والمراد بصفات الأجناس ما يقع بها الاختلاف والتماثل كصفة الجوهرية في الجوهر والسوادية في السواد إلى غير ذلك من الصفات، فذهب ابن عياش إلى عراء تلك الماهيات عن الصفات في العدم، وأما الجبائيان (1) وعبد الجبار وابن متويه (2) فإنهم قالوا: صفات الجوهر إما أن تكون عائدة إلى الجملة كالحيية (3) وما يشترط بها، وإما أن تكون عائدة إلى الأفراد وهي أربعة:
إحداهما: الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم وهي الجوهرية.
والثانية: الوجود وهي الصفة الحاصلة بالفاعل.
والثالثة: التحيز وهي الصفة التابعة للحدوث الصادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود.
والرابعة: الحصول في الحيز وهي الصفة المعللة بالمعنى، وليس له صفة زائدة على هذه الأربع فليس له بكونه أسود أو أبيض صفات. وأما الأعراض فلا صفات لها عائدة إلى الجملة، بل لها ثلاث صفات راجعة إلى الأفراد: إحداها: الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم وهي صفة الجنس. الثانية: الصفة الصادرة عنها بشرط الوجود. الثالثة: صفة الوجود.
الخامس: ذهب أبو يعقوب الشحام وأبو عبد الله البصري وأبو إسحاق بن عياش (4) إلى أن الجوهرية هي التحيز، ثم قال الشحام والبصري: إن الذات
____________
(1) هما أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفى سنة 303 هـ (تاريخ ابن خلكان ج 2 ص 56 ط 1) وابنه أبو هاشم المذكور آنفا.
(2) وفي (م): ابن مستويه، والصواب هو الأول وكأن كاتب الثاني قصد المطايبة والمزاح.
(3) وفي (م): إلى الجمل، وفي (ص ق ش ز د) كما اخترناه في الكتاب، وفي بعض النسخ كالحياة. والجمل جمع الجملة أي مجموع ما يتركب منه البنية، وما يشترط بالحياة كالعلم والقدرة لأن الحياة أمام الأئمة من الأسماء وأم الأمهات من الصفات، فالحياة عائدة إلى مجموع ما يتركب منه البنية وتتصف أجزاؤه بها أيضا، وإذا تفرقت الأجزاء وانتفت البنية انتفت الحياة عنها بخلاف باقي الصفات المعدودة في الكتاب.
(4) ابن عياش هذا هو غير أبي بكر بن عياش الراوي عن العاصم القارئ المعروف بابن عياش أيضا، وهو أيضا غير أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن بن عياش الجوهري المعروف بابن عياش أيضا.
بل هو الذي قال ابن النديم في الفهرست: ومن المعتزلة ممن لا نعرف من أمره غير ذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عياش.
السادس: اتفق المثبتون إلا أبا عبد الله البصري على أن المعدوم لا صفة له (1) بكونه معدوما، والبصري أثبت له صفة بذلك.
السابع: اتفقوا إلا أبا الحسين الخياط على أن الذوات المعدومة لا توصف بكونها أجساما وجوزه الخياط.
الثامن: اتفقوا على أن من علم أن للعالم صانعا قادرا حكيما مرسلا للرسل قد يشك في أنه هل هو موجود أم لا، ويحتاج في ذلك إلى دليل بناء منهم على جواز اتصاف المعدوم بالصفات المتغايرة والعقلاء كافة منعوا من ذلك، وأوجبوا وجود الموصوف بالصفة الموجودة لأن ثبوت الشئ لغيره فرع على ثبوت ذلك الغير في نفسه.
قال: وقسمة الحال (2) إلى المعلل وغيره وتعليل الاختلاف بها وغير ذلك مما لا فائدة بذكره (3).
أقول: لما ذكر تفاريع القول بثبوت المعدوم شرع في تفاريع القول بثبوت
____________
(1) يعني أن المعدومية هل هي صفة ثابتة للمعدوم ويتصف المعدوم بها في العدم كما ذهب إليه البصري أم لا كما ذهب إليه جمهورهم.
