المسألة التاسعة
في أن العناصر ليست عللا ذاتية بعضها لبعض
قال: وليس الشخص من العنصريات علة (1) ذاتية لشخص آخر منها وإلا لم تتناه الأشخاص (2)، ولاستغنائه عنه بغيره.
أقول: الشخص من العناصر كهذه النار مثلا ليس علة ذاتية لشخص آخر منها أي يكون علة لوجوده وإلا لوجدت أشخاص لا تتناهى دفعة واحدة، لأن العلل الذاتية تصاحب المعلولات.
وأيضا فإن الشخص (3) من العناصر يستغني عن الشخص الآخر بغيره، إذ ليس شخص ما من أشخاص النار مثلا أولى بأن يكون علة لشخص آخر من بقية أشخاص النوع بل الشخص الذي هو معلول سبيله سبيل سائر الأشخاص في أن الشخصن الذي هو العلة ليس هو أولى بالعلية من الشخص الذي هو معلوله وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علة بالذات، فهو إذن علة بالعرض بمعنى أنه معد.
____________
(1) وفي (ت): لشخص منها، بدون كلمة آخر، وإنما خص هذا الحكم بالعنصريات لأن الأفلاك لا يجوز فيها الكثرة الإفرادية، فإن كل نوع منها منحصر في فرده الشخصي بخلاف العنصريات لأن كل نوع منها يجوز فيه تكثر الأفراد وتحققه.
(2) أقول: بل لم تتحقق الأشخاص رأسا لأن العلة الذاتية إذا تحققت كان معلولها معها ولا ينفك عنها، والفرض أن معلولها أيضا من سنخ هذا الشخص فهو أيضا علة ذاتية فكون الشخص العنصري علة ينجر حكمه إلى كونه مقتضيا للكثرة بحسب ذاته والطبيعة التي تقتضي ذاته الكثرة محال أن يوجد لها فرد في الخارج وكأن مراده من قوله وإلا لم تتناه الأشخاص، كان هذا المعنى الذي أشرنا إليه فتدبر، على أن في كون الشخص العنصري علة ذاتية لشخص آخر مفاسد أخرى.
(3) تقرير القوشجي أوضح وأخصر حيث قال: إن العناصر ليس بعضها أولى بأن يكون علة ذاتية لبعضها من غيره، بل نسبة كلها في ذلك سواء فيستغني ما فرضناه معلولا عما فرضناه علة بغير ذلك المفروض هذا خلف.
قال: ولعدم تقدمه.
أقول: هذا وجه ثالث (1) على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر، وتقريره أن العلة متقدمة على المعلول بالذات، والشخصان إذا كانا من نوع واحد استحال تقدم أحدهما على الآخر تقدما ذاتيا، لأن التقدم الذاتي ما يبقى (2) للعلة مع وجود المعلول، لأنه مقوم لها والتقدم بالزمان يبطل مع وجود المعلول لأنهما إذا اجتمعا في زمان واحد فقد عدم تقدم ما فرض علة.
قال: ولتكافؤهما (3).
أقول: هذا دليل رابع، وتقريره أن الماء والنار مثلا متكافئان في أنه ليس النار أولى بأن تكون علة للماء من العكس، والمتكافئان لا يصح (4) أن يكون أحدهما علة للآخر.
قال: ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه.
أقول: هذا دليل خامس، وتقريره أن ما يفرض علة من شخصيات النار فقد يعدم وما يفرض معلولا يكون باقيا بعده ويستحيل بقاء المعلول بعد علته الذاتية وبالعكس قد يعدم (5) ما يفرض معلولا وما يفرض علة يكون باقيا بعده، ويستحيل بقاء العلة (6) منفكة عن المعلول.
____________
(1) والوجه الثاني هو قوله: ولاستغنائه عنه بغيره، وقد شرحه الشارح العلامة بقوله: وأيضا فإن الشخص من العناصر.. الخ.
(2) كلمة (ما) إما موصولة أو موصوفة.
(3) قرره صاحب الشوارق هكذا: الرابع أن أفراد النوع الواحد متكافئة لتماثلها، فليس بعضها أولى بالعلية من بعض وهذا معنى قوله: ولتكافؤهما. وكذلك القوشجي في شرحه. ولكن يرد عليهما على هذا التقرير أن كون هذا الوجه غير السابق فيه تأمل كما أورده بعض الأجلة على الشوارق، وأما ما قرره الشارح العلامة فلا غبار عليه ومتين غاية المتانة.
(4) كما في (م)، والباقية: لا يصلح.
(5) أتى به تحقيقا لقول الماتن: لبقاء أحدهما.
(6) كما تقدم في المسألة الثالثة من هذا الفصل قوله في ذلك: ولا يجوز بقاء المعلول بعده وإن جاز في المعد.
المسألة العاشرة
في كيفية صدور الأفعال منا
قال: والفاعل منا يفتقر إلى تصور جزئي (1) ليتخصص الفعل ثم شوق ثم إرادة (2) ثم حركة من العضلات (3) ليقع منا الفعل.
أقول: القوة البشرية أنما تفعل أثرها مع شعور وإدارك على الوجه النافع علما
____________
(1) لأن الرأي الكلي لا ينبعث منه شئ مخصص جزئي، وراجع في ذلك شرحه على الفصل التاسع والعشرين من ثالث الإشارات.
(2) وتسمى الإجماع أيضا وفي (م) وحدها: ثم تشوق، مكان قوله: ثم شوق.
(3) بين قدس سره حق المطلب في المقام في شرحه على الفصل الخامس والعشرين من ثالث الإشارات عند قول الشيخ وأما الحركات الاختيارية فهي أشد نفسانية ولها مبدأ عازم مجمع، بما هذا لفظه:
إعلم أن لهذه الحركات مبادئ أربعة مترتبة أبعدها عن الحركات هو القوى المدركة وهي الخيال أو الوهم في الحيوان، والعقل العملي بتوسطهما في الانسان.
وتليها قوة الشوق فإنها تنبعث عن القوى المدركة، وتنشعب إلى شوق نحو طلب إنما ينبعث عن إدراك الملائمة في الشئ اللذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابق وتسمى شهوة، وإلى شوق نحو دفع وغلبة أنما تنبعث عن إدراك منافاة في الشئ المكروه أو الضار وتسمى غضبا. ومغايرة هذه القوة للقوى المدركة ظاهرة وكما أن الرئيس في القوى المدركة الحيوانية هو الوهم فالرئيس في القوى المحركة هو هذه القوة.
ويليها الاجماع وهو العزم الذي ينجزم بعد التردد في الفعل والترك وهو المسمى بالإرادة والكراهة. ويدل على مغايرته للشوق كون الانسان مريدا لتناول ما لا يشتهيه، وكارها لتناول ما يشتهيه. وعند وجود هذا الاجماع يترجح أحد طرفي الفعل والترك اللذين تتساوى نسبتهما إلى القادر عليهما.
وتليها القوى المنبثة في مبادئ العضل المحركة للأعضاء، ويدل على مغايرتها لسائر المبادئ كون الانسان المشتاق العازم غير قادر على تحريك أعضائه، وكون القادر على ذلك غير مشتاق ولا عازم. وهي المبادئ القريبة للحركات وفعلها تشنيج العضل وإرسالها ويتساوى الفعل والترك بالنسبة إليها، إنتهى.
بيان: مبادئ العضل هي الأعصاب والقوى المنبثة فيها هي المبادئ القريبة للحركات.
قال: والحركة إلى مكان (2) تتبع إرادة بحسبها، وجزئيات تلك الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية، فيكون السابق من هذه علة للسابق من تلك، المعدة لحصول أخرى فتتصل الإرادت في النفس والحركات في المسافة إلى آخرهما.
أقول: الفاعل منا لحركة ما من الحركات أنما يفعلها بواسطة القصد والإرادة المتعلقة بتلك المسافة، فتلك الحركة تتبع إرادة بحسبها يعني الحركة إلى مكان مفروض تتبع إرادة متعلقة بالحركة إلى ذلك المخصوص، وكل حركة فعلى مسافة منقسمة تكون الحركة في كل مسافة من تلك المسافات جزءا من الحركة الأولى، وكل جزء من تلك الأجزاء يتبع تخيلا خاصا وإرادة جزئية متعلقة به، فإذا تعلقت الإرادة بإيجاد الجزء الأول من الحركة ثم وجد الجزء الأول كان وصول الجسم إلى ذلك الجزء مع الإرادة الكلية المتعلقة بكمال الحركة علة لتجدد إرادة أخرى
____________
(1) فإن قلت: الانسان قد يريد ولا يشتاق كما في إرادة تناول الدواء البشع، فالجواب أن المنفي هناك الشهوة لا الشوق مطلقا فإن من اعتقد النفع ينبعث من اعتقاده شوق عقلي لا محالة وإن لم يسم شهوة.
(2) هذا الكلام لدفع إيراد يتوهم في المقام وهو أن صدور الأفعال الجزئية عن الانسان لا يتوقف على تصورات وإرادات جزئية، مثلا من تصور الحركة على مسافة ينشئ إرادة متعلقة بقطع جميع المسافة من غير أن يتصور المتحرك الحدود الجزئية من المسافة حتى يتعلق بها الإرادات الجزئية.
واعلم أن هذه المسألة العاشرة وشرحها خلاصة ما في آخر النمط الثالث من الإشارات وشرح الماتن عليه فراجع الفصلين الخامس والعشرين والتاسع والعشرين منه.
المسألة الحادية عشرة
في أن القوى الجسمانية أنما تؤثر بمشاركة الوضع
قال: ويشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع (1).
أقول: يشترط في صدق التأثير (2) أعني صدق كون الشئ علة على المقارن أعني الصور والأعراض، الوضع أعني الإشارة الحسية وهو كونه بحيث يشار إليه أنه هنا أو هناك وذلك لأن القوى الجسمانية أعني الصور والأعراض المؤثرة إنما تؤثر بواسطة الوضع على معنى أنها تؤثر في محلها أولا، ثم فيما يجاور محلها بواسطة تأثيرها في محلها، ثم فيما يجاور ذلك المجاور بواسطة المجاور وهكذا،
____________
(1) كلمة على الجارة صلة للصدق. والمقارن بكسر الراء أي المقارن للمادة وذلك المقارن هو الصور القائمة بالمواد والأعراض الحالة في الأجسام، والمقارن مقابل المفارق في اصطلاح أهل المعقول كما سيأتي في أول المقصد الثاني. والوضع مرفوع أي يشرط الوضع. واعلم أن ما يشترط في تأثيره الوضع مادي لا محالة لأن قوامه بمواد الأجسام فيؤثر أولا لمادته وجرمه ثم للأقرب فالأقرب منه على وسعه، فإن النار تسخن وتضئ على سعتها والشمس كذلك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأما ما ليس بمادي فلا يشترط به وله الإحاطة كالمجردات. ثم إن المفارق إما مجرد بذاته وفعله أو مجرد بذاته فقط، الأول العقل والثاني النفس، فالنفوس الفلكية والانسانية في النشأة الأولى ليست بغنية عن الأجرام والأجسام وإن لم تكن مادية. وجملة الأمر أن القوي المتعلقة بالأجسام إما محتاجة في ذاتها إليها كالقوة النارية والمائية مثلا، أو محتاجة إليها لا في ذاتها بل في فعلها كالنفوس مطلقا، وسيأتي البحث عن الجوهر المفارق في أولى الأول من المقصد الثاني.
ثم كان الصواب أن يجعل المسألة الحادية عشرة واللتان بعدها مسألة واحدة.
(2) تقرير الشارح هذه المسألة بأسرها ملخص ما قرره المصنف في شرحه على الفصل الخامس عشر من سادس الإشارات.
المسألة الثانية عشرة
في تناهي القوى الجسمانية
قال: والتناهي بحسب المدة والعدة والشدة التي باعتبارها (1) يصدق التناهي وعدمه الخاص على المؤثر.
أقول: قوله والتناهي عطف على الوضع أي يشترط في صدق التأثير على المقارن - أعني الصور والأعراض - التناهي، لأنه لا يمكن وجود قوة جسمانية تقوى على ما لا يتناهى.
وقبل الخوض في الدليل مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه للقوى، وأعلم أن التناهي وعدمه الخاص به - أعني عدم الملكة وهو عدم التناهي عما من شأنه أن يكون متناهيا - أنما يعرضان بالذات للكم إما المتصل كتناهي المقدار ولا تناهيه، أو المنفصل كتناهي العدد ولا تناهيه، ويعرضان لغيره بواسطته كالجسم ذي المقدار والعلل ذوات العدد، فإن عروض التناهي وعدمه لهما ظاهر، وأما ما يتعلق به شئ ذو مقدار أو عدد كالقوى التي يصدر عنها عمل متصل في زمان أو أعمال متوالية، ففرض النهاية واللانهاية فيه يكون بحسب مقدار ذلك العمل أو عدد تلك الأعمال (2) والذي بحسب مقدار ذلك العمل يكون إما مع وحدة العمل واتصال زمانه (3) أو مع فرض الاتصال (4) في العمل نفسه من غير نظر إلى وحدته أو كثرته، فأصناف القوى ثلاثة:
____________
(1) كلمة الموصول صفة للكلمات الثلاث والضمير راجع إليها.
(2) هذا هو الصنف الثالث الآتي ذكره.
(3) هذا هو الصنف الأول.
(4) هذا هو الصنف الثاني. والمراد من فرض الاتصال في العمل أنه لا تعدد له أي المعتبر في هذا القسم هو امتداد الزمان فقط.
والثاني: قوى يفرض صدور عمل ما منها على الاتصال (1) في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء، وهاهنا تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقل فيقع عمل غير المتناهية في زمان غير متناه، وهذه قوة بحسب المدة.
والثالث: قوى يفرض صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم، ولا محالة تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقل، وهاهنا يقع لغير المتناهية عمل غير متناهي العدد، وهذه قوة بحسب العدة. فقد ظهر من هذا أن التناهي وعدمه الخاص به أنما صدقا على المؤثر بأحد الاعتبارات الثلاثة.
____________
(1) أي من غير اعتبار وحدته وكثرته كما في الأول والثالث حيث اعتبر الأول في الأول والثاني في الثالث.
بقي في المقام كلام وهو أن الشارح جعل التناهي عطفا على الوضع، وهذا الكلام بظاهره يقتضي توقف التأثير على التناهي، وفيه دغدغة كما قال الشريف: الظاهر من هذا العطف توقف تأثير القوة الجسمانية على التناهي كتوقفه على الوضع، لكن الظاهر كما هو المفهوم من كلامهم أن التأثير متوقف على الوضع ومستلزم للتناهي.
وقال المولى إسماعيل في تعليقته على الشوارق في بيان كلامهم ومستلزم للتناهي ما هذا لفظه: أي لا يتوقف التأثير على التناهي وإلا يلزم تحقق تناهي الأثر قبل تحقق التأثير وهو مستلزم لتحقق التأثير بعد تحقق الأثر وتحقق الأثر قبل تحقق التأثير وهو محال.
لكن صاحب الشوارق سلك سبيل الشارح العلامة فقال ما هذه خلاصة مقاله: كل مقارن مؤثر ما لم يعلم تناهي أثره لم يحكم بأنه مؤثر ذلك الأثر ولو كان الأثر غير متناه نجزم بأن المؤثر مجرد متعلق بذلك المقارن ثم شنع على القوم بأنهم لم يتفطنوا ما ذكره فتحيروا في العطف.
ولا يخفى عليك حسن رؤيته وجودة دقته في بيان العطف.
قال: لأن القسري يختلف باختلاف القابل ومع اتحاد المبدأ يتفاوت مقابله (1).
أقول: لما مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه في القوى شرع في الدليل على مطلوبه الأول أعني وجوب تناهي تأثير القوى الجسمانية.
وتقريره أن القوى الجسمانية إما أن تكون قسرية أو طبيعية، وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما.
أما الأول (2) فلأن صدور ما لا يتناهى بحسب الشدة من الحركات (3) عن القوتين (4) محال لما مر، وإما بحسب المدة أو العدة فلأنا لو فرضنا جسما متناهيا يحرك جسما آخر متناهيا من مبدأ مفروض حركات (5) لا تتناهى بحسب المدة أو العدة ثم حرك بتلك القوة جسما أصغر (6) من ذلك الجسم من ذلك المبدأ فإن
____________
(1) أي مقابل المبدأ وهو الطرف الآخر في الشرح، فيلزم التناهي بحسب التفاوت.
(2) أي القسرية.
(3) بيان لما في قوله: ما لا يتناهى.
(4) صلة للصدور في قوله: صدور ما لا يتناهى. والقوتان القسرية والطبيعية.
ثم إن قوله: محال لما مر، ناظر إلى قوله: فيكون ما لا يتناهى في الشدة واقعا لا في زمان..
الخ، وإلا ما مر صريحا في هذا المعنى شئ غير ذكره الأصناف الثلاثة، وقوله: لا يمكن وجود قوة جسمانية تقوى على ما يتناهى وهو لا يقتضي حجة له فقط دونهما.
نعم، إن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان، ولذلك لم يشتغلوا بالاحتجاج عليه وأقاموا الحجة على اللاتناهي بحسب المدة والعدة.
وقال صاحب الشوارق: وأما بحسب الشدة فليس بمقصود إما لظهور بطلانه وإما لعدم فساده، وذلك إذا كان يجوز انتهاء زمان الحركة في القلة إلى حيث لا يمكن بالامكان الوقوعي تنصيفه وتجزيته.
