الصفحة 73

أقول: هذه الجهات الثلاث أعني الوجوب والامكان والامتناع أمور اعتبارية يعتبرها العقل عند نسبة الوجود إلى الماهية، وليس لها تحقق في الأعيان لوجوه:

منها ما هو مشترك ومنها ما هو مختص بكل واحد، أما المشترك فأمران:

الأول: أن هذه الأمور تصدق على المعلوم، فإن الممتنع يصدق عليه أنه مستحيل الوجود وأنه واجب العدم، والممكن قبل وجوده يصدق عليه أنه ممكن وهو معدوم، وإذا اتصف المعدوم بها كانت عدمية لاستحالة اتصاف العدمي بالثبوتي.

الثاني: يلزم التسلسل لأن كل متحقق فله وجود يشارك به غيره من الموجودات ويختص بنفس ماهيته وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز، فوجوده غير ماهيته، فاتصاف ماهيته بوجوده لا يخلو عن أحد هذه الأمور الثلاثة، فلو كانت هذه الأمور ثبوتية لزم اتصافها بأحد الثلاثة ويتسلسل، وهو محال.

قال: ولو كان الوجوب ثبوتيا لزم إمكان الواجب.

أقول: لما ذكر الأدلة الشاملة في الدلالة على أن هذه الأمور ليست ثبوتية في الأعيان شرع في الدلالة على كل واحد من الثلاثة، فبدأ بالوجوب الذي هو أقربها إلى الوجود إذ هو تأكده (1)، فبين أنه ليس ثبوتيا، والدليل عليه أنه لو كان موجودا لكان ممكنا وبالتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه صفة للغير والصفة مفتقرة إلى الموصوف فالوجوب مفتقر إلى ذات الواجب فيكون الوجوب ممكنا. وأما بطلان التالي فلأنه لو كان الوجوب ممكنا لكان الواجب ممكنا، لأن الواجب أنما هو واجب بهذا الوجوب الممكن، والوجوب الممكن يمكن زواله فيخرج الواجب عن كونه واجبا فيكون ممكنا هذا محال.

قال: ولو كان الامتناع ثبوتيا لزم إمكان الممتنع.

____________

(1) على صيغة المصدر من باب التفعل أي الوجوب هو تأكده الوجود، كما يأتي في المسألة الحادية والثلاثين أن الوجوب تأكد الوجود وقوته، والامكان ضعف فيه.


الصفحة 74
أقول: هذا حكم ضروري وهو أن الامتناع أمر عدمي، وقد نبه هاهنا على طريق التنبيه لا الاستدلال، فإن الامتناع لو كان ثبوتيا لزم إمكان الممتنع، لأن ثبوت الامتناع يستدعي ثبوت موصوفه - أعني الممتنع - فيكون الممتنع ممكنا (1) هذا خلف.

قال: ولو كان الإمكان ثبوتيا لزم سبق وجود كل ممكن على إمكانه.

أقول: اختلف الناس في أن الإمكان الخاص هل هو ثبوتي أم لا؟ وتحرير القول فيه أن الإمكان قد يؤخذ بالنسبة إلى الماهية نفسها لا بالقياس إلى الوجود وهو الإمكان الراجع إلى الماهية، وقد يؤخذ بالنسبة إلى الوجود من حيث القرب والبعد من طرف العدم إليه وهو الإمكان الاستعدادي. أما الأول: فالمحققون كافة على أنه أمر اعتباري لا تحقق له عينا، وأما الثاني: فالأوائل قالوا: إنه من باب الكيف، وهو قابل للشدة والضعف، والحق يأباه (2)، والدليل على عدمه في الخارج أنه لو كان ثابتا مع أنه إضافة بين أمرين أو ذو إضافة لزم ثبوت مضافيه اللذين هما الماهية والوجود، فيلزم تأخره عن الوجود في الرتبة هذا خلف.

قال: والفرق بين نفي الإمكان والامكان المنفي لا يستلزم ثبوته (3).

____________

(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: فيكون الممتنع ثابتا، والأول هو الحق كما قال في المتن: لزم إمكان الممتنع، والغور في أسلوب الدليل أيضا يحكم بذلك.

(2) أقول: والحق يأباه لأن الإمكان الاستعدادي صفة حقيقية وجودية كامنة في المركبات قابلة للشدة والضعف والزيادة والنقصان، بل ويعدم ويوجد بخلاف الإمكان الذاتي للممكنات المتصور في العقل لا يمكن زواله عنها، كما يأتي بيان الفرق بينهما في المسألة الثانية والثلاثين، والشارح أنكره هاهنا وأقر به هناك. وأما قوله هاهنا: (والدليل على عدمه..

الخ) فالحق أن الاستعداد أمر وجودي وهو غير إمكانه، كما أفاده المتأله السبزواري بقوله:


قد يوصف الإمكان باستعداديوهو بعرفهم سوى استعداد

والامكان الاستعدادي دال على وحدة الصنع والتدبير في العالم الكياني على نظامه بالعلم العنائي الرباني.

