الصفحة 105

الاتحاد قد تكون أحدهما وقد تكون ثالثا.

أقول: لما ذكر أن الوجود والعدم قد يحملان وقد يكونان رابطة بين الموضوع والمحمول شرع في تحقيق معنى الحمل، وتقريره أنا إذا حملنا وصفا على موصوف فلسنا نعني به أن ذات الموضوع هي ذات المحمول بعينها، فإنه لا يبقى حمل ولا وضع إلا في الألفاظ المترادفة وهو باطل، ولأن قولنا: الانسان حيوان، حمل صادق وليس الانسان والحيوان مترادفين، ولا نعني به أن ذات الموضوع مباينة لذات المحمول، فإن الشيئين المتباينين كالانسان والفرس يمتنع حمل أحدهما على الآخر، بل نعني به أن الموضوع والمحمول بينهما اتحاد من وجه وتغاير من وجه، فإذا قلنا: الضاحك كاتب، عنينا به أن الشئ الذي يقال له الضاحك هو الشئ الذي يقال له الكاتب، فجهة الاتحاد هي الشئ وجهة التغاير هي الضحك والكتابة.

إذا عرفت هذا فاعلم إن جهة الاتحاد قد تكون أمرا مغايرا للموضوع والمحمول كما في هذا المثال، فإن الشئ الذي يقال له ضاحك وكاتب هو الانسان وهو غير الموضوع والمحمول، وقد تكون أحدهما كقولنا: الانسان ضاحك والضاحك انسان.

قال: والتغاير لا يستدعي (1) قيام أحدهما بالآخر، ولا اعتبار عدم القائم في

____________

(1) جواب شك يورد على الحمل الإيجابي مطلقا، تقريره كما في الشوارق أن الحمل محال وإلا وجب التغاير ليفيد، فإذا وجب وجب أن يكون أحدهما قائما بالآخر، إذ مع التغاير لولاه لم يكن بينهما مناسبة بل كان كل منهما أجنبيا عن الآخر، فلولا القيام لم يكن حمل أحدهما عليه أولى من حمل الآخر عليه، وإذا وجب قيام أحدهما بالآخر يجب أن لا يتصف به في نفسه وإلا اجتمع المثلان فيلزم قيام الشئ بما ليس بمتصف به، وهو جمع للنقيضين.

وتقرير الجواب منع استدعاء الحمل القيام مطلقا لصحة قولنا: كل انسان ناطق، مع عدم تصور القيام بين الكل والجزء، والأجنبية إنما تلزم لو لم يكن مع عدم القيام اتحاد بالذات، ولو سلم فلا نسلم استدعاء اعتبار عدم ما هو قائم في قيامه بالآخر، بل الذي يستدعيه لئلا يلزم اجتماع المثلين هو عدم اعتبار القائم، وأين هو من اعتبار عدمه ليلزم اجتماع النقيضين.


الصفحة 106

القيام لو استدعاه.

أقول: لما ذكر أن المحمول مغاير للموضوع من وجه صدق عليه مطلق التغاير وصدق التغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر قيام العرض بمحله، فإنا نقول:

الانسان حيوان وليست الحيوانية قائمة بالانسانية، ثم لو فرضنا أن التغاير مع الحمل يقتضي قيام أحدهما بالآخر لكن لا يلزم من كون المحمول قائما بالموضوع كون الموضوع في نفسه مأخوذا باعتبار عدم القائم، فإنه حينئذ اعتبار زائد على نفس المحمول والموضوع لا يستدعي مجرد القيام (1).

قال: وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا.

أقول: إن الحكماء اتفقوا على أن الموصوف بالصفة الثبوتية يجب أن يكون ثابتا، وقد أورد على هذا أن الوجود ثابت للماهية فيجب أن تكون الماهية ثابتة (2) أولا حتى يتحقق لها ثبوت آخر ويتسلسل.

____________

(1) مطابق لما في (م) والنسخ الباقية: والموضوع لا يستدعيه مجرد القيام، وفي بعضها بمجرد القيام.

(2) لأن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، وتفصى الفخر الرازي عن هذا الايراد بتخصص القاعدة الفرعية بالاستثناء، والدواني بتبديل الفرعية بالاستلزام لأن ثبوت الشئ أي المثبت له في الفرعية يجب أن يكون مقدما، ولكنه في الاستلزام يتحقق مع المقارنة أيضا، فالاستلزام غير مستدع لتقدم ثبوت المثبت له على الثابت بخلاف الفرعية، والسيد المدقق تفصى بإنكار ثبوت الوجود لا ذهنا ولا عينا، والمحققون من أساطين الحكماء كالشيخ في التعليقات وصدر المتألهين في الأسفار بأن الوجود نفس ثبوت الماهية لا ثبوت شئ للماهية حتى يكون فرع ثبوت الماهية.


الصفحة 107
والجواب ما تقدم فيما حققناه أولا من أن الوجود ليس عروضه للماهيات عروض السواد للمحل، بل زيادته أنما هي في التصور والتعقل لا في الوجود الخارجي.

قال: وسلبه عنها لا يقتضي تميزها وثبوتها، بل نفيها لا إثبات نفيها، وثبوتها في الذهن وإن كان لازما لكنه ليس شرطا.

أقول: سلب الوجود عن الماهية لا يقتضي أن تكون الماهية متميزة عن غيرها وثابتة في نفسها، فإن التميز صفة غير الماهية وكذلك الثبوت والمسلوب عنه هو نفس الماهية ليس الماهية مع غيرها، بل سلب الوجود يقتضي نفي الماهية لا بمعنى أن تكون الماهية متحققة ويثبت لها النفي.

لا يقال: المسلوب عنه الوجود موجود في الذهن، فالسلب يقتضي الثبوت.

لأنا نقول: إنا لا نريد بذلك (1) أنه مسلوب عنه الوجود عند كونه موجودا في الذهن، فإن كونه موجودا في الذهن صفة مغايرة له والمسلوب عنه هو الموصوف فقط لا باعتبار كونه موصوفا بهذه الصفة أو غيرها وإن كان بحيث تلزمه هذه الصفة أو غيرها.

قال: والحمل والوضع (2) من المعقولات الثانية يقالان بالتشكيك، وليست الموصوفية ثبوتية وإلا تسلسل.

أقول: الحمل والوضع من الأمور المعقولة، وليس في الخارج حمل ولا وضع بل الثابت في الخارج هو الانسان والكتابة وأما صدق الكاتب على الانسان فهو أمر عقلي، ولهذا حكمنا بأن الحمل والوضع من المعقولات الثانية ويقالان بالتشكيك، فإن استحقاق بعض المعاني للحمل أولى من البعض الآخر وكذا الوضع،

____________

(1) والحاصل الفرق بين الحينية والمشروطة.

(2) أي كون الشئ محمولا وموضوعا.


الصفحة 108
فإذا قلنا: الجسم أسود، فقد حكمنا على الجسم بأنه موصوف بالسواد والموصوفية أمر اعتباري ذهني لا خارجي حقيقي، لأن الموصوفية لو كانت وجودية لزم التسلسل، وبيان الملازمة أنها لو كانت خارجية لكانت عرضا قائما بالمحل، فاتصاف محلها بها يستدعي موصوفية أخرى فننقل الكلام إليها ويتسلسل.

المسألة التاسعة والثلاثون
في انقسام الوجود إلى ما بالذات والى ما بالعرض

قال: ثم الوجود قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض.

أقول: الموجود إما أن يكون له حصول مستقل في الأعيان أو لا يكون، والأول هو الموجود بالذات سواء كان جوهرا أو عرضا، فإن العرض وإن كان لا يوجد إلا بمحله لكنه موجود حقيقة، فإن وجود العرض ليس هو بعينه وجود المحل، إذ قد يوجد المحل بدون العرض ثم يوجد ذلك العرض فيه كالجسم إذا حل فيه السواد بعد أن لم يكن. والثاني هو الموجود بالعرض كأعدام الملكات والأمور الاعتبارية الذهنية التي لا تحقق لها في الأعيان، ويقال إنها موجودة في الأعيان بالعرض.

قال: وأما الوجود في الكتابة (1) والعبارة فمجازي.

أقول: للشئ وجود في الأعيان ووجود في الأذهان وقد سبق البحث فيهما، ووجود في العبارة ووجود في الكتابة، والذهن يدل على ما في العين والعبارة تدل على الأمر الذهني والكتابة تدل على العبارة، لكن الوجودان (2) الأولان حقيقيان والباقيان مجازيان، إذ لا يحكم العقل بأن الشئ موجود في اللفظ والكتابة، لكن لما دل عليه حكم على سبيل المجاز أنه موجود فيهما.

____________

(1) كما في (ت، ق) وفي غيرهما: أما الموجود في الكتابة.

(2) هكذا كانت العبارة في جميع النسخ المعتبرة، فلفظة (لكن) مخففة ملغاة عن العمل.


الصفحة 109

المسألة الأربعون
في أن المعدوم لا يعاد

قال: والمعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه، فلا يصح الحكم عليه بصحة العود.

أقول: ذهب جماعة من الحكماء والمتكلمين إلى أن المعدوم لا يعاد، وذهب آخرون منهم إلى أنه ممكن أن يعاد، والحق الأول. واستدل المصنف رحمة الله عليه بوجوه: الأول: أن المعدوم لا تبقى له هوية ولا يتميز عن غيره، فلا يصح أن يحكم عليه بحكم ما من الأحكام فلا يمكن الحكم عليه بصحة العود، وهذا ينتقض بامتناع الحكم عليه بامتناع العود فإنه حكم ما، والتحقيق هنا أن الحكم يستدعي الحضور الذهني لا الوجود الخارجي.

