قال: فتفعل الكيفية في المادة فتكسر صرافة كيفيتها (1) وتحصل كيفية متشابهة في الكل متوسطة هي المزاج.
أقول: لما ذكر أن المركبات أنما تحصل عند تفاعل هذه العناصر بعضها في بعض شرع في كيفية هذا التفاعل، واعلم أن الحار والبارد، أو الرطب واليابس إذا اجتمعا وفعل كل منهما في الآخر لم يخل إما أن يتقدم فعل أحدهما على انفعاله أو يقترنا ويلزم من الأول صيرورة المغلوب غالبا وهو محال، ومن الثاني كون الشئ الواحد غالبا مغلوبا دفعة واحدة وهو محال فلم يبق إلا أن يكون الفاعل في كل واحد منهما غير المنفعل، فقيل: الفاعل هو الصورة والمنفعل هو المادة، وينتقض بالماء الحار إذا مزج بالماء البارد واعتدلا، فإن الفعل والانفعال بين الحار والبارد هناك موجود مع أنه لا صورة تقتضي الحرارة في الماء البارد.
وقيل: الفاعل هو الكيفية والمنفعل هو المادة مثلا تفعل حرارة الماء الحار في مادة الماء البارد فتكسر البرودة التي هي كيفية الماء البارد وتحصل كيفية متشابهة متوسطة بين الحرارة والبرودة هي المزاج، وهذا اختيار المصنف رحمه الله وفيه نظر لأن المادة إنما تنفعل في الكيفية الفاعلة لا في غيرها ويعود البحث من كون المغلوب يصير غالبا أو اجتماع الغالبية والمغلوبية للشئ الواحد في الوقت الواحد بالنسبة إلى شئ واحد وهو باطل.
قال: مع حفظ صور البسائط.
____________
(1) وفي (ت): فتكسر ما فيه كيفيتها. والباقية كلها: فتكسر صرافة كيفيتها، كما اخترناه.
والضمير في كيفيتها راجع إلى الاسطقسات، وإن كان راجعا إلى المادة فبالإضمار أي تكسر هذه الكيفية صرافة كيفية الصورة التي حالة في المادة.
وأبطله الشيخ بأن ذلك يكون كونا وفسادا لا مزاجا (2)، ولأن الكاسر باق مع الانكسار فالطبائع باقية مع انكسار الكيفيات. ونقض ما ذكروه بوروده عليهم لأن مذهبهم أن الجزء الناري تبطل ناريته عند امتزاجه ويتصف بالصورة اللحمية فيجوز عروض هذا العارض للنار البسيطة فإن شرطوا التركيب كان هو جوابنا.
قال: ثم تختلف الأمزجة في الأعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال.
____________
(1) نقله في الفصل السابع من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء (ص 205 ج 1 ط 1).
وقد ذهب صاحب الأسفار إلى ذلك المذهب الذي استغربه الشيخ فراجع الفصل الأول من الباب الثاني من كتاب النفس منه (ص 6 ج 4 ط 1)، وكذلك الفصل التاسع من الفن السادس من الجواهر والأعراض منه (ج 2 ط 1 ص 194)، وكذلك الفصل الرابع عشر من الفن السادس منه (ج 2 ص 202)، وتفصيل ذلك يطلب في الفصل الخامس عشر من ذلك الفن (ج 2 ص 206).
وخلاصة كلام الشيخ في الشفاء وغيره من طائفة المشاء ما ذكره بهمنيار في التحصيل من أن الجواهر العنصرية ثابتة في الممتزