الصفحة 217
عرض فقد ظهر صدق العرض على المحل والحال جزئيا.

المسألة الثانية
في أن الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما

قال: والجوهرية والعرضية من ثواني المعقولات (1) لتوقف نسبة إحداهما

____________

(1) جعل المعلم الأول المعولات منحصرة في العشر: إحداها مقولة الجوهر حيث إنه جنس لأنواعه الخمسة، والتسع الباقية الأعراض التسعة المشهورة. ولكن بعضهم كابن سهلان الساوجي صاحب البصائر، والشيخ الإشراقي وغيرهما كل أخذ مذهبا ولا يهمنا نقل تلك المذاهب.

وأما ما ذهب إليه المصنف من نفي جنسية الجوهر والعرض لما تحتهما بأدلته الثلاثة فأورد عليها بأسرها بأن ما ذكره في الدليل الأول من احتياج إثبات كثير من الجواهر كالنفوس الناطقة والصور النوعية، وكذا في إثبات عرضية كثير من الأعراض كالمقادير والألوان والأضواء مثلا إلى وسط أي نظر واستدلال، ولو كانا جنسين لما تحتهما لما احتجنا إليه لأن ذاتي الشئ يكون بين الثبوت لذلك الشئ، فهو يتم لو كان الشئ متصورا بالكنه ولو تصور بالكنه لأمكن أن لا نحتاج إلى وسط أصلا.

وبأن ما أتى به في الدليل الثاني من أنهما مقولان على ما تحتهما من الأنواع بالتشكيك، لأن بعض أنواع الجوهر كالمجرد أولى بالجوهرية من آخر كالمادة مثلا، وكذلك العرض بعضه كغير القار أولى بالعرضية من البعض كالقار والذاتي لا يكون مقولا بالتشكيك، فهو لا يتم لأن التشكيك ناش من الوجود فإن الجوهر من حيث الوجود أقدم وأقوم من آخر. وأما بلحاظ الجوهر فليس فيه تقديم وتأخير لأن معنى الجوهر هو الموجود لا في موضوع أنه ماهية يلزمها في الأعيان إذا وجدت أن يكون وجودها لا في موضوع، لا أنه كان الموجود بالفعل، مثل ما يقال: فلان ضاحك، أي من شأنه عند التعجب أن يضحك فلا ريب أنا إذا قلنا في شئ: موجود أو معدوم، نجد أنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، وأن هذا المعنى مقوم لذلك الشئ وذاتي له والجنس يدل على طبيعة الأشياء وماهياتها بخلاف العرض ولو عبرنا عنه بأنه ماهية من شأنها الوجود في الموضوع كان هذا المعنى لا يدل على طبيعة الأعراض وحقيقتها، فإن معنى العرض سلب القيام بنفسه ونسبته إلى شئ آخر وهذا ما يلحق ويعرض ماهية الأعراض ولا يدل على ماهيتها، مثلا أن العرض لا يدل على طبيعة البياض والسواد وغيرها بل على أن له نسبة إلى ما هو فيه، وعلى أنه ذاتي يقتضي هذه النسبة كما أفاده الشيخ في منطق الشفاء والنمط الرابع من الإشارات.

وأما ما أتى به في الثالث من أنا لا نعقل من الجوهر سوى المستغنى عن الموضوع، ومن العرض المحتاج إليه وهما مفهومان إضافيان ومثل ذلك لا يمكن أن يكون إلا عرضيا، فهو في العرض صحيح لا كلام فيه، وأما في الجوهر فلا، وذلك لما قلنا من أنا نتصور من الجوهر ماهية شأنها إذا وجدت في الخارج لا يكون في موضوع وهذا المعنى هو حقيقة الجوهر وكنهه، والاستغناء عن الموضوع المتصور من الجوهر وجه من وجوهه وعارض من عوارضه. فتبين لك أن نفي الجنسية في العرض صحيح إلا أن الدليلين الأولين عليلان، والجوهر جنس والأدلة الثلاثة في نفيه مردودة.


الصفحة 218

على وسط.

أقول: اتفق العقلاء على أن العرض من حيث هذا المفهوم ليس جنسا لما تحته بل هو أمر عرضي، واختلفوا في الجوهر هل هو جنس لما تحته أو عارض؟ والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه عارض وجعل الجوهرية والعرضية من المعقولات الثانية، فإن كون الذات مستغنية عن المحل أو محتاجة إليه أمر زائد على نفس الذات من الأمور الاعتبارية وحكم من أحكامها الذهنية، واستدل عليه بأن الذهن يتوقف في نسبة إحداهما إلى الذات على وسط (1) ولهذا احتجنا إلى الاستدلال على عرضية الكميات والكيفيات وجوهرية النفوس وأشباه ذلك، وجنس الشئ لا يجوز أن يتوقف ثبوته له على البرهان، وهذا الذي ذكره رحمه الله يدل على الزيادة لا على كونه من المعقولات الثانية.