(2) مجرور عطفا على قوله المتقدم: تحقق الذوات، أي فبطل ما فرعوا عليهما من تحقق الذوات غير المتناهية في العدم، ومن قسمة الحال إلى المعلل وغيره.
(3) كالصفات العائدة إلى الجملة والأفراد في الجواهر والأعراض مما قد تقدم الكلام فيه.
الثاني: اتفقوا على أن الذوات كلها متساوية في الماهية، وإنما تختلف بأحوال تنضاف إليها.
واتفق أكثر العقلاء على بطلان هذا لوجوب استواء المتماثلين في اللوازم، فيجوز على القديم الانقلاب إلى المحدث وبالعكس، ولأن التخصيص لا بد له من مرجح وليس ذاتا وإلا تسلسل، ولا صفة ذات وإلا تسلسل.
المسألة الرابعة عشرة
في الوجود المطلق والخاص
قال: ثم الوجود قد يؤخذ على الإطلاق فيقابله عدم مثله، وقد يجتمعان لا باعتبار التقابل ويعقلان معا، وقد يؤخذ مقيدا فيقابله مثله (1).
أقول: إعلم أن الوجود عبارة عن الكون في الأعيان (2)، ثم هذا الكون في الأعيان قد يؤخذ عارضا لماهية ما فيتخصص الوجود حينئذ، وقد يؤخذ مجردا (3) من غير التفات إلى ماهية خاصة فيكون وجودا مطلقا، إذا عرفت هذا
____________
(1) باتفاق النسخ كلها، أي فيقابله عدم مثله فحذف العدم هنا بقرينة قوله: في المطلق.
(2) أي باعتبار أنه وجه من وجوه الوجود الحق المطلق الصمدي وشأن من شؤونه المنفطرة منه، كما أنك تبحث عن عين انسان وقواه أو أنوار أغصان مثلا وهي منفطرة من أصولها وهو سبحانه وتعالى فاطر السماوات والأرض.
(3) ينبغي في المقام التدبر التام في الفرق بين العين والمفهوم، والعين هو الحق الصمدي الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن لا يحيطون به علما والمفهوم وعاؤه الذهن، ثم إن تميز المحيط عن المحاط إنما هو بالتعين الإحاطي لا بالتعين التقابلي، والمبحوث عنه في الكتاب هو مفهوم الوجود المطلق، فافهم.
وأما الوجود الخاص وهو وجود الملكات المتخصص (4) باعتبار تخصصها فإنه يكون مقيدا كوجود الانسان مثلا المقيد بقيد الانسان وغيره من الماهيات، فإنه يقابله عدم مثله خاص.
المسألة الخامسة عشرة
في أن عدم الملكة يفتقر إلى الموضوع
قال: ويفتقر (5) إلى الموضوع كافتقار ملكته.
____________
(1) أي معدوم باعتباره في الخارج بالحمل الأولي الذاتي، وموجود باعتباره في الذهن بالحمل الشائع الصناعي.
(2) وذلك كالكلية والجزئية، أي الجزئي الإضافي غير الحقيقي كما تقدم في المسألة العاشرة.
(3) سيأتي في المسألة السابعة والثلاثين (ص 101) أن الذهن يتصور العدم المطلق.
(4) صفة للوجود، أي الوجود متخصص باعتبار تخصص تلك الملكات، وفي (م ز) باعتبار تخصيص تلك الملكات الوجود، فيصير الوجود متخصصا بها وهو الوجود الخاص المأخوذ في قبال الوجود المطلق.
(5) أي ذلك العدم المقيد وهو عدم الملكة، وكذلك ضمير ملكته.
قال: ويؤخذ الموضوع شخصيا ونوعيا وجنسيا.
أقول: لما فسر عدم الملكة بأنه عدم شئ عن موضوع من شأنه أن يكون له وجب عليه أن يبين الموضوع، وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أن ذلك الموضوع موضوع شخصي فعدم اللحية عن الأمرد عدم ملكة وعدمها عن الأثط (1) ليس عدم الملكة.
وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع النوعي، فعدم اللحية عن الأثط إيجاب وعدم ملكة وعدمها عن الحيوان ليس عدم ملكة (2).
وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع الجنسي أيضا، ولا مشاحة في ذلك لعدم فائدته.