(3) راجع الأسفار (ط 1 - ج 1 - ص 32 و 42) فإنه في قوله: (في بعض المسطورات الكلامية) ناظر إلى هذا المقام من هذا الكتاب.


الصفحة 75
أقول: هذا جواب عن استدلال الشيخ أبي علي بن سينا على ثبوت الإمكان، فإنه قال: لو كان الإمكان عدميا لما بقي فرق بين نفي الإمكان والامكان المنفي لعدم التمايز في العدمات، والجواب المنع من الملازمة فإن الفرق واقع ولا يستدعي الفرق الثبوت كما في الامتناع.

المسألة السابعة والعشرون
في الوجوب والامكان والامتناع المطلقة

قال: والوجوب شامل للذاتي وغيره وكذا الامتناع.

أقول: الوجوب قد يكون ذاتيا وهو المستند إلى نفس الماهية من غير التفات إلى غيرها، وقد يكون بالغير وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر إليه، فإن المعلول لولا النظر إلى علته لم يكن واجبا بها، فالوجوب المطلق قد انقسم إلى ما بالذات وإلى ما بالغير وهو شامل لهما، وكذا الامتناع شامل للامتناع الذاتي وللعارض باعتبار الغير، وليس عموم الوجوب عموم الجنسية وإلا تركب الوجوب الذاتي بل عموم عارض ذهني لمعروض ذهني.

قال: ومعروض ما بالغير منهما ممكن.

أقول: الذات التي يصدق عليها أنها واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير فإنها تكون ممكنة بالذات، لأن الممكن الذاتي هو الذي يعتوره الوجوب والامتناع ولا يمكن أن يكون الواجب بالغير واجبا بالذات ولا ممتنعا بالذات، وكذا الممتنع بالغير فقد ظهر أن معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات.

قال: ولا ممكن بالغير لما تقدم (1) في القسمة الحقيقية.

أقول: لا يمكن أن يكون هاهنا ممكن بالغير كما أمكن واجب وممتنع بالغير، لأنه لو كان كذلك لكان المعروض للامكان بالغير إما واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته،

____________

(1) تقدم في المسألة الحادية والعشرين.


الصفحة 76
وكل ممكن بالغير ممكن بالذات فيكون ذلك المعروض تارة واجبا لذاته وتارة ممكنا، فيلزم انقلاب القسمة الحقيقية التي فرضنا أنها لا تنقلب هذا خلف.

المسألة الثامنة والعشرون
في عروض الإمكان وقسيميه للماهية

قال: وعروض الإمكان عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية وعلتها.

أقول: الإمكان إنما يعرض للماهية من حيث هي هي، لا باعتبار وجودها ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار وجود علتها ولا باعتبار عدم علتها، بل إنما يعرض لها عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية نفسها، وعند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى علة الممكن، فإن الماهية إذا أخذت موجودة كانت واجبة ما دامت موجودة، وكذا إذا أخذت معدومة تكون ممتنعة ما دامت معدومة، وإذا أخذت باعتبار وجود علتها كانت واجبة ما دامت العلة موجودة، وإذا أخذت باعتبار عدم علتها كانت ممتنعة ما دامت العلة معدومة.

قال: وعند اعتبارهما بالنظر إليهما يثبت ما بالغير.

أقول: إذا اعتبرنا الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية أو إلى علتها ثبت الوجوب بالغير والامتناع بالغير، وهو ظاهر مما تقدم.

قال: ولا منافاة بين الإمكان والغيري (1).

أقول: قد بينا أن الممكن باعتبار وجوده أو وجود علته يكون واجبا، وباعتبار عدمه أو عدم علته يكون ممتنعا، لكن الوجوب والامتناع ليسا ذاتيين، بل باعتبار الغير ومعروضهما الممكن فلا منافاة بينهما وبين الإمكان.

____________

(1) أي بين الإمكان والوجوب بالغير والامتناع بالغير، إذ لا معنى للامكان بالغير كما تقدم، والمتن مطابق للنسخ كلها.


الصفحة 77

قال: وكل ممكن العروض ذاتي ولا عكس.

أقول: الممكن قد يكون ممكن الثبوت في نفسه وقد يكون ممكن الثبوت لشئ آخر، وكل ممكن الثبوت لشئ آخر - أعني ممكن العروض - فهو ممكن ذاتي، أي يكون في نفسه ممكن الثبوت لأن إمكان ثبوت الشئ لغيره فرع على إمكانه في نفسه ولا ينعكس، فقد يكون الشئ ممكن الثبوت في نفسه وممتنع الثبوت لغيره كالمفارقات، أو واجب الثبوت لغيره كالأعراض والصفات.