قال: واختلاف الأنواع بالأولوية.

أقول: هذا دليل ثان على كون الجوهر عرضا عاما لجزئياته لا جنسا لها، وذلك لأن بعض الجزئيات أولى بالجوهرية من بعض، فإن الشخصيات أولى بالجوهرية من الكليات ولا تفاوت في الأجناس، وهو أيضا يدل على كون العرض عرضيا لوقوع التفاوت فيه بين جزئياته، فإن الأعراض القارة أولى بالعرضية من غيرها.

____________

(1) أي على دليل، لأن الوسط ما يقارن قولنا لأنه.


الصفحة 219

قال: والمعقول اشتراكه عرضي.

أقول: إنا نعقل بين الجسم والعقل والنفس والمادة والصورة أمرا مشتركا هو الاستغناء عن المحل ولا نعقل بينها اشتراكا في غيره وهذا القدر أمر عرضي، فالجوهرية إن جعلت عبارة عن هذا الاعتبار كانت عرضا عاما، وإن جعلت عبارة عن الماهية المقتضية لهذا الاعتبار فليس هنا ماهية للجسم وراء كونه جسما وكذلك البواقي، وهذه الماهيات تقتضي هذا الاعتبار وإن اختلفت مع اشتراكه، وكذلك البحث في العرض فإنا نعقل الاشتراك بين الكم والكيف وباقي الأعراض في الحاجة إلى المحل والعرضية في الوجود وهذا المعنى أمر اعتباري فليست العرضية جنسا.

المسألة الثالثة
في نفي التضاد عن الجواهر

قال: ولا تضاد بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها (1).

أقول: لما فرغ من تعريف الجوهر والعرض وبيان أنهما ليسا بجنسين شرع في باقي أحكامهما فبين انتفاء الضدية عن الجواهر على معنى أنه لا ضد للجوهر من الجواهر ولا من غيرها، وبيانه أن الضد هو الذات الوجودية المعاقبة لذات أخرى وجودية في الموضوع مع كونها في غاية البعد عنها (2) وقد بينا أن الجوهر لا موضوع له فلا يعقل فيه هذا المعنى لا بالنظر إلى جوهر آخر ولا بالنظر إلى غيره من الأعراض.

قال: والمعقول من الفناء العدم.

أقول: لما بين انتفاء الضد عن الجوهر أخذ يرد على أبي هاشم وأتباعه حيث

____________

(1) وفي (ت) وحدها: ولا بينها وبين عرضها، وأما النسخ الأخرى كلها فالعبارة: ولا بينها وبين غيرها.

(2) هذا هو تقابل الضدين بحسب التحقيق أي التضاد الحقيقي مقابل المشهوري، وقد تقدم الكلام في ذلك في الحادية عشرة من ثاني الأول.


الصفحة 220
جعلوا للجواهر أضدادا هي الفناء، فقال: إن المعقول من الفناء العدم وليس الفناء أمرا وجوديا يضاد الجوهر لأنه إما جوهر أو عرض، والقسمان باطلان فلا تحقق له.

قال: وقد يطلق التضاد على البعض باعتبار آخر.

أقول: إن بعض الجواهر قد يطلق عليه أنه ضد للبعض الآخر لكن يؤخذ التضاد باعتبار آخر وهو التنافي في المحل مطلقا (1) وحينئذ يكون بعض الصور الجوهرية يضاد البعض الآخر.

المسألة الرابعة
في أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال

قال: ووحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل بخلاف العكس.

أقول: المحل الواحد قد يحل فيه أكثر من حال واحد مع الاختلاف كالجسم الذي يحله السواد والحركة والحرارة، وكالمادة التي تحل فيها الصور الجسمية والنوعية.

هذا مع الاختلاف، أما مع التماثل فإنه لا يجوز أن يحل المثلان محلا واحدا لاستلزامه رفع الاثنينية لانتفاء الامتياز بالذاتيات واللوازم لاتفاقهما فيهما، وبالعوارض لتساوي نسبتهما إليها.

فقد ظهر أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل، وأما العكس فإنه يستلزم فإن وحدة الحال تستلزم وحدة المحل لاستحالة حلول عرض واحد أو صورة واحدة في محلين وهو ضروري، وكلام أبي هاشم في التأليف (2) وبعض

____________

(1) أي تقابل الضدين بحسب الشهرة، وقد تقدم الفرق بين المحل والموضوع آنفا في أول هذا المقصد.

(2) إن أبا هاشم ذهب إلى أن التأليف عرض واحد قائم بجوهرين فردين وأن هذا هو الموجب لصعوبة الانفكاك بين أجزاء الجسم.


الصفحة 221
الأوائل في الإضافات (1) خطأ.

قال: وأما الانقسام فغير مستلزم في الطرفين.

