثيرة وأنه رآه جماعة قد انقطعوا له في طريق الحجاز وغيرها وخلصهم وأوصلهم إلى حيث أرادوا، ولولا التطويل لذكرت منها جملة ولكن هذا القدر الذي قرب عهده من زماني كاف انتهى كلام علي بن عيسى(1).
____________
(1) كشف الغمة: 3 / 296 - 301.
نصيحة لطيفة وهداية شريفة نختم بها هذا الكتاب
وهو أن نقول: إياك أيها الواقف على ما في هذا الكتاب من الأخبار والروايات من طريق العامة أن يدخلك الشك والريب فيما قلناه عنهم في أبواب الكتاب في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأنه الخليفة ووصيه من بعده (عليه السلام)، وغير ذلك من النصوص عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضله وفضل أهل البيت (عليهم السلام) وإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ورواياتهم ذلك في صحاحهم وكتبهم المعتمدة وأخبارهم المسندة عن رجالهم الموثوق بهم كما اطلعت عليه، والثناء منهم على مشايخهم في أسانيدهم للأخبار الواردة عنهم في هذا الكتاب، فإني ما ذكرت عنهم في هذا الكتاب إلا ما هو مذكور في كتبهم ومصنفاتهم المعتمدة المنقولة عنهم، والله جل جلاله على ذلك من الشاهدين وكفى بالله شهيدا والحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: كيف يروون هذه الأخبار الصحيحة والروايات الواضحة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبنيه الأحد عشر وهم الأئمة الاثنا عشر بنص رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم بالإمامة والخلافة والوصاية من غير معارض لها من الروايات من طريق الفريقين المخالف والمؤالف.
[ قلت: ] فإنه لم يدع مدع من العامة بأن إمامة أبي بكر وعمر وعثمان [ كانت ] عن نص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما كانت بيعة من بعض الناس كما هو عليه إجماع العامة والخاصة، فبقيت النصوص الواردة عن رسول الله سالمة من الروايات المعارضة لهذه الروايات المجمع على نقلها من المؤالف والمخالف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإمامة الأئمة الاثني عشر، الذي هو مذهب الفرقة المحقة الاثني عشرية شيعة آل محمد صلى الله عليهم أجمعين.
فإن قلت: هذا من العجب، كيف تروي العامة هذه الأخبار الصحيحة عندهم من إمامة الأئمة الاثني عشر ولا يعملون بها؟ بل يقدمون على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الإمامة، وهذا لم يأت به نص من رسول الله صلى الله عليه وآله بالتقديم عليه، بل روت العامة والخاصة النهي عن التقديم عليه في الإمامة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا من أعجب العجائب والخسران المبين والضلال البعيد فما دعاهم إلى ذلك حتى قدموا ما أخر الله سبحانه وأخروا ما قدم الله جل جلاله.
منها: الميل إلى الدنيا وطلب ما فيها من الجاه والمال، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، من ذلك ما نقله أبو المؤيد موفق بن أحمد أخطب الخطباء عند العامة في الفصل التاسع من كتابه في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال الشعبي: ما ندري ما نصنع بعلي (رضي الله عنه) إن أحببناه افتقرنا وإن أبغضناه كفرنا(1)؟.
ومنها: العلة الكبرى والمصيبة العظمى، تقليد الآباء والسلف الماضين من علمائهم المعلولين بهذه العلل فضلوا وأضلوا.
ومنها: الحسد للأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ما أعطاهم من هذا المنصب الشريف والمترقي المنيف من أمر الله جل جلاله الخلق باتباعهم وفرض طاعتهم عليهم قال الله جل جلاله: *(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)*(2) الآية، وقد روى المؤالف والمخالف في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) هم الناس المحسودون(3).
ومنها: اتباع الهوى وما تهوى الأنفس وقد جاءهم من ربهم الهدى، وجحود الحق وترك العمل به، قال الله جل جلاله في كتابه إخبارا عن أهل الكتاب: *(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)*(4) وقال جل جلاله: *(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)*(5) يعني أهل الكتاب يعرفون نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) بنعت الله جل جلاله ووصفه لمحمد (صلى الله عليه وآله) في التوراة والإنجيل وقال تعالى: *(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)*(6) وقال عز وجل:
*(ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله)*(7).
وقال تعالى: *(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)*(8).
وقال جل ذكره: *(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)*(9).
____________
(1) مناقب الخوارزمي 330 / 350.
(2) النساء: 54.
(3) تفسير العياشي 1 / 246 ح 153.
(4) البقرة: 89.
(5) البقرة: 146.
(6) النمل: 14.
(7) الأنعام: 111.
(8) الأنعام: 7.
(9) الحجر: 14 - 15.
وغير ذلك من الآيات، وإذا كان من الناس ما ذكر الله سبحانه وتعالى لا يستبعد على هؤلاء النقلة من العامة للأحاديث الصحاح والروايات الواضحات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النص على إمامة أمير المؤمنين وبنيه الأحد عشر الذين آخرهم المهدي (عليه السلام) بالإمامة والخلافة والوصاية ومالوا عنهم وانحرفوا عنهم لأحد الأسباب التي ذكرناها، لأن هؤلاء النقلة إنما هم من جملة الذين يجوز عليهم الضلالة والهدى واتباع الحق وتركه كغيرهم من سائر الناس، إذ ليس بين العلم والعمل لزوم كلي، يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر، فرب عالم لا يعمل، ورب عامل بغير علم، وهذا واضح بين، والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
____________
(1) التوبة: 115.