الصفحة 89

قال: وتصدق الحقيقية منهما.

أقول: الموجود لا يخلو عن القدم والحدوث لأنه لا يخلو من أن يكون مسبوقا بغيره أو لا، والأول حادث والثاني قديم، ولا يجتمعان في شئ واحد لاستحالة اجتماع النقيضين، فإذن لا يجتمعان ولا يرتفعان فتتركب المنفصلة الحقيقية منهما.

المسألة الخامسة والثلاثون
في خواص الواجب

قال: ومن الوجوب الذاتي والغيري (1).

أقول: هذه إحدى الخواص وهو أن الشئ الواحد إذا كان واجبا لذاته استحال أن يكون واجبا بغيره، إذا عرفت هذا فنقول: المنفصلة الحقيقية التي تمنع الجمع والخلو صادقة على الموجود إذا أخذ جزءاها الوجوب بالذات والوجوب بالغير، بأن يقال: الموجود إما واجب لذاته أو واجب بغيره لامتناع صدقهما على شئ واحد وكذبهما عليه، وذلك لأن الموجود إما مستغن عن الغير أو محتاج إليه ولا واسطة بينهما، والأول واجب بالذات والثاني واجب بالغير.

وإنما امتنع الجمع بينهما لأنه لو كان شئ واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم المحال، لأن الواجب بغيره يرتفع بارتفاع غيره، والواجب بالذات لا يرتفع بارتفاع غيره، فلو كان شئ واحد واجبا بذاته وبغيره لزم اجتماع النقيضين، وهو محال.

وإنما امتنع الخلو عنهما لأن الموجود إن كان واجبا صدق أحد الجزئين (2)

____________

(1) لا يخفى أن هذه العبارة عطف على قوله: منهما، أي تصدق القضية المنفصلة الحقيقية من الوجوب الذاتي والغيري، فهذا الكلام تتمة المسألة الرابعة والثلاثين، والعجب أن الشارح شرحه على هذا النهج القويم ولكن جعله أول المسألة الخامسة والثلاثين في خواص الواجب. والحق أن قوله الآتي: ويستحيل صدق الذاتي على المركب، أول المسألة في خواص الواجب كما في الشوارق.

(2) أي أحد الجزئين من القضية المنفصلة.


الصفحة 90
وإن كان ممكنا استحال وجوده إلا بعد وجوبه بالفاعل على ما تقدم فيصدق الجزء الآخر.

قال: ويستحيل صدق الذاتي على المركب (1).

أقول: هذه خاصية ثانية للواجب الذاتي وهو أنه يستحيل أن يكون مركبا، فلا يمكن صدق الوجوب الذاتي على المركب لأن كل مركب يفتقر إلى أجزائه على ما يأتي، وكل مفتقر ممكن، فالواجب لذاته ممكن لذاته هذا خلف.

قال بعض المتأخرين: هذه المسألة تتوقف على الوحدانية لأنه لو قال قائل:

يجوز أن يكون كل واحد من أجزاء المركب واجبا لذاته ويكون المجموع مستغنيا عن الغير، أجبنا بأن الواجب لذاته يستحيل أن يكون متعددا.

والحق أنه لا افتقار في هذه المسألة إلى الوحدانية لأن هذا المركب يستحيل أن يكون واجبا لذاته لافتقاره إلى أجزائه الواجبة، وكل مفتقر ممكن، فيكون المركب ممكنا فلا يكون واجبا، وهذا لا يتوقف على الوحدانية.

قال: ولا يكون الذاتي جزءا من غيره.

أقول: هذه خاصية ثالثة للواجب ظاهرة (2) وهي أن الواجب لذاته لا يتركب عنه غيره وهو ظاهر، لأن التركب إما حسي وهو إنما يكون بانفعال كالمزاج، أو عقلي كتركب الماهية من الأجناس والفصول، والكل ظاهر الاستحالة.

المسألة السادسة والثلاثون
في أن وجود واجب الوجود ووجوبه نفس حقيقته

قال: ولا يزيد وجوده ونسبته عليه وإلا لكان ممكنا (3).

____________

(1) البحث عن خواص الواجب أي لوازم وجوب الوجود لأن الوجود والحق والواجب وجوهر الجواهر وحقيقة الحقائق ونظائرها بمعنى واحد كما أومأنا إليه، فالمفاهيم متعددة والعين واحدة.

(2) باتفاق النسخ كلها، والمراد بالواجب هو الواجب الذاتي كما هو ظاهر.

(3) متعلق بالجميع، أي لكل واحد من الأحكام التي هي خواص الواجب، أي يستحيل صدق الذاتي على المركب وإلا لكان ممكنا، وهكذا في الخاصتين بعدها.