أقول: انقسام المحل لا يستلزم (2) انقسام الحال، فإن الوحدة والنقطة والإضافات كالأبوة والبنوة أعراض قائمة بمحال منقسمة وهي غير منقسمة، أما الوحدة والنقطة فظاهر، وكذا الإضافة فإنه لا يعقل حلول نصف الأبوة أو البنوة في نصف ذات الأب أو الأبن.

وذهب قوم إلى أن انقسام المحل يقتضي انقسام الحال لاستحالة قيامه مع وحدته بكل واحد من الأجزاء وتوزيعه عليها وانتفاء حلوله فيها، وأما الحال فإنه لا يقتضي انقسامه انقسام المحل، فإن الحرارة والحركة إذا حلا محلا واحدا لم يقتض ذلك أن يكون بعض المحل حارا غير متحرك وبعضه متحركا غير حار.

واعلم أن الأعراض السارية (3) إذا حلت محلا منقسما انقسمت بانقسامه، والأعراض المنقسمة بالمقدار لا بالحقائق إذا حلت محلا انقسم بانقسامها.

المسألة الخامسة
في استحالة انتقال الأعراض

قال: والموضوع من جملة المشخصات (4).

____________

(1) أي في الإضافات المتشابهة الأطراف كالتقارب والتجاور والأخوة ونظائرها.

(2) قضية مهملة في قوة الجزئية، فلا تنافي قوله الآتي: واعلم أن الأعراض السارية.. الخ.

(3) الأعراض السارية هي التي تقبل القسمة بانقسام محالها كالسواد والبياض، والمنقسمة بالمقدار كالخط، وهذه داخلة في الأولى بوجه، والحقائق الماهيات ولا يخفى عليك أن ماهيات المركبات لا تقبل الانقسام باعتبار محالها فضلا عن البسائط.

(4) إعلم أن هذا الحكم غير مختص بالعرض بل شامل للصورة أيضا بالنسبة إلى المادة لكن المصنف لما ذهب إلى بساطة الجسم وعدم تركبه من المادة والصورة كما يأتي عن قريب خص هذا الحكم بالعرض كما أفاده في الشوارق.

وقول الشارح: وإلا لكان نوعه في شخصه، أي لكان نوعه منحصرا في شخصه. وفي بعض النسخ: لكان نوعه منحصرا في شخصه. والمتن مطابق لنسخ (م، ق، ش).


الصفحة 222
أقول: الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البين، والدليل عليه أن العرض إن لم يتشخص لم يوجد، فتشخصه ليس معلول ماهيته ولا لوازمها وإلا لكان نوعه في شخصه، ولا ما يحل فيه وإلا لاكتفى بموجده ومشخصه (1) عن موضوعه فيقوم بنفسه وهو محال، فبقي أن يكون معلول محله فيستحيل انتقاله عنه وإلا لم يكن ذلك الشخص ذلك الشخص.

قال: وقد يفتقر الحال إلى محل متوسط (2).

أقول: الحال قد يحل الموضوع من غير واسطة كالحركة القائمة بالجسم وقد يفتقر إلى محل متوسط فيحل فيه ثم يحل ذلك المحل في الموضوع كالسرعة القائمة بالجسم فإنها تفتقر إلى حلولها في الحركة ثم تحل الحركة في الجسم.

المسألة السادسة
في نفي الجزء الذي لا يتجزأ

قال: ولا وجود لوضعي لا يتجزأ بالاستقلال.

أقول: هذه مسألة اختلف الناس فيها، فذهب جماعة من المتكلمين والحكماء إلى أن الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ فذهب بعضهم إلى تناهيها وبعضهم إلى عدمه، وذهب الباقون إلى أن الجسم بسيط في نفسه متصل كاتصاله عند الحس لكنه يقبل الانقسام إما إلى ما يتناهى كما ذهب إليه من لا تحقيق له، أو إلى ما لا يتناهى كما ذهب إليه الحكماء.

وقد نفى المصنف رحمه الله الجزء الذي لا يتجزأ بقوله: لا وجود لوضعي لا يتجزأ بالاستقلال، وذلك لأن ما لا يتجزأ من ذوات الأوضاع أعني الأشياء المشار إليها

____________

(1) وفي (م) وحدها: بموجده وتشخصه.

(2) أي يتوسطه، وفي (م، ق): إلى محل يتوسطه. والباقية إلى محل متوسط، كالشرح بالاتفاق.


الصفحة 223
بالحس قد توجد لا بالاستقلال كوجود النقطة في طرف الخط أو مركز الدائرة ولا يمكن وجوده بالاستقلال، وقد استدل عليه بوجوه:

قال: لحجب المتوسط.

أقول: هذا أحد الأدلة على نفي الجزء، وتقريره أنا إذا فرضنا جوهرا متوسطا بين جوهرين فإما أن يحجبهما عن التماس أو لا، والثاني باطل وإلا لزم التداخل، والأول يوجب الانقسام لأن الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف الملاقي للآخر.