أقول: والصواب هو ظهور بطلانه، وأما الشق الثاني فمجرد فرض غير معتبر ولا يتوهم أحد أن تكون في الأجسام قوة جسمانية تقوى على ما لا يتناهى شدة، وهذا الفرض الموهوم خارج عن البحث العلمي رأسا، ولذلك لم يقم الشيخ في الإشارات الحجة على التناهي في الشدة، وقال الخواجة في شرحه عليه بعد ذكر الأصناف الثلاثة - كما أتى به الشارح العلامة في هذا الكتاب -: وكان مراد الشيخ ما يختلف في النهاية واللانهاية بحسب المدة أو العدة فقط. إنتهى وإنما كان مراده ما يختلف فيهما لأن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان.
(5) منصوب بقوله: يحرك.
(6) جاءت العبارة في غير واحدة من النسخ المطبوعة وغيرها هكذا: ثم حركت تلك القوة جسما أصغر، بتأنيث الفعل وحذف الجارة وهي محرفة بلا دغدغة، والصحيحة ما اخترناها. وعبارة الشيخ في الإشارات هكذا: ثم فرضنا أنه يحرك أصغر من ذلك بتلك القوة. وعبارة الخواجة في شرحه عليها هكذا: إذا حرك جسم بقوته جسما آخر من مبدأ مفروض حركات لا نهاية لها ثم فرضنا أن ذلك الجسم المحرك يحرك جسما آخر شبيها بالجسم الأول في الطبيعة وأصغر منه بالمقدار بتلك القوة بعينها من ذلك المبدأ المفروض..
الخ. ونظائر هذا التحريف في الكتاب كثيرة جدا.
وهاهنا سؤال صعب (2) وهو أن التفاوت في التحريكين جاز أن يكون بحسب
____________
(1) إعلم أن المصنف الماتن سلك في إقامة هذا البرهان مسلك الشيخ في الإشارات وبعد تقرير الحجة في الشرح قال: واعلم أن هذا البرهان أعم مأخذا مما استعمله الشيخ، فإن الحاصل منه أن القوة الغير المتناهية لو حركت بالفرض جسمين مختلفين لوجب أن يكون تحريكها إياهما متفاوتا ويلزم منه كونها متناهية بالقياس إلى أحدهما بعد أن فرضت غير متناهية مطلقا هذا خلف، فإذن القوة الغير المتناهية سواء كانت جسمانية أو غير جسمانية يمتنع أن تكون مباشرة لتحريك الأجسام بالقسر، والشيخ خصصه بالقوة الجسمانية لأن غرضه في هذا الموضع هو نفي اللا نهاية عن القوى الجسمانية، إنتهى.
أقول: إنما كان البرهان أعم مأخذا لأن القوة الغير المتناهية تعم الجسمانية وغير الجسمانية، وقوله: سواء كانت جسمانية أو غير جسمانية بيان لكونه أعم مأخذا.
(2) السائل هو الفخر الرازي في ذلك المقام، هذا السؤال والجواب وإيراد التلميذ وجواب الشيخ والايراد عليه كلها مذكورة في شرح الماتن المحقق الطوسي على الفصل التاسع عشر من النمط السادس من الإشارات، وراجع في ذلك أيضا الفصل الأخير من المرحلة الثامنة من الأسفار (ج 1 ط 1 ص 259). والسؤال كان رائجا قبل الفخر كما هو نص كلام الخواجة في المقام حيث قال: والاعتراض المشهور الذي أورده الفاضل الشارح عليه بتجويز أن يكون التفاوت في التحريكين بالسرعة والبطء.. الخ.
ثم ما قال الشارح بعد نقل كلام الماتن من الإشارات: وفيه نظر لأن أخذ القوة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث، ليس كما ينبغي لأن ذلك النظر مجرد فرض غير معتبر في البحث العلمي، وكما قلنا آنفا أن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان ولذلك لم يشتغلوا بالاحتجاج عليه على أن الخواجة قال: إن هذا الاعتراض أي السؤال الصعب مندفع، لأن المراد بالقوة المذكورة هاهنا هي التي لا نهاية لها باعتبار المدة والعدة دون الشدة على ما مر. وقوله: على ما مر ناظر إلى ما قاله في الفصل الخامس عشر من النمط المذكور وقال هناك: كان مراد الشيخ في النهاية واللانهاية بحسب المدة والعدة فقط، وقيد فقط لإخراج ما بحسب الشدة وذلك كما قلنا لشدة ظهور بطلانه، ولذا لم يبحثوا عنه بنظر علمي.