الصفحة 91
أقول: هذه المسألة تشتمل على بحثين: البحث الأول: في أن وجود واجب الوجود لذاته نفس حقيقته، وتقريره أن نقول: لو كان وجود (1) واجب الوجود لذاته زائدا على حقيقته لكان صفة لها فيكون ممكنا فيفتقر إلى علة، فتلك العلة إما أن تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته، والقسمان باطلان، أما الأول فلأن تلك الحقيقة إما أن تؤثر فيه وهي موجودة أو تؤثر فيه وهي معدومة، فإن أثرت فيه وهي موجودة فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدم الشئ على نفسه وهو محال، وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ويلزم وجود الماهية مرتين والجميع باطل، وإن أثرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثرا في الموجود وهو باطل بالضرورة.

وأما الثاني فلأنه يلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى غيره فيكون ممكنا وهو محال، وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب.

البحث الثاني: في أن الوجوب نفس حقيقته، وقد تقدم بيان ذلك فيما سلف.

قال: والوجود المعلوم (2) هو المقول بالتشكيك أما الخاص به فلا.

أقول: هذا جواب من استدل على زيادة الوجود في حق واجب الوجود، وتقرير الدليل أن نقول: ماهيته تعالى غير معلومة للبشر على ما يأتي، والوجود معلوم ينتج من الشكل الثاني أن الماهية غير الوجود.

____________

(1) الكلام في أن واجب الوجود إنية محضة، فالحري بالتوحيد أن تعلم أن الوجود يساوق الحق والحق سبحانه هو الوجود الواجب وما سواه مرزوق بهذا الرزق ولولاه لما كان ما كان.

قال مولانا سيد الساجدين عليه السلام في الدعاء الثاني والخمسين من الصحيفة: (أو كيف يستطيع أن يهرب منك من لا حياة له إلا برزقك). والممكن في حدوثه وبقائه مفتاق بهذا الرزق، وبدونه لا اسم له ولا رسم، وحيث إنه تعالى وجود صمدي فهو الواحد الجميع، أي هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فافهم.

(2) يعني مفهوم الوجود المطلق العام، والخاص به هو الوجود الواجب.


الصفحة 92
وتقرير الجواب عنه أن نقول: إنا قد بينا أن الوجود مقول بالتشكيك (1) على ما تحته والمقول على أشياء بالتشكيك يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءا منها، بل يكون دائما خارجا عنها لازما لها كالبياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج لا على السواء فهو ليس بماهية ولا جزء ماهية لهما، بل هو لازم من خارج، وذلك لأن بين طرفي التضاد الواقع في الألوان أنواعا من الألوان لا نهاية لها بالقوة ولا أسامي لها بالتفصيل يقع على كل جملة منها اسم واحد بمعنى واحد كالبياض والحمرة والسواد بالتشكيك، ويكون ذلك المعنى لازما لتلك الجملة غير مقوم، فكذلك الوجود في وقوعه على وجود الواجب وعلى وجودات الممكنات المختلفة بالهويات التي لا أسماء لها بالتفصيل، فإنه يقع عليها وقوع لازم خارجي غير مقوم، فالوجود يقع على ما تحته بمعنى واحد، ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجودات الممكنات في الحقيقة، لأن مختلفات الحقيقة قد تشترك في لازم واحد، فالحقيقة التي لا تدركها العقول هي الوجود الخاص المخالف لسائر الوجودات بالهوية، الذي هو المبدأ الأول والوجود المعقول هو الوجود العام اللازم لذلك الوجود وسائر الوجودات وهو أولي التصور، وإدراك اللازم لا يقتضي إدراك الملزوم بالحقيقة وإلا لوجب من إدراك الوجود إدراك جميع الوجودات الخاصة، وكون حقيقته تعالى غير مدركة وكون الوجود مدركا يقتضي المغايرة بين حقيقته تعالى والوجود المطلق لا الوجود الخاص به تعالى، وهذا التحقيق مما نبه (2) عليه بهمنيار في التحصيل،

____________

(1) قد بين في المسألة الرابعة والثلاثين.

(2) نبه عليه في الفصل الأول من المقالة الأولى من الكتاب الثاني من التحصيل بقوله: ثم اعلم أن الوجود يحمل على ما تحته حمل التشكيك لا حمل التواطؤ ومعنى ذلك.. الخ (ص 281 ط 1).

والمصنف حرره في الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات ردا على وهم الفخر الرازي حيث زعم أن الوجود شئ واحد في الواجب والممكن على السواء بالتواطؤ، وبيان هذا التشكيك أن مختلفات الحقيقة - أي الواجب والممكنات - قد تشترك في لازم واحد وهو الوجود المحمول عليها، فالوجود بمعنى واحد في الجميع ولكن لا على السواء بل على الاختلاف.

