الصفحة 234
حكموا باحتياج كل جسم إلى مكان، ولو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي لزم أحد الأمرين وهو إما عدم تناهي الأجسام حتى يكون كل جسم محاطا بغيره، أو حصول جسم لا في مكان بأن يكون محيطا بجميع الأجسام، والقسمان باطلان فالمقدم مثله (1).

المسألة العاشرة
في امتناع الخلاء

قال: وهذا المكان لا يصح عليه الخلو من شاغل وإلا لساوت حركة ذي المعاوق حركة عديمه عند فرض معاوق أقل بنسبة زمانيهما.

أقول: اختلف الناس في هذا المكان، فذهب قوم إلى جواز الخلاء وذهب آخرون إلى امتناعه وهو اختيار المصنف واستدل عليه بأن الخلاء لو كان ثابتا لكانت الحركة مع العائق كالحركة مع عدم العائق، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله، وبيان الشرطية أنا إذا فرضنا متحركا يقطع مسافة ما خالية في ساعة ثم نفرض تلك المسافة ممتلية فإن زمان الحركة يكون أطول لأن الملاء الموجود في المسافة معاوق المتحرك عن الحركة، فلنفرضه يقطعها في ساعتين ثم نفرض ملاء آخر أرق من الأول على نسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمانها في الملاء وهو النصف، فيكون معاوقته نصف المعاوقة الأولى فيتحركها المتحرك في ساعة لكن الملاء الرقيق معاوق أيضا فتكون الحركة مع المعاوق كالحركة بدونه وهو باطل.

المسألة الحادية عشرة
في البحث عن الجهة

قال: والجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة.

____________

(1) كما في جميع النسخ الست المعتبرة بلا استثناء. وأما ما في المطبوعة من قوله: فالملزوم مثله، فكأنه تصحيح قياسي أوجبه قوله: لزم أحد الأمرين.


الصفحة 235
أقول: لما بحث عن المكان وكانت الجهة ملائمة (1) له حتى ظن أنهما واحد عقبه بالبحث عنها وهي على ما فسرها جماعة من الأوائل عبارة عن طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة وذلك لأنا نتوهم امتدادا آخذا من المشير ومنتهيا إلى المشار إليه فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة.

قال: وليست منقسمة.

أقول: لما كانت الجهة عبارة عن الطرف لم تكن منقسمة لأن الطرف لو كان منقسما لم يكن الطرف كله طرفا بل متناهية (2) فلا يكون الطرف طرفا هذا خلف، ولأن المتحرك إذا وصل إلى المنتصف لم يخل إما أن يكون متحركا عن الجهة فلا يكون ما تخلف من الجهة أو يكون متحركا إليها فلا يكون المتروك من الجهة.

قال: وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة.

أقول: الجهة ليست أمرا مجردا عن المواد وعلائقها بل هي من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسية وتقصد بالحركة وبالإشارة فتكون موجودة. وإنما قيد القصد بالحركة بقوله: للحصول فيها، لأن ما يقصد بالحركة قد يكون موجودا كالجهة فإنها تقصد بالحركة لأنها تقصد الحصول فيها، وقد يكون معدوما كالبياض الذي يتحرك الجسم إليه من السواد فإنه معدوم وليس مقصودا بالحركة للحصول فيه بل لتحصيله.

قال: والطبيعي منها فوق وسفل (3) وما عداهما غير متناه.

____________

(1) باتفاق النسخ كلها.

(2) كما في (م) وهو اسم مكان، وغيرها: بل نهايته.

(3) ولم يتعرض بأن محددهما ما هو، واعلم أن كثيرا منهم ذهبوا إلى أن محدد الجهات هو تاسع الأفلاك الموسوم بالأطلس ومعدل النهار وفلك الأفلاك أيضا، وبعضهم كمعاصرينا إلى أنه الأرض والبحث على المذهب الأول يطلب في النمط الثاني من الإشارات، وعلى الثاني في مؤلفات المعاصرين، ولا يهمنا الورود في البحث عن ذلك.


الصفحة 236
أقول: الجهة منها ما هو طبيعي وهو ثنتان لا غير: الفوق والسفل، ومنها ما هو غير طبيعي وهو ما عداهما، ونعني بالطبيعي ما يستحيل تغيره وانتقاله عن هيئته، وبغير الطبيعي ما يمكن تغيره فإن القدام قد يصير خلفا وكذا اليمين قد يصير يسارا، وأما الفوق والسفل فلا، وهذه الجهات التي ليست طبيعية غير متناهية لأنها أطراف الخطوط المفروضة في الامتداد وتلك الخطوط غير متناهية.


الصفحة 237

الفصل الثاني
في الأجسام

قال: الفصل الثاني في الأجسام
وهي قسمان: فلكية وعنصرية، أما الفلكية فالكلية منها تسعة واحد غير مكوكب محيط بالجميع وتحته فلك الثوابت، ثم أفلاك الكواكب السيارة السبعة، وتشتمل على أفلاك تداوير وخارجة المراكز، والمجموع أربعة وعشرون وتشتمل على سبعة متحيرة (1) وألف ونيف وعشرين كوكبا ثوابت.