قال: ولو أعيد تخلل العدم بين الشئ ونفسه.

أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع إعادة المعدوم، وتقريره أن الشئ بعد عدمه نفي محض وعدم صرف وإعادته أنما تكون بوجود عينه الذي هو المبتدأ بعينه في الحقيقة فيلزم تخلل العدم بين الشئ ونفسه، وتخلل النفي بين الشئ الواحد ونفسه غير معقول.

قال: ولم يبق فرق بينه وبين المبتدأ.

أقول: هذا هو الوجه الثالث، وتقريره أن المعدوم لو أعيد لم يبق فرق بينه وبين المبتدأ، فإنا إذا فرضنا سوادين أحدهما معاد والآخر مبتدأ وجدا معا لم يقع بينهما افتراق في الماهية ولا المحل ولا غير ذلك من المميزات إلا كون أحدهما (1) كان موجودا ثم عدم والآخر لم يسبق عدمه وجوده، لكن هذا الفرق باطل لامتناع تحقق الماهية في العدم، فلا يمكن الحكم عليها بأنها هي هي حالة العدم، وإذا لم

____________

(1) وفي (ش) وحدها: إلا أن أحدهما، والنسخ الأخرى كلها والثلاث الأول منها هي أقدم النسخ وأصحها: إلا كون أحدهما كان موجودا، والظاهر أن ما في (ش) تصرف من غير ضرورة.


الصفحة 110
يبق فرق بينهما لم يكن أحدهما أولى من الآخر بالإعادة أو الابتداء.

قال: وصدق المتقابلان عليه دفعة.

أقول: هذا وجه رابع، وهو أنه لو أعيد المعدوم لصدق المتقابلان على الشئ الواحد دفعة واحدة والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه لو أعيد لأعيد مع جميع مشخصاته، ومن بعض المشخصات الزمان، فيلزم جواز الإعادة على الزمان فيكون مبتدأ معادا وهو محال، لأنهما متقابلان لا يصدقان على ذات واحدة.

قال: ويلزم التسلسل في الزمان.

أقول: هذا دليل على امتناع إعادة الزمان، وتقريره أنه لو أعيد الزمان لكان وجوده ثانيا مغايرا لوجوده أولا، والمغايرة ليست بالماهية ولا بالوجود وصفات الوجود بل بالقبلية والبعدية لا غير، فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه تارة ويعدم أخرى، وذلك يستلزم التسلسل.

قال: والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهية.

أقول: هذا جواب عن استدلال من ذهب إلى إمكان إعادة المعدوم، وتقرير الدليل أن الشئ بعد العدم إن استحال وجوده لماهيته أو لشئ من لوازمها وجب امتناع مثله الذي هو الوجود المبتدأ، وإن كان لأمر غير لازم بل لعارض فعند زوال ذلك العارض يزول الامتناع.

وتقرير الجواب أن الشئ بعد العدم ممتنع الوجود المقيد ببعدية العدم، وذلك الامتناع لازم للماهية الموصوفة بالعدم بعد الوجود.

المسألة الحادية والأربعون
في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن

قال: وقسمة الموجود إلى الواجب والممكن ضرورية وردت على الوجود (1)

____________

(1) أي وردت القسمة وذلك لأن مورد القسمة في كل تقسيم لا يقيد بشئ من القيود ولا بعدمه بل يؤخذ مطلقا وإلا لزم تقسيم الشئ إلى نفسه والى غيره، وفي (م ق): وردت على الموجود.


الصفحة 111

من حيث هو قابل للتقييد وعدمه.

أقول: العقل يحكم حكما ضروريا بأن الموجود إما أن يكون مستغنيا عن غيره أو يكون محتاجا، والأول واجب والثاني ممكن، وهذه قسمة ضرورية لا يفتقر فيها إلى برهان، وليست القسمة واردة على مطلق الوجود من حيث هو وجود مطلق، فإن الشئ من حيث هو ذلك الشئ يستحيل أن ينقسم إلى متباينين هما غير ذلك الشئ، وإذا اعتبرت قسمته فلا يؤخذ مع هذه الحيثية بل يؤخذ الشئ بلا تقيد بشرط مع تجويز التقييد ويقسم فتنضاف إلى مفهومه مفهومات أخر، ويصير مفهومه مع كل واحد من تلك المفهومات قسما.

المسألة الثانية والأربعون
في البحث عن الإمكان

قال: والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهية لا باعتبار العدم والوجود.

أقول: الذهن إذا حكم بأمر على أمر فقد يلاحظ الوجود أو العدم للمحكوم عليه وهو الحكم بأحدهما أو بما يشترط فيه أحدهما، وقد لا يلاحظ أحدهما كالحكم بالامكان فإن الذهن إذا حكم على الممكن بإمكان الوجود أو العدم فإنه لا يحكم عليه باعتبار كونه موجودا لأنه بذلك الاعتبار يكون واجبا، ولا باعتبار كونه معدوما فإنه بذلك الاعتبار يكون ممتنعا، وإنما يتحقق الإمكان للممكن من حيث هو هو لا باعتبار الوجود ولا باعتبار العدم.