وفيه نظر لأن أخذ القوة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث.
وأورد بعض تلامذة أبي علي عليه أنه لا وجود للحركات دفعة فلا يجوز الحكم عليها بالزيادة فضلا عن كون الزيادة مقتضية لتناهيها كما قاله الشيخ اعتراضا على المتكلمين حيث حكموا بتناهي الحوادث لازديادها كل يوم.
وأجاب الشيخ عنه بالفرق فإن الحوادث ليس لها كل موجود (1) حتى يحكم عليها بالتناهي وعدمه، والزيادة والنقصان بخلاف القوة هاهنا فإنها موجودة يحكم عليها بكونها قوية على تحريك الكل أو البعض ولا شك في أن كون القوة قوية على تحريك الكل أعظم من كونها قوية على تحريك الجزء فأمكن الحكم بالتناهي هاهنا لوجود المحكوم عليه وتحققه بخلاف الحوادث.
وللسائل أن يعود فيقول: التفاوت في القوة إنما هو باعتبار التفاوت في المقوى عليه أعني الحركات، فإذا لم يكن الحكم على الحركات بالزيادة والنقصان لم يكن الحكم على القوة بالتفاوت.
قال: والطبيعي (2) يختلف باختلاف الفاعل لتساوي الصغير والكبير في القبول، فإذا تحركا (3) مع اتحاد المبدأ عرض التناهي.
____________
(1) أي ليس لها مجموع موجود، فكلمة (كل) مرفوعة على أنها اسم ليس بمعنى المجموع، وموجود صفة لها. وعبارة الخواجة في شرحه على الإشارات في المقام هكذا: رد الشيخ عليهم بأن قال لما لم يكن لها مجموع موجود في وقت من الأوقات.
(2) منصوب بقوله: لأن، معطوف على القسري.
(3) كما في النسخ كلها إلا نسخة (ت) ففيها: وإذا تحركا.
____________
(1) الخواجة قدس سره قرر البرهان في شرحه على الإشارات (من الفصل 20 إلى 23 من النمط السادس) بعد بيان تمهيد ثلاث مقدمات أتى بها الشيخ ينبغي التدبر فيه نيلا إلى المراد.
الأولى: أن الجسم من حيث هو جسم لما لم يكن مقتضيا لتحريك ولا لمنع عنه بل كان ذلك لقوة تحله فإذن كبيره وصغيره إذا فرضنا مجردين عن تلك القوة كانا متساويين في قبول التحريك وإلا لكان الجسم من حيث هو جسم مانعا عنه.
الثانية: أن القوة الجسمانية المسماة بالطبيعية إذا حركت جسمها ولا محالة يكون ذلك الجسم خاليا عن المعاوقة وإلا لم تكن الطبيعة طبيعة لذلك الجسم فلا يجوز أن يعرض بسبب كبر الجسم وصغره تفاوت في القبول لما مر في المقدمة الأولى، بل أن عرض تفاوت فهو بسبب القوة فإنها تختلف باختلاف محلها على ما سيأتي في المقدمة الثالثة وهناك يستبين أن التفاوت كما كان في الحركات القسرية بسبب القوابل لا غير فهو في الطبيعة بحسب الفواعل لا غير.
الثالثة: أن القوى الجسمانية المتشابهة تختلف باختلاف الأجسام ويتناسب بتناسب محالها المختلفة بالكبر والصغر لأنها حالة فيها متجزية بتجزئتها.
فنقول: إنه لا يجوز أن يكون في جسم من الأجسام قوة طبيعية تحرك ذلك الجسم حركات بلا نهاية، وذلك لأن قوة ذلك الجسم أكثر وأقوى من قوة بعضه لو انفرد بالمقدمة الأخيرة، وليس زيادة جسمه في القدر تؤثر في منع التحريك حتى تكون نسبة المحركين والمتحركين واحدة بالمقدمة الأولى، وفي هذا القول إشارة أيضا إلى سبب الاحتياج إلى هذه المقدمة، وذلك السبب هو أن المعاوقة لو كانت في الكبير أكثر منها في الصغير مع أن القوة في الكبير أيضا أقوى منها في الصغير لكانت نسبة المحركين والمتحركين واحدة لكن ليس كذلك لما مر في المقدمة الأولى، بل المتحركان في حكم ما لا يختلفان والمحركان مختلفان بالمقدمة الثانية، فإن حركتا جسميهما من مبدأ مفروض حركات بغير نهاية لزم منه تناهي الأقل.