أقول: لما فرغ من البحث عن مطلق الجوهر شرع في البحث عن جزئياته وبدأ بالجسم لأنه أقرب إلى الحس، وفي هذا الفصل مسائل:

المسألة الأولى
في البحث عن الأجسام الفلكية

اعلم أن الأجسام تنقسم قسمين: فلكية وعنصرية، والأفلاك إما كلية تظهر

____________

(1) هكذا في جميع النسخ التي عندنا، والصواب على سبعة سيارة بدل على سبعة متحيرة، إلا أن نسخة واحدة كانت خمسة متحيرة مكان سبعة متحيرة ولكنها صواب بحسب الصورة لأن المتحيرة خمسة، وليست بصواب بحسب المعنى لأن تلك الأفلاك تشتمل على سبعة سيارة وألف ونيف وعشرين كوكبا ثوابت، لا على الخمسة المتحيرة وتلك الكواكب، وإلا فأين النيران. وتصدى بعض لتصحيح العبارة فقد غفل عن تحريف المعنى. والخمسة المتحيرة هي الخنس الجوار الكنس.


الصفحة 238
منها حركة واحدة إما بسيطة أو مركبة، وإما جزئية.

أما الكلية فتسعة واحد منها محيط بالجميع يسمى الفلك المحيط وهو غير مكوكب ويسمى الفلك الأطلس بهذا الاعتبار، وتحته فلك الثوابت ويسمى فلك البروج يماس المحيط بمقعره محدب هذا الفلك وتحت هذا زحل وتحته المشتري وتحته المريخ وتحته الشمس وتحته الزهرة وتحته عطارد وتحته القمر يماس العالي بمقعره محدب السافل، وهذه التسعة متوافقة المراكز وموافقة للأرض في مركزها.

ثم إن كل فلك من هذه الأفلاك السبعة ينفصل إلى أجسام كثيرة يقتضيه اختلاف حركات ذلك الكواكب في الطول والعرض والاستقامة والرجوع والسرعة والبطء والبعد والقرب من الأرض فاثبتوا لكل كوكب فلكا ممثلا بفلك البروج مركزه مركز العالم يماس بمحدبه مقعر ما فوقه وبمقعره محدب ما تحته وهو فلكه الكلي المشتمل على سائر أفلاكه إلا القمر فإن ممثله محيط بآخر يسمى المائل.

وأثبتوا أيضا فلكا خارج المركز عن مركز الأرض ينفصل عن الممثل أو المائل يتماس محدباهما ومقعراهما على نقطتين يسمى الأبعد عن الأرض أوجا والأقرب منه حضيضا.

وأثبتوا فلكا آخر يسمى فلك التدوير غير محيط بالأرض بل هو في ثخن الخارج المركز يماس محدبة سطحيه على نقطتين تسمى الأبعد ذروة والأقرب إلى الأرض حضيضا في السبعة عدا الشمس فإنهم أثبتوا لها فلكا خارج المركز خاصة.

وأثبتوا لعطارد فلكين خارجي المركز يسمى أحدهما المدير والثاني الحامل، فالمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون فلكا تشتمل سبعة أفلاك منها على خمسة كواكب متحيرة. وفلك البروج يحتوي على ألف ونيف وعشرين كوكبا ثابتة، وكون الثوابت في فلك واحد غير معلوم وكذلك انحصار الأفلاك فيما ذكروه

الصفحة 239
غير معلوم بل يجوز أن توجد أفلاك كثيرة إما وراء المحيط أو بين هذه الأفلاك.

وقول بعضهم إن أبعد بعد كل سافل مساو لأقرب قرب العالي باطل، لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر.

قال: والكل بسائط.

أقول: ذهبوا إلى أن الفلك بسيط، لأن كل مركب يتطرق إليه الانحلال والفلك لا يتطرق إليه الانحلال في هذه المدد المتطاولة فيكون بسيطا، وهذا حكم واجب عندهم وممكن عندنا، لأن الأجسام عندنا حادثة يمكن تطرق التغير إليها والانحلال.

قال: خالية من الكيفيات الفعلية والانفعالية ولوازمها.

أقول: هذا حكم آخر للأفلاك وهو أنها غير متصفة بالكيفيات الفعلية أعني الحرارة والبرودة وما ينسب إليهما، ولا الكيفيات الانفعالية أعني الرطوبة واليبوسة وما ينسب إليهما، وغير متصفة بلوازمها أعني الثقل والخفة.

واستدلوا على ذلك بأن الأفلاك (1) لو كانت حارة لكانت في غاية الحرارة،

____________

(1) هذه العبارة إلى قوله: انتفى لازمهما أعني الثقل والخفة، لا توجد في نسخة معتبرة من النسخ المخطوطة المعتبرة عندنا وهي نسخة (ق) والظاهر أنها تعليقة أدرجت في الكتاب، ونسخة (م) قد أصابتها سوانح من أول هذا الفصل الرابع وكتبت ثانيا من النسخ الرائجة.

