مقدمة الطبعة الثانية
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأطهار وصحبه الأبرار ومن تبعهم بإحسان وبعد:
لقد كان لهذا الكتيَّب على وجازته صدى استحسان في نفوس القراء وذلك للمنهج الذي اختطه هذا الكتاب أكثر منه للكتاب نفسه لوضوح أنّ مضمون الكتاب ليس من الضخامة بحيث يشكل رقماً فريداً بل هو بضعة وريقات ربما أحسن فيها التعبير وحسن الإختيار والإلتفات لمواطن ذات وقع خاص بالنفوس ذلك مضافاً للمنهج، وكان من المؤشرات على إقبال القراء عليه نفاذ نسخ الطبعة سريعاً مع أنّنا لم ننوه عنه في صحيفة أو دعاية بل طرح في السوق بصورة عادية. إنّ هذه الظاهرة تشجعنا على الكتابة في أمثال هذا الموضوع مما هو محل أخذ ورد بين فرق المسلمين لا لزيادة الركام بل لصهره حتى يذوب على أن يكون من وراء الكتابة في هذه المواضيع روح مؤمن سنشد وجه الله تعالى ويتوخّى إزالة الضباب عن طريق المعالم المشتركة بين المسلمين في مختلف أبعاد الحضارة الإِسلامية مما هو في حكم شرعي أو عقيدة إسلامية أو تاريخ مسلم، ولعل من نافلة القول أن ننوّه بأنّ ثمرات الأقلام النظيفة من الوسائل الناجعة لخدمة المسلمين ومن الطرق الصحيحة لتفاهم المسلمين.
هذا بالإضافة إلى أنّ ذلك يقطع الطريق على الأقلام المأجورة التي ترتزق
وأكرر ما سبق أن أشرت إليه في الطبعة الأولى عن وجود شيء من التشنّج في التعبير مما قد يعتبر كاشفاً عن ضغن أو حقد ـ معاذ الله ـ في حين لا يعدو أن يكون غضبة إيمانية من روح حساس إزاء كل ما يمس وحدة المسلمين وقد يبرره تصور بفاعلية هذا الأسلوب من غيره.
ولما كان الكمال لله وحده والإِنسان محل النقص كانت محاولة الإزدياد في التكامل من الأمور الحبوبة. ومن هذا المنطق قمت بشيء من التهذيب والإضافات التي أراها متممة لمواضيع الكتاب. وأملي بالقارئ الكريم أن يرى في الكتاب صورة من صور النقد الموضوعي البنّاء. وصرخة في وجه بعض هواة الشتائم الذين ينبزون غيرهم بأمر هو عندهم قبل كونه عند خصومهم ولكنّ الهوى يعمي ويصم. وما أروع ما قيل من أنّ شخصاً قيل له: لماذا تبدّلون حرف الذال بالزاء والقاف بالغين في نطقكم؟ فقال: كلا (نحن لا نغول زلك) وفي نهاية هذه السطور أدعو القارئ الكريم أن يوجهني بالتنبيه على ما في الكتاب من عيب أو شطحات فالمؤمن مرآة المؤمن. هدانا الله لما يحب ويرضى والحمدلله أولاً وآخراً.
المؤلف
مقدمة الطبعة الاُولى
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد:
هناك اُمور لا غنىً لقارئ هذا الكتاب عن الإلمام بها قبل الدخول في صلب الموضوع لأنّها تتضمن الإجابة لما قد يعنّ للقارئ من سؤال خلال قراءته للكتاب كما أنّها ستجعل القارئ يفهم الكتاب في حدود عناوينه لئلا يكبر العنوان على المعنون أو العكس. وتتخلص هذه الاُمور في الآتي:
1 ـ قد يتبادر إلى ذهن القارئ من عنوان الكتاب ـ هويّة التشيّع ـ أنّ الكتاب سيبحث كل ما للتشيع من سمات وخواص سواء كانت من المقوّمات أو من السمات التي اُضيفت إليه. ولكي اُبعد القارئ عن هذا التصوّر: اُلفت نظره إلى أنّي لم أستوعب كل ما للتشيع من نعوت وصفات إنّما تعرضت هنا لاُمور تكفي لإيضاح هوية التشيع وفي الوقت ذاته يدور حولها نزاع بين مختلف الفرق الإِسلامية من جانب وبين الإِمامية من فرق المسلمين وما يزال الجدل يحتدم حولها برغم ما كتب حولها وبرغم إشباعها بالبحث منذ أزمنة طويلة وهي تتناول من التشيع جوانب عرقية وجوانب فكرية.
2 ـ وعلى وجه القطع هناك كثيرون كتبوا في موضوع الشيعة والتشيع كتباً أكثر عمقاً وأوفى استيعاباً وأطول نفساً مما كتب هنا ولكني أتصور أنّي عالجتها هنا بنمط وأسلوب يختلف عن أنماط الأخرى، ولست أريد أن أفضّل هذا النمط
3 ـ وسيجد القارئ في ثنايا هذا الكتاب بعض الإلتهابات التي سببتها الجروح المزمنة في تاريخ المسلمين وسيجد ما يتبع الإلتهابات من ألم وتشنج مما هو ظاهرة طبعية لا طبيعية يسببها إفلات الزمام أحياناً بالرغم من ترويض الأعصاب وقسرها على التحمل، وكل من مارس الكتابة في آمثال هذه المواضيع يعلم مقدار الحرج والمشقة في ضبط الأعصاب هنا لما يرى ـ ومع الأسف الشديد ـ من مناولات بين فرق المسلمين فيها كثير من عدم الموضوعية وقفدان الشعور بمسؤولية الكلمة وأهميتها الأمور الذي تكوّن معه على مرّ الأيام خزين وركام من التركة الخطرة والوباء الأسود الذي يعمد بين الآونة والاُخرى جماعة ممن هم ليسوا ببعيدين عن الشبهات إلى إثارته والإصطياد خلال أجوائه المظلمة وسوف يبقى هذا الوضع خطراً ما دام هذا الركام موجوداً على متناول أيدينا دون أن نعمل على تصفيته وتسليط الأضواء عليه وتعريته تعرية كاملة لنصل إلى رأي في وجوده وآثاره. وأعود لأقول إنّ ضبط الأعصاب في مثل هذا الموقف أمر ليس بالهينّ بداهة ان الإِنسان مسير بأموره النفسية أكثر مما هو مسير باُموره العقلية إلا من عصمه الْخُلُق وهذبه الدين والله المسؤول أن يجعلنا منهم.