أقول: لما ثبت أن صدق التأثير على المقارن مشروط بالوضع والتناهي المذكورين، وأن القوى الجسمانية مطلقا تكون مدة آثارها وكذلك عدد آثارها متناهية كما أنها بحسب الشدة متناهية فلا بد أن ينتهي الأمر إلى المفارق.
المسألة الثالثة عشرة
في العلة المادية
قال: والمحل المتقوم بالحال قابل له ومادة للمركب.
أقول: المحل إما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال، وإلا لزم استغناء أحدهما عن الآخر فلا حلول، فالمحل المتقوم بالحال هو الهيولى والمقوم للحال هو الموضوع والهيولى باعتبار الحال تسمى قابلا، وباعتبار المركب تسمى مادة.
قال: وقبوله ذاتي.
أقول: كون المادة قابلة أمر ذاتي لها لا غريب يعرض بواسطة الغير لأنه لولا ذلك لكان عروض ذلك القبول في وقت حصوله يستدعي قبولا آخر ويلزم التسلسل وهو محال، فهو إذن ذاتي يعرض للمادة لذاتها.
قال: وقد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكتسبها (1) باعتبار الحال فيه.
أقول: لما ذكر أن قبول المادة لما يحل فيها ذاتي استشعر أن يعترض عليه بما يظن أنه مناقض له، وهو أن يقال: إن المادة قد تقبل شيئا ولا تقبل آخر، ثم يعرض لها قبول الآخر ويزول عنها القبول الأول، وهذا يعطي أن القبول من الأمور
____________
(1) هذا الاستعداد ليس ذاتيا بل يحصل من جهة العوارض الطارية وبه يحصل القرب والبعد دون الاستعداد الذاتي الأول كان للمادة لذاتها.
وتحقيق الجواب أن نقول: إن القبول ثابت في كلتا الحالتين لكن القبول منه قريب ومنه بعيد، فإن قبول النطفة للصورة الانسانية بعيد وقبول الجنين قريب، فإذا حصل القرب بالنظر إلى عرض من الأعراض نسب القبول إليه وعدمه عن غيره، وفي الحقيقة إنما حصل قرب القبول بعد بعده وسبب القرب والبعد هو الأعراض والصور الحالة في المادة، فإن الحرارة إذا حلت المادة واشتدت أعدتها لقرب قبول الصورة النارية وخلع غيرها.
المسألة الرابعة عشرة
في العلة الصورية
قال: وهذا الحال صورة للمركب وجزء فاعل لمحله (1).
أقول: هذا الحال يعني به الحال في المادة وهو صورة للمركب لا للمادة، لأنه بالنظر إلى المادة جزء فاعل لأن الفاعل في المادة هو المبدأ الفياض بواسطة الصورة المطلقة.
قال: وهو واحد.
أقول: ذكر الأوائل أن الصورة المقومة للمادة لا تكون فوق واحدة، لأن
____________
(1) كلمة الجزء مضافة إلى الفاعل أي جزء علة لمحله، والفاعل هو معطي الوجود وذلك لأن الصورة شريكة للفاعل الذي هو المفارق على ما سلك إليه المشاء وبسط الكلام فيه الشيخ في النمط الأول من الإشارات وتقدم الإشارة إليه.
قال القوشجي: واعلم أن ما نقلناه عن الحكماء في هذا المبحث كلها من فروع الهيولى والصورة، والمصنف لما كان منكرا لهما كما سيجئ كان المناسب أن لا يذكر هذه المباحث ويذكرها على سبيل النفي والانكار لا على طريق الاثبات والاقرار. وقال صاحب الشوارق تعريضا له: إن هذه الأمور المتفرعة على ثبوت الهيولى ذكرها المصنف هاهنا على سبيل الحكاية، وبمعنى أنه على تقدير ثبوتها وعند القائلين بها يكون الحال هكذا فلا منافاة بينها وبين ما سيأتي من نفيه الهيولى في هذا الكتاب.
المسألة الخامسة عشرة
في العلة الغائية
قال: والغاية علة بماهيتها (1) لعلية العلة الفاعلية، معلولة في وجودها للمعلول.
أقول: الغاية لها اعتباران يحصل لها باعتبارهما التقدم والتأخر بالنسبة إلى المعلول، وذلك لأن الفاعل إذا تصور الغاية فعل الفعل ثم حصلت الغاية بحصول الفعل، فماهية الغاية علة لعلية الفاعل، إذ لولا تلك الماهية وحصولها في علم الفاعل لما أثر ولا فعل الفعل، فإن الفاعل للبيت يتصور الاستكنان أولا فيتحرك إلى إيجاد البيت ثم يوجد الاستكنان بحصول البيت، فماهية الاستكنان علة لعلية الفاعل ووجوده معلول للبيت، ولا امتناع في أن يكون الشئ الواحد متقدما ومتأخرا باعتبارين.