واعلم أن المتفكرين في خلق السماوات والأرض أثبتوا بأفهامهم الرصينة أفلاكا مجسمة لتنظيم حركات الكواكب، ولذا قالوا: إنا لا نثبت فضلا في الفلكيات وعند التحقيق العالم الفلكي لا يحتاج أولا إلى إثبات الفلك المجسم بل الفلك عنده هو مدار الكوكب، وفرض الفلك مجسما لسهولة التعليم والتعلم، والبحث عن عدد الأفلاك أنما هو بحث رياضي هيوي أدرج في الكلام والفلسفة وقصارى ما يثبت الطبيعي في المقام هو محدد الجهات الذي يعين الجهتين الطبيعتين وهما فوق وسفل، اللهم إلا أن يقال: إن فرض الفلك المجسم انتشأ من تعريف الفلسلفة بأنها علم بأحوال الأعيان فإن الفيلسوف تفطن باختلاف الأفلاك على اختلاف أوضاع الكواكب وحركاتها المختلفة، فتدبر. وقد بسطنا الكلام في الفلك عند الطبيعي والرياضي في الدرس الثامن عشر من كتابنا الموسوم بدروس معرفة الوقت والقبلة فراجع.

وما قاله الشارح العلامة من أن كون الثوابت في فلك واحد غير معلوم، فالصواب أن كونها في فلك واحد من فرض العالم الهيوي لأنه لا يحتاج إلى أكثر من ذلك ولا يثبت فضلا في الفلكيات. ومن فرض كونها في فلك واحد ينتظم به أمر حركاتها فإنها تتحرك في كل سبعين سنة درجة واحدة فلكية، نعم أن للحكيم الرياضي الرصدي المولوي أبي القاسم غلام حسين ابن المولى فتح محمد الكربلائي الجينوري صاحب الزيج البهادري بيانا على التفصيل في حركاتها المختلفة في ذلك الزيج ينجر نقله وشرحه إلى الإطناب وأن شئت فراجعه (ص 565).

ثم إن الشارح كأنما ناظر في قوله المذكور إلى ما قاله الشيخ في الفصل السادس من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء: على أني لم يتبين لي بيانا واضحا أن الكواكب الثابتة في كرة واحدة، أو في كرات ينطبق بعضها على بعض إلا بإقناعات، وعسى أن يكون ذلك واضحا لغيري (ص 175 ج 1 ط 1).


الصفحة 240
والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الفاعل موجود في مادة بسيطة لا عائق لها فيجب حصول كمال الأثر، وبيان بطلان التالي أن الهواء العالي أبرد من الهواء الملاصق لوجه الأرض.

وكذا لو اقتضت البرودة لبلغت الغاية فيها فكان يستولي الجمود على العناصر فما كان يتكون شئ من الحيوان.

ولقائل أن يقول: لا يلزم من اقتضاء الحرارة حصول النهاية، لأن الشديد والضعيف مختلفان بالنوع ولا يلزم من اقتضاء الماهية نوعا ما اقتضائها النوع الآخر، ولهذا كان الهواء مقتضيا للسخونة ولم يقتض البالغ منها. ولا يصح الاعتذار بأن الرطوبة مانعة عن الكمال، لأن الرطوبة أنما تمنع عن كمال السخونة إذا أخذت بمعنى البلة لا بمعنى الرقة واللطافة ولا مكان أن تكون الطبيعة الفلكية تقتضي ما يمنع عن الكمال، ولأن الرطوبة إذا منعت عن كمال الحرارة كانت الطبيعة الواحدة تقتضي أمرين متنافيين، إذا عرفت هذا فنقول: لما انتفت الحرارة والبرودة انتفى لازمهما، أعني الثقل والخفة.

قال: شفافة.

أقول: استدلوا على شفافية الأفلاك بوجهين: أحدهما: أنها بسائط وهو منقوض بالقمر. والثاني: أنها لا تحجب ما ورائها عن الأبصار، فإنا نبصر الثوابت

الصفحة 241
وهي في الفلك الثامن وهذا أيضا ظني لا يفيد اليقين لجواز أن يكون لها لون ضعيف غير حاجب كما في البلور.

المسألة الثانية
في البحث عن العناصر البسيطة

قال: وأما العناصر البسيطة فأربعة: كرية النار والهواء والماء والأرض، واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية.

أقول: لما فرغ من البحث عن الأجرام الفلكية شرع في البحث عن الأجسام العنصرية، وهي إما بسيطة أو مركبة، ولما كان البسيط جزءا من المركب وكان البحث عن الجزء متقدما على البحث عن الكل قدم البحث عن البسائط.

وأعلم أن البسائط العنصرية أربعة، وأقربها إلى الفلك النار ثم الهواء ثم الماء ثم الأرض، ومركزها مركز العالم (1) لأن النار حارة في الغاية فطلبت العلو، والهواء حار

____________

(1) هاهنا زيادة في النسخ المطبوعة بعد قوله: ومركزها مركز العالم، تقرب من ستة عشر سطرا ولكن النسخ المخطوطة كلها خالية عنها، وإنما هي تعليقة أدرجت في الكتاب بلا ارتياب، ولا بأس بنقلها هاهنا تتميما للفائدة وهي ما يلي:

ومركزها مركز العالم لا غير، بيان ذلك أن العنصريات نجد فيها قوى مهيأة نحو الفعل أي كيفيات تجعل موضوعاتها معدة للتأثير في شئ آخر مثل الحرارة والبرودة والطعوم والروائح، وقوى مهيأة نحو الانفعال السريع أو البطئ أي كيفيات تجعل موضوعاتها معدة للتأثر عن الغير بحسب السرعة أو البطء مثل الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة وغير ذلك.