قال: ولحركة الموضوعين (1) على طرفي المركب من ثلاثة.

أقول: هذا وجه ثان، وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من ثلاثة جواهر وعلى طرفيه جزئين ثم تحركا على السواء في السرعة والبطء والابتداء فلا بد وأن يتلاقيا، وإنما يمكن بأن يكون نصف كل واحد منهما على نصف الطرف والنصف الآخر على نصف المتوسط فتنقسم الخمسة.

قال: أو من أربعة على التبادل.

أقول: هذا وجه ثالث، وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من أربعة جواهر وفوق أحد طرفيه جزء وتحت طرفه الآخر جزء وتحركا على التبادل كل منهما من أول الخط إلى آخره حركة على السواء في الابتداء والسرعة فإنهما لا يقطعان الخط إلا بعد المحاذاة، فموضع المحاذاة إن كان هو الثاني أو الثالث كان أحدهما قد قطع أكثر فلا بد وأن يكون بينهما وذلك يقتضي انقسام الجميع.

قال: ويلزمهم ما يشهد الحس بكذبه من التفكك وسكون المتحرك وانتفاء الدائرة.

أقول: هذه وجوه أخرى تدل على نفي الجزء.

أحدها: إن الحس يشهد بأن المتحرك على الاستدارة باق على وضعه ونسبة

____________

(1) يعني أنا لو فرضنا خمسة جواهر أفراد متساوية، فركب خط من ثلاثة منها، ووضع الآخران على فوق طرفيه ثم تحرك الموضوعان إلى الوسط، إلى آخر ما في الشرح.


الصفحة 224
أجزائه، ومع القول بالجزء يلزم التفكك لأن الجزء القريب من المنطقة إذا تحرك جزءا فإن تحرك القريب من القطب (1) جزءا تساوى المداران وهو باطل بالضرورة، وإن تحرك أقل من جزء لزم الانقسام، وإن لم يتحرك أصلا لزم التفكك.

الثاني: أن السرعة والبطء كيفيتان قائمتان بالحركة لا باعتبار تخلل السكنات وعدمه، لأنه لو كان بسبب تخلل السكنات لزم أن يكون فضل سكنات الفرس السائر من أول النهار إلى آخره خمسين فرسخا على حركاته بإزاء فضل حركات الشمس من أول النهار إلى آخره على حركات الفرس، لكن فضل حركات الشمس أضعاف أضعاف حركات الفرس فتكون سكنات الفرس أضعاف أضعاف حركاته، لكن الحس يكذب ذلك. إذا ثبت هذا فإذا تحرك السريع جزءا فإن تحرك البطئ جزءا تساويا هذا خلف، وإن تحرك أقل لزم الانقسام وإن لم يتحرك أصلا لزم المحال. هذا ما خطر لنا الآن من تفسير قوله رحمه الله: وسكون المتحرك.

الثالث: أن الدائرة موجودة بالحس فإن كانت حقيقية لزم إبطال الجزء لأن الدائرة القطبية (2) إن تلاقت أجزاؤها بظواهرها وبواطنها ساوت الدائرة المنطقية هذا خلف، وإن تلاقت ببواطنها خاصة لزم الانقسام، وإن لم تكن حقيقية كان ذلك لارتفاع بعض أجزائها وانخفاض البعض الآخر، لكن المنخفض إذا ملئ بالجزء ولم يفضل كانت الدائرة حينئذ ولزم ما ذكرنا وإلا لزم الانقسام.

قال: والنقطة عرض قائم بالمنقسم باعتبار التناهي.

أقول: هذا جواب عن حجة من أثبت الجزء، وتقريرها أن النقطة موجودة لأنها نهاية الخط فإن كانت جوهرا فهو المطلوب، وإن كانت عرضا فمحلها إن

____________

(1) إنما قال: القريب من القطب، لأن نقطة القطب من حيث هي قطب ساكنة لا يتصور فيها الحركة مطلقا لا الاستدارية ولا الاستقامية، ولو فرضت فيه حركة استدارية لكانت نقطة أخرى هي القطب وتدور هذه حولها، ثم إن العبارة في (م) كانت (من التفكيك) في المتن والشرح كليهما، وفي النسخ الأخرى: التفكك مطلقا.

(2) الدائرة القطبية في المقام ما تلي جانب القطب وإن كانت مجاورة ومماسة للمنطقية، فتبصر.


الصفحة 225
انقسم انقسمت، لأن الحال في أحد الجزئين مغاير للحال في الآخر، وإن لم ينقسم فهو المطلوب.

والجواب أنها عرض قائم بالمنقسم، ولا يلزم انقسامها لانقسام المحل لأن الحال في المنقسم باعتبار لحوق طبيعة أخرى به لا يلزم انقسامه بانقسام محله، وهاهنا النقطة حلت في الخط المنقسم باعتبار عروض التناهي له.

قال: والحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم نفيها مطلقا (1).