ذهب المتأخرون من المشاء إلى أن الوجودات العينية حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة لا بالفصول ليلزم التركيب في الوجود ويكون الوجود المطلق جنسا، ولا بالمصنفات والمشخصات ليلزم التركيب في الوجود أيضا ويكون الوجود المطلق نوعا، بل المطلق عرضي لازم لها بمعنى أنه خارج محمول أي محمول من صميمه لا أنه عرضي بمعنى المحمول بالضميمة، لأن العارض والمعروض في المحمول بالضميمة شيئان والمعروض - أي المحمول - سابق على العارض أي الحامل. وحمل الوجود المطلق على أعيان الوجودات المتباينة حمل اللازم على الملزومات المتعددة المتباينة وهذا الحمل على سبيل التشكيك أي إطلاق الوجود المطلق العام اللازم على ملزوم وهو الوجود الواجب أولى وأقدم على ملزوم آخر كالعقل الأول مثلا وعلى هذا القياس، وفي هذه الملزومات ملزوم واحد فقط له تأكد وجودي وتوحد كذلك هو إنية محضة ووجود صرف وهو ذات الواجب وما سواه زوج تركيبي من الوجود والماهية، ولا منافاة بين أن يكون لازم واحد بمعنى واحد يطلق على ملزومات متباينة على سبيل التشكيك، فالوجود المطلق العام العارض اللازم هو معروض التشكيك، كما أن الوجودات العينية معروضاته فهي معروضات ذلك المعروض.

وقد أومأنا من قبل إلى أن التوحيد أشمخ من ظاهر هذا الزعم، وهو تنزيه في عين التشبيه والتوحيد الصمدي منزه عن هذا التنزيه، فعلى هذا الزعم قالوا في علم الباري بالجزئيات أنه عالم بها على النحو الكلي، ووقعوا في صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي وفي ربطها به وفي مسائل أخرى في خبط عظيم إلا أن يصحح آراؤهم بمعاونة كلماتهم الأخرى على غير ما اشتهر منهم ولا ضير كما أشرنا إلى طائفة منها في شرحنا على فصوص الفارابي، ولا يعجبني بني إسناد تلك الآراء الفائلة بظاهرها إليهم، ولا أعتقده فيهم بذلك الاسترسال والاطلاق.


الصفحة 93
وقرره المصنف رحمه الله في شرح الإشارات.

قال: وليس طبيعة نوعية (1) على ما سلف فجاز اختلاف جزئياته في العروض وعدمه.

____________

(1) كما ذهب الفخر الرازي إلى أن الوجود طبيعة نوعية، فراجع شرحه على الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات (ص 303 ط مصر).

قال شارح المقاصد سعد الدين التفتازاني: والعجب أن الإمام قد اطلع من كلام الفارابي وابن سينا على أن مرادهم أن حقيقة الواجب وجود مجرد هي محض الواجبية لا اشتراك فيه أصلا، والوجود العام المشترك المعلوم لازم له غير مقوم، بل صرح في بعض كتبه بأن الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك، ثم استمر على شبهته التي زعم أنها من المتانة بحيث لا يمكن توجيه شك مخيل عليها وهي أن الوجود إن اقتضى العروض أو اللا عروض تساوى الواجب والممكن في ذلك، وإن لم يقتض شيئا منهما كان وجوب الواجب من الغير.

وجملة الأمر أنه لم يفرق بين التساوي في المفهوم والتساوي في الحقيقة، فذهب إلى أنه لا بد من أحد الأمرين: إما كون اشتراك الوجود لفظيا، أو كون الوجودات متساوية في اللوازم . (ص 66 و 67 ط 1).

وقد لخص المحقق نصير الدين الطوسي كلام الفخر الرازي في شرح الفصل المذكور من رابع الإشارات بقوله: والفاضل الشارح قد اضطرب في هذا الموضع اضطرابا ظن بسببه أن عقول العقلاء وأفهام الحكماء بأسرها مضطربة، وذلك لأنه استدل على أن الوجود لا يقع على الموجودات بالاشتراك اللفظي بدلائل كثيرة استفادها منهم، وحكم بعد ذلك بأن الوجود شئ واحد في الجميع على السواء حتى صرح بأن وجود الواجب مساو لوجود الممكنات تعالى عن ذلك، ثم إنه لما رأى وجود الممكنات أمرا عارضا لماهياتها وكان قد حكم بأن وجود الواجب مساو لوجود الممكنات حكم بأن وجود الواجب أيضا عارض لماهيته، فماهيته غير وجوده تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وظن أنه إن لم يجعل وجود الواجب عارضا لماهيته لزمه إما كون ذلك الوجود مساويا للوجودات المعلولة، وإما وقوع الوجود على وجود الواجب ووجود غيره بالاشتراك اللفظي، ومنشأ هذا الغلط هو الجهل بمعنى الوقوع بالتشكيك.. الخ.

ثم أخذ في بيان إطلاق الوجود على الموجودات بالتشكيك على الوجه المحقق عند المشاء، وقد حررناه آنفا مع مزيد إيضاح منا. وقد دريت أن الخطب أرفع مما ذهب إليه المشاء بمراحل فضلا عما توهم الفخر الرازي، ثم لنا في المقام حول كلمات الفخر وتحقيقات المحقق المذكور في شرحه على الإشارات مطالب مجدية لعلها تنجدك في هذه المباحث.