المسألة السادسة عشرة
في أن الوجود بسيط
قال: ولا جنس له بل هو بسيط فلا فصل له (3).
____________
(1) في منتهى الإرب: رجل أثط مرد كوسه لغت عامي است، ثط بر وزن خط كوسه راگويند.
(2) مطابق لنسخ (م ص ق ز) والثلاث الأولى أصحها وأقدمها، وأسلوب البحث يقتضي ذلك أيضا. وفي (د): وعدمها عن الحيوانات، وهي تؤيدها، وفي (ش) وحدها: وعدمها عن الحمار. وله وجه أيضا.
(3) كما يأتي في المسألة الرابعة من الفصل الثاني أن ما لا جنس له فلا فصل له.
لا يقال: لم لا يجوز (1) أن يكون مركبا لا من الأجناس والفصول كتركب العدد من الآحاد؟ لأنا نقول: تلك الأجزاء إما أن تكون موجودة أو لا تكون كذلك، وعلى التقدير الأول تكون طبيعة الجزء والمركب واحدة فلا يقع الامتياز إلا بالمقدار وهو منتف، وعلى التقدير الثاني لا يكون الوجود عارضا لجميع المعقولات مع فرضنا إياه كذلك هذا خلف.
المسألة السابعة عشرة
في مقوليته على ما تحته من الجزئيات
قال: ويتكثر بتكثر الموضوعات (2) ويقال بالتشكيك على عوارضها.
أقول: الوجود طبيعة معقولة كلية واحدة غير متكثرة، فإذا اعتبر عروضه
____________
(1) يعني ما قلتم من أن الوجود بسيط حيث لا جنس له فلا فصل له، لأن ما لا جنس له لا فصل له ممنوع، وذلك لجواز أن يكون الموجود مركبا من أجزاء لا تكون جنسا له ولا فصلا له تركب العدد من الآحاد مثلا أن العشرة مركبة من الآحاد وليس بعض تلك الآحاد جنسا لبعض آخر ولا فصلا له.
(2) وهذه المسألة وأترابها، موضوعها مفهوم الوجود المطلق كما صرح به الشارح في قوله:
الوجود طبيعة معقولة كلية واحدة غير متكثرة. وحقيقة الأمر أشمخ من ذلك بمراحل إلا أن أمثال هذه المباحث أظلالها وحكايات لها ومجدية النفس في الاعتلاء إليها.
ثم إن هذا التشكيك هو ما تفوه به المشاء وإن كان يمكن بين ما في الكتاب وبين قولهم بيان وجوه من الفرق، ولكن نظرهما ينتهي إلى وجود منزه عن الماهية هو فوق التمام وما سواه زوج تركيبي من الوجود والماهية، فينجر الكلام إلى تنزيه هو عين التشبيه، وهو سبحانه منزه عن هذا التنزيه أيضا.
وتفصيل هذه المباحث وتحقيق الحق فيها يطلب في رسالتنا الفارسية الموسومة ب (وحدت از ديدگاه عارف وحكيم) وسيأتي البحث عنه في المسألة السادسة والثلاثين أيضا.
قال: فليس جزء من غيره مطلقا.
أقول: هذا نتيجة ما تقدم وذلك لأن المقول بالتشكيك لا يكون جزء مما يقال عليه ولا نفس حقيقته لامتناع التفاوت في الماهية وأجزائها على ما يأتي فيكون البتة عارضا لغيره فلا يكون جزء من غيره على الإطلاق، أما بالنسبة إلى الماهيات فلأنه عارض لها على ما تقدم من امتناع كونه جزء من غيره وأنه زائد على الحقائق، وأما بالنسبة إلى وجوداتها فلأنه مقول عليها بالتشكيك، فلهذا قال رحمه الله: مطلقا.
المسألة الثامنة عشرة
في الشيئية
قال: والشيئية من المعقولات الثانية (2) وليست متأصلة في الوجود فلا شئ
____________
(1) باتفاق النسخ كلها، أي الوجود المطلق.
(2) لعل التنصيص بأن الشيئية من المعقولات الثانية لدفع التوهم بأنها جنس الأجناس كما توهمه بعض الناس حتى ذهب بعض من قارب عصرنا إلى ذلك الوهم.