أقول: هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الحركة موجودة بالضرورة وهي من الموجودات الغير القارة فإما أن يكون لها في الحال وجود أو لا، والثاني باطل لأن الماضي والمستقبل معدومان، فلو لم تكن في الحال موجودة لزم نفيها مطلقا، وإذا كانت موجودة في الحال فإن كانت منقسمة كان أحد طرفيها سابقا على الآخر فلا يكون الحاضر كله حاضرا هذا خلف، وإن لم تكن منقسمة كانت المسافة غير منقسمة لأنها لو انقسمت لانقسمت الحركة لأن الحركة في أحد الجزئين مغايرة للحركة في الجزء الآخر فتكون الحركة منقسمة مع أنا فرضناها غير منقسمة.

والجواب: أن الحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم من نفيها في الحال نفيها مطلقا، لأن الماضي والمستقبل وإن كانا معدومين في الحال لكن كل منهما له وجود في حد نفسه.

قال: والآن لا تحقق له خارجا.

أقول: هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الآن موجود لانتفاء الماضي والمستقبل، فإن كان الآن منتفيا كان الزمان منتفيا مطلقا ويستحيل انقسامه وإلا لزم أن يكون الحاضر بعضه فلا يكون الآن كله آنا هذا خلف، وإذا كان موجودا

____________

(1) وفي (م) بدون كلمة (مطلقا).


الصفحة 226
فالحركة الواقعة فيه غير منقسمة وإلا لكان أحد طرفيها واقعا في زمان والآخر في زمان آخر فينقسم ما فرضناه غير منقسم هذا خلف، ويلزم من عدم انقسام الحركة عدم انقسام المسافة على ما مر تقريره.

وتقرير الجواب: أن الماضي والمستقبل موجودان في حد أنفسهما معدومان في الآن لا مطلقا والآن لا تحقق له في الخارج.

قال: ولو تركبت الحركة مما لا يتجزأ لم تكن موجودة.

أقول: لما فرغ من النقض شرع في المعارضة فاستدل على أن الحركة لا تتركب مما لا يتجزأ، لأنها لو تركبت مما لا يتجزأ لم تكن موجودة، والتالي باطل اتفاقا فكذا المقدم، بيان الشرطية أن الجزء إذا تحرك من حيز إلى حيز فإما أن يوصف بالحركة حال كونه في الحيز الأول وهو باطل لأنه حينئذ لم يأخذ في الحركة، أو حال كونه في الحيز الثاني وهو باطل أيضا لأن الحركة حينئذ قد انتهت وانقطعت ولا واسطة بين الأول والثاني، وهذا المحال نشأ من إثبات الجوهر الفرد لأنه على تقدير عدمه تثبت الواسطة.

ويمكن أن يقرر بيان الشرطية من وجه آخر وهو أن الحركة إما أن تكون عبارة عن المماسة الأولى أو الثانية، وهما محالان لما مر أو مجموعهما وهو محال لانتفائه.

قال: والقائل بعدم تناهي الأجزاء يلزمه مع ما تقدم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى ويفتقر في التعميم إلى التناسب.

أقول: لما فرغ من إبطال مذهب القائلين بالجوهر الفرد شرع في إبطال مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا، وقد استدل عليه بما تقدم، فإن الأدلة التي ذكرناها تبطل الجوهر الفرد مطلقا سواء قيل بتركب الجسم من أفراد متناهية منه أو غير متناهية.

واستدل عليه أيضا بوجوه: الأول: إنا نفرض أعدادا متناهية من الجواهر

الصفحة 227
الأفراد ونؤلفها في جميع الأبعاد، فإما أن يزيد مقدارها على مقدار الواحد أو لا، والثاني باطل وإلا لم يكن تأليفها مفيدا للمقدار ولا للعدد وهو باطل قطعا، وإن زاد مقدارها على مقدار الواحد حتى حصلت أبعاد ثلاثة حصل جسم من أجزاء متناهية وهو يبطل قولهم: إن كل جسم متألف من أعداد غير متناهية، فهذا معنى لزوم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى. وأما قوله: ويفتقر في التعميم إلى التناسب، فمعناه أنا إذا أردنا تعميم القضية بأن نحكم بأنه لا شئ من الأجسام بمؤلف من أجزاء غير متناهية فطريقه أن ينسب هذا المؤلف الذي ألفناه من الأجزاء المتناهية إلى بقية الأجسام (1) فنقول: كل جسم فإنه متناه في المقدار فله إلى هذا المؤلف نسبة وهي نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار، لكنا نعلم أن المقدار يزيد بزيادة الأجزاء وينقص بنقصانها، فنسبة المقدار إلى المقدار كنسبة الأجزاء إ لي الأجزاء، لكن نسبة المقدار إلى المقدار نسبة متناه إلى متناه فكذا نسبة الأجزاء إلى الأجزاء.