الصفحة 94
أقول: هذا جواب عن استدلال ثان استدل به الذاهبون إلى أن وجوده تعالى زائد على حقيقته، وتقرير الدليل أن الوجود طبيعة واحدة نوعية لما بيناه من اشتراكه، والطبائع النوعية تتفق في لوازمها، وقد بنى الحكماء على هذه القاعدة مطالب كثيرة كامتناع الخلاء ووجود الهيولى للأفلاك وغير ذلك من مباحثهم، فنقول:

طبيعة الوجود إن اقتضت العروض وجب أن يكون وجود واجب الوجود عارضا لماهية مغايرة له، وإن اقتضت اللا عروض كانت وجودات الممكنات غير عارضة لماهياتها، فأما أن لا تكون موجودة أو يكون وجودها نفس حقائقها، والقسمان باطلان، وإن لم تقتض واحدا منهما لم تتصف بأحدهما إلا بأمر خارج عن طبيعة

الصفحة 95
الوجود، فيكون تجرد واجب الوجود محتاجا إلى المؤثر هذا خلف.

وتقرير الجواب أن الوجود ليس طبيعة نوعية على ما حققناه، بل هو مقول بالتشكيك (1) على ما تقدم، والمقول على أشياء بالتشكيك لا يتساوى اقتضاؤه، فإن النور يقتضي بعض جزئياته أبصار الأعشى بخلاف سائر الأنوار والحرارة، كذلك فإن الحرارة الغريزية تقتضي استعداد الحياة بخلاف سائر الحرارات، فكذلك الوجود.

قال: وتأثير الماهية من حيث هي في الوجود غير معقول.

أقول: لما أبطل استدلالاتهم شرع في إبطال الاعتراض الوارد على دليله، وقد ذكر هاهنا أمرين: أحدهما: أنهم قالوا: لا نسلم انحصار أحوال الماهية حالة التأثير في الوجود والعدم (2)، بل جاز أن تكون الماهية من حيث هي هي مؤثرة في الوجود، فلا يلزم التسلسل ولا تأثير المعدوم في الموجود. والجواب أن الماهية من حيث هي هي (3) يجوز أن تقتضي صفات لها على سبيل العلية

____________

(1) وصدقه على أفراده صدق عرضي كما دريت.

واعلم أن الشيخ في الفصل الثالث من سادسة إلهيات الشفاء ناظر إلى هذا التحقيق في تشكيك الوجود على ممشي المشاء، حيث يقول: ثم الوجود بما هو وجود لا يختلف في الشدة والضعف، ولا يقبل الأقل والأنقص، وإنما يختلف في ثلاثة أحكام وهي التقدم والتأخر والاستغناء والحاجة والوجوب والإمكان، إلى آخر ما أفاد (ص 534 ج 2 ط 1).

(2) متعلق بالانحصار.

(3) ناظر إلى كلام الشيخ في الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات حيث يقول: قد يجوز أن تكون ماهية الشئ سببا لصفة من صفاته، وأن تكون صفة له سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة، ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشئ إنما هي بسبب ماهيته التي ليست هي الوجود أو بسبب صفة أخرى، لأن السبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود، إنتهى.

وأقول: الماهية توجد بسبب الوجود والسنخية بين العلة ومعلولها توجب أن يكون معلول الماهية من سنخها في وعاء الذهن، مثلا كون الأثنينية سببا لزوجية الاثنين، وأنى للماهية أن توجب صفة الوجود وتكون سببا له وهي حد ينتزع من شأن من شؤون الوجود الأحدي الصمدي، والسبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود.

واعلم أن هذا الفصل من الإشارات وما حققه المحقق الطوسي في أمر الوجود ورد الشبهات الفخرية في المقام هو الأصل فيما أتى به المولى صدرا في الفصل الثالث من المنهج الثاني من المرحلة الأولى من الأسفار من أن واجب الوجود إنيته ماهيته.

ثم يستشم من كلام المحقق الطوسي في هذا المقام من التجريد أنه صنف التجريد بعد شرحه على الإشارات.


الصفحة 96
والمعلولية إلا الوجود فإنه يمتنع أن تؤثر فيه من حيث هي هي، لأن الوجود لا يكون معلولا لغير الموجود بالضرورة فيلزم المحاذير المذكورة، والضرورة فرقت بين الوجود وسائر الصفات.

قال: والنقض بالقابل (1) ظاهر البطلان.

أقول: هذا جواب عن السؤال الثاني، وتقريره أنهم قالوا: إن العلة القابلية للوجود لا يجوز أن يكون باعتبار الوجود، فإن الممكن المعدوم لو لم يقبل الوجود إلا بشرط الوجود لزم تقدم الشئ على نفسه أو تعددت الوجودات للماهية الواحدة، والكل محال، وإذا كان كذلك فلم لا يعقل مثله في العلة الفاعلية؟

والجواب أن هذا إنما يتم لو قلنا إن الوجود عارض للماهية عروض السواد للجسم وأن للماهية ثبوتا في الخارج دون وجودها، ثم إن الوجود يحل فيها ونحن لا نقول كذلك، بل كون الماهية هو وجودها (2) وإنما تتجرد عن الوجود في العقل لا بمعنى أنها تكون في العقل منفكة عن الوجود، لأن الحصول في العقل نوع من الوجود، بل بمعنى أن العقل يلاحظها منفردة، فاتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي، إذ ليس للماهية وجود منفرد ولعارضها المسمى بالوجود وجود آخر ويجتمعان اجتماع المقبول والقابل، بل الماهية إذا كانت فكونها وجودها، والحاصل من هذا أن الماهية إنما تكون قابلة للوجود عند وجودها في العقل فقط،

____________

(1) جواب عن اعتراض الفخر الرازي بالنقض.