المسألة التاسعة والعشرون
في علة الاحتياج إلى المؤثر

قال: وإذا لحظ الذهن (1) الممكن موجودا طلب العلة وإن لم يتصور غيره وقد

____________

(1) الكلام في أن علة احتياج الأثر إلى مؤثره هي الإمكان لا غير، وهذا هو القول القويم والحكم الحكيم لا يعتريه ريب ولا يشوبه عيب، فالممكن في بقائه محتاج إلى مؤثره كما أنه في حدوثه مفتاق إليه على سواء، والعلة الموجدة هي المبقية بلا مراء. والرأي الآخر بأنها الحدوث أو الإمكان مع الحدوث شطرا أو شرطا فائل جدا.

ثم الحدوث على رأيهم ذلك هو الحدوث الزماني وهما منهم أن الحدوث لو لم يكن زمانيا لزم منه القول بقدم العالم واستغنائه عن المؤثر، لأن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر فالعالم مستغن عن المؤثر، والأوسط لم يكرر في القياس.

لأن الحكيم القائل بقدمه يعني به الزماني لا الذاتي والقديم المستغني عن المؤثر هو الذاتي لا الزماني. والمصنف شنع عليهم بأن الحدوث ليس علة الاحتياج حتى لو قلنا بقدم العالم لم يستغن عن المؤثر، لأن علة الاحتياج هو الإمكان وهذا الفقر لا يفارق الممكن أينما كان وأيما كان، كما قال في المسألة الرابعة والأربعين: والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث، ولهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب لو أمكن ولا يمكن استناده إلى المختار.

ثم إن الحدوث لا يكون زمانيا فقط، بل الحدوث الذاتي متحقق كما يأتي في المسألة الرابعة والثلاثين، والحدوث الذاتي لا ينافي القدم الزماني على أن الأمر الحري بالمقام فوق أمثال هذه المسائل بدرجات وهو سبحانه رفيع الدرجات ذو المعارج. وسيأتي قوله في المسألة الخامسة والأربعين بأنه لا قديم سوى الله، فالقديم الذاتي ليس إلا الله، والقديم الذاتي هو الوجود الأحدي والحق الصمدي، أي هو الأول والآخر والظاهر والباطن. والتوحيد الصمدي يطرد كثيرا من المسائل الكلامية بل المشائية أيضا.

ثم اعلم أن أكثر ما احتج به أئمتنا عليهم السلام على الزنادقة لا يشتمل التمسك بالحدوث، ينبئك الجوامع الروائية، وذلك لأن إثبات الواجب تعالى لا يتوقف على إثبات الحدوث للعالم، فتبصر. وسيأتي تمام الكلام في مسألتي الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين من هذا الفصل وفي أول الفصل الثالث من هذا المقصد.


الصفحة 78

يتصور وجود الحادث فلا يطلبها، ثم الحدوث كيفية الوجود فليس علة لما يتقدم عليه بمراتب.

أقول: اختلف الناس هنا في علة احتياج الأثر إلى مؤثره، فقال جمهور العقلاء: إنها الإمكان لا غير، وقال آخرون: إنها الحدوث لا غير، وقال آخرون:

هما معا. والحق الأول لوجهين:

الأول: العقل إذا لحظ الماهية الممكنة وأراد حمل الوجود أو العدم عليها افتقر في ذلك إلى العلة وإن لم ينظر شيئا آخر سوى الإمكان والتساوي، إذ حكم العقل بالتساوي الذاتي كاف في الحكم بامتناع الرجحان الذاتي فاحتاج إلى العلة من حيث هو ممكن وإن لم يلحظ غيره، ولو فرضنا حادثا وجب وجوده وإن كان فرضا محالا فإن العقل يحكم بعدم احتياجه إلى المؤثر، فعلم أن علة الحاجة أنما هي الإمكان لا غير.

الثاني: أن الحدوث كيفية للوجود فيتأخر عنه تأخرا ذاتيا والوجود متأخر عن الايجاد والايجاد متأخر عن الاحتياج والاحتياج متأخر عن علة الاحتياج، فلو كان الحدوث علة الحاجة لزم تقدم الشئ على نفسه بمراتب وهو محال.

المسألة الثلاثون
في أن الممكن محتاج إلى المؤثر

قال: والحكم باحتياج الممكن ضروري.


الصفحة 79
أقول: اختلف الناس هنا، فقال قوم: إن هذا الحكم ضروري، أعني أن احتياج الممكن لا يحتاج إلى برهان فإن كل من تصور تساوي طرفي الممكن جزم بالضرورة أن أحدهما لا يترجح من حيث هو متساو أعني من حيث ذاته، بل من حيث إن المرجح ثابت، وهذا الحكم قطعي لا يقع فيه شك.

وقال آخرون: إنه استدلالي، وهو خطأ وسبب غلطهم أنهم لم يتصوروا الممكن على ما هو عليه.

المسألة الحادية والثلاثون
في وجوب الممكن المستفاد من الفاعل

قال: ولا تتصور الأولوية (1) لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته.