قال: ويلزم عدم لحوق السريع البطئ.

أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء، وتقريره أن الجسم لو تركب من أجزاء غير متناهية لم يلحق السريع البطئ، والتالي باطل بالضرورة فكذا المقدم، بيان الشرطية أن البطئ إذا قطع مسافة ثم ابتدأ السريع وتحرك فإنه مع قطع تلك المسافة يكون البطئ قد قطع شيئا آخر فإذا قطعه السريع يقطع البطئ شيئا آخر وهكذا إلى ما لا يتناهى فلا يلحق السريع البطئ.

قال: وأن لا يقطع المسافة المتناهية في زمان متناه.

أقول: هذا وجه ثالث قريب من الوجه الثاني، وتقريره أنا لو فرضنا الجسم يشتمل على ما لا يتناهى من الأجزاء لزم أن لا يقطع المتحرك المسافة المتناهية

____________

(1) أي بقية الأجسام التي كان الفرض أنها مؤلفة من أجزاء غير متناهية.


الصفحة 228
في زمان متناه، لأنه لا يمكنه قطعها إلا بعد قطع نصفها ولا يمكنه قطع نصفها إلا بعد قطع ربعها وهكذا إلى ما لا يتناهى فيكون هناك أزمنة غير متناهية، وقد تكلمنا على هذه الوجوه في كتاب الأسرار بما لم يسبقنا إليه أحد.

قال: والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل.

أقول: إعلم أن القائلين بعدم تناهي الأجزاء اعتذروا عن الوجه الأول بالتداخل، فقالوا: لا يلزم من عدم تناهي الأجزاء عدم تناهي المقدار لأن الأجزاء تتداخل فيصير جزءان وأزيد في حيز واحد وفي قدره فلا يلزم بقاء النسبة.

واعتذروا عن الوجهين الأخيرين بالطفرة، فإن المتحرك إذا قطع مسافة غير متناهية الأجزاء في زمان متناه فإنه يطفر بعض تلك الأجزاء ويتحرك على البعض الآخر، وكذلك السريع يطفر بعض الأجزاء ليلحق البطئ، وهذان العذران باطلان بالضرورة.

قال: والقسمة بأنواعها تحدت اثنينية يساوي طباع كل واحد منهما (1) طباع المجموع.

أقول: يريد أن يبطل مذهب ذيمقراطيس في هذا الموضع، وهو أن الجسم ينتهي في القسمة الانفكاكية إلى أجزاء قابلة للقسمة الوهمية لا الانفكاكية.

وبيانه أن القسمة بأنواعها الثلاثة - أعني الانفكاكية والوهمية والتي باختلاف الأعراض الإضافية أو الحقيقية - تحدث في المقسوم اثنينية تكون طبيعة كل واحد من القسمين مساوية لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه، وكل واحد من القسمين لما صح عليه (2) الانفكاك عن صاحبه فكذلك كل واحد من قسمي

____________

(1) الطباع أعم من الطبيعة فيشمل الفلك أيضا، وذلك لأن الطباع يقال لمصدر الصفة الذاتية الأولية لكل شئ، والطبيعة قد تختص بما يصدر عنه الحركة والسكون فيما هو فيه أولا وبالذات من غير إرادة، وقوله: في هذا الموضع، باتفاق النسخ كلها.

(2) كما في (م ز ش ق د). وفي (ص) وحدها: كما صح عليه.


الصفحة 229
القسمين إلى ما لا يتناهى.

قال: وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي.

أقول: بعض الأجسام قد تمتنع عليها القسمة الانفكاكية لا بالنظر إلى ذاتها بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسمية، إما لصغر المقسوم بحيث لا تتناوله الآلة القاسمة أو صلابته أو وصول صورة تقتضي ذلك كما في الفلك عندهم ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي.

قال: فقد ثبت أن الجسم شئ واحد متصل يقبل الانقسام إلى ما لا يتناهى.

أقول: هذا نتيجة ما مضى لأنه قد بطل القول بتركب الجسم من الجواهر الأفراد سواء كانت متناهية أو غير متناهية، فثبت أنه واحد في نفسه متصل لا مفاصل له بالفعل ولا شك في أنه يقبل الانقسام فإما أن يكون قابلا لما يتناهى من الأقسام لا غير وهو باطل لما تقدم في إبطال مذهب ذيمقراطيس، أو لما لا يتناهى وهو المطلوب.

المسألة السابعة
في نفي الهيولى

قال: ولا يقتضي ذلك ثبوت مادة سوى الجسم لاستحالة التسلسل ووجود ما لا يتناهى.

أقول: يريد أن يبين أن الجسم البسيط لا جزء له، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من المتكلمين وأبو البركات البغدادي.