(2) سيأتي هذا البحث في المسألة الثامنة والثلاثين حيث يقول: وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا.


الصفحة 97
ولا يمكن أن تكون فاعلة لصفة خارجية عند وجودها في العقل فقط.

قال: والوجود من المحمولات العقلية (1) لامتناع استغنائه عن المحل وحصوله فيه.

أقول: الوجود ليس من الأمور العينية بل هو من المحمولات العقلية الصرفة، وتقريره أنه لو كان ثابتا في الأعيان لم يخل إما أن يكون نفس الماهيات الصادق عليها أو مغايرا لها، والقسمان باطلان، أما الأول فلما تقدم من أنه زائد على الماهية ومشترك بين المختلفات فلا يكون نفسها.

وأما الثاني فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، والأول باطل وإلا لم يكن صفة لغيره، والثاني باطل لأن كل عرض فهو حاصل في المحل، وحصوله في المحل نوع من الوجود، فيكون للوجود وجود هذا خلف، ويلزم تأخره عن محله وتقدمه عليه هذا خلف.

قال: وهو من المعقولات الثانية.

أقول: الوجود كالشيئية في أنها من المعقولات الثانية، إذ ليس الوجود ماهية خارجية على ما بيناه، بل هو أمر عقلي يعرض للماهيات وهو من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات الأولى، وليس في الموجودات شئ هو وجود أو شئ، بل الموجود إما الانسان أو الحجر أو غيرهما، ثم يلزم من معقولية ذلك أن يكون موجودا.

قال: وكذلك العدم.

أقول: يعني به أن العدم من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى كما

____________

(1) أي مفهوم الوجود المطلق المحمول على الماهيات من الصفات العقلية الاعتبارية الموجودة في العقل فقط، ليست بصفة عينية خارجية فذلك الوجود المطلق المحمول من المعقولات الثانية، وأما الوجود المطلق الواجبي الحق الصمدي فهو الأول والآخر والظاهر والباطن سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين.


الصفحة 98
قلنا في الوجود، إذ ليس في الأعيان ماهية هي عدم مطلق فهو دائما عارض لغيره.

قال: وجهاتهما.

أقول: يعني به أن جهات الوجود والعدم من الوجوب والإمكان والامتناع الذاتية والمشروطة من المعقولات الثانية أيضا كما تقدم من أنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج، وقد سبق البحث فيه.

قال: والماهية.

أقول: الماهية أيضا من المعقولات الثانية فإن الماهية تصدق على الحقيقة باعتبار ذاتها لا من حيث إنها موجودة أو معقولة، وإن كان ما يصدق عليه الماهية من المعقولات الأولى (1)، وليس البحث فيه بل في الماهية أعني العارض فإن كون الانسان ماهية أمر زائد على حقيقة الانسانية.

قال: والكلية والجزئية.

أقول: هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى، فإن الماهية من حيث هي هي وإن كانت لا تخلو عنهما إلا أنها مغايرة لهما، وهما يصدقان عليها صدق العارض على معروضه، فإن الانسانية لو كانت لذاتها كلية لم تصدق جزئية وبالعكس، فالانسانية ليست من حيث هي هي كلية ولا جزئية، بل إنما تصدق عليه الكلية عند اعتبار صدق الحقيقة على أفراد متوهمة أو متحققة، والجزئية أنما تصدق عليها عند اعتبار أمور أخر مخصصة لتلك الحقيقة ببعض الأفراد فهما من المعقولات الثانية.

قال: والذاتية والعرضية.

____________

(1) يعني كما أن الأفراد الخارجية كزيد وعمرو وبكر مصاديق حقيقية للانسان كذلك الماهيات الذهنية كماهيات الانسان والبقر والغنم مصاديق ذهنية للماهية، فالماهية صادقة على كل واحدة منها، فالماهية من المعقولات الثانية العارضة على الأولى ومصاديقها أفراد ذهنية ليست بخارجية.


الصفحة 99
أقول: هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإنه ليس في الأعيان ذاتية ولا عرضية وليس لهما تأصل في الوجود، وقد يكون الذاتي لشئ عرضيا لغيره فهما اعتباران عقليان عارضان لماهيات متحققة في أنفسها فهي من المعقولات الثانية.

قال: والجنسية والفصلية والنوعية.

أقول: هذه أيضا أمور اعتبارية عقلية صرفة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى، فإن كون الانسان نوعا أمر مغاير لحقيقة الانسانية عارض لها وإلا لامتنع صدق الانسانية على زيد، وكذلك الجنسية للحيوان مثلا أمر عارض له مغاير لحقيقته وكذلك الفصلية للناطق، وهذا كله ظاهر.