قال: وهي ثابتة لكل قاصد (2).
____________
(1) قريب من كلام الشيخ في الفصل السابع من رابع الإشارات في تعريف الغاية حيث قال:
والعلة الغائية التي لأجلها الشئ علة بماهيتها ومعناها لعلية العلة الفاعلية ومعلولة لها في وجودها.. الخ. أي الغاية بصورتها الذهنية وحصولها في علم الفاعل علة لعلية العلة الفاعلية، وهي معلولة في وجودها الخارجي للمعلول، وأرادوا بقولهم أول الفكر آخر العمل هذا المعنى. قال الشيخ في إلهيات الشفاء: ونعني بالغائية العلة التي لأجلها يحصل وجود شئ مبائن لها.
والمبائن هو المعلول الخارجي وإنما كان مبائنا لها لأنه لا يكون حالا فيها ولا محلا لها، وللعارف الرومي في المثنوي:
ظاهرا آنشاخ أصل ميوه است | باطنا بهر ثمر شد شاخ هست |
گرنبودى ميل واميد ثمر | كي نشاندى باغبان بيخ شجر |
أول فكر آخر آمد در عمل | خاصه فكرى كو بود وصف أزل |
(2) الضمير راجع إلى الغاية، والغاية عرفت بأنها علة لعلية الفاعلية فلا بد أن يكون معنى هذه الجملة أن الغاية بهذا المعنى ثابتة لكل فاعل يفعل بالقصد أعني الفاعل بالقصد على اصطلاح الحكماء، لأن الغنى التام والجواد والملك الحق لا غرض ولا غاية له مطلقا.
والفاعل الذي يفعل لغاية إما أن يكون وجود تلك الغاية أولى به فيكون الفاعل مستكملا بوجود الغاية، أو أن فاعليته يتم بتلك الغاية فيلزم أن يكون الفاعل ناقصا في عليته ويستكمل بتلك الغاية، فالفاعل لغاية فقير والله سبحانه هو الغني فليس بفاعل لغاية وغرض كما أنه ليس بعابث أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا (المؤمنون 15).
قال الخواجة في شرحه على الفصل السادس من النمط السادس من الإشارات: الغرض هو غاية فعل فاعل يوصف بالاختيار فهو أخص من الغاية. والقائلون بأن الباري تعالى أنما يفعل لغرض ذهبوا إلى أنه أنما يفعله لغرض يعود إلى غيره لا إلى ذاته وذلك لا ينافي كونه غنيا وجوادا، فأشار الشيخ إلى أن من يفعل لغرض فلا بد من أن يكون ذلك الفعل أحسن به من تركه، لأن الفعل الحسن في نفسه إن لم يكن أحسن بالفاعل لم يمكن أن يصير غرضا له، ثم أنتج من ذلك أن الملك الحق لا غرض له مطلقا.
____________
(1) في أقرب الموارد: الأسطقس بفتح الألف وسكون السين وفتح الطاء وكسر القاف: أعجمية معناها الأصل وتسمى العناصر الأسطقسات (بكسر الألف) وهي الماء والأرض والهواء والنار. وفي المنجد: بفتح الألف وكسرها، وفي غياث اللغات: بضم الأول والثالث والرابع وسكون الثاني لفظ يوناني بمعنى العنصر.
أقول: الكلمة إذا كانت عجمية تلعب بها العرب ما شاءت، وهذا المثل سائر بينهم: عجمي فالعب به ما شئت. والغرض العمدة أن الشارح أراد منها الحركات الطبيعية مطلقا في قبال الإرادية سواء كانت لعناصر بسيطة أو لم تكن، كما يستفاد التعميم من تمثيله بالبر وجعله مقابلا للفاعل بالقصد والإرادة، ومن قول الماتن بعيد هذا وأثبتوا للطبيعيات غايات، ومن قول الشارح هناك أما إثبات الغايات للحركات الطبيعية فقد تقدم. فقوله: فقد تقدم إشارة إلى ما قاله في هذا المقام. وفي الشوارق أن الحكماء أثبتوا لكل تحريك وفعل سواء كان إراديا أو طبيعيا غاية والمصنف خص هذا الحكم بالإراديات.