أقول: قد بينا أن الممكن من حيث هو هو لا باعتبار وجود علته أو عدمها، فإن وجوده وعدمه متساويان بالنسبة إليه، وإنما يحصل الترجيح من الفاعل الخارجي، فإذا لا يمكن أن تتصور أولوية لأحد الطرفين على الآخر بالنظر إلى ذاته.

قال: ولا تكفي الخارجية لأن فرضها لا يحيل المقابل فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب.

أقول: أولوية أحد الطرفين بالنظر إلى وجود العلة أو عدمها هي الأولوية الخارجية، فإن كانت العلة مستجمعة لجميع الشرائط منتفيا عنها جميع الموانع كانت الأولوية وجوبا وإلا كانت أولوية يجوز معها وقوع الطرف الآخر، وهذه الأولوية

____________

(1) سواء كانت الأولوية ذاتية أي بالنظر إلى ذات الممكن، أو خارجية. فعلى رد الأول قال:

ولا يتصور الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته أي بالنظر إلى الممكن من حيث هو هو، لأن وجوده وعدمه بالنسبة إليه متساويان فلا يكون أحدهما أولى له من الآخر. وعلى رد الثاني قال: ولا تكفي الخارجية لأن الممكن ما لم يجب وجوده من العلة ولم يطرد جميع أنحاء العدم منه لم يوجد فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب أي إلى مرجح يجب به وجوده، وكذا ما لم يجب عدمه من العلة لم يعدم.


الصفحة 80
الخارجية لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه، لأن فرضها لا يحيل المقابل.

وبيان ذلك: أنا إذا فرضنا هذه الأولوية متحققة ثابتة فإما أن يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية أو لا يمكن، والثاني يقتضي أن تكون الأولوية وجوبا، والأول يلزم منه المحال وهو ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجح، لأنا إذا فرضنا الأولوية ثابتة يمكن معها وجود الطرف الراجح والمرجوح، فتخصيص أحد الوقتين (1) بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجح وهو محال، فقد ظهر أن الأولوية لا تكفي في الترجيح بل لا بد من الوجوب، وأن كل ممكن على الإطلاق لا يمكن وجوده إلا إذا وجب، فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب.

قال: وهو سابق (2) ويلحقه وجوب آخر لا يخلو عنه قضية فعلية.

أقول: كل ممكن موجود أو معدوم فإنه محفوف بوجوبين: أحدهما: الوجوب السابق سبقا ذاتيا الذي استدللنا على تحققه. والثاني: الوجوب اللاحق وهو المتأخر عن تحقق القضية، فإن الحكم بوجود المشي للانسان يكون واجبا ما دام المشي موجودا له، وهذه الضرورة تسمى ضرورة بحسب المحمول ولا يخلو عنها قضية فعلية.

قال: والامكان لازم (3) وإلا تجب الماهية أو تمتنع.

أقول: الإمكان للممكن واجب، لأنه لولا ذلك لأمكن زواله وحينئذ تبقى الماهية واجبة أو ممتنعة، وقد بينا امتناعه فيما سلف.

____________

(1) كما في (م ص ز ق د) وفي (ش) وحدها: أحد الطرفين.

(2) أي هذا الوجوب هو وجوب سابق لأنه وجب أولا من علته فوقع سبقا ذاتيا لا زمانيا الذي استدللنا على تحققه بأن الممكن ما لم يجب وجوده أو عدمه عن العلة لم يقع، وبعبارة أخرى استدل على تحققه بأنه لا بد من الانتهاء إلى الوجوب.

(3) أي لازم لماهية الممكن وإلا لزم انقلاب الممكن إلى الوجوب أو الامتناع، لأن المواد ثلاث فعند انفكاكه عنها تبقى إحدى الأخريين، وقد بين امتناعه في المسألة الرابعة والعشرين.


الصفحة 81

قال: ووجوب الفعليات (1) يقارنه جواز العدم فليس بلازم.

أقول: يريد أن يبين أن الوجوب اللاحق وهو الذي ذكر أنه لا يخلو عنه قضية فعلية، ولهذا سماه وجوب الفعليات يقارن جواز العدم وذلك لأن الوجود لا يخرجه عن الإمكان الذاتي بل هو باق على طبيعة الإمكان لأن وجوبه بشرط لا مطلقا (2)، فلهذا حكم بجواز مقارنة وجوب الوجود لجواز العدم، وهذا الوجوب ليس بلازم بل ينفك عن الماهية عند فرض عدم العلة.

قال: ونسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص.

أقول: الوجوب هو تأكد الوجود وقوته والامكان ضعف فيه، فنسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص، لأن الوجوب تمام الوجود والإمكان نقص له.

المسألة الثانية والثلاثون
في الإمكان الاستعدادي

قال: والاستعدادي قابل للشدة والضعف ويعدم ويوجد للمركبات (3) وهو غير الإمكان الذاتي.