المسألة السابعة والثلاثون
في تصور العدم (1)

قال: وللعقل أن يعتبر النقيضين ويحكم بينهما بالتناقض ولا استحالة فيه.

أقول: العقل يحكم بالمناقضة بين السلب والإيجاب فلا بد وأن يعتبرهما معا، لأن التناقض من قبيل النسب والإضافات لا يمكن تصوره إلا بعد تصور معروضيه، فيكون متصورا للسلب والإيجاب معا ولا استحالة في اجتماعهما في الذهن دفعة، لأن التناقض ليس بالقياس إلى الذهن بل بالقياس إلى الذهن بل بالقياس إلى ما في نفس الأمر فيتصور صورة ما ويحكم عليها بأنه ليس لها في الخارج ما يطابقها، ثم يتصور صورة أخرى فيحكم عليها بأن لها في الخارج

____________

(1) الوجود باعتبار عمومه وانبساطه وإحاطته وسعة رحمته يعرض مفهوم عدم المطلق والمضاف كالعمى في الذهن عند تصورهما، ولذلك العروض يحكم العقل عليهما بالامتياز بينهما، وامتناع أحدهما أي العدم المطلق لا يمكن تحققه، وإمكان الآخر أي العدم المضاف الممكن تحققه وذلك لأن كل ما هو ممكن وجوده كالبصر يمكن عدمه وهو العمى، وكذلك يحكم على العدمين بغير ذلك من الأحكام ويميز أحدهما من الآخر.


الصفحة 100
ما يطابقها ثم يحكم على إحداهما بمقابلة الأخرى لا من حيث إنهما حاضرتان في العقل بل من حيث إن إحداهما استندت إلى الخارج دون الأخرى، وقد يتصور الذهن صورة ما ويتصور سلبها لأنه مميز على ما تقدم (1)، ويحكم على

____________

(1) تقدم في المسألة التاسعة عشرة حيث قال: وقد يتمايز الإعدام.. الخ، ثم التحقيق في المقام أن يقال بالوجود - أي بالوجود الصمدي الذي هو متن الأعيان وحقيقة الحقائق وجوهر الجواهر - يتحقق الضدان ويتقوم المثلان، بل هو الذي يظهر بصورة الضدين وغيرهما ويلزم منه الجمع بين النقيضين لأن كلا من الضدين يستلزم سلب الآخر، فالضدان يؤولان إلى النقيضين من هذا السلب، مثلا إن الألم والراحة ضدان ليسا بنقيضين، ولما كان كل منهما يستلزم عدم الآخر يطلق اسم النقيضين عليهما أيضا، كأنه يقال الراحة وعدمها والألم وعدمه، واختلاف الجهتين إنما هو باعتبار العقل للمفهومين أو الماهيتين، وأما في الوجود فتتحد الجهات كلها فإن الظهور والبطون وجميع الصفات الوجودية المتقابلة مستهلكة في عين الوجود فلا مغايرة إلا في اعتبار العقل، والصفات السلبية مع كونها عائدة إلى العدم مفهوما وذلك العدم هو سلب الإمكان والنقص، أيضا راجعة إلى الوجود من وجه وذلك الوجه هو إما تأكد الوجود وتوحده الصمدي، وإما انبساط الوجود إلى العدم لأن الأعدام المتمايزة بعضها عن البعض تمايزها أيضا باعتبار وجوداتها في ذهن المعتبر لها أو باعتبار وجود ملكاتها لا أن لها ذوات متمايزة بذاوتها، فكل من الجهات المتغايرة من حيث وجودها العقلي عين باقيها، لأن الصفات الكمالية من الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها تدور مع الوجود حيثما دار ولا تنفك عنه تحققا بل هو عينها، فكل واحدة منها عين باقيها بوجودها الأحدي، فافهم.

ثم نقول: ولكون الضدين مجتمعين في عين الوجود يجتمعان أيضا في العقل، إذ لولا وجودهما فيه لما اجتمعا فيه، وعدم اجتماعهما في الوجود الخارجي الذي هو نوع من أنواع الوجود المطلق لا ينافي اجتماعهما في الوجود من حيث هو هو، فتدبر.

فالوجود الحق المطلق - أي المطلق عن الإطلاق والتقييد على ما ذهب إليه المحققون من أهل التوحيد - حقيقة واحدة ذات شؤون وشجون ولكل شأن حكم لا يتجافى عنه من حيث إن ذلك الحكم حكم ذلك الشأن وإن كان كل رقيقة محاكية عن حقيقتها وكل حقيقة هي واجدة كمال رقائقها مع ما هي عليها من الزيادة، فالوجود المطلق الحق منصبغ بتلك الأحكام في عز وحدته وغناه الذاتي، والانصباغ في الحقيقة هو الاتصاف الوجودي الأحدي، ولذا قال بعض مشايخ التوحيد: بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليها بها.