وقال أبو علي: إن الجسم مركب من الهيولى والصورة، واحتج عليه بأن الجسم متصل في نفسه وقابل للانفصال ويستحيل أن يكون القابل هو الاتصال نفسه لأن الشئ لا يقبل عدمه فلا بد للاتصال من محل يقبل الانفصال والاتصال وذلك هو الهيولى والاتصال هو الصورة فاستدرك المصنف رحمه الله ذلك وقال: إن

الصفحة 230
ذلك - أي قبول الانقسام - لا يقتضي ثبوت مادة كما قررناه في كلام أبي علي، لأن الجسم المتصل له مادة واحدة (1) فإذا قسمناه استحال أن تبقى المادة على وحدتها اتفاقا بل يحصل لكل جزء مادة، فإن كانت مادة كل جزء حادثة بعد القسمة لزمه التسلسل لأن كل حادث عندهم لا بد له من مادة، وإن كانت موجودة قبل القسمة لزم وجود مواد لا نهاية لها بحسب ما في الجسم من قبول الانقسامات التي لا تتناهى.

المسألة الثامنة
في إثبات المكان لكل جسم

قال: ولكل جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق.

أقول: كل جسم على الإطلاق فإنه يفتقر إلى مكان يحل فيه لاستحالة وجود جسم مجرد عن كل الأمكنة، ولا بد وأن يكون ذلك المكان طبيعيا له لأنا إذا جردنا الجسم عن كل العوارض فإما أن لا يحل في شئ من الأمكنة وهو محال، أو يحل في الجميع وهو أيضا باطل بالضرورة، أو يحل في البعض فيكون ذلك البعض طبيعيا، ولهذا إذا أخرج عن مكانه عاد إليه وإنما يرجع إليه على أقرب الطرق وهو الاستقامة.

قال: فلو تعدد انتفى.

أقول: يريد أن يبين أن المكان الطبيعي واحد، لأنه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيان لكان إذا حصل في أحدهما كان تاركا للثاني بالطبع وكذا بالعكس فلا يكون واحد منهما طبيعيا له، فلهذا قال: فلو تعدد - يعني الطبيعي - انتفى ولم يكن له مكان طبيعي.

____________

(1) المادة من حيث هي ليست إلا هي فلا توصف بالوحدة والكثرة بذاتها بل بتبع الصورة فلا يرد الايراد.


الصفحة 231

قال: ومكان المركب (1) مكان الغالب أو ما اتفق وجوده فيه.

أقول: المركب أن تركب من جوهرين (2) فإن تساويا وتمانعا وقف في الوسط بينهما وإلا تفرقا، وإن غلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب، وإن تركب من ثلاثة وغلب أحدها كان مكانه مكان الغالب وإلا كان في الوسط، وإن تركب من أربعة متساوية حصل في الوسط أو ما اتفق وجوده فيه وإن غلب أحدها كان في مكانه ولا استمرار للمعتدل لسرعة انفعاله بالأمور الغريبة.

قال: وكذا الشكل والطبيعي منه الكرة.

أقول: قيل في تعريف الشكل (3): إنه ما أحاط به حد واحد أو حدود، وفي

____________

(1) ناظر إلى عبارة الشيخ في الفصل الخامس من النمط الثاني من الإشارات حيث قال:

وللبسيط مكان واحد يقتضيه طبعه وللمركب ما يقتضيه الغالب فيه إما مطلقا وإما بحسب مكانه أو ما اتفق وجوده فيه إذا تساوت المجاذبات عنه، فكل جسم له مكان واحد.

(2) كالبخار فإنه أجزاء صغار مائية كثيرة مختلطة بالهواء، وكالدخان فإنه أجزاء صغار أرضية كثيرة مختلطة بالهواء، بل وكل واحد منهما مركب من ثلاثة والجزء الثالث فيهما هي النار، ثم لو فرض تحقق المركب من جوهرين أو من ثلاثة مع التساوي والتمانع وقف المركب حيثما اتفق وجوده فيه. ولعل هذا المعنى هو مراد الشارح من الوسط، فتأمل.

وعبارة الماتن في شرحه على الفصل المذكور من الإشارات هكذا:

المركب إما أن يكون أحد أجزائه غالبا على الباقية بالاطلاق، أو لا يكون، والثاني لا يخلو إما أن تكون الأجزاء التي أمكنتها في جهة واحدة كالأرض والماء مثلا غالبة على الأجزاء الباقية وحينئذ يكون تلك الأجزاء معا غالبة بحسب طلب جهة المكان، أو لا يكون.

فالمركبات بحسب هذه القسمة ثلاثة أقسام: ومكان القسم الأول ما يقتضيه الغالب في المركب مطلقا، ومكان القسم الثاني ما يقتضيه الغالب فيه بحسب مكانه إذ لا غالب فيه مطلقا لكن فيه غالب بالاعتبار المذكور، ومكان القسم الثالث وهو الذي لا يغلب فيه جزء لا على الإطلاق ولا مع الغير بالاعتبار المذكور فهو ما اتفق وجوده فيه ويكون ذلك عند تساوي المجاذبات فيه عن المكان الذي اتفق وجوده فيه فإن ذلك يقتضي بقاءه ثمة كالحديدة التي تجذبها قطع متساوية من المغناطيس عن جوانبها.