أقول: الإمكان إما أن يلحظ باعتبار الماهية نفسها وهو الإمكان الذاتي، وإما أن يلحظ باعتبار قربها من الوجود وبعدها عنه وهو الإمكان الاستعدادي، وهذا الإمكان قابل للشدة والضعف والزيادة والنقصان، فإن استعداد النطفة للانسانية أضعف وأبعد من استعداد العلقة لها، وكذا استعداد النطفة للكتابة أبعد وأضعف من استعداد الانسانية لها، فهذا هو الإمكان الاستعدادي الحاصل لكل ماهية سبق

____________

(1) أي الوجوب اللاحق في الممكنات.

(2) أي ذلك الوجوب اللاحق لا يكون للممكن مطلقا بل بشرط وهو وجوب وجود العلة والامكان حال للماهية وصفة لها من حيث هي لا بشرط.

(3) كما في (م ت ش) والنسخ الأخرى: ويوجد للممكنات، ولكن الصواب هو ما في النسخ الأولى كما قد اخترناه.


الصفحة 82
عدمها وجودها، وهذا الإمكان الاستعدادي يعدم ويوجد بعد عدمه للمركبات، فإن الماء بعد تسخنه يستعد لصيرورته هواء بعد أن لم يكن، فقد تجدد له هذا الاستعداد، ثم إذا برد زال ذلك الاستعداد. وأما الإمكان الذاتي فقد بينا أنه لا يمكن زواله (1) عن الممكن فتغايرا (2).

المسألة الثالثة والثلاثون
في القدم والحدوث

قال: والموجود إن أخذ (3) غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم وإلا فحادث.

أقول: هذه قسمة للموجود إلى القديم والحادث، وذلك لأن الموجود إما أن يسبقه الغير أو لا يسبقه الغير، فالأول هو الحادث والثاني هو القديم، وقد يقال: إن القديم هو الذي لا يسبقه العدم والحادث هو الذي يسبقه العدم.

قال: والسبق ومقابلاه (4) إما بالعلية أو بالطبع أو بالزمان أو بالرتبة الحسية أو العقلية أو بالشرف أو بالذات، والحصر استقرائي (5) أقول: لما ذكر أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير أو العدم على اختلاف التفسيرين، والمحدث هو الذي يسبقه الغير أو العدم، وجب عليه أن يبين أقسام التقدم والسبق ومقابليه أعني التأخر والمعية.

____________

(1) بين في المسألة الرابعة والعشرين.

(2) أي تغاير الإمكان الاستعدادي والإمكان الذاتي.

(3) وفي (ص م ت ق ز د): والوجود إن أخذ، وفي (ش) وحدها: والموجود إن أخذ، كما في الشرح باتفاق النسخ كلها: هذه قسمة للموجود.

(4) مقابلا السبق هما التأخر والمعية.

(5) وإن كان دائرا بين الأثبات والنفي كقولهم المتقدم إن احتاج إليه المتأخر فإن كان علة تامة له فهو بالعلية وإلا فبالطبع، وإن لم يحتج فإن لم يمكن اجتماعهما في الوجود فبالزمان، وإن أمكن فإن اعتبر بينهما ترتب فبالرتبة وإلا فبالشرف، ولكن هذا الدوران ليس بحقيقي، بل عبروا تلك الأقسام على شهرتها بهذه الصورة الدائرة بينهما.


الصفحة 83
وقد ذكر الحكماء أن أقسام التقدم خمسة:

الأول: التقدم بالعلية وهو كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم، ولهذا فإنه لولا حركة اليد لم تحصل حركة الخاتم، فهذا الترتيب العقلي هو تقدم بالعلية.

الثاني: التقدم بالطبع وهو (1) أن يكون المتقدم له حظ في التأثير في المتأخر ولا يكون هو كمال المؤثر (2) وهو كتقدم الواحد على الاثنين، والفرق بينه وبين الأول أن المتقدم هناك كان كافيا في وجود المتأخر والمتقدم هنا لا يكفي في وجوده.

الثالث: التقدم بالزمان وهو أن يكون المتقدم موجودا في زمان متقدم على زمان المتأخر كالأب والابن.

الرابع: التقدم بالرتبة وهي إما حسية كتقدم الأمام على المأموم، أو عقلية كتقدم الجنس على النوع إن جعل المبدأ الأعم (3).

____________

(1) قال الشيخ في قاطيغورياس الشفاء: الأقدم عند الطبع هي الأشياء التي إذا رفعت ارتفعت ما بعدها من غير عكس، وكذا فسر التقدم بالطبع في الفصل الأول من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 465).

(2) أي ليس علة تامة.

(3) يعني إن أخذنا من جنس الأجناس إلى السافل وجعلناه مبدأ يكون كل جنس قريب بالمبدأ متقدما بالرتبة على نوعه، وإن جعلنا النوع السافل مبدأ فبالعكس.