4 ـ وقد يقول قائل: إنه مع ما ذكرت آنفاً فما هي جدوى الكتابة في أمثال هذه المواضيع؟ ونحن نجد إصراراً عجيباً على طرحها كل مرة كما هي كأنّها لم تعالج ولم يكثر حولها الأخذ والرد ولم تحصل الإجابة على مضامينها في أكثر من مورد ومورد. إنّ هذه الوضعية تكاد تجعل الإِنسان يقتنع بعدم جدوى علاج أمثال هذه الاُمور والحريص على الوقت من أن يُهدر في أمثال هذه الميادين، وللإجابة على ذلك أقول: إنّ افتراض أنّ الباب موصد في وجه
5 ـ وما يهوّن الخطب أنّ مواطن الخلاف بين فرق المسلمين منذ كانت لم تصل إلى الاُصول وإنما هي في نطاق الفروع وإن حاول كثير منهم أن يوصلها إلى الأصول عن طريق عناوين ثانوية ولوازم تحاول الدخول من أبواب خلفية. لكنّها وبشيءٍ من التأمل والتحليل ترتد عن الأصول إلى الفروع وما دام الإِسلام في روحه الكريمة يفترض الصحة في فعل المسلم ابتداءاً فعلينا معالجة هذه الاُمور بوحي من هذا الروح. وما دامت العقول متفاوتة والمدارك مختلفة فمن المنطق أن نقول إنّ الإختلاف في مسائل الفكر سنة الكون وسجية النفوس وخاصة العقول وإنما يحمل على نسيان هذه الحقائق الاُفق الضيق والعصبية الرعناء والتسرع في الإندفاع وما أجدرنا بالإبتعاد عنها.
7 ـ وكل الذي أرجوه من القارئ أن لايسمي بعض معالجات هذا الكتاب دعوة للطائفية عن طريق الدعوة إلى ترك الطائفية مما هو من قبيل المصادرة على المطلوب. وذلك لأنّ منطق المقارعة أحياناً من طرق تصحيح المسار فإنّ مبضع الجراح لا يريد الإنتقام وإن سبب ألماً. وإنّ وضع السيف أمام السيف قد لا يكون دعوة إلى القتال بل دعوة إلى تركه وإنّ الحمل على باب شرب الدواء ليس عن بغض وإن كان الدواء مرّاً. وستبقى الأهداف دائماً وراء الأعمال تحدد هوياتها وتشكل مبرراً لما قد يكون في وسائلها من قسوة شريطة أن لا تنزل الوسائل إلى المستويات الملوثة وما دام الهدف كبيراً فسوف تستساغ بعض الوسائل في حالات كثيرة كما يمليها العقل ويقرها الواقع.
8 ـ وبعد ذلك كله فإنّي ومن منطلق كوني إمامياً أدعو كل قارئ أن يتلبس الأدوار التي مرت بالشيعة والظروف والملابسات التي اكتنفتهم وجوداً واستمراراً ثم يتصوّر ما تفرزه تلك الحالات من مظاهر سلوكية حتى تكون معياراً بين يديه يفسر خلال أجوائها المعاشة كثيراً من مظاهر السلوك الفكري والإجتماعي عند الشيعة وبذلك يبتعد عن الشطط في الحكم عليهم. فإذا رآهم يشددون على فكرة التقية فليعلم أنهم لم يخرجوا بها عن نطاق واقع مرّ.
9 ـ أضمّن هذه الوريقات دعوة إلى كل فرق المسلمين أن يدرسوا بعضهم البعض بروح عملية وأن يتبينوا هذه الخلفيات المشبوهة التي لعبت دوراً كبيراً وما زالت في تمزيق المسلمين ثم ليقيموا نتائج هذا الوضع ليروا من هو الذي يقطف الثمار من وراء هذا الوضع وبعد ذلك كله نحن مدعوون إلى وضع التاريخ في ساحة الإتهام وبالحروف الكبيرة لنحاكمه وننتهي إلى التخلص من كثير من مآسيه التي نعيشها فالتاريخ فاعل في داخلنا وإن بعد العهد بيننا وبين مواده ومكوناته. نسأل الله تعالى العون على مسيرتنا في درب الحياة الوعر وإضاءة طريقنا بنور منه والحمد لله أولاً وآخراً.
تمهيد
التشيع لغة:
هو المشايعة أي المتابعة والمناصرة والموالاة(1).
فالشيعة بالمعنى اللغوي هم الأتباع والأنصار وقد غلب هذا الإِسم على أتباع عليٍّ عليه السلام حتى اختص بهم وأصبح إذا اُطلِق ينصرف إليهم.
وبهذا المعنى اللغوي استعمل القرآن الكريم لفظة الشيعة كما في قوله تعالى: (وإنَّ من شيعته لإِبراهيم) 83 الصافات وكقوله تعالى: (هذا من شيعته وهذا من عدوِّه) 15 القصص.
التشيع إصطلاحاً:
هو: الإِعتقاد بآراء وأفكار معينة وقد اختلف الباحثون في هذه الأفكار والآراء كثرة وقلة وسيمر علينا ذلك مفصلاً فالتشيع بالمعنى الثاني أعم منه بالمعنى الأول. وبينهما من النسب عموم وخصوص مطلقاً والعموم في جانب التشيع بالمعنى الثاني لشموله لكلِّ منهما.
وانطلاقاً من كون التشيع اعتقاداً بآراء معينة ذهب العلماء والباحثون تبعاً لذلك إلى تعريفه على اخلاف بينعم في سعة مدى هذه التعاريف وضيقه وإليك نماذج من تعريفاتهم:
____________
(1) صحاح الجوهري: 3/156، وتاج العروس ولسان الميزان مادة شيع.
«والشيعة من شايع علياً ـ أي اتبعه وقدمه على غيره في الإِمامة وإن لم يوافق على إمامة باقي الأئمة، فيدخل فيهم الإِمامة والجارودية من الزيدية والإِسماعيلية غير الملاحدة منهم والواقفية والفطحية»(1).
2 ـ الشيخ المفيد في كتاب الموسوعة كما نقله عنه المؤلف قال:
«الشيعة هم من شايع علياً وقدمه على أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله واعتقد أنّه الإِمام بوصية من رسول الله أو بإرادة من الله تعالى نصاً كما يرى الإِمامية أو وصفاً كما يرى الجارودية».
وقد نقل هذا المضمون نفسه كامل مصطفى الشيبي في كتابه الصلة(2).
3 ـ الشهرستاني في الملل والنحل قال:
«الشيعة هم الذين شايعوا علياً وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصاية أما جلياً وأما خفياً واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده»(3).
4 ـ النوبختي في كتابه الفرق قال:
«الشيعة هم فرقة عليِّ بن أبي طالب المسمون بشيعة عليٍّ في زمن النبي ومن وافق مودته مودة عليٍّ»(4).
5 ـ محمد فريد وجدي في كتابه دائرة معارف القرن العشرين قال:
«الشيعة هم الذين شايعوا علياً في إمامته واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده ويقولون بعصمة الأئمة من الكبائر والصغائر والقول بالتولِّي والتبرِّي
____________
(1) شرح اللمعة 2/228.
(2) موسوعة العتبات المقدسة المدخل ص91.
(3) الملل والنحل ص107.
(4) فرق الشيعة.
هذه النماذج من التعريفات إنما قدمتها لنعرف ما هي مقومات التشيع في نظر الباحثين. وقد تبين من بعضها:
الإِقطار على وصف الشيعة بأنّهم يقدمون علياً على غيره لوجود نصوص في ذلك أو وجود صفات اختص بها ولم تتوفر لغيره والواضح من ذلك أنّ جوهر التشيع هو الإِلتزام بإمامة عليٍّ وولده وتقديمه على غيره لوجود نصوص عندهم في ذلك وينتج من ذلك الإِلتزام بأمرين:
الأول:
بما أنّ الإِمامة وليدة النصوص فهي امتداد للنوبة يترتب عليها ما يترتب على النبوة من لوزام عدى الوحي فإنّ نزوله مختص بالأنبياء.
الثاني:
أنّ الإِمامة لا تتم بالإِنتخاب والإِختيار وإنّما بالتعيين من الله تعالى فهو الذي ينص على الإِمام عن طريق النبيّ، وإنما يختاره لتوفر مؤهلات عنده لا توجد عند غيره.
أما الزيادة على ما ذكرناه والتي وردت في التعريفات التي نقلناها والتي قد توجد في كتب الشيعة الاُخرى فهي مستفادة من أخبار وهي أعم من كونها من اُصول المذهب أو من اُصول الإِسلام كما سنرى ذلك فيما يأتي أنّ الغرض من هذه الإِشارة هو إلقاء الضوء على نقطة يؤكد عليها الباحثون عند استعراضهم لذكر الشيعة وعقائدهم: ألا وهي التأكيد على إدخال آراء اُريد لها أن تكون خيوطاً تصل بين التشيع واليهودية، أو النصرانية، أو الزندقة. ومحاولة إيصال التشيع لعرقيات معينة. وهي محاولة لا تخفى على أعين النقاد بأنها غير موضوعية. إنّ هذه المحاولة تريد تصوير التشيع بأنّه تطور لا كما تتطور العقائد والمذاهب الاُخرى. وفي التوسع وقبول الإِضافات السليمة نتيجة تبرعم بعض الآراء وإنما هو تطور غير سليم وغير نظيف أفسد مضمون التشيع.
____________
(1) دائرة المعارف 5/424.
تطوّر التشيع
1 ـ رسم الدكتور عبدالعزيز الدوري هذا التطور عن طريق تقسيمه للتشيع إلى روحيّ بدأ أيام النبي عليه الصلاة والسلام وسياسي حدث بعد مقتل الإِمام عليٍّ، وقد استدل لذلك بأنّ التشيع بمعناه البسيط دون باقي خواصه الإِصطلاحية قد استعمل في صحيفة التحكيم التي نصت على شيعة لعليٍّ وشيعة لمعاوية مما يعطي معنى المشايعة والمناصرة فقط دون باقي الصفات والأبعاد السياسية التي حدثت بعد ذلك(1).
2 ـ محمد فريد وجدي في دائرة المعارف قال:
«الشيعة هم الذين شايعوا علياً في إمامته واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده ويقولون بعصمة الأئمة من الصغائر والكبائر والقول بالتولِّي والتبرّي قولاً وفعلاً إلا في حال التقية إذا خافوا بطش ظالم وهم خمس فرق: «كيسانية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية» وبعضهم يميل في الاُصول إلى الإِعتزال وبعضهم إلى السنة وبعضهم إلى التشبيه»(2).
إنّ هذه المقتطفة من فريد وجدي سبق أن ذكرت قسماً منها في التعريف بالتشيع، وذكرت هنا المقتطفة بكاملها ليتضح منها أنّ مضمونها يغطي التشيع منذ أيامه الاُلى حتى الآن لأنّ من الواضح أنّ هذه المضامين لم تولد دفعة واحدة وإنما دخلت لمضمون التشيع تدريجاً. وقد خلط فريد وجدي فيها بين السِّمات والمقوِّمات وجعل من ليس من الشيعة منهم ونسب لهم ما هم منه براء ولا اُريد أن أتعجل الرد عليه فستمر علينا أمثال هذه النسب الرد عليها في مكانها من الكتاب.
____________
(1) مقدمة في تاريخ صدر الإِسلام ص72.
(2) دائرة معارف فريد وجدي 5/424.
«ويتضح بعد ذلك أن التشيع قد عاصر بدء الإِسلام باعتباره جوهراً له، وأنه ظهر كحركة سياسية بعد أن نازع معاوية علياً على الإِمارة وتدبير شؤون المسلمين ويتبين بعد ذلك أنّ تبلور الحركة السياسية تحت إسم الشيعة كان بعد قتل الحسين عليه السلام مباشرة وإن كانت الحركة سبقت الإِصطلاح وبذلك يمكننا أن نلخص هذا الفصل في كلمة بيانها أنّ التشيع كان تكتلاً إسلامياً ظهرت نزعته أيام النبي وتبلور اتجاهه السياسي بعد قتل عثمان واستقل الإِصطلاح الدال عليه بعد قتل الحسين(1). وواضح من هذا النص أنّ التشيع مرّ بأدوار تطوّر فيها كما يقول كامل.
4 ـ الدكتور أحمد أمين قال:
«إنّ التشيع بدأ بمعنى ساذج وهو أنّ علياً أولى من غيره من وجهتين: كفايته الشخصية وقرابته للنبي. ولكنّ هذا التشيع أخذ صيغة جديدة بدخول العناصر الاُخرى في الإِسلام من يهودية ونصرانية ومجوسية. وحيث أنّ أكبر عنصر دخل الإِسلام الفرس فلهم أكبر الأثر بالتشيع».(2).