(3) الشكل عند المهندسين هو ما أحاط به حد أو حدود، كما في صدر المقالة الأولى من الأصول.

ولكنه عند التحقيق من الكيفيات المختصة بالكم المتصل وهو هيئة إحاطة حد أو حدود بالشئ.


الصفحة 232
التحقيق أنه من الكيفيات المختصة بالكميات وهو هيئة إحاطة الحد الواحد أو الحدود بالجسم وهو طبيعي وقسري، لأن كل جسم متناه على ما يأتي وكل متناه مشكل بالضرورة، فإذا فرض خاليا عن جميع العوارض لم يكن له بد من شكل فيكون طبيعيا، ولما كانت الطبيعة واحدة لم تقتض أمورا مختلفة ولا شكل أبسط من الاستدارة فيكون الشكل الطبيعي هو المستدير وباقي الأشكال قسري.

المسألة التاسعة
في تحقيق ماهية المكان

قال: والمعقول من الأول البعد فإن الأمارات تساعد عليه.

أقول: الأول يعني به المكان لأنه قد تبين أن الجسم يقتضي بطبعه شيئين:

المكان والشكل، ولما كان الشكل ظاهرا وكان طبيعيا ذكره بعقب المكان ثم عاد إلى تحقيق ماهية المكان وقد اختلف الناس فيه، والذي عليه المحققون أمران:

أحدهما: البعد المساوي لبعد المتمكن وهذا مذهب أفلاطون.

والثاني: السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهو مذهب أرسطو وأبي علي بن سينا.

وقد اختار المصنف الأول وهو اختيار أبي البركات ومذهب المتكلمين قريب منه، والدليل على ما اختاره المصنف أن المعقول من المكان أنما هو البعد فإنا إذا فرضنا الكوز خاليا من الماء تصورنا الأبعاد التي يحيط بها جرم الكوز بحيث إذا ملئ ماء شغلها الماء بجملتها، والأمارات المشهورة في المكان من قولهم إنه ما يتمكن المتمكن فيه ويستقر عليه ويساويه وما يوصف بالخلو والامتلاء يساعد على أن المكان هو البعد.

قال: واعلم أن البعد منه ملاق للمادة وهو الحال في الجسم ويمانع مساويه، ومنه مفارق تحل فيه الأجسام ويلاقيها بجملتها ويداخلها بحيث ينطبق على بعد

الصفحة 233

المتمكن ويتحد به ولا امتناع لخلوه عن المادة.

أقول: لما فرغ من بيان ماهية المكان شرع في الجواب عن شبهة مقدرة تورد على كون المكان بعدا، وهي أن المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين، والتالي محال فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن المتمكن له بعد فإن بقيا معا لزم الاجتماع والاتحاد إذ لا يزيد بعد الحاوي عند حلول المحوي، وإن عدم أحدهما كان المعدوم حالا في الموجود أو بالعكس وهما محالان. وأما بيان استحالة التالي فضروري لما تقدم من امتناع الاتحاد، ولأن المعقول من البعد الشخصي أنما هو البعد الذي بين طرفي الحاوي، فلو تشكك العقل في تعدده لزم السفسطة.

وتقرير الجواب أن البعد ينقسم إلى قسمين: أحدهما: بعد مقارن للمادة وحال فيها وهو البعد المقارن للجسم، والثاني: مفارق للمادة وهو الحاصل بين الأجسام المتباعدة. والأول يمانع مساويه يعني البعد المقارن للمادة أيضا فلا يجامعه لاستحالة التداخل بين بعدين مقارنين، والثاني لا يستحيل عليه مداخلة بعد مادي بل يداخله ويطابقه ويتحد به وهو محل الجسم المداخل بعده له، فلا امتناع في هذه المداخلة والاتحاد لأن هذا البعد خال عن المادة.

قال: ولو كان المكان سطحا لتضادت الأحكام.

أقول: لما بين حقيقة المكان شرع في إبطال مذهب المخالفين القائلين بأن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، وتقرير البطلان أن المكان لو كان هو السطح لتضادت الأحكام الثابتة للجسم الواحد، فإن الحجر الواقف في الماء والطير الواقف في الهواء يفارقان سطحا بعد سطح مع كونهما ساكنين، ولو كان المكان هو السطح لكانا متحركين لأن الحركة هي مفارقة الجسم لمكان إلى مكان آخر، ولكانت الشمس المتحركة الملازمة لسطحها ساكنة، فيلزم سكون المتحرك وحركة الساكن وذلك تضاد في الأحكام محال.

قال: ولم يعم المكان.

أقول: هذا وجه ثان دال على بطلان القول بالسطح، وتقريره أن العقلاء