ثم فتشنا فوجدناها قد تخلو عن جميع الكيفيات الفعلية إلا الحرارة والبرودة والمتوسطة التي تستبرد بالقياس إلى الحار، وتستسخن بالقياس إلى البارد. فإنا نجد جسما خاليا عن اللون، وجسما خاليا عن الطعم، ولم نجد جسما خاليا عن الحرارة أو البرودة أو المتوسطة، وكذلك فتشنا فوجدناها خالية عن جميع الكيفيات الانفعالية إلا الرطوبة واليبوسة والمتوسطة بينهما، فعلم بهذا الاستقراء أن العناصر البسيطة لا تخلو عن إحدى الكيفيتين الفعليتين أي الحرارة والبرودة، ولا عن إحدى الكيفيتين الانفعاليتين أي الرطوبة واليبوسة.

ولما كانت الازدواجات الممكنة الثنائية غير زائدة على أربعة: الحرارة مع اليبوسة، والحرارة مع الرطوبة، والبرودة مع الرطوبة، والبرودة مع اليبوسة، كانت البسائط الموضوعة لتلك المزدوجات أربعة: الموضوع للحرارة واليبوسة وهو النار، والموضوع للحرارة والرطوبة وهو الهواء، والموضوع للبرودة والرطوبة وهو الماء، والموضوع للبرودة واليبوسة وهو الأرض.

والدليل على أنها كرات هو أنها بسائط، وقد علمت أن الشكل الذي تقتضيه البساطة هو الكرى، انتهت تلك الزيادة.


الصفحة 242
لا في الغاية فطلب العلو فوق باقي العناصر، والأرض أبرد العناصر فطلبت المركز.

وهذه الأربعة كرات منطبق بعضها على بعض لبساطتها، ولأن خسوف القمر إذا اعتبر (1) في وقت بعينه في بعض البلاد لم يوجد في البلد المخالف لذلك البلد في الطول في ذلك الوقت بعينه، والسائر على خط من خطوط نصف النهار (2) إلى

____________

(1) ولذلك كانوا بخسوف القمر يحصلون مقادير أطوال البلاد. وهذا الطريق في تحصيل الطول قد أتى به من المتأخرين صاحب الزيج البهادري في الباب الخامس عشر من المقالة الثالثة منه (ص 80) وأما في أزياج المتقدمين وصحفهم النجومية الهيوية فكثير ذكره، منها المجسطي الاسلامي قانون أبي ريحان البيروني تغمده الله برحمته فإن الباب الأول من المقالة الخامسة منه في بيان تصحيح أطوال البلدان بالخسوفات، وقد بسط القول فيه وأحسن وأجاد وأفاد وهذا الأثر القويم العظيم لم تجد له بديلا بل عديلا في موضوعه.

واعلم أن الطريق المذكور في تحصيل أطوال الآفاق جار في خسوف القمر فقط، ولا يمكن تحصيلها من كسوف الشمس لأن كسوفها ليس بانمحاء نورها واقعا بل بحيلولة القمر بينها وبين الأرض، ولذا يختلف الكسوف باختلاف الآفاق بسبب اختلاف المنظر اختلافا يتفق في أفق أن ينكسف الشمس كليا، وفي أفق آخر أن ينكسف جزئيا، أو لم ينكسف أصلا، بخلاف القمر فإن انخسافه انمحاء نوره واقعا لوقوعه في ظل الأرض وعدم إمكان كسبه النور من الشمس، فمتى تحقق خسوف القمر في أفق كانت الآفاق الأخرى على سواء في رؤيته على التفصيل الذي بين في محله.

ثم إن من أدلة أرسطو على كروية الأرض ما يرى من ظل الأرض على صفحة القمر حين الخسوف، فإن الظل يرى مدورا وظل الكرة فقط مدور فالأرض كرة.

وفي المقام أدلة أخرى ذكرناها مع الإشارة إلى مصادرها ومأخذها في كتابنا الموسوم بدروس معرفة الوقت والقبلة فراجع الدرس السادس عشر منه بل عدة مواضع أخرى من سائر دروسه أيضا.

(2) أقول: وبذلك الارتفاع والانخفاض حصلوا مساحة الأرض على التفصيل الذي ذكرناه في الدرس المذكور آنفا (ص 101 من دروس معرفة الوقت والقبلة ط 1).


الصفحة 243
الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس وهذا يدل على كرية الأرض، والأغوار والأنجاد (1) لا تؤثر في الكرية لصغرها بالنسبة إليها.

وأما الماء فلأن راكب البحر إذا قرب من جبل ظهرت له قلته أولا ثم أسفله ثانيا، والبعد بينه وبين القلة أكثر مما بينه وبين الأسفل، والسبب فيه منع حدبة الماء عن إبصار الأسفل وأما الباقيان فلما مر من بساطتهما وهي تقتضي الكرية.

وإنما استفيد عدد هذه العناصر وانحصارها في أربعة من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

قال: وكل منها ينقلب إلى الملاصق، وإلى الغير بواسطة أو بوسائط.