وبهذا التحقيق يندفع السؤال الذي يهول به قوم وهو أن المحكوم عليه بالامكان إما أن يكون موجودا أو معدوما فإن كان موجودا استحال الحكم عليه بالامكان، لأن الموجود لا يقبل العدم لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم، وإذا

الصفحة 112
امتنع حصول العدم امتنع حصول إمكان الوجود والعدم، وإن كان معدوما استحال عليه قبول الوجود كما تقدم، وإذا استحال مجامعة الإمكان لوصفي الوجود والعدم واستحال انفكاك الماهية عنهما استحال الحكم على الماهية بالامكان.

وذلك لأن القسمة (1) في قولهم المحكوم عليه بالامكان إما أن يكون موجودا أو معدوما ليست بحاصرة، لأن المفهوم منه أن المحكوم عليه بالامكان إما أن يحكم عليه مع اعتبار الوجود أو مع اعتبار العدم، ويعوزه قسم آخر وهو أن يحكم عليه لا مع اعتبار أحدهما. وقولهم الموجود حال الوجود لا يقبل العدم وكذا المعدوم صحيح، لكن الموجود يقبل العدم في غير حال الوجود وكذا المعدوم، وليس حال الماهية إما حال الوجود أو حال العدم لأنهما حالان تحصلان عند اعتبار الماهية مع الغير، أما عند اعتبارها لا مع الغير فإنها تقبل أحدهما لا بعينه، وهذا الامتناع امتناع لاحق بشرط المحمول.

قال: ثم الإمكان قد يكون آلة في التعقل، وقد يكون معقولا باعتبار ذاته.

أقول: كون الشئ معقولا ينظر فيه العقل ويعتبر فيه وجوده ولا وجوده غير (2) كونه آلة للتعقل، ولا ينظر فيه حيث ينظر فيما هو آلة لتعقله بل إنما ينظر به مثلا العاقل يعقل السماء بصورة في عقله ويكون معقوله السماء، لا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ولا يحكم عليها بحكم، بل يعقل أن المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر، ثم إذا نظر في تلك الصورة وجعلها معقولا منظورا إليها لا آلة في النظر إلى غيرها وجدها عرضا موجودا في محل هو عقله.

إذا ثبت هذا فنقول: الإمكان كآلة للعاقل بها يعرف حال الممكن في أن وجوده على أي أنحاء العروض يعرض للماهية، ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو معدوما أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا، ثم إذا نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريته أو عرضيته لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشئ،

____________

(1) إشارة إلى دفع السؤال بهذا التحقيق.

(2) خبر لقوله: كون الشئ.


الصفحة 113
بل كان عرضا في محل هو العقل وممكنا في ذاته ووجوده غير ماهيته، فالإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن، وإذا وصف بشئ من ذلك لا يكون حينئذ إمكانا بل يكون له إمكان آخر يعتبره العقل والامكان أمر عقلي، فمهما اعتبر العقل للامكان ماهية ووجودا حصل فيه إمكان إمكان ولا يتسلسل، بل ينقطع عند انقطاع الاعتبار. وهكذا حكم جميع الاعتبارات العقلية من الوجوب والشيئية والحدوث وغيرها من ثواني المعقولات.

قال: وحكم الذهن (1) على الممكن بالامكان اعتبار عقلي، فيجب أن تعتبر مطابقته لما في العقل.

أقول: قد تقدم مواضع اعتبار المطابقة وعدمها، والامكان إذا اعتبر فيه المطابقة فيجب أن يكون مطابقا لما في العقل لأنه اعتبار عقلي على ما تقدم.

المسألة الثالثة والأربعون
في أن الحكم بحاجة الممكن إلى المؤثر ضروري

قال: والحكم بحاجة الممكن ضروري (2) وخفاء التصديق لخفاء التصور غير قادح.

____________

(1) قد تقدم تحقيقه في بيان نفس الأمر في المسألة السابعة والثلاثين. وهذا الكلام جواب عن استدلال من يقول: بأن الإمكان موجود في الخارج بأن حكم الذهن على الممكن بالامكان إن لم يكن مطابقا للخارج كان جهلا وكان الذهن قد حكم بالامكان على ما ليس بممكن، وإن كان مطابقا للخارج كان الإمكان موجودا فيه. والجواب أن الإمكان أمر عقلي وقد تقدم أن صحة الحكم بالأمور العقلية باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر وهو أعم مما في الخارج ومما في العقل فقد يكون صحة الحكم بمطابقته لما في العقل والحكم بالامكان من هذا القبيل.