أو الظاهر أن البحث عنها في المقام ناظر إلى قوله في المسألة الحادية عشرة: أن الوجود يساوق الشيئية فلا تتحقق بدونه فهاهنا صرح بأن الشيئية من المعقولات الثانية، وفي المسألة السادسة والثلاثين: بأن الوجود من المعقولات الثانية ثم عد عدة أخرى منها.
والمراد بالوجود هو الوجود المطلق، فتبصر.
واعلم إن المعقول الثاني عند الحكيم أعم منه عند المنطقي، بيان ذلك أن ما يعرض لشئ فهناك ينتزع أمران: عروض واتصاف، أما العروض فمن العارض، وأما الاتصاف فمن الموضوع، مثلا إذا عرض بياض جسما عرض ذلك البياض الجسم واتصف الجسم به بأن صار أبيض، وعروض الشئ في بادئ الرأي يتصور بأحد الوجوه الأربعة:
الأول: أن يكون العروض والاتصاف كلاهما في الخارج كعروض بياض لجسم واتصاف الجسم بذلك البياض.
والثاني: أن يكون كلاهما في الذهن كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية والجنسية والفصلية والموضوعية والمحمولية والقياس والقضية والمعرف وغيرها من المعاني التي جعلت موضوعا للمنطق على أحد القولين.
والثالث: أن يكون الاتصاف في الخارج والعروض في الذهن كالشيئية والإمكان والجوهرية والعرضية.
والرابع عكس الثالث: بأن يكون الاتصاف في الذهن والعروض في الخارج.
والأول عند كلا الفريقين ليس من المعقولات الثانية بلا خلاف، والثاني عندهما من المعقولات الثانية كذلك، والثالث عند الحكيم منها وعند المنطقي ليس منها، والرابع لا تحقق له، فالشيئية من المعقولات الثانية عند الحكيم.
وإنما سميت تلك المعقولات بالثانية لأنها مستندة إلى معقولات أولى متقدمة منها، وذلك لأنه يتصور الانسان أولا مثلا ثم تعرضه الكلية، فلما كانت تلك المعقولات متأخرة عن معقولات أخر سميت بالمعقولات الثانية. والمراد بالثانية ما ليست بالأولى أعم من أن تعرض معقولا أولا أو ثانيا. وقد أشبعنا البحث عنها في تعليقاتنا على اللآلي المنظومة في المنطق للمتأله السبزواري.
مطلقا ثابت بل هي تعرض لخصوصيات الماهيات.
أقول: قال أبو علي بن سينا (1): الوجود إما ذهني وإما خارجي، والمشترك
____________
(1) الحسين بن عبد الله بن سينا الشيخ الرئيس الحكيم المشهور، اسم أمه (ستارة) كان أبوه من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارى وتوفي سنة 428 بهمدان (تاريخ ابن خلكان ج 1 ط 1 ص 168).
المسألة التاسعة عشرة
في تمايز الإعدام
قال: وقد يتمايز الإعدام ولهذا استند عدم المعلول إلى عدم العلة لا غير، ونافى (1) عدم الشرط وجود المشروط وصحح عدم الضد وجود الآخر بخلاف باقي الإعدام.
أقول: لا شك في أن الملكات متمايزة، وأما العدمات فقد منع قوم من تمايزها بناء على أن التميز أنما يكون للثابت خارجا وهو خطأ فإنها تتمايز بتمايز ملكاتها، واستدل المصنف رحمة الله عليه بوجوه ثلاثة:
الأول: أن عدم المعلول يستند إلى عدم العلة ولا يستند إلى عدم غيرها فلولا امتياز عدم العلة من عدم غيرها لم يكن عدم المعلول مستندا إليه دون غيره، وأيضا فإنا نحكم بأن عدم المعلول لعدم علته ولا يجوز العكس، فلولا تمايزهما لما كان كذلك.
الثاني: أن عدم الشرط ينافي وجود المشروط لاستحالة الجمع بينهما، لأن المشروط لا يوجد إلا مع شرطه، وإلا لم يكن الشرط شرطا وعدم غيره لا
____________
(1) فعل ماض من المنافاة، عطف على استند، وعدم الشرط مرفوع على الفاعلية، ووجود المشروط منصوب على المفعولية، وعلى هذا المنوال الجملة التالية.