أقول: هذه العناصر الأربعة كل واحد منها ينقلب إلى الآخر إما ابتداءا كصيرورة النار هواءا أو بواسطة واحدة كصيرورتها ماءا بواسطة انقلابها هواءا ثم انقلاب الهواء ماءا، أو بوسائط كصيرورتها أرضا بواسطة انقلابها هوءا ثم ماءا ثم أرضا، والأصل فيه أن غالب الأمر انقلاب العنصر إلى ملاصقه كانقلاب النار هواءا ابتداءا، وإلى البعيد بواسطة، ويدل على انقلاب كل واحد منها إلى صاحبه ما يشاهد من صيرورة النار هواءا عند الانطفاء وصيرورة الهواء نارا عند إلحاح النفخ وصيرورة الهواء ماءا عند حصول البرد في الجو وانعقاد السحاب الماطر من

____________

(1) وذلك لأن تضاريس الأرض أوهادها وأنجادها لا تخرجها عن الاستدارة حسا إذ لا نسبة محسوسة لها إلى جملتها كبيضة من حديد ألزقت بها حبات شعير فلا تقدح في كونها كروية الشكل. بل قالوا: إن نسبة تلك التضاريس إلى كرة الأرض أصغر بكثير من نسبة الشعير إلى البيضة إذ برهنوا أن نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع كما بين في محله.

وبرهن المتأخرون أيضا إلى أن ارتفاع أعظم الجبال لا يتجاوز جزءا من سبعمائة جزء من نصف قطر الأرض، نعم أن المتأخرين ذهبوا إلى أن الأرض ليست بكرة تامة بل شبيهة بالكرة شكلها في الحقيقة شلجمي بسبب تطامن طرفيها. والمباحث عن ذلك بطولها تطلب في الدرس المذكور من دروس معرفة الوقت والقبلة.


الصفحة 244
غير وصول بخار إليه، وصيرورة الماء هواءا عند إسخانه، وصيرورة الماء أرضا كما يعقد أهل الحيل (1) المياه الجارية أحجارا صلبة، وصيرورة الأرض ماءا كما يتخذون مياها حارة ويحلون فيها أجسادا صلبة حجرية حتى تصير مياها جارية.

قال: فالنار حارة يابسة شفافة متحركة بالتبعية لها طبقة واحدة وقوة على إحالة المركب إليها.

أقول: لما فرغ من الأحكام المشتركة بين العناصر شرع في البحث عن الكيفيات المختصة بكل عنصر عنصر وبدأ بالنار وذكر من أحكامها ستة:

الأول: أنها حارة والحس يدل على حرارة النار الموجودة عندنا، وأما النار البسيطة التي هي الفلك الأثير (2) فإنها كذلك لوجود الطبيعة خالية عن العائق ولبساطتها فإن الحرارة موجودة في النار التي عندنا مع امتزاجها بالضد فكيف

____________

(1) أهل الحيل هم أرباب الأكسير أي طلاب الكيمياء، والأجساد هي الأجسام الذائبة بحسب مصطلحات أصحاب الحيل أي الفلزات. وإنما يعبرون عنها بالأجساد لا الأجسام لأن الجسد هو برزخ بين الطرفين ليس بغلاظة ما دونه، ولا بلطافة ما فوقه، كما يعبر أرباب المعقول عن التمثلات في الخيال المتصل والمنفصل بالأجساد، وبعضهم يعبرون عن الأبدان الأخروية مطلقا بالأجساد، وبعضهم قائلون بأن معراج الخاتم صلى الله عليه وآله كان جسدانيا. وبالجملة لما كانت الفلزات مما تكونت من العناصر وهي مركبات معدنية ذوات أمزجة، ولها أيضا استحالات ألطف مما هي بالفعل عبروا عنها بالأجساد فهي ذائبة بالنسبة إلى بعدها كما هي ذائبة بالنسبة إلى قبلها. والأكسير هو الكيمياء وأهل العصر يقولون: الشيمي، وهي كلمة فرنسية أصلها Chimic ولها فروع لغوية كثيرة وحرف C يتلفظ كثيرا بالكاف وإن كان مع حرف h بعدها يتلفظ بالشين.

وما تذاب بها تلك الأجساد من الزيبق والكبريت والنوشادر وغيرها تسمى في اصطلاح أهل الكيمياء أرواحا، صرح بذلك ابن الفناري في مصباح الأنس (ص 209 ط 1) والشارح العلامة ناظر في أغلب هذه المباحث إلى كلمات الماتن في شرحه على كتاب الإشارات.

فراجع شرحه على الفصل العشرين من النمط الثاني منه في المقام.

(2) الأثير هي النار الخالصة الصرفة، وقد يطلق على الفلك أيضا بل أكثر استعماله في الفلكيات. والشارح قد أطلق الفلك على كرة الأثير، وقد أطلقه عليها غيره أيضا.


الصفحة 245
بالنار الصرفة.

الثاني: أنها يابسة وهو معلوم بالحس أيضا إن عنى باليبوسة ما لا يلتصق بغيره، أما إن عنى بها ما يعسر تشكله بالأشكال القريبة فالنار ليست يابسة بهذا المعنى.