وواضح هنا مما ذكره أحمد أمين أن التشيع تطور لا بشيء من داخله وإنما بإضافات واسباغ من عناصر اُخرى دخلت الإِسلام واختارت التشيع فنقلت ما عندها من أفكار وعقائد إليه حتى أصبحت جزءاً منه وانّ الفرس بالذات تركوا بصماتهم على المذهب أكثر من غيرهم كما يريد أحمد أمين أن يصوره. وهو زعم أخذه أحمد أمين من غيره وغيره أخذه من غيره وهكذا حتى أوشك أن يصبح من الاُمور المتسالم عليها عند الباحثين وقريباً ساُوقفك على زيف هذه الدعوى والهدف من الإِصرار على ربط التشيع بالفارسية شكلاً ومضموناً.
5ـ الدكتور أحمد محمود صبحي قال:
____________
(1) الصلة بين التصوف والتشيع ص23.
(2) فجر الإِسلام ص276.
وبعد أن استعرضنا هذه الأمثلة من أقول الكتاب التي فرقوا بها بين التشيع في الصدر الأول وما تلا ذلك من عصور أود أن أعقب على ذلك بما يلي:
1 ـ أنّ كمية الأفكار والمعتقدات في المضمون الشيعي تتسع في الأزمنة المتأخرة عما كانت عليه في الصدر الأول دون شك في ذلك ولكنّ هذه الزيادة ليست أكثر من المضمون الأصلي للتشيع وإنّما هي تفصيل وبيان لمجمله، إنّها ليست بإضافة أجزاء وإنّما هي ظهور جزئيات انطبق عليها المفهوم الكلي للتشيع وقد ظهرت هذه الجزيئات بفعل تطور الزمن. وكمثال لذلك: موضوع النصوص التي وردت على لسان النبي عليه الصلاة والسلام هل هي مجرد إشارة لفضل الإِمام عليٍّ أم أنها على شكل يلزم المسلمين بالقول بإمامته وعلى نحو الوصية له بالخلافة وتبعاً لذلك هل أنّ هذه الإِمامة تقف عند حد المؤهلات أم أنّ الإِمام يجب أن يكون النموذج المثالي فيكون أشجع الناس وأعلم الناس وأعدل الناس وهكذا تبرعم موضوع العصمة وغيره. وكل هذه الاُمور داخلة في صلب موضوع الإِمامة وليست هي باُمور زائدة على الموضوع بل اشتقاقات أولدها التطور الفكري وزيادة أعداد وأنواع معتنقي المذهب.
2 ـ إنّ مثل هذا التطور كمثل كل تطور حدث، ومن ذلك تطور الإِسلام بصفته مقسماً للمذاهب. فالمسلمون منذ وجدوا كان من عقيدتهم الإِعتراف بالله عز وجل ووجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص وكل ذلك على نحو الإِجمال. وعندما اتسعت مجالات التفكير وانفتح العالم الإِسلامي على اُمم وثقافات متنوعة. تبرعمت أسئلة وجدت أفكار فرجع
____________
(1) نظرية الإِمامة ص35.
ومثل آخر هو إيمان المسلمين منذ وجدوا بحجية ظواهر القرآن الكريم فنشأ من ذلك النزاع حول حجية ظواهر بعض الآيات لأنّ لاّزم ذلك نسبة ما لا يصح إلى الله تعالى وذلك مثل قوله تعالى: (وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) 22/سورة القيامة. حيث ذهب أهل السنة إلى جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة استناداً إلى ظاهر الآية، بينما ذهب الإِمامية إلى استحالة رؤيته تعالى لاستلزام الرؤية الجسمية وبالتالي التركيب فالحاجة فالحدوث وانتهاء كل ذلك إلى نفي الاُلوهية وقد أولوا النظر هنا بأنّه انتظار الرحمة كما يقول شخص لآخر ينتظر منه الرحمة أنا أنظر إليك وإلى عطفك وذلك شائع في لغة العرب وحضارتهم والقرآن نزل بلغة العرب وسلك منهجهم في المحاورات.
هذا بالإِضافة إلى أنّ الله تعالى نسب هنا النظر إلى الوجوه وهي ليست من أعضاء النظر من قبيل قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صحية واحدة تأخذهم وهم يخصمون) 49/يس. مثال آخر أذكره للتدليل على اتساع المضمون الإِسلامي عما كان عليه في الصدر الاأول فقد آمن المسلمون منذ وجدوا بأنّ الله تعالى لا يفعل العبث وجاءت ظواهر الآيات تؤيد ذلك فقد جاء في قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم) 2/سورة الملك. وجاء بقوله: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) 38/الدخان. فتنازع المسلمون بعد ذلك في أنّ أفعال الله تعالى هل هي معللة ولازم ذلك نسبة النقص إلى الله لأنّ كل فاعل للعلة إنما يحتاج لتلك العلة، أم أنّ أفعاله تعالى غير معللة ولازم ذلك أنّ فعله
3 ـ ومع التنزل وافتراض دخول عضو إضافي على جسم التشيع كما يريد أن يثبته البعض اعتباطاً وهي منفي فإنّ مثل هذا الفرض يأباه الفكر الشيعي إذا كان مما لا يلتقي مع كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله والخطوط الإِسلامية العامة، إنّ مثل هذا الفرض هو رأي يرد إلى نحر قائله فكل ما هو ليس من الإِسلام فهو ليس من التشيع في شيءٍ بداهة أنّ التشيع من عطاء فكره أهل البيت وهم عدل الكتاب وهم مثل سفينة نوح فعلى هذا يكون ما ينسب إلى التشيع من هذا القبيل إنما هو خلط بين التشيع والشيعة وكثير ممن يُنعت بأنه من الشيعة يرفضه الهيكل الشيعي فيما له من حدود وهو ما سنمر عليه ونذكر أدلته، والشأن في ذلك شأن التفكير السنيّ الذي ينفي عنه بعض المنتسبين إليه ممن تثبت انحرافهم عن خطوط الإِسلام ولا يقدح وجود أمثالهم عند أهل السنة، ولا يُنتزع من وجود
وعلى اسوإ الفروض لو وجدت أفكار إضافية طارئة على جسم أي مذهب من المذاهب وزائدة على محتواه الأصلي كما هو الفرض ولكنّها لا تشكل إنكار ضرورية من ضروريات الدين ولا ردة ولا انحرافاً فإنّ أمثالها لا يبرر رمي من وجدت عنده بالمروق عن الدين والخروج عن الإِسلام وربطهم باليهودية والنصرانية وأمثال ذلك من النسب التي لا يتفوه بها مسلم على أخيه وله ضمير خلق مسلم يصدر في سلوكه عن تعاليم الإِسلام.