(2) قال قدس سره في شرحه على الفصل العاشر من النمط الخامس من الإشارات: الممكن يفتقر في ترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلى علة مرجحة لذلك الطرف، وهذا حكم أولي وإن كان قد يمكن للعقل أن يذهل عنه ويفزع إلى ضروب من البيان كما يفزع إلى التمثيل بكفتي الميزان المتساويين اللتين لا يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى من غير شئ آخر ينضاف إليها والى غير ذلك مما يجري مجراه ويذكر في هذا الموضع، إنتهى. وقد تقدم أيضا في المسألة الثلاثين من هذا الكتاب أن الحكم باحتياج الممكن ضروري.


الصفحة 114
أقول: كل عاقل إذا تصور الممكن ما هو والاحتياج إلى المؤثر حكم بنسبة أحدهما إلى الآخر حكما ضروريا لا يحتاج معه إلى برهان وخفاء هذا التصديق عند بعض العقلاء لا يقدح في ضروريته، لأن الخفاء في الحكم يسند إلى خفاء التصور لا لخفائه في نفسه، ولهذا إذا مثل للمتشكك في هذه القضية حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهية بحال كفتي الميزان وأنهما كما يستحيل ترجح إحدى الكفتين على الأخرى بغير مرجح، كذلك الممكن المتساوي الطرفين حكم بالحاجة إلى المؤثر.

قال: والمؤثرية اعتبار عقلي (1).

أقول: هذا جواب عن سؤال أورده بعض المغالطين على احتياج الممكن إلى المؤثر.

وتقرير السؤال: أن الممكن لو افتقر إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر في ذلك الأثر إن كانت وصفا ثبوتيا في الذهن من غير مطابقة الخارج لزم الجهل، ولأنها ثابتة قبل الذهن ويستحيل قيام صفة الشئ بغيره، وإن كانت بمطابقة الخارج أو

____________

(1) أقول: القول الأقوم الأحكم في المقام أن الجعل أنما يتعلق بالوجود من حيث التعين لا من حيث ذاته وحقيقته، لأن الإمكان أنما يتعلق بالوجود من حيث التعين لا من حيث الحقيقة، فالتحقيق الأتم أن الماهية كما أنها ليست مجعولة بمعنى أن الجاعل لم يجعل الماهية ماهية كذلك الوجود ليس مجعولا بمعنى أن الجاعل لم يجعل الوجود وجودا بل الوجود وجود أزلا وأبدا وموجود أزلا وأبدا، والماهية ماهية أزلا وأبدا وغير موجودة ولا معدومة أزلا وأبدا وإنما تأثير الفاعل في خصوصية الوجود وتعينه لا غير.

وبعبارة أخرى الممكن هو الوجود المتعين، فإمكانه من حيث تعينه، ووجوبه من حيث حقيقته فوجود الممكنات عبارة عن تعين الوجود الحقيقي في مرتبة من مراتب ظهوره بسبب تلبسه بأحكام الأعيان الثابتة وآثارها، وتلك الأعيان هي حقائق الممكنات.

والايجاد عبارة عن تجلية فإنه في الماهيات الممكنة الغير المجعولة التي كانت مرايا لظهوره، فافهم.


الصفحة 115
كانت ثابتة في الخارج مغايرة للمؤثر والأثر لأنها نسبة بينهما لزم التسلسل وهو محال، وبتقدير تسليمه فهو غير معقول لأن التسلسل أنما يعقل لو فرضنا أمورا متتالية إلى غير النهاية، وذلك يستدعي كون كل واحد منها متلوا بصاحبه، وإنما يكون متلوا بصاحبه لو لم يكن بينه وبين متلوه غيره، لكن ذلك محال لأن تأثير المتلو في التالي متوسط بينهما وقد كان لا متوسط هذا خلف، وليست المؤثرية عدمية لأنها نقيض اللا مؤثرية المحمولة على المعدوم، والمحمول على المعدوم عدم، ونقيض العدم ثبوت، فالمؤثرية ثبوتية.

وتقرير الجواب: أن المؤثرية أمر إضافي يثبت في العقل عند تعقل صدور الأثر عن المؤثر فإن تعقل ذلك يقتضي ثبوت أمر في العقل هو المؤثرية كما في سائر الإضافات، وعدم مطابقته للخارج لا يقتضي كونه جهلا لأن الجهل يلزم لو حكم بثبوته في الخارج ولم يثبت في الخارج.

وقوله: والمؤثرية صفة قبل الذهن وصفة الشئ يستحيل قيامها بغيره، فجوابه أن كون الشئ بحيث لو عقله عاقل حصل في عقله إضافة لذلك الشئ إلى غيره هو الحاصل قبل الأذهان لا الذي يحصل في العقل فإن ذلك يستحيل وجوده قبل وجود العقل.

قال: والمؤثر يؤثر في الأثر لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم.