الثالث: أنها شفافة وإلا لحجبت الثوابت عن الأبصار، ولأن النار كلما كانت أقرب إلى الشفافية كانت أقوى كما في أصول الشعل (1).

الرابع: أنها متحركة بالتبعية وهو حكم ظني لأنهم لما رأوا الشهب (2) متحركة حكموا بحركة كرة النار ثم طلبوا العلة فقالوا: إن كل جزء من الفلك تعين مكانا لجزء من النار فإذا انتقل ذلك الجزء انتقل المتمكن فيه كالساكن في السفينة.

وهذا ضعيف، لأن الشهب لا تتحرك إلى جهة واحدة بل قد يكون إلى الشمال تارة وإلى الجنوب أخرى، وما ذكروه من العلة فهو بعيد وإلا لزم حركة كرة الهواء والماء والأرض مع أن الفلك بسيط لا جزء له، ولو فرض له أجزاء لكانت متساوية فكيف يصح اختلافها في كون بعضها مكانا لبعض أجزاء النار البسيطة والبعض

____________

(1) ناظر إلى عبارة الشيخ في الفصل الخامس والعشرين من النمط الثاني من الإشارات قال:

إعلم أن النار الساترة لما وراءها أنما يكون ذلك لها إذا علقت شيئا أرضيا ينفعل بالضوء عنها ولذلك أصول الشعل وحيث النار قوية هي شفافة لا يقع لها ظل ويقع لما فوقها ظل عن مصباح آخر.

(2) الشهب والنيازك ليستا بمتحركتين بل يظن من نحو حدوثهما أنهما متحركتان، وبيان حدوثهما هو كما حرره الماتن في شرحه على الفصل المذكور أخيرا من الإشارات أن المتخلل اليابس المتصعد لاكتساب الحرارة أعني الدخان المرتفع من الأرض أنما يعلو البخار لأن اليابس أكثر حفظا للكيفية الفعلية وأشد إفراطا فيها لذلك، فإذا بلغ الجو الأقصى الحار بالفعل لبعده عن مجاورة الماء والأرض ومخالطة أبخرتهما وقربه من الأثير اشتعل طرفه العالي أولا ثم ذهب الاشتعال فيه إلى آخره فرأى الاشتعال ممتدا على سمت الدخان إلى طرفه الآخر وهو المسمى بالشهاب، فإذا استحالت الأجزاء الأرضية نارا صرفة صارت غير مرئية لعدم الاستضاءة فظن أنها طفئت فليس ذلك بطفوء.

نعم أن حدوث النيازك والشهب عند القطبين يدل على أن النار كروية الشكل صحيحة الاستدارة تحديبا وتقعيرا، فتأمل.


الصفحة 246
الآخر مكانا للآخر.

الخامس: أنها ذات طبقة واحدة وذلك لقوتها على إحالة ما يمازجها فلا يوجد في مكانها غيرها.

السادس: أنها قوية على إحالة المركب إليها، وذلك ظاهر.

قال: والهواء حار رطب شفاف له أربع طبقات.

أقول: لما فرغ من البحث عن أحكام النار شرع في البحث عن الهواء الملاصق لها، وذكر له أحكاما أربعة: الأول: أنه حار وذلك فيما يرجع إلى الكيفية الفعلية وقد وقع التشاجر فيه، فأكثر الناس ذهب إلى أنه حار لا في الغاية لأن الماء إذا أريد جعله هواءا سخن فضل تسخين ومع استحكام التسخين ينقلب هواءا، وآخرون منعوا من ذلك لأنه لو اقتضى السخونة لطبعه لبلغ فيها الغاية لوجود العلة الخالية عن المعاوق. الثاني: أنه رطب بمعنى سهولة قبول الأشكال لا بمعنى البلة وذلك ظاهر، وهذا فيما يرجع إلى الكيفية الانفعالية. الثالث: أنه شفاف وهو ظاهر لعدم إدراكه صرفا بالبصر. الرابع: أنه ذو طبقات أربع: الطبقة الأولى الملاصقة للأرض، الثانية الطبقة الباردة بسبب ما يخالطها من الأبخرة، الثالثة الطبقة الصرفة، الرابعة الطبقة الممتزجة بشئ من النار (1).

قال: والماء بارد رطب شفاف محيط بثلاثة أرباع الأرض له طبقة واحدة.

____________

(1) في النسخ المطبوعة زيادة أسطر هاهنا وهي تعليقة أدرجت في المتن نأتي بها تتميما للفائدة وهي هذه:

الطبقة الأولى: المجاور للأرض، المتسخن لمجاورة الأرض، المشعشعة بشعاع النير، وهي بخارية حارة. والبخار هو المتخلل الرطب وهو أجزاء مائية اكتسبت حرارة فتصاعدت لأجلها وخالطت الهواء الملاصق للأرض. الطبقة الثانية: وهي الهواء المتباعد عن الأرض الذي انقطع عنه تأثير الشعاع لبعده عن الأرض وهي بخارية باردة، ويقال لها: الطبقة الزمهريرية، وذلك بسبب ما يخالطها من الأبخرة. الطبقة الثالثة: الهواء الصرف. الطبقة الرابعة:

طبقة دخانية فإن البخار وإن صعد في الهواء لكن الدخان يجاوزه ويعلوه لأنه أخف حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة، والدخان هو المتخلل اليابس. انتهت الزيادة.