والمصنف قد ذكر في منطق التجريد الأقسام الخمسة من السبق على ما ذهب إليه الأوائل كما في منطق أرسطو وفصوص الفارابي وذكر السبق بالذات للمتقدم بالعلة، ولم يعتن بما مال إليه المتكلمون حيث جعلوا السابق غير المجامع مع المسبوق على قسمين: قسم يعرضه بسبب الزمان ويسمونه السبق الزماني، وقسم يعرضه لذاته ويسمونه السبق بالذات كسبق أجزاء الزمان بعضها على بعض، وعللوا بأن هذا السبق الذاتي ليس بأحد الوجوه الخمسة على الوتيرة التي في الشرح، بل جعل السبق بالزمان شاملا لكليهما كما أعرب ضميره في أساس الاقتباس حيث قال: تقدم وتأخر برپنج معنى إطلاق كنند أول بزمان مانند تقدم دى برامروز وپدر برپسر وقديم بر حادث، وتأخر امروز از دى وپسر از پدر وحادث از قديم وأين بالذات بود مانند تقدم دى برامروز، يالغيره مانند ديگر مثالها الخ.

يعني أن تقدم أمس على اليوم تقدم بالزمان ولا يلزم أن يكون للزمان زمان حتى يتسلسل وإنما يلزم ذلك إذا كان هذا التقدم بزمان زائد على المتقدم والمتأخر بهذا التقدم نفس الزمان ويكون عروض التقدم والتأخر لهما لذاتيهما ولغير أجزاء الزمان بسبب أجزاء الزمان فتحقق أن التقدم الذاتي الذي زاده المتكلمون غير ثابت.


الصفحة 84
الخامس: التقدم بالشرف كتقدم العالم على المتعلم وكذا أصناف التأخر والمعية (1).

ثم المتكلمون زادوا قسما آخر للتقدم وسموه التقدم الذاتي وتمثلوا فيه بتقدم أمس على اليوم فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالطبع ولا بالزمان وإلا لاحتاج الزمان إلى زمان آخر وتسلسل، وظاهر أنه ليس بالرتبة ولا بالشرف فهو خارج عن هذه الأقسام، وهذا الحصر استقرائي (2) لا برهاني إذ لم يقم برهان على انحصار التقدم في هذه الأنواع، والقسمة إنما تنحصر إذا ترددت بين النفي والإثبات.

المسألة الرابعة والثلاثون
في أن التقدم مقول بالتشكيك

قال: ومقوليته بالتشكيك وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.

____________

(1) والماتن في متن منطق التجريد بعد عد أقسام التقدم والتأخر الخمسة قال وكذلك المع (ص 28 ط 1) وقال الشارح في الشرح: وإذا عرفت أصناف المتقدم فاعرف منها أصناف المتأخر وهو ظاهر وكذا أصناف المعية إلا في المعية بالعلية لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد، والمصنف أطلق ذلك وليس بجيد، إنتهى.

والعجب أنه أطلق في هذا المقام حيث قال: وكذا أصناف التأخر والمعية فإطلاقه ليس بجيد، والحق كما في الشوارق (ص 91 ج 1 ط 1) حيث قال: وأما أقسام المعية فلا خفاء في المعية الرتبية كمفهومين متساويين وكمتحاذيين، ولا في المعية بالطبع كعلتين ناقصتين لمعلول واحد، وكمعلولين مشروطين بشرط واحد، ولا بالعلية كعلتين مستقلتين لمعلول واحد نوعي.. الخ.

يعني أن استحالة اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد يجري في المعلول الواحد الشخصي وأما في النوعي فلا استحالة فيها.

(2) راجع في ذلك الفصل الأول من رابعة آلهيات الشفاء، والى الشوارق في المقام والحكمة المنظومة (ص 81) في أقسام السبق.


الصفحة 85
أقول: اختلف الحكماء هنا، فقال قوم: إن التقدم مقول على أنواعه الخمسة بالاشتراك البحت (1) وهو خطأ فإن كل واحد من التقدم بالعلية والطبع قد شارك الآخر في معنى التقدم، وهو أن كل واحد من المتقدم وجد له ما للمتأخر دون العكس.

وقال آخرون: إنه مقول بالتشكيك لأن الأصناف تشترك في أن المتقدم بما هو متقدم له شئ ليس للمتأخر ولا شئ للمتأخر إلا وهو موجود للمتقدم، وهذا المعنى المشترك يقال لا بمعنى واحد فإن المتقدم بالعلية يوجد له التقدم قبل التقدم بالطبع والتقدم بالطبع قبل سائر أصناف التقدم، وفي هذا بحث ذكرناه في كتاب الأسرار (2).

____________

(1) أي صرف الاشتراك اللفظي.