أقول: هذا جواب عن سؤال آخر لهم، وتقرير السؤال أن المؤثر إما أن يؤثر في الأثر حال وجوده أو حال عدمه، والقسمان باطلان، فالتأثير باطل. أما بطلان الأول فلاستلزامه تحصيل الحاصل، وأما بطلان الثاني فلأن حال العدم لا أثر فلا تأثير لأن التأثير إن كان عين حصول الأثر عن المؤثر فحيث لا أثر فلا تأثير وإن كان مغايرا، فالكلام فيه كالكلام في الأول.

وتقرير الجواب: أن نقول: إن أردت بحال وجود الأثر زمان وجوده فليس بمستحيل أن يؤثر المؤثر في الأثر في زمان وجود الأثر، لأن العلة مع المعلول

الصفحة 116
تكون بهذه الصفة، وإن أردت به مقارنة المؤثر للأثر الذاتية فذلك مستحيل (1)، وإنما يؤثر فيه لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم.

قال: وتأثيره في الماهية ويلحقه وجوب لاحق.

أقول: هذا جواب عن سؤال ثالث لهم، وتقريره أن المؤثر إما أن يؤثر في الماهية أو في الوجود أو في اتصاف الماهية بالوجود، والأقسام بأسرها باطلة فالتأثير باطل.

أما الأول: فلأن كل ما بالغير يرتفع بارتفاعه لكن ذلك محال، لأن صيرورة الماهية غير ماهية محال، لأن موضوع القضية يجب أن يتحقق حال ثبوت محمولها ولا تحقق للماهية حال الحكم عليها بالعدم.

وأما الثاني: فلأنه يلزم ارتفاع الوجود عند ارتفاع المؤثر ويلزم ما تقدم من المحال.

وأما الثالث: فلأن الموصوفية ليست ثبوتية وإلا لزم التسلسل فلا تكون أثرا سلمنا لكن المؤثر يؤثر في ماهيتها أو في وجودها أو في اتصاف ماهيتها بوجودها ويعود المحال.

وتقرير الجواب: أن المؤثر يؤثر في الماهية، وعند فرض الماهية يجب تحققها وجوبا لاحقا بسبب الفرض مترتبا على الفرض، ومع ذلك الوجوب يمتنع تأثير المؤثر فيه فإنه يكون إيجادا لما فرض موجودا أما قبل فرضه ماهية فيمكن أن يوجدها المؤثر على سبيل الوجوب ويكون ذلك الوجوب سابقا على وجوده، والفرق بين الوجوبين ظاهر ذكر في المنطق، والغلط هنا نشأ من قبل اشتراك لفظ الوجوب لدلالته على المعنيين بالشركة اللفظية، وقولنا عدمت الماهية معناه أن الماهية الحاصلة في زمان ليست تحصل في زمان بعده ويكون ذلك حملا لغير الحاصل على المتصور منه لا على الموجود الخارجي، لأن الوضع والحمل من

____________

(1) باتفاق النسخ كلها، فالذاتية صفة للمضاف في (مقارنة المؤثر)، أو للموصوف المحذوف أي المقارنة الذاتية.


الصفحة 117
ثواني المعقولات على ما مر ولا يكونان في الخارج، وكذا البحث في حصول الوجود من موجده ومن يجعل تأثير المؤثر في جعل الماهية موصوفة بالوجود وهم القائلون بثبوت المعدوم لم يتعلق ذلك بموصوفية الماهية بالوجود، لأن ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتصافها به، والمراد من تأثير المؤثر هو ضم الماهية إلى الوجود، ولا يلزم من ذلك ما ذكروه من المحال.

قال: وعدم الممكن يستند إلى عدم علته على ما مر.

أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره أن يقال: إن الممكن لو افتقر في طرف الوجود إلى المؤثر لافتقر في طرف العدم لتساويهما بالنسبة إليه، والتالي باطل، لأن المؤثر لا بد له من أثر والعدم نفي محض، فيستحيل استناده إلى المؤثر، ولأنه نفي محض فلا تعدد فيه ولا امتياز.

وتقرير الجواب: أن عدم الممكن المتساوي ليس نفيا محضا بل هو عدم ملكة، وتساوي طرفي وجوده وعدمه أنما يكون في العقل، والمرجح لطرف الوجود يكون موجودا في الخارج، وأما في العدم فلا يكون إلا عقليا، وعدم العلة ليس بنفي محض وهو يكفي في الترجيح العقلي ولامتيازه عن عدم المعلول في العقل يجوز أن يعلل هذا العدم بذلك العدم في العقل.

المسألة الرابعة والأربعون
في أن الممكن الباقي محتاج إلى المؤثر

قال: والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته.

أقول: ذهب جمهور الحكماء والمتأخرين من المتكلمين إلى أن الممكن الباقي محتاج إلى المؤثر، وبالجملة كل من قال بأن الإمكان (1) علة تامة في

____________

(1) جمهور العقلاء مالوا إلى أن علة احتياج الأثر إلى مؤثره هي الإمكان لا غير، وقال آخرون:

إنها الحدوث لا غير، وقال آخرون: هما معا. والشارح أشار إلى قول جمهور العقلاء بقوله:

وبالجملة كل من قال.. الخ.