الصفحة 247
أقول: ذكر للماء خمسة أحكام:

الأول: أنه بارد والحس يدل عليه لأنه مع زوال المسخنات الخارجية يحس ببرده.

واختلفوا فالأكثر على أن الأرض أبرد منه لأنها أكثف وأبعد عن المسخنات والحركة الفلكية، وقال قوم: إن الماء أبرد لأنا نحس بذلك وهو ضعيف لأن الشئ قد يكون أشد بردا في الحس ولا يكون في نفس الأمر كذلك كما في جانب السخونة، ولهذا كانت السخونة في الأجسام الذائبة كالرصاص وغيره أشد في الحس من النار الصرفة الخالية عن الضد لسرعة انفصال النار الصرفة عن اليد لأجل لطافتها فلا يدوم أثرها كذلك هاهنا أثر الماء للطافته ينبسط على العضو ويصل إلى عمق كل جزء منه ويلتصق به بخلاف التراب المتناثر عنه سريعا فكان الاحساس ببرد الماء أكثر.

الثاني: أنه رطب وهو ظاهر بمعنى البلة، وقيل: إنه يقتضي الجمود لأنه بارد بالطبع والبرد يقتضي الجمود وإنما عرض السيلان له بسبب سخونة الأرض والهواء، ولو خلي وطبعه لاقتضى الجمود.

الثالث: أنه شفاف لأنه مع صرافته لا يحجب عن الأبصار. وقيل: إنه ملون وإلا لم يكن مرئيا ولضعف لونه لم يحجب عن الأبصار.

الرابع: أنه محيط بأكثر الأرض وهو حكم ظني لأنهم جعلوا العناصر متعادلة (1) وإلا لاستحال الأضعف وعدم عنصره، فلو لا إحاطته بثلاثة أرباع الأرض لكان أقل من الأرض وإذا كان محيطا بأكثر الأرض كان هو البحر وإلا فإما أن يكون فوق الأرض أو تحتها (2)، والثاني باطل وإلا لكان أصغر من الأرض فبقي الأول وهو البحر.

____________

(1) أي متعادلة في الحجم.

(2) المراد من التحت جوفها وباطنها، ولذا كان أصغر من الأرض لأن ما في بطن الجسم أقل منه.


الصفحة 248
الخامس: أنه ذو طبقة واحدة هو البحر، وهو ظاهر.

قال: والأرض باردة يابسة ساكنة في الوسط شفافة لها ثلاث طبقات.

أقول: ذكر للأرض أحكاما خمسة:

الأول: أنها باردة لأنها كثيفة، وقد سلف البحث في أنها أبرد العناصر.

الثاني: أنها يابسة، وهو أيضا ظاهر.

الثالث: أنها ساكنة في الوسط، وقد نازع في ذلك جماعة فذهب قوم إلى أنها متحركة إلى السفل، وآخرون إلى العلو، وآخرون بالاستدارة، والحق خلاف ذلك كله وإلا لما وصل الحجر المرمى إليها إن كانت هاوية، ولما نزل الحجر المرمى إلى فوق إن كانت صاعدة، ولما سقط على الاستقامة (1) إن كانت متحركة على الاستدارة.

وقد أشار في هذا الحكم إلى فائدة بقوله: في الوسط، وهو الرد على من زعم أنها ساكنة بسبب عدم تناهيها من جانب السفل لا من حيث الطبع، وبيان بطلان هذا القول ظاهر لأن الأجسام متناهية.

الرابع: أنها شفافة، وقد وقع فيه منازعة بين القوم فذهب جماعة إليه لأنها بسيطة، وذهب آخرون إلى المنع لأنا نشاهد الأرض فإن كانت بسيطة فالمطلوب وإن كانت ممتزجة بغيرها كانت الأرضية عليها أغلب فكانت الشفافية أغلب وليس كذلك، ثم نقضوا كبرى أولئك بالقمر.

الخامس: في طبقاتها وهي ثلاث (2): طبقة هي أرض محضة وهي المركز

____________

(1) بل هو كذلك لا يسقط عليها على الاستقامة على نقطة رمي الحجر منها إلى فوق، وقريب من هذا المنهج حركة الفاندول على الوجه الذي انتقل به فوكولة وعمل به في مرصد باريس وبيان تفصيله يطلب من تحفة الأفلاك (ص 27 - 30 ط 1) وغيره من كتب الفن منها كتاب السماء بالفرنسية تأليف الفنس برژت (ص 13 - 16 ط باريس).

(2) عبارة الشفاء في المقام هكذا: فيشبه لذلك أن تكون الأرض ثلاث طبقات: طبقة تميل إلى محوضة الأرضية، وتغشيها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية وهو طين، وطبقة منكشفة عن الماء جفف وجهها الشمس وهو البر والجبل وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر (ج 1 ط 1 ص 227).