(2) لم يحضرني هذا الكتاب، ولعل ذلك البحث هو بعض ما نشير إليه في المقام فاعلم إن الشيخ قال في الفصل الأول من المقالة الرابعة من آلهيات الشفاء (ص 464 ط 1): إن التقدم والتأخر إن كان مقولا على وجوه كثيرة فإنها يكاد أن يجتمع على سبيل التشكيك في شئ، وهو أن يكون للمتقدم من حيث هو متقدم شئ ليس للمتأخر ويكون لا شئ للمتأخر إلا للمتقدم.

وأورد عليه المولى صدرا في تعليقاته على الشفاء (ص 154) بقوله: إن هذا منقوض بالمتقدم الذي بطل وجوده عند وجود المتأخر، إذ لا شك أنه متقدم بالزمان، ثم الذي للمتأخر بالزمان ليس موجودا للمتقدم عند وجود المتأخر، ولا أيضا كان موجودا له، كما أن ما للمتقدم من الزمان ما وجد للمتأخر أصلا بل كل جزء من أجزاء الزمان مختص بهوية لا توجد في غيره.

قال: ويمكن الجواب بأن ملاك التقدم في كل قسم من الأقسام شئ من نوع ما فيه التقدم أو من جنسه، فملاك التقدم في المتقدم بالزمان نفس طبيعة الزمان، ولا شك أن هذه الطبيعة تكون متحققة فيما هو متقدم حين ما ليست متحققة فيما هو متأخر، ولا يتحقق في المتأخر إلا وقد تحققت في المتقدم، وليس الغرض هاهنا تعريف القدر المشترك ليلزم الدور بإيراد لفظ التقدم والتأخر بل التنبيه على القدر المشترك.

وأقول: كأن هذا الجواب منه ليس بسديد، لأن الشيخ قال: أن يكون للمتقدم من حيث هو متقدم شئ ليس للمتأخر، وهو يقول: إن هذه الطبيعة تكون متحققة فيما هو متقدم حين ما ليست متحققة فيما هو متأخر، وأين معنى أحدهما من الآخر، فتأمل.

ثم قال: إن قوله - يعني قول الشيخ في الشفاء - على الإطلاق ويكون لا شئ للمتأخر إلا وقد وجد للمتقدم ليس بسديد، فقد يوجد كثير من المعاني للمتأخر ولا يوجد مثلها للمتقدم كالجوهرية والجسمية في المبدعات والكائنات المتأخر وجودهما عن الأول تعالى، فكان ينبغي أن يقيد ذلك بما يكون من جنس ما فيه التقدم وكأنه المراد وإن لم يصرح في اللفظ، إنتهى ما أردنا من نقل كلامه.

وقال المولى أولياء في تعليقته على الشفاء: قوله: وهو أن يكون للمتقدم.. الخ، فإن المتقدم بالزمان مثلا له مضي زمان أكثر منه للمتأخر وكذا المتقدم بالرتبة فإن له وصولا إلى المبدأ ليس للمتأخر، وقس على هذا قوله: ولا شئ للمتأخر، أي من هذا المعنى الذي يكون التقدم والتأخر باعتباره فلا يرد ما ذكر البعض أنه قد يوجد كثير من المعاني للمتأخر ولا يوجد مثلها للمتقدم كالجوهرية والجسمية في المبدعات والكائنات المتأخر وجودهما عن الأول تعالى، إنتهى.

أقول: مفاد قوله أي من هذا المعنى الذي يكون التقدم والتأخر باعتباره، ومفاد قول صدر المتألهين فكان ينبغي أن يقيد ذلك بما يكون من جنس ما فيه التقدم واحد، فلا يرد قوله فلا يرد ما ذكر البعض.

واعلم أن البحث عن أقسام السبق وكثير من مسائله ذكرناه في شرحنا على فصوص الفارابي بالفارسية، فراجع الفص التاسع والستين من ذلك الشرح.


الصفحة 86
وإذا ثبت أنه مقول بالتشكيك بمعنى أن بعض أنواع التقدم أولى بالتقدم من بعض، فاعلم إنا إذا فرضنا (أ) متقدما على (ب) بالعلية و (ج) متقدما على (د) بالطبع كان تقدم (أ) على (ب) أولى من تقدم (ج) على (د)، وحينئذ (ب) أحد المضافين أولى (1) بتأخره عن الألف المضاف الآخر من تأخر (د) عن (ج) فانحفظت الإضافة بين المضافين في الأولوية وهو أحد أنواع التشكيك.

وكذلك لو فرضنا تقدم (أ) على (ب) أشد من تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن (أ) أشد من تأخر (د) عن (ج)، وهذا نوع ثان للتشكيك.

وكذا لو فرضنا تقدم (أ) على (ب) قبل تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن (أ) قبل تأخر (د) عن (ج)، وهذا هو النوع الثالث وهذا معنى قوله: وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.

____________

(1) خبر ل (ب).


الصفحة 87

قال: وحيث وجد التفاوت امتنع جنسيته.

أقول: لما بين أن التقدم مقول على ما تحته من أصناف التقدمات بالتشكيك ظهر أنه ليس جنسا لما تحته، وأن مقوليته على ما تحته قول العارض على معروضه لا قول الجنس على أنواعه، لامتناع وقوع التفاوت في أجزاء الماهية.

قال: والتقدم دائما بعارض زماني أو مكاني أو غيرهما.

أقول: إذا نظر إلى الماهية من حيث هي هي لم تكن متقدمة على غيرها ولا متأخرة، وإنما يعرض لها التقدم والتأخر باعتبار أمر خارج عنها إما زماني كما في التقدم الزماني (1) أو مكاني كما في التقدم المكاني أو مغاير كما في تقدم العلة على معلولها باعتبار التأثير والتأثر وكما في تقدم العالم على المتعلم باعتبار الشرف وغير ذلك من أصناف التقدمات.

قال: والقدم والحدوث الحقيقيان (2) لا يعتبر فيهما الزمان وإلا تسلسل.

أقول: القدم والحدوث قد يكونان حقيقيين وقد لا يكونان حقيقيين بل

____________

(1) سواء كان التقدم بزمان زائد على المتقدم والمتأخر، أو بنفس الزمان كما تقدم، فلا يرد ما تفوه بأن الإشكال في القسم السادس أي التقدم بالذات على ما ذهب إليه المتكلمون، فإن عروض التقدم لبعض أجزاء الزمان المفروضة إنما هو لذاته لا لأمر خارج.

ثم إن قول الماتن كما اخترناه موافق لجميع النسخ بلا استثناء، وأما قول الشارح فقد روي في غير (م ص) هكذا: إما زمان كما في التقدم الزماني أو مكان كما في التقدم المكاني.

(2) ناظر إلى الذاتيين منهما وأعرب ضميره في قوله الآتي: والحدوث الذاتي متحقق والحدوث الذاتي لا ينافي دوام الفيض أزلا وأبدا، فافهم. وكلامه هذا رد على من أنكر الحدوث الذاتي ولم يعقل سوى الحدوث الزماني.

والشيخ الرئيس في الفصل الثاني عشر من النمط الخامس من الإشارات نقل مذاهب المتكلمين في حدوث العالم من جملتها أن من هؤلاء من قال: إن العالم وجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يكن وجوده إلا حين وجد، ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين ولا بشئ آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم، ثم قال الشيخ: فهؤلاء هؤلاء.

والنسخ كلها جاءت: والقدم بالواو، كما اخترناه وفي (ت) وحدها: فالقدم بالفاء.


الصفحة 88
يقالان على ما يقالان عليه على سبيل المجاز، فالقدم والحدوث الحقيقيان وهما ما فسرناهما به من أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير والمحدث هو المسبوق بالغير، وهما بهذا الاعتبار لا يفتقران إلى الزمان لأن الزمان إن كان قديما أو حادثا بهذا المعنى افتقر إلى زمان آخر وتسلسل، وأما القدم والحدوث بالمجاز فإنهما لا يتحققان بدون الزمان وذلك لأن القديم يقال بالمجاز لما يستطال زمان وجوده في جانب الماضي، والمحدث لما لا يستطال زمانه.

قال: والحدوث الذاتي متحقق.

أقول: قد بينا أن أصناف التقدم والتأخر خمسة أو ستة، ومن جملتها التقدم والتأخر بالطبع (1)، فالحدوث الذاتي هو الذي يكون الوجود فيه متأخرا عن العدم بالذات، وبيانه: أن الممكن يستحق من ذاته عدم استحقاق الوجود والعدم ويستحق من غيره استحقاق أحدهما وما بالذات أسبق مما بالغير فاللااستحقاقية - أعني التأخر الذاتي - متقدم على الاستحقاقية وذلك هو معنى الحدوث الذاتي.

قال: والقدم والحدوث اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار.

أقول: ذهب المحققون إلى أن القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحققة في الأعيان، وذهب عبد الله بن سعيد من الأشعرية إلى أنهما وصفان زائدان على الوجود، والحق خلاف ذلك وأنهما اعتباران عقليان يعتبرهما الذهن عند مقايسة سبق الغير إليه وعدمه، لأنهما لو كانا ثبوتيين لزم التسلسل، لأن الموجود من كل واحد منهما إما أن يكون قديما أو حادثا، فيكون للقدم قدم آخر وكذا الحدوث هذا خلف، بل هما عقليان يعتبرهما العقل وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي.

وهذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: إذا كان القدم والحدوث أمرين ثبوتيين في العقل أمكن عروض القدم والحدوث لهما ويعود المحذور من التسلسل، وتقرير الجواب أنهما اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار فلا يلزم التسلسل.

____________

(1) فاللااستحقاقية متقدمة بالطبع على الاستحقاقية في الممكنات.