وأما الفرقتان الأخريان فذهبتا إلى أن الممكن حال بقائه مستغن عن المؤثر، إذ لا حدوث حال البقاء فلا حاجة.

وشنع عليهما الشيخ في النمط الخامس من الإشارات حاكيا كلامهم بقوله: وقد يقولون إنه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى أنه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا، كما يشاهدونه من فقدان البناء وقوام البناء وحتى أن كثيرا منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضر عدمه وجود العالم، لأن العالم عنده إنما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده، أي أخرجه من العدم إلى الوجود حتى كان بذلك فاعلا، فإذ قد فعل وحصل له الوجود عن العدم فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى الفاعل؟ وقالوا: لو كان يفتقر إلى الباري تعالى من حيث هو موجود لكان كل موجود مفتقرا إلى موجود آخر والباري أيضا موجود وكذلك إلى غير النهاية.

ثم أخذ الشيخ في الرد عليهم فراجع الإشارات، وقال في حقهم: فهؤلاء هؤلاء، يعني أنهم علماء العوام وعوام العلماء. وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في المسألة التاسعة والعشرين.


الصفحة 118
احتياج الأثر إلى المؤثر حكم بأن الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر، والدليل عليه أن علة الحاجة إنما هي الإمكان وهو لازم للماهية ضروري اللزوم، فهي أبدا محتاجة إلى المؤثر، لأن وجود العلة يستلزم وجود المعلول.

قال: والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث (1).

أقول: لما حكم باحتياج الممكن الباقي إلى المؤثر شرع في تحقيق الحال فيه، وأن الصادر عن المؤثر ما هو حال البقاء، وذلك لأن الشبهة دخلت على القائلين باستغناء الباقي عن المؤثر بسبب أن المؤثر لا تأثير له حال البقاء لأنه إما أن يؤثر في الوجود الذي كان حاصلا وهو محال لأن تحصيل الحاصل محال، أو في أمر جديد فيكون المؤثر مؤثرا في الجديد لا في الباقي.

والتحقيق: أن قولهم: المؤثر حال البقاء إما أن يكون له في الأثر تأثير أو لا، يشتمل على غلط (2) فإن المؤثر في البقاء لا يكون له أثر البقاء حال البقاء

____________

(1) سيأتي البحث عنه في المسألة الثالثة من الفصل الثالث من هذا المقصد.

(2) أي أن قولهم يشتمل على غلط.


الصفحة 119
وتحصيل الحاصل أنما لزم منه. والحق أن المؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث، وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد هو البقاء فإنه غير الإحداث فهو مؤثر في أمر جديد صار به باقيا لا في الذي كان باقيا (1).

قال: فلهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب (2) لو أمكن (3)، ولا

____________

(1) جملة الأمر أن المؤثر جعله متصفا بالبقاء والممكن كما في اتصافه بالوجود محتاج إلى المؤثر كذلك في البقاء، وحاجته إليه في البقاء كحاجته إليه في الحدوث، لأن الممكن في ذاته لم يقتض شيئا منهما لاستواء نسبة ذاته إلى طرفي وجوده وعدمه في الحدوث، وكذلك اتصافه به في الزمان الثاني وما بعده من الأزمنة في البقاء.

(2) الموجب بالفتح المضطر.

(3) أي لو أمكن القديم الممكن، وكلمة (لو) للامتناع نحو قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، أو لو أمكن مؤثر قديم موجب بالذات، ولكن الوجه الأول أولى بل المتعين كما يقتضيه سياق البحث، والكلام من أن كل ممكن حادث.

وإنما لم يمكن القديم الممكن لأن الفاعل المختار على زعمهم هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار.. إلى آخر ما قاله الشارح، يعني ولما قلنا من أن الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته، والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر لأنه ممكن باق فيحتاج إلى المؤثر في بقائه فقط لا في الحدوث لأنه القديم الممكن، فليس له حال حدوث كما للحادث الباقي المحتاج إلى المؤثر في حدوثه وبقائه كليهما.

أقول: الفلاسفة الطبيعية كانوا قائلين بأن واجب الوجود بالذات هو الأصول الأزلية، أي الأجزاء التي لا تتجزأ الموسومة بالأتم وهي مادة هذه المحسوسات وعنصرها، أي أن هذه المحسوسات معلولة كائنة منها. والى تلك الأصول أشار برهان الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الواحدة والستين والمائة من نهج البلاغة بقوله: لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ولا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده وصور ما صور فأحسن صورته.. الخ. وفي المقام مذاهب أخرى نقلها الشيخ الرئيس في الفصل الثاني عشر من النمط الخامس من الإشارات والماتن المحقق الطوسي في شرحه عليه من القائلين بالمبادئ الاسطقسية وغيرها.