وعبارة الفاضل الرومي في شرحه على الملخص في الهيئة للجغميني هكذا:

انحصار العناصر في الأربعة مستفاد من ازدواجات الكيفيات الفعلية والانفعالية على ما ذكر في الطبيعي لكن التعويل على الاستقراء، وهي تسع طبقات في المشهور عند الجمهور كالأفلاك: طبقة الأرض الصرفة المحيطة بالمركز، ثم الطبقة الطينية، ثم طبقة الأرض المخالطة التي تتكون فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات، ثم طبقة الماء، ثم طبقة الهواء المجاور للأرض والماء، ثم الطبقة الزمهريرية الباردة بسبب ما تخالط الهواء من الأبخرة وعدم ارتقاء انعكاس الأشعة إليها وهي منشأ السحب والرعد والبرق والصواعق، ثم طبقة الهواء الغالب القريب من الخلوص، ثم الطبقة الدخانية التي تتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة من السفل وتتكون فيها ذوات الأذناب والنيازك وما يشبههما من الأعمدة ونحوها وربما توجد متحركة بحركة الفلك تشييعا له، ثم طبقة النار.

ومنهم من قسم الهواء باعتبار مخالطة الأبخرة وعدمها بقسمين: أحدهما: الهواء اللطيف الصافي من الأبخرة لأنها تنتهي في ارتفاعها إلى حد لا يتجاوزه وهو قريب من سبعة عشر فرسخا.

وثانيهما: الهواء الكثيف المخلوط بالأبخرة ويسمى كرة البخار وعالم النسيم وكرة الليل والنهار إذ هي مهب الرياح والقابلة للظلمة والنور، والزرقة التي يظن أنها لون السماء أنما يتخيل فيها. وبهذا الاعتبار يمكن أن يؤخذ الطبقات سبعا كالسماوات (ص 18 ط 1).


الصفحة 249
وما يقاربه، وطبقة طينية، وطبقة بعضها منكشف هو البر وبعضها أحاط به البحر.

المسألة الثالثة
في البحث عن المركبات

قال: وأما المركبات فهذه الأربعة أسطقساتها.

أقول: لما فرغ من البحث عن البسائط شرع في البحث عن المركبات وبدأ من ذلك بالبحث عن بسائطها.

واعلم أن المركبات أنما تتركب من هذه العناصر الأربعة لأن العنصر الواحد بسيط لا يقع به التفاعل فلا بد من كثرة، ولما دل الاستقراء على انتفاء صلاحية ما عدا الكيفيات الأربع أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أو ما ينسب

الصفحة 250
إليها للفعل والانفعال وجب أن يكون التفاعل إنما هو في هذه الأربعة وحواملها وكانت الاسطقسات هذه العناصر الأربعة لاغير. وهذه العناصر من حيث هي أجزاء العالم تسمى أركانا، ومن حيث إنها تتركب منه المركبات من المعادن والنباتات تسمى أسطقسات.

قال: وهي حادثة عند تفاعل بعضها في بعض.

أقول: المركبات عند محققي الأوائل تحدث عند تفاعل هذه العناصر الأربعة بعضها في بعض إلى أن تستقر الكيفية المتوسطة المسماة بالمزاج.

وذهب أصحاب الخليط مثل انكساغورس وأتباعه إلى نفي ذلك، وقال: إن هنا أجزاءا هي لحم وأجزاءا هي عظام وأجزاءا هي حنطة (1) وغير ذلك من جميع المركبات وهي مختلطة مبثوثة في العالم غير متناهية، فإذا اجتمع أجزاء من طبيعة

____________

(1) وفى غير واحدة من النسخ المعتبرة أيضا: وأجزاءا هي شحمة بدل قوله: واجزاءا هي حنطة. وقد ذهب أصحاب الخليط إلى أن مادة هذه المحسوسات أي أعيان الموجودات هي تلك الأجزاء المختلفة بالنوع كما قاله الخواجة في شرحه على الثاني عشر من خامس الإشارات. وقال أيضا في شرحه على الفصل الثالث والعشرين من ثاني الإشارات: إن انكساغورس وأصحابه القائلين بالخليط كانوا ينكرون التغير في الكيفية وفي الصورة - أي كانوا ينكرون الاستحالة والكون - ويزعمون أن الأركان الأربعة لا يوجد شئ منها صرفا بل هي مختلطة من تلك الطبائع ومن سائر الطبائع النوعية. وإنما تسمى بالغالب الظاهر منها ويعرض لها عند ملاقاة الغير أن يبرز منها ما كان كامنا فيها فيغلب ويظهر للحس بعد ما كان مغلوبا غائبا عنه لا على أنه حدث بل على أنه برز ويكمن فيها ما كان بارزا فيصير مغلوبا وغائبا بعد ما كان غالبا وظاهرا.

وبإزائهم قوم زعموا أن الظاهر ليس على سبيل بروز بل على سبيل نفوذ من غيره فيه كالماء مثلا فإنه إنما يتسخن بنفوذ أجزاء نارية فيه من النار المجاورة له.

والمذهبان متقاربان فإنهما يشتركان في أن الماء مثلا لم يستحل حارا لكن الحار نار تخالطه ويفترقان بأن أحدهما يرى أن النار برزت من داخل الماء، والثاني يرى أنها وردت عليه من خارجه.

وإنما دعاهم إلى ذلك الحكم بامتناع كون الشئ عن لا شئ، وامتناع صيرورة الشئ شيئا آخر.