واعلم أن نهاية كمال كل صفة هي أن لا يتطرق إليها زوال وفتور بعروض مقابلها، بل انتظم معه والتأم بحيث يزيد قوة وسلطانا وسعة، وقد جاء في الآيات القرآنية والمأثورات الروائية اتصافه سبحانه بالأسماء والصفات المتقابلة كالأول والآخر، والظاهر والباطن، واللطيف والقهار، والنافع والضار، والقابض والباسط، والخافض والرافع، والهادي والمضل، والمعز والمذل ونظائرها.


الصفحة 101
الصورتين بالتناقض لا باعتبار حضورهما في الذهن بل بالاعتبار الذي ذكرناه.

قال: وأن يتصور عدم جميع الأشياء (1) حتى عدم نفسه وعدم العدم بأن يتمثل في الذهن ويرفعه وهو ثابت باعتبار، قسيم باعتبار، ولا يصح الحكم عليه من حيث هو ليس بثابت ولا تناقض.

أقول: الذهن يمكنه أن يتصور جميع المعقولات وجودية كانت أو عدمية، ويمكنه أن يلحظ عدم جميع الأشياء لأنه يتصور العدم المطلق، ويمكنه أن ينسبه إلى جميع الماهيات فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه فيتصور عدم الذهن نفسه، وكذلك يمكنه أن يلحقه نفس العدم (2) بمعنى أن الذهن يتخيل للعدم صورة ما معقولة متميزة عن صورة الوجود ويتصور رفعها ويكون ثابتا باعتبار تصوره، لأن رفع الثبوت الشامل للثبوت الخارجي والذهني تصور ما ليس بثابت ولا متصور أصلا وهو ثابت باعتبار تصوره وقسيم لمطلق الثابت باعتبار أنه سلبه ولا استبعاد

____________

(1) قد اتفقت النسخ كلها على صورة العبارة في قوله: وعدم العدم بأن يتمثل في الذهن، ثم قوله هذا جواب عن الشبهة المشهورة وهي لزوم اجتماع النقيضين في قولنا: المعدوم المطلق يمتنع الحكم عليه. بيان اللزوم أن موضوع هذه القضية وهو المعدوم المطلق قد حكم عليه بامتناع الحكم عليه، فالمعدوم المطلق في القضية موصوف بصحة الحكم عليه، كما أنه موصوف بنقيضها الذي هو عدم صحة الحكم عليه فلزم اجتماع النقيضين، فأجاب بأن المعدوم المطلق ثابت باعتبار وغير ثابت باعتبار، فصحة الحكم عليه باعتبار أنه ثابت متصور، وامتناع الحكم عليه باعتبار أنه غير ثابت فلا تناقض.

وفي بعض النسخ (يصح) مكان (لا يصح) ولكنه لا يصح بلا كلام.

(2) من الالحاق أي يمكن الذهن أن يلحق العدم نفس العدم، فالعدم ونفس العدم منصوبان على المفعولية.


الصفحة 102
في ذلك، فإنا نقول: الموجود إما ثابت في الذهن أو غير ثابت في الذهن، فاللاوجود قسيم للوجود ومن حيث له مفهوم قسم من الثابت، والحكم على رفع الثبوت المطلق من حيث إنه متصور لا من حيث إنه ليس بثابت ولا يكون تناقضا لاختلاف الموضوعين.

قال: ولهذا نقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ونحكم بينهما بالتمايز وهو لا يستدعي (1) الهوية لكل من المتمايزين، ولو فرض له هوية (2) لكان حكمها حكم الثابت.

أقول: هذا استدلال على أن الذهن له أن يتصور عدم جميع الأشياء، وبيانه أنا نقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه، ونحكم بامتياز أحدهما عن الآخر ومقابلته له، والحكم على شئ يستدعي تصوره وثبوته في الذهن، فيجب أن يكون ما ليس بثابت في الذهن ثابتا فيه، فقد تصور الذهن سلب ما وجد فيه باعتبارين على ما حققناه، فإن ما ليس بثابت في الذهن ثابت فيه من حيث إنه متصور، وغير ثابت فيه من حيث إنه سلب لما في الذهن.

لا يقال: امتياز أحد الشيئين عن الآخر يستدعي أن يكون لكل من الممتازين هوية مغايرة لهوية الآخر حتى يحكم بينهما بالامتياز، فلو كان العدم ممتازا عن الوجود لكان له هوية متميزة عنه، لكن ذلك محال لأن العقل يمكنه رفع كل هوية، فيكون رفع هوية العدم قسيما للعدم وقسما منه وهذا محال.

لأنا نقول: لا نسلم وجوب الهوية لكل من الممتازين، فإنا نحكم بامتياز الهوية عن اللاهوية وليس اللاهوية هوية سلمنا ثبوت الهوية لكل ممتازين لكن هوية العدم داخلة باعتبار الهوية في قسم الهوية وباعتبار ما فرض أنها لا هوية يكون مقابلة للهوية وقسيما لها، ولا امتناع في كون الشئ قسما من الشئ

____________

(2) أي الحكم بامتياز أحد الشيئين عن الآخر لا يستدعي.

(2) الضمير المخفوض راجع إلى قوله: غير ثابت، أي لو فرض لما ليس بثابت هوية.