وهؤلاء قائلون بأن المادة أو الاسطقس علة موجبة، أي مضطرة تكونت هذه المحسوسات منها بلا إرادة واختيار، وبيان الايجاب هو على النحو الذي نقله عنهم الشيخ الرئيس في الفصل الثالث عشر من المقالة الأولى من طبيعيات الشفاء (ص 26 ج 1 ط 1) حيث قال: إنهم يرون أن مبادئ الكل هي أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها ولعدمها الخلاء، وأنها غير متناهية بالعدد ومبثوثة في خلاء غير متناهي القدر، وأن جوهرها في طباعها متشاكل وبأشكالها مختلف، وأنها دائمة الحركة في الخلاء فيتفق أن يتصادم منها جملة فيجتمع على هيئة فيكون منه عالم، وأن في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد مترتبة في خلاء غير متناه، ومع ذلك فيرى أن الأمور الجزئية من الحيوانات والنباتات كائنة لا بحسب الاتفاق.

وفرقة أخرى لم تقدم على أن يجعل العالم بكليته كائنا بالاتفاق، ولكنها جعلت الكائنات متكونة عن المبادئ الاسطقسية بالاتفاق، فما اتفق أن كان هيئة اجتماعه على نمط يصلح للبقاء والنسل بقي ونسل، وما اتفق أن لم يكن كذلك لم ينسل، وأنه قد كان في ابتداء النشور بما يتولد حيوانات مختلطة الأعضاء من أنواع مختلفة وكأن يكون حيوان نصفه أيل ونصفه عنز، وأن أعضاء الحيوان ليست هي على ما هي عليه من المقادير والخلق والكيفيات لأغراض بل اتفقت كذلك مثلا قالوا: ليست الثنايا حادة لتقطع ولا الأضراس عريضة لتطحن، بل اتفق أن كانت المادة تجتمع على هذه الصورة، واتفق أن كانت هذه الصورة نافعة في مصالح البقاء فاستفاد الشخص بذلك بقاء، وربما اتفق له من آلات النسل نسلا لا ليستحفظ به النوع بل اتفاقيا. إنتهى ما أردنا من نقل ما في الشفاء.

بيان: قوله ولعدم الخلاء، أي ليس لها خلاء وتجويف. قوله في طباعها متشاكل، أي من نوع واحد. قوله كائنة لا بحسب الاتفاق، أي كائنة بحسب الطبيعة. قوله نصفه أيل ونصفه عنز، أيل بالفتح والتشديد على وزن الميت، وفي الصحاح الأيل الذكر من الأوعال وهو الذي يسميه بالفارسية (گوزن) وعنز بالفتح والسكون يقال بالفارسية (بز كوهى)، فلنرجع إلى ما كنا فيه:

والغرض أن هؤلاء وأترابهم من الفرق الطبيعية قائلون بالإيجاب والاضطرار، لأن تلك المبادئ لا حياة لها ولا شعور وعلم وإرادة، واتفق أن تكونت منها هذه المحسوسات، وأما الفيلسوف الإلهي فقائل بالمبدأ الحي العالم القادر المريد السميع البصير المختار في جميع أفعاله وهو دائم الفضل على البرية، وحاشاهم عن التفوه بالايجاب والاضطرار وعدم الاختيار في المبدأ سبحانه وتعالى.

ثم إن هذين العلمين يقولان ذلك ولا يمكن استناد القديم الممكن إلى المختار، وهذا يفسره ويعلله بقوله: لأن المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار، والقصد أنما يتوجه في التحصيل إلى شئ معدوم، لأن القصد إلى تحصيل الحاصل محال، وكل معدوم يجدد فهو حادث. وتفوها بحدوث العالم بدليل كونه مختارا، وبأن القول بقدمه يوجب أن يكون موجبا مضطرا. والمحقق الطوسي في رسالته الموسومة بتذكرة آغاز وانجام قد أفاد في التوحيد الصمدي الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن الفياض على الإطلاق أزلا وأبدا على ما يراه الموحدون الشامخون في معارف الحكمة المتعالية حقائق دالة على توغله في توحد الوجود الحق الصمدي الأزلي في ذاته وجميع صفاته وأفعاله، وقد بينا وأوضحنا كلماته الشريفة في تعليقاتنا على آغاز وانجام على التفصيل والاستيفاء معاضدة بمنطق الوحي فارجع إليها.

وكان بعض مشايخنا يقول: كان المحقق الطوسي في التجريد جالسا على كرسي الكلام فتكلم على دأبهم وهديهم.

ثم قد يأتي كلامه في الايجاب أيضا في المسألة الأولى من الفصل الأول من المقصد الثالث في صفاته تعالى حيث يقول: وجود العالم بعد عدمه ينفي الايجاب.


الصفحة 120