فمتى كان القول بالوصاية مثلاً وأنّ لكل نبيّ وصياً وأنّ الأوصياء يجب كونهم معصومين حتى يتحقق الغرض من نصبهم قادة للاُمة والإِعتقاد بأنّ المهديّ حيّ وأمثال ذلك من العقائد موجباً من الدين ومدعاة لشن حملات شعواء كانت وما تزال يجترها الخلف عن السلف دون أن يتبين ما هي مصادرها ودون أن يحللها ويناقشها.
إنّ صرف هذه الطاقات في ميادين التهريج أقل ما يوصف به أنّه عمل غير مسؤول بالإِضافة إلى إمكان توجيه هذه الطاقات إلى ميادين إيجابية في الخلق والإِبداع وفي جمع الشمل ولم الشعث وتنظيف الأجواء الإِسلامية من الحقد والكراهية التي لا يفيد منها إلا أعداء الإِسلام. إنّ الذين يقفون وراء نعرات التشويش والفرقة قوم بعيدون عن روح الإِسلام وجوهره وليسوا ببعيدين عن الشبهات خصوصاً وأنّ أمثال هذه المواضيع يجب أن تبفى محصورة في نطاق العلماء فقط وأن لا تنزل إلى مستوى الأوساط من الناس فضلاً عن العامة وذلك لأنّ للعماء مناعة تبعدهم عن النظرة المرتجلة والنعرة الجاهلية كما هو المفروض إنّ المفاعلات الطائفية في تصوري أخطر على الإِنسانية من المفاعلات النووية، وحسب تاريخ المسلمين خلافات كانت وما تزال غصة في فم كل مؤمن بالله تعالى وبدينه وكل داع لرسالات السماء التي من أول أهدافها تأصيل الروح الإِنسانية في كل أنماط السلوك عند البشر.
الباب الأول
وفيه فصول
الفصل الأول
مَتى بدأ التشيّع
فيما مضى في فصل التمهيد انتهينا إلى أنّ التشيع في بداياته ونهاياته واحد وأنّ التطور المفترض فيه ما هو إلا تبرعم أفكار مستنبطة من الاُصول حدثت عند الممارسة. وعناوين هي ثمرة لتفاعل بين أفكار ولمقارعة حجج بعضها ببعض مما يوجد عادة في التاريخ الثقافي لكل نحلة من النحل.
والآن لا بد من الرجوع إلى بداية التشيع وبذرته التاريخية واستظهار ما إذا كانت سنخيتها تتحد مع الفكر الإِسلامي أم لا. ثم ما هو حجمها أي البنية الشيعية يوم ولادتها. وما هي أرضية تكوينها. وهل هي عملية عاطفية أم عملية عقلائية إنتهى إليها معتنقوها بمعاناة وتقييم واعيين.
ولما كانت هذه الاُمور مما اختلف فيه تبعاً لاستنتاج الباحثين ومزاجهم ومسبقاتهم وما ترجح لديهم بمرجح من المرجحات فلا بد من تقديم نماذج من آراء الباحثين في هذه المواضيع تكون المادة الخام ثم يبقى على القارئ أن يستشف الحقيقة من وراء ذلك ويكوّن له رأياً يجتهد في أن يكون موضوعياً. إنّ المؤرخين والباحثين عندما يحددون فترة نشوء التشيع يتوزعون على مدى يبتدئ من أيام النبي ونهاياته بعد مقتل الحسين عليه السلام. وسأستعرض لك نماذج من آرائهم في ذلك وأترك ما أذهب إليه إلى آخر الفصل.
أ ـ رأي يرى أنهم تكونوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام. وممن يذهب لهذا:
أولاً:
ابن خلدون: فقد قال: إنّ الشيعة ظهرت لما توفي الرسول وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر وأنّ الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش ولما كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعليٍّ ويرون استحقاقه على غيره ولما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك(1) الخ.
ثانياً:
الدكتور أحمد أمين فقد قال: وكانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي أنّ أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه (2)».
ثالثاً:
الدكتور حسن ابراهيم فقد قال: ولا غرو فقد اختلف المسلمون أثر وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فيمن يولونه الخلافة وانتهى الأمر بتولية أبي بكر وأدّى ذلك إلى انقسام الاُمة العربية إلى فريقين جماعة وشيعية(3).
ربعاً:
اليعقوبي قال: ويعد جماعة من المتخلفين عن بيعة أبي بكر هم النواة الاُولى للتشيع ومن أشهرهم سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود والعباس بن عبدالمطلب(4).
وتعقيباً على ذكر المتخلفين عن بيعة الخليفة أبي بكر قال الدكتور أحمد محمود صبحي: إنّ بواعث هؤلاء مختلفة في التخلف فلا يستدل منها على أنّهم كلهم من الشيعة. وقد يكون ما قاله صحيحاً غير أنّ المتخلفين الذين ذكرهم المؤرخون أكدت كتب التراجم على أنّهم شيعة وستأتي الإِشارة لذلك في محلها من الكتاب(5).
خامساً:
المستشرق جولد تسيهر قال: إنّ التشيع نشأ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبالضبط بعد حادثة السقيفة(6).
____________
(1) تاريخ ابن خلدون: 3/364.
(2) فجر الإِسلام ص266.
(3) تاريخ الإِسلام: 1/371.
(4) تاريخ اليعقوبي: 2/104.
(5) نظرية الإِمامة ص33.
(6) العقيدة والشريعة ص174.
ب ـ:
الرأي الذي يذهب إلى أنّ التشيع نشأ أيام عثمان ومن الذاهبين لذلك: جماعة من المؤرخين والباحثين منهم: ابن حزم وجماعة آخرون ذكرهم بالتفصيل يحيى هاشم فرغل في كتابه(1) وقد استند إلى مبررات شرحها.
ج ـ:
الرأي الذي يذهب إلى تكوّن الشيعة أيام خلافة الإِمام عليٍّ عليه السلام، ومن الذاهبين إلى هذا الرأي النوبختي في كتابه فرق الشيعة(2). وابن النديم في الفهرست حيث حدده بفترة واقعة البصرة وما سبقها من مقدمات كان لها الأثر المباشر في تبلور فرقة الشيعة وتكوينها(3).
د ـ:
الرأي الذي يذهب إلى أنّ ظهور التشيع كان بعد واقعة الطف على اختلاف في الكيفية بين الذاهبين لهذا الرأي حيث يرى بعضهم أنّ بوادر التشيع التي سبقت واقعة الطف لم تصل إلى حد تكوين مذهب متميز له طابعه وخواصه وإنما حدث ذلك بعد واقعة الطف بينما يذهب(4) آخرون إلى إنّ وجود المذهب قبل واقعة الطف كان لا يعدو النزعة الروحية ولكن بعد واقعة الطف أخذ طابعاً سياسياً وعمق جذوره في النفوس وتحددت أبعاده إلى كثير من المضامين، وكثير من المستشرقين يذهبون لهذا الرأي وأغلب المحدثين من الكتاب. يقول الدكتور كامل مصطفى إنّ استقلال الإصطلاح الدال على التشيع إِنما كان بعد مقتل الحسين عليه السلام حيث أصبح التشيع كياناً مميزاً له طابعه الخاص.
في حيث يذهب الدكتور عبدالعزيز الدوري إلى أنّ التشيع تميز سياسياً ابتداءً من مقتل أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام ويتضمن ذلك فترة قتل الحسين عليه السلام حيث يعتبرها امتداداً للفترة السابقة(5).
وإلى هذا الرأي يذهب بروكلمان في تاريخ الشعوب الإِسلامية حيث
____________
(1) عوامل أهداف نشأة علم الكلام 1/105.
(2) فرق الشيعة ص16.
(3) الفهرست لابن النديم ص175.
(4) الصلة بين التصوف والتشيع ص23.
(5) مقدمة في تاريخ صدر الإِسلام ص72.
إنّ رأي بروكلمان بالإضافة لما فيه من دس يخالف ما عليه معظم من ربط ظهور التشيع بمقتل الحسين حيث يذهبون إلى أنّ التميز السياسي للمذهب ولدته واقعة الطف، بينما يرى بروكلمان أن لا أثر سياسي للواقعة فهو من قبيل إنكار البدهيات وإنما يقصر أثر الواقعة على تعميق المذهب دينياً فقط.
وقد شايع بروكلمان في هذا الرأي جماعة آخرون ذكرهم يحيى فرغل مفصلاً في كتابه(2) إنّ هذه الآراء الأربعة في نشأة التشيع لا تصمد أمام المناقشة ولا أريد أن أتعجل الرد عليها فسأذكر الرأي الخامس ومنه يتضح تماماً أنّ هذه الآراء تستند إلى أحداث أو مض فيها التشيع نتيجة احتكاكة بمؤثر من المؤثرات في تلك الفترة التي أرخت بها تلك الآراء ظهور التشيع فظنوه ولد آنذاك بينما هو موجود بكيانه الكامل منذ الصدر الأول. وقد آن الأوان لأعرض لك رأي جمهور الشيعة وخاصة المحققين منهم:
هـ ـ:
رأي الشيعة وغيرهم من المحقيين من المذاهب الاُخرى. حيث ذهب هؤلاء إلى أنّ التشيع ولد أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأنّ النبي نفسه هو الذي غرسه في النفوس عن طريق الأحاديث التي وردت على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وكشفت عما لعليٍّ عليه السلام من مكانة في مواقع متعددة رواها إضافة إلى الشيعة ثقاة أهل السنة ومنها: ما رواه السيوطي عن ابن عساكر عند تفسير الآيتين السادسة والسابعة من سورة النبي بسنده عن جابر بن عبدالله قال كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فأقبل عليّ عليه السلام
____________
(1) تاريخ الشعوب الإِسلامية ص128.
(2) عوامل وأهداف نشأة علم الكلام 1/106.
وأخرج ابن مردويه عن عليٍّ عليه السلام قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: ألم تسمع قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) إلخ هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غراً محجلين(1) ومن هنا ذهب أبو حاتم الرازي إلى أنّ أول إسم لمذهب ظهور في الإِسلام هو الشيعة وكان هذا لقب أربعة من الصحابة أبو ذر وعمار ومقداد وسلمان الفارسي وبعد صفين اشتهر موالي عليٍّ بهذا اللقب(2).
إنّ هذه الأحاديث التي مرت والتي أخرجها كل من ابن عساكر وابن عدي وابن مردويه يعقب عليها أحمد محمود صبحي في كتابه نظرية الإِمامة فيقول: ولا تفيد الأحاديث الواردة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في حق عليٍّ عليه السلام أنّ لعليٍّ شيعة في زمان النبي فقد تنبأ النبي بظهور بعض الفرق كإشارته إلى الخوارج والمارقين كما ينسب إليه أنّه قال لعليٍّ إنّك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. ولا يدل ذلك على وجود جماعة مستقلة لها عقائد متمايزة أو تصورات خاصة(3) وأنا اُلفت نظر الدكتور أحمد محمود إلى انّ الشيعة لا يستدلون على ظهور التشيع أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بما ورد على لسانه من أحاديث، فالمسألة كما يسميها الأصوليون على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية،أي لا يلزم وجودهم بالفعل كما استظره الدكتور وإنّما هي صفات ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم للشيعة متى وجدوا وأينما وجدوا، أما الإِستدلال على ظهور الشيعة أيام النبي فمن روايات وقرائن كثيرة يوردونها في هذا المقام، أورد قسماً منها الدكتور عبدالعزيز الدوري واستعرض مصادرها(4) مع ملاحظة أنّه قيد
____________
(1) الدر المنثور للسيوطي 6/376.
(2) روضان الجنات للخونساري ص88.
(3) نظرية الإِمامية ص31.
(4) مقدمة في تاريخ صدر الإِسلام ص72.
إنّ بعض هذه الآراء يرجع بالبداية الزمنية في ظهور الشيعة إلى وقت مبكر في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم حيث التأمت جماعة من الصحابة تفضل علياً عليه السلام على غيره من الصحابة وتتخذه رئيساً ومن هؤلاء عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وجابر بن عبدالله واُبيّ بن كعب وأبو أيوب الأنصاري وبنو هاشم الخ(2).
ولهذا ذهب الباحثون إلى تخطئة من يؤرخ للتشيع وظهوره بعصور متأخرة مع أنّ الأدلة التاريخية متوفرة على وجودهم أيام الرّسول صلوات الله عليه وآله: يقول محمد بن عبدالله عنان في كتابه تاريخ الجمعيات السرية عند تعليقه على الحادثة التي روتها كتب السيرة(3) حين جمع النبي عشيرته عند نزول قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) 214/الشعراء، ودعاهم إلى اتباعه فلم يجبه الا عليّ بن أبي طالب فأخذ النبي برقبته وقال: هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا الخ. علق محمد عبدالله بقوله: من الخطأ أن يقال: إنّ الشيعة إنما ظهروا لأول مرة عند انشقاق الخوارج بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول حين اُمر بإنذار عشيرته بهذه الآية.
____________
(1) عوامل وأهداف نشأة علم الكلام 1/105.
(2) المصدر السابق ص106.
(3) حياة محمد لهيكل ط مصر الطبعة المؤرخة 1354 ص104.
الفصل الثاني
الأدلة على تكوّن الشيع أيّام النبي
1 ـ النصوص التاريخية على وصف جماعة بالتشيع أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقد مرت الإِشارة لذلك، ولهذا يقول الحسن بن موسى النوبختي عند تحديده للشيعة:
فالشيعة فرقة عليٍّ بن أبي طالب المسمون بشعية عليٍّ في زمن النبي ـ ثم عدد جماعة منهم وقال: ـ وهم أول سمي باسم التشيع لأنّ اسم التشيع كان قديماً لشيعة إبراهيم(1).
2 ـ ما عليه جمهور البحاثين والمؤرخين الذين ذهبوا إلى أنّ التشيع ظهر يوم السقيفة فإنّ ذلك ينهص دليلاً على وجوده أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لأنّه من غير المعقول أن يتبلور التشيع باُسبوع واحد ـ أي المدة بين وجود الرسول ووفاته بحيث يتخذ جماعة من الناس مواقف معينة ويتضح لهم اتجاه له ميزاته وخواصه فإنّ مثل هذه الآراء تحتاج في تكوينها وتبلورها إلى وقت ليس بالقليل وكل من له إلمام بحوادث السقيفة وموقف الممتنعين عن بيعة أبي بكر وحجاجهم في ذلك الموضوع يجزم بأنّ تلك المواقف لم تتكوّن بوقت قصير وبسرعة كهذه السرعة وذلك لوجود اتجاهات متبلورة وتأصل في طرح نظريات معينة.
3 ـ إنّ من غير المعقول أن ترد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أحاديث في تفضيل
____________
(1) الفرق والمقالات للنوبختي باب تعريف الشيعة.
أ ـ الموقف الأول:
عندما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) 214/ من سورة الشعراء قال المؤرخون: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم دعا علياً عليه السلام وأمره أن يصنع طعاماً ويدعو آل عبدالمطلب وعددهم يومئذ أربعون رجلاً وبعد أن أكلوا وشربوا من لبن اُعدَّ لهم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقال: يا بني عبدالمطلب إنّي والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدينا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً ـ يقول عليّ ـ وقلت وإنّي لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(1).
ب ـ الموقف الثاني:
يقول أبو رافع القبطي مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: دخلت على النبي وهو يوحى إليه فرأيت حية فنمت بينها وبين النبي لئلا يصل إليه أذى منها حتى انتهى عنه الوحي فأمرني بقتلها وسمعته يقول: الحمدلله الذي أكمل عليٍّ منته وهنيئاً عليٍّ بتفضيل الله إياه.. بعد أن قرأ قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاه ويؤتون الزكاة وهم راكعون) 55/المائدة. وقد أجمع أعلام أهل السنة والشيعة على نزول هذه الآية في عليّ عليه السلام ومنهم السيوطي في الدر المثور عند تفسير الآية المذكورة وكذلك الرازي في مفاتيح الغيب والبيضاوي في
____________
(1) تاريخ الطبري 2/216، وتاريخ ابن الأثير 2/28.
ومن الغريب أن يقف الألوسي في تفسيره روح المعاني موقفاً يمثل الإِسفاف والركة في دفع هذه الآية عن عليٍّ عليه السلام ويريك كيف يهبط التعصب بالإِنسان إلى درك مقيت وإلى تهافت غير معهود. وإنّ المرء ليستغرب من هذا الرجل فإنّ له مواقف متناقضة من عليٍّ عليه السلام فتارة يعطيه حقه واُخرى يقف منه موقفاً متشنجاً وبوسع كل من قرأ الألوسي في مؤلفاته أن يرى هذه الظاهرة.
ج ـ الموقف الثالث:
موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يوم غدير خم وذلك عند نزول الآية: (يا أيها الرسول بلغ ما اُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) 69/المائدة. وعندها أوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الركب وصنعوا له منبراً من أحداج الإِبل خطب عليه خطبته المعروفة ثم أخذ بيد عليٍّ وقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فكررها ثلاثاً ثم قال: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه أللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» فلقيه الخليفة الثاني فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وقد ذكر الرازي في سبب نزول الآية عشرة وجوه ومنها أنّها نزلت في عليٍّ عليه السلام ثم عقب بعد ذلك بقوله: وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن عليٍّ ـ يريد الباقر ـ (1) إنّ حديث الغدير أخرجه جماعة من حفاظ أهل السنة وقد رواه ابن حجر في صواعقه عن ثلاثين صحابياً ونص على أنّ طرقه صحيحة وبعضها حسن(2).
وأورده ابن حمزة الحنفي مخرجاً له عن أبي الطفيل عامر بن واثلة بهذه
____________
(1) تفسير الرازي 3/431.
(2) الصواعق المحرقة الباب الثاني من الفصل التاسع.
وقد ألف في موضوع الغدير من السنة والشيعة ست وعشرون مؤلفاً(2) ولا اُريد التحدث بصراحة حديث الغدير في أولوية الإِمام علي عليه السلام وتقديمه على كافة الصحابة فان الأمر قد أشبع من قبل الباحثين ولكني اُريد أن أسائل الدكتور أحمد شلبي الذي يقول إنّ حديث الغدير لم يرد له ذكر إلا في كتب الشيعة، فأقول له هل هناك شيء من الشعور بالمسؤولية عندك وعند أمثالك ممن يرمون الكلام على عواهنه فأنت تحمل أمانة للأجيال فمن الأمانة هذا القول إنّ كتب أهل نحلتك وحفاظ قومك أوردت الحديث بمصادره الموثوقة فإذا كنت لا تقرأ أو تقرأ ولا تريد أن تعرف فاسكت يرحمك الله فهو خير لك من التعرض أما لنسبة الجهل أو العصبية، ولا يقل عن الدكتور شلبي من يذهب إلى أنّ لفظ المولى هنا إنما يراد منه ابن العم فهو أحد معاني هذه اللفظة المشتركة ولا رد لي على هذا إلا أن أقول: اللهم ارحم عقولنا من المسخ. إنّ هذه مجرد أمثلة من مواقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في التنويه بفضل عليٍّ عليه السلام ولا يمكن أن تمر هذه المواقف والكثير الكثير من أمثالها دون أن تشد الناس لعليٍّ ودون أن تدفعهم للتعرف على هذا الإِنسان الذي هو وصيّ النبي، الذي يشركه القرآن بالولاية العامة مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم ثم لا بد للمسلمين من إطاعة هذه الأوامر التي وردت بالنصوص والإِلتفاف حول من وردت فيه ذلك هو معنى التشيع الذي نقول: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هو الذي بذر بذرته وقد أينعت في حياته وعرف جماعة بالتشيع لعليٍّ والإِلتفاف حوله وللتدليل على ذلك سأذكر لك اسماء الرعيل الأول من الصحابة الذين عرفوا بتشيعهم وولائهم للإِمام عليٍّ عليه السلام.
____________
(1) البيان والتعريف 2/136.
(2) أعيان الشيعة ج3 باب الغدير..
الفصل الثالث
روّاد التشيّع الأوائل
جندب بن جنادة، أبو ذرّ الغفاري وعمار بن ياسر، سلمان الفارسي، المقداد بن عمر بن ثعلبة الكندي، حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي، خزيمة ابن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، الخباب بن الأرت الخزاعي أحد المعذبين في الله، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري، أنس بن الحرث بن منبه أحد شهداء كربلاء، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضافه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عند دخوله للمدينة، جابر بن عبدالله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة، هاشم بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء، محمد بن الخليفة أبي بكر تلميذ عليٍّ وربيبه، مالك بن الحرث الأشتر النخعي، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتله خالد بن الوليد، البراء ابن عازب الأنصاري، اُبيّ بن كعب سيد القراء، عبادة بن الصامت الأنصاري، عبدالله بن مسعود صاحب وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ومن سادات القراء، أبو الأسود الدؤلي، ظالم بن عمير واضع اُسس النحو بأمر الإِمام عليٍّ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن اُمية بن عبد شمس خامس من أسلم، اُسيد بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر، الأسود بن عيسى بن وهب من أهل بدر، بشير ابن مسعود الأنصاري من أهل بدر ومن القتلى بواقعة الحرة بالمدينة، ثابت أبو فضالة الأنصاري من أهل بدر، الحارث بن النعمان بن اُمية الأنصاري من أهل بدر، رافع بن خديج الأنصاري ممن شهد اُحداً ولم يبلغ وأجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
هذه شريحة أو نماذج من الرواد الأوائل في التشيع ذكرتهم بدون انتقاء أو اختيار وإنما مررت بكتب الرجال فذكرت منها هذه المجموعة وقد نصت على
بعد ملاحظة هذه الشريحة من الطبقة الأولى من الشيعة تتضح لنا اُمور هامة، في موضوعنا أعرضها أمام القارئ الواعي الرائد للحق والموضوعية، وإلا فما أكثر من يقرأ ولا يتجاوز مضمون السطور عينيه، وقد يقرأ أحياناً ولا يريد أن يصدق ما يقرأ مع توفر شرائط الصحة فيما يقرأه ومع وجود الثقة النفسية بمضمون ما يقرأه، ولكنه التكوين النفسي والذهني الذي ينشأ عليه الإِنسان منذ الصغر فيكاد يكون غريزة من الغرائز التي يطبع عليها الإِنسان.
تعقيب على الرواد من الشيعة
هذه الاُمور التي ذكرت أنّي سأعرض لها تعقيباً على نوعية الرواد الأوائل هي:
أولاً:
إنّ هؤلاء الشيعة الذين مر ذكرهم مع أنّهم كانوا من الذاهبين إلى أولوية الإِمام عليٍّ عليه السلام بالخلافة لأنّه الإِمام المفترض الطاعة المنصوص عليه ومع اعتقادهم بأنّ من تقدم عليه أخذ ماليس له ومع امتناع كثير منهم من البيعة للخليفة الأول واعتصامهم ببيت الإِمام عليٍّ عليه السلام مع كل ذلك لم يعرف عن أحد منهم أنّه شتم فرداً من الصحابة أو تناوله بطريقة غير مستساغة بل كانوا أكبر من ذلك وأصلب عوداً من خصومهم ـ مما يدل على أنّ بعض من عرف بظاهرة شتم الصحابة إنّما صدر منه ذلك كعملية رد فعل لأفعال متعددة وسنمر على ذلك قريباً ـ إنّهم مع اختلافهم مع الحكم لم يلجأوا إلى شتم أو بذاء لأنّهم يعرفون أنّ الحقوق لا يوصل إليها بالشتم وليس الشتم من شيم الأبطال، والذي يريد أن يسجل ظلامة أو يشير إلى حق سليب فإن طرق ذلك ليس منها الشتم في شيءٍ،
____________
(1) الكامل للمبرد هامش رغبة الأمل 7/130، وأسد الغابة 1/35 ط أوفست حرف الألف، و1/61 طبع دمشق، وفجر الإِسلام ص267، والاستيعاب 1/280، ومدخل موسوعة العتبات المقدسة الفصل الخاص بالشيعة بقلم عبدالواحد الأنصاري.
أ ـ الدكتور أحمد أمين:
يقول عن هؤلاء إنّهم قسم المقتصد الذي يرى بأنّ أبا بكر وعرم وعثمان ومن شايعهم أخطأوا إذ رضوا أن يكونوا خلفاء مع علمهم بفضل عليٍّ وإنّه خير منهم(2).
____________
(1) صفين لنصر بن مزاحم ص115.
(2) فجر الإِسلام ص268