الثالث: أن عدم الضد عن المحل يصحح وجود الضد الآخر فيه لانتفاء صحة وجود الضد الطارئ مع وجود الضد الباقي، وعدم غيره لا يصحح ذلك فلا بد من التمايز.
قال: ثم العدم قد يعرض لنفسه فيصدق النوعية والتقابل عليه باعتبارين.
أقول: العدم قد يفرض عارضا لغيره وقد يلحظ لا باعتبار عروضه للغير فيكون أمرا معقولا قائما برأسه ويكون له تحقق في الذهن، ثم إن العقل يمكنه فرض عدمه (2) لأن الذهن يمكنه إلحاق الوجود والعدم بجميع المعقولات حتى بنفسه، فإذا اعتبر العقل للعدم ماهية معقولة وفرضها معدومة كان العدم عارضا لنفسه ويكون العدم العارض للعدم مقابلا لمطلق العدم باعتبار كونه رافعا له وعدما له ونوعا منه، باعتبار أن العدم المعروض أخذ مطلقا على وجه يعم العارض له ولغيره، فيصدق نوعية العدم العارض للمعروض والتقابل بينهما باعتبارين.
قال: وعدم المعلول ليس علة لعدم العلة في الخارج وإن جاز في الذهن على أنه برهان إني وبالعكس لمي.
أقول: لما بين أن الإعدام متمايزة بأن عدم المعلول مستند إلى عدم العلة ذكر ما يصلح جوابا لتوهم من يعكس القول ويجعل عدم المعلول علة لعدم العلة فأزال هذا الوهم وقال: إن عدم المعلول ليس علة بل الأمر بالعكس على ما يأتي (3)، ثم قيد النفي بالخارج لأن عدم المعلول قد يكون علة لعدم العلة في الذهن كما في برهان إن بأن يكون عدم المعلول أظهر عند العقل من عدم العلة فيستدل العقل
____________
(1) اي عدم غير الشرط لا ينافي المشروط.
(2) ضمير عدمه راجع إلى العدم الذي لوحظ لا باعتبار عروضه، أعني العدم المطلق الذي يكون معروضا للعدم العارض له.
(3) يأتي في المسألة الثالثة والأربعين من هذا الفصل، وفي المسألة السادسة عشرة من الفصل الثالث.
المسألة العشرون
في أن عدم الأخص أعم من عدم الأعم
قال: والأشياء المترتبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما.
أقول: إذا فرض أمران أحدهما أعم من الآخر كالحيوان والانسان، ونسب عدم أحدهما إلى الآخر بالعموم والخصوص وجد عدم الأخص أعم من عدم الأعم فإن الحيوان يشمل الانسان وغيره، فغير الانسان لا يصدق عليه أنه انسان بل يصدق عليه عدمه ولا يصدق عليه عدم الحيوان لأنه أحد أنواعه، ويصدق أيضا عدم الانسان على ما ليس بحيوان وهو ظاهر، فعدم الحيوان لا يشمل أفراد عدم الانسان وعدم الانسان شامل لأفراد ما ليس بحيوان فيكون عدم الأخص أعم من عدم الأعم، فإذا ترتب شيئان في العموم والخصوص وجودا ترتبا في العكس عدما، بأن يصير الأخص أعم في طرف العدم.
المسألة الحادية والعشرون
في قسمة الوجود والعدم إلى المحتاج والغني
قال: وقسمة كل منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقة.
أقول: كل واحد من الوجود والعدم إما أن يكون محتاجا إلى الغير وإما أن يكون مستغنيا عنه، والأول ممكن والثاني واجب أو ممتنع، وهذه القسمة حقيقية تمنع الجمع لاستحالة كون المستغني عن الغير محتاجا إليه وبالعكس، وأما منع
____________
(1) باتفاق النسخ كلها، أي الوجود في الذهن.
المسألة الثانية والعشرون
في الوجوب والامكان والامتناع
قال: وإذا حمل الوجود أو جعل رابطة ثبتت مواد ثلاث في أنفسها جهات في التعقل دالة على وثاقة الربط وضعفه هي الوجوب والامتناع والامكان.