الصفحة 103
وقسيما له باعتبارين على ما تقدم تحقيقه في باب الثبوت.

قال: وإذا حكم الذهن على الأمور الخارجية بمثلها وجب التطابق في صحيحه وإلا فلا، ويكون صحيحه باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر لإمكان تصور الكواذب.

أقول: الأحكام الذهنية قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج، وقد تؤخذ لا بهذا الاعتبار، فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجية بأشياء خارجية مثلها كقولنا: الانسان حيوان في الخارج، وجب أن يكون مطابقا (1) لما في الخارج حتى يكون حكم الذهن حقا وإلا لكان باطلا، وإن حكم على أشياء خارجية بأمور معقولة كقولنا: الانسان ممكن، أو حكم على الأمور الذهنية بأحكام ذهنية كقولنا: الإمكان مقابل للامتناع، لم تجب مطابقته لما في الخارج، إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع متقابلان ولا في الخارج انسان ممكن.

إذا تقرر هذا فنقول: الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج لما تقدم من أن الحكم ليس مأخوذا بالقياس إلى الخارج ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن، لأن الذهن قد يتصور الكواذب، فإنا قد نتصور كون الانسان واجبا مع أنه ممكن، فلو كان صدق الحكم باعتبار مطابقته لما في الذهن لكان الحكم بوجوب الانسان صادقا، لأن له صورة ذهنية مطابقة لهذا الحكم، بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر.

وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه (2) رحمه الله جرت هذه النكتة وسألته عن

____________

(1) أي وجب أن يكون الحكم مطابقا، المستفاد من قوله: فإذا حكم الذهن، وكذا قوله الآتي: لم تجب مطابقته، الضمير راجع إلى الحكم. وسيصرح فيه بقوله: الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج.

وقوله: حتى يكون حكم الذهن حقا، مطابق لنسخة (م) والنسخ الأخرى: حتى يكون حكم الذهن صحيحا وقوله: وإلا لكان باطلا يؤيد الأول، وقوله: الحكم الصحيح في هذين القسمين الثاني.

(2) أقول: قد صنفنا رسالة في نفس الأمر وقد أوجب تصنيفها كلامه هذا من سؤاله وجواب المحقق الطوسي إياه، فلا بأس بالرجوع إليها في المقام لعلها تجديك مطالب حول ذلك الموضوع الشريف والله سبحانه ولي الأمر.


الصفحة 104
معنى قولهم: إن الصادق في الأحكام الذهنية هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر والمعقول من نفس الأمر إما الثبوت الذهني أو الخارجي، وقد منع كل منهما هاهنا.

فقال رحمه الله: المراد بنفس الأمر هو العقل الفعال، فكل صورة أو حكم ثابت في الذهن مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعال فهو صادق وإلا فهو كاذب.

فأوردت عليه أن الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعال، لأنهم استدلوا على ثبوته بالفرق بين النسيان والسهو، فإن السهو هو زوال الصورة المعقولة عن الجوهر العاقل وارتسامها في الحافظ لها، والنسيان هو زوالها عنهما معا، وهذا يتأتى في الصور المحسوسة، أما المعقولة فإن سبب النسيان هو زوال الاستعداد بزوال المفيد للعلم في باب التصورات والتصديقات، وهاتان الحالتان قد تعرضان في الأحكام الكاذبة فلم يأت فيه بمقنع، وهذا البحث ليس من هذا المقام وإنما انجر الكلام إليه وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب.

المسألة الثامنة والثلاثون
في كيفية حمل الوجود والعدم على الماهيات

قال: ثم الوجود والعدم قد يحملان وقد يربط بهما المحمولات.

أقول: إعلم أن الوجود والعدم قد يحملان على الماهية كما يقال: الانسان معدوم، الانسان موجود، وقد يجعلان رابطة كقولنا: الانسان يوجد كاتبا، الانسان تعدم عنه الكتابة، فهاهنا المحمول هو الكتابة والوجود والعدم رابطتان إحداهما رابطة الثبوت والوصل والأخرى رابطة السلب والفصل.

قال: والحمل يستدعي اتحاد الطرفين من وجه (1) وتغايرهما من آخر، وجهة

____________

(1) أي يستدعي مناسبة ما بينهما ومغايرة ما بينهما، فالمناسبة تفيد الحمل والمغايرة الإفادة.

ثم الحمل هو الاتحاد والاتحاد بين الموضوع والمحمول إما بتنزل الموضوع إلى مقام المحمول حتى يتحدا، أو بتصعد المحمول إلى مقام الموضوع. وبالجملة الحمل هو الاتحاد وهو يقتضي اثنينية ما ووحدة ما واتحاد الطرفين بحسب الذات والوجود، وتغايرهما بحسب المفهوم أي المتغايران مفهوما متحدان ذاتا. وإن شئت قلت في تعريف الحمل: إن الحمل المفيد هو أن المتغايرين مفهوما متحدان ذاتا، أو أن الحمل هو الحكم باتحاد المتغايرين مطلقا سواء كان بحسب المفهوم أو بحسب الاعتبار.