أقول: الوجود قد يكون محمولا بنفسه كقولنا: الانسان موجود، وقد يكون رابطة بين الموضوع والمحمول كقولنا: الانسان يوجد حيوانا، وعلى كلا التقديرين لا بد لهذه النسبة، أعني نسبة المحمول فيهما إلى الموضوع من كيفية هي الوجوب والامكان والامتناع، وتلك الكيفية تسمى مادة وجهة باعتبارين، فإنا إن أخذنا الكيفية في نفس الأمر سميت مادة، وإن أخذناها عند العقل وما تدل عليه العبارات سميت جهة، وقد تتحدان كقولنا: الانسان يجب أن يكون حيوانا، وقد تتغايران كقولنا: الانسان يمكن أن يكون حيوانا، فالمادة ضرورية لأن كيفية نسبة الحيوانية إلى الانسانية هي الوجوب، وأما الجهة فهي ممكنة وهذه الكيفيات تدل على وثاقة الربط وضعفه، فإن الوجوب يدل على وثاقة الربط في طرف الثبوت والامتناع على وثاقته في طرف العدم والامكان على ضعف الربط.
قال: وكذلك العدم.
____________
(1) أي منفصلة حقيقية دائرة بين الاثبات والنفي، وفي بعض النسخ منفصلة حقيقية ولكن الزيادة أدرجت في عبارة الكتاب.
وعبارة الشرح كما في (م)، جاءت هكذا: وهذه القسمة حقيقية تمنع الجمع لاستحالة كون المستغني.. الخ. والنسخ الأخرى كلها كانت هكذا: وهذه القسمة حقيقية أي تمنع الجمع والخلو، أما منع الجمع فلاستحالة.. الخ، ونظير ما في هذه النسخ يأتي في المسألة الرابعة والعشرين ومواضع أخرى، ولكن العبارة في المقام هي ما اخترناها، ولا يبعد أن تصرف فيها بقرينة تلك المواضع، والخطب سهل.
المسألة الثالثة والعشرون
في أن هذه القضايا الثلاث لا يمكن تعريفها
قال: والبحث في تعريفها كالوجود.
أقول: إن جماعة من العلماء أخطأوا هاهنا حيث عرفوا الواجب والممكن والممتنع لأن هذه الأشياء معلومة للعقلاء لا تحتاج إلى اكتساب، نعم قد يذكر في تعريف ألفاظها ما يكون شارحا لها لا على أنه حد حقيقي بل لفظي، ومع ذلك فتعريفاتهم دورية لأنهم عرفوا الواجب بأنه الذي يستحيل عدمه أو الذي لا يمكن عدمه، ثم عرفوا المستحيل بأنه الذي لا يمكن وجوده أو الذي يجب عدمه، ثم عرفوا الممكن بأنه الذي لا يجب وجوده ولا يجب عدمه أو الذي لا يستحيل وجوده ولا عدمه فقد أخذ كل واحد منها في تعريف الآخر، وهو دور ظاهر.
المسألة الرابعة والعشرون
في القسمة إلى هذه الثلاث
قال: وقد تؤخذ (2) ذاتية فتكون القسمة حقيقية لا يمكن انقلابها.
أقول: إذا أخذنا الوجوب والامتناع والامكان على أنها ذاتية لا بالنظر إلى الغير كانت المعقولات منقسمة إليها قسمة حقيقية، أي تمنع الجمع والخلو، وذلك
____________
(1) حرف التعريف في الجهات للعهد ناظر إلى قوله المقدم: جهات في التعقل في الوجود.
والمختار مطابق لنسخة (م)، والنسخ الأخرى: الكتابة حدثت الجهات الثلاث عند التعقل.
(2) أي تلك الثلاثة من الوجوب والامكان والامتناع، وقرئ أيضا: وقد يؤخذ، أي كل واحد منها. وقوله: لا يمكن انقلابها، بدل من قوله: فتكون القسمة حقيقية، كقوله الآتي: يمكن انقلابها، بدل من قوله: فالقسمة مانعة الجمع بينهما.
واعلم أن القسمة الحقيقية قد تكون لكلي (1) بفصول أو لوازم تميزه وتفصله إلى الأقسام المندرجة تحته، وقد تكون بعوارض مفارقة والقسمة الأولى لا يمكن انقلابها ولا يصير أحد القسمين معروضا لمميز الآخر الذي به وقعت القسمة كقولنا: الحيوان إما ناطق أو صامت، فإن الحيوان بالناطق والصامت قد انقسم إلى طبيعتين ويستحيل انقلاب هذه القسمة، بمعنى أن الحيوان الذي هو ناطق يستحيل زوال النطق عنه وعروض الصمت له، وكذا الحيوان الذي هو صامت. وأما القسمة الثانية فإنه يمكن انقلابها ويصير أحد القسمين معروضا لمميز الآخر الذي به وقعت القسمة: كقولنا: الحيوان إما متحرك أو ساكن، فإن كل واحد من قسمي المتحرك والساكن قد يتصف بعارض الآخر فينقلب المتحرك ساكنا وبالعكس، وقسمة المعقول بالوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والامكان الذاتي من قبيل القسم الأول لاستحالة انقلاب الواجب لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته، وكذا الباقيان.
قال: وقد يؤخذ الأولان (2) باعتبار بالغير، فالقسمة مانعة الجمع بينهما يمكن انقلابها، ومانعة الخلو بين الثلاثة في الممكنات.
أقول: إذا أخذنا الواجب والممتنع باعتبار الغير لا بالنظر إلى الذات انقسم المعقول إليهما على سبيل منع الجمع لا الخلو، وذلك لأن المعقول حينئذ إما أن يكون واجبا لغيره أو ممتنعا لغيره على سبيل منع الجمع لا الخلو لامتناع الجمع بين الوجوب بالغير والامتناع بالغير، وإمكان الخلو عنهما لا بالنظر إلى وجود
____________
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: قد تكون للكلي.
(2) أي الوجوب والامتناع، على ما في عبارة المتن.
المسألة الخامسة والعشرون
في أقسام الضرورة والإمكان
قال: ويشترك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة وإن اختلفا بالسلب والإيجاب.
أقول: الضرورة تطلق على الوجوب والامتناع وتشملهما، فإن كل واحد من الوجوب والامتناع يقال له ضروري، لكنهما يختلفان بالسلب والإيجاب، فالوجوب ضرورة الوجود والامتناع ضرورة السلب، واسم الضرورة شامل لهما.
قال: وكل منهما يصدق على الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه.
أقول: كل واحد من الوجوب والامتناع يصدق على الآخر، فإن وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ويستلزمه، وبالعكس، وكذلك امتناع الوجود يصدق عليه وجوب العدم ويستلزمه، فالوجوب والامتناع كل واحد منهما يصدق عليه الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه، يعني بالمضاف إليه الوجود أو العدم اللذين يضاف الوجود والامتناع إليهما.
وإنما اشترطنا تقابل المضاف إليه لأنه يستحيل صدقهما على مضاف واحد (3)، فإن وجوب الوجود لا يصدق عليه امتناع الوجود وبالعكس ولا وجوب العدم يصدق عليه امتناع العدم بل إنما يصدق كل واحد منهما على صاحبه
____________
(1) أي بل بالنظر إلى نفس الماهية التي من حيث هي ليست إلا هي.
(2) وسيأتي في المسألة السابعة والعشرين أن معروض ما بالغير منهما ممكن.
(3) باتفاق النسخ كلها.
قال: وقد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين (1) فيعم الأخرى والخاص.
أقول: القسمة العقلية ثلاثة (2): واجب وممتنع وممكن ليس بواجب ولا ممتنع، هذا بحسب اصطلاح الخاصة (3). وقد يؤخذ الإمكان على معنى أعم من ذلك وهو سلب الضرورة عن أحد الطرفين، أعني طرفي الوجود والعدم لا عنهما معا بل عن الطرف المقابل للحكم حتى يكون ممكن الوجود هو ما ليس بممتنع ويكون قد رفعنا فيه ضرورة العدم (4) وممكن العدم هو ما ليس بواجب ويكون قد رفعنا فيه ضرورة الوجود، فإذا أخذ بهذا المعنى كان أعم من الأول ومن الضرورة الأخرى التي لا تقابله، فإن رفع إحدى الضرورتين يشمل ثبوت الأخرى والامكان الخاص.
قال: وقد يؤخذ بالنسبة إلى الاستقبال.
____________
(1) أي الطرف المخالف فيعم الأخرى، أي ضرورة الجانب الموافق والامكان الخاص.
وقد اتفقت النسخ على نقل قوله: فيعم الأخرى والخاص، بهذه الصورة التي اخترناها.
(2) هكذا رويت العبارة في النسخ كلها، ولعل تأنيث العدد بلحاظ الواجب والممتنع والممكن، وإلا فالصواب أن يقال: القسمة العقلية ثلاث.
(3) أي الإمكان بهذا المعنى.
(4) فإن كان وجوده ضروريا فيشمل الواجب، وإن كان وجوده كعدمه غير ضروري فيشمل الإمكان الخاص، فالمراد من الضرورة الأخرى التي لا تقابله هو ضرورة الجانب الموافق، لأن الضرورة التي تقابله هي ضرورة العدم، وذلك لأن الإمكان بمعنى العام الوجودي فهو يسلب ضرورة العدم فلا محالة تقابله ضرورة العدم. فممكن الوجود بالامكان العام أعم من الواجب وممكن الوجود بالامكان الخاصي، وكذلك ممكن العدم بالامكان العام أعم من الممتنع وممكن العدم بالامكان الخاصي. وقوله: إذا أخذ بهذا المعنى، أي إذا أخذ الإمكان بهذا المعنى. وقوله: والامكان الخاص منصوب معطوف على ثبوت الأخرى.
والعبارة موافقة لنسخ (م ص ق د) والثلاث الأول أصحها وأقدمها، وفي (ز): فإن رفع الضرورتين يستلزم ثبوت الأخرى، وفي (ش): لا يستلزم، وهذه ليست بصواب لأن نفيها منفي.
قال: ولا يشترط العدم في الحال وإلا اجتمع النقيضان.
أقول: هذا الإمكان (2) لا يشترط عدمه في الحال على المذهب الحق. وذهب بعضهم إلى الاشتراط فقال: لأنه لو كان موجودا في الحال لكان واجبا فلا يكون ممكنا وهو خطأ، لأن الوجود (3) إن أخرجه إلى الوجوب أخرجه العدم إلى الامتناع. وأيضا إذا اشترط في إمكان الوجود في المستقبل العدم في الحال اشترط في إمكان العدم الوجود في الحال، لكن ممكن الوجود هو بعينه ممكن العدم، فيلزم اشتراط وجوده وعدمه في الحال هذا خلف، وإليه أشار بقوله: وإلا اجتمع النقيضان. وأيضا العدم في الحال لا ينافي الوجود في المستقبل وإمكانه في الحال، فالأولى أن لا ينافي (4) إمكانه في المستقبل.
المسألة السادسة والعشرون
في أن الوجوب والامكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان
قال: والثلاثة اعتبارية لصدقها على المعدوم واستحالة التسلسل.
____________
(1) سيشير الشارح إليه في المسألة السادسة والعشرين، ويأتي تفصيله في المسألة الثانية والثلاثين.
(2) كما في (م) وهي أقدم النسخ، وأما النسخ الأخرى فهكذا: ذهب قوم غير محققين إلى أن الممكن الاستقبالي شرطه العدم في الحال، قالوا: لأنه لو كان.. الخ.
(3) قال الشيخ في منطق الإشارات (ص 49 ط 1): ومن يشترط في هذا - يعني به الإمكان الاستقبالي - أن يكون معدوما في الحال، فيشترط ما لا ينبغي وذلك لأنه يحسب أنه إذا جعله موجودا أخرجه إلى ضرورة الوجود، ولا يعلم أنه إذا لم يجعله موجودا بل فرضه معدوما فقد أخرجه إلى ضرورة العدم، فإن لم يضر هذا لم يضر ذاك.
(4) كما في (م) وفي (ص ق د): فأولى أن لا ينافي، وفي (ش) وحدها: فبالأولى أن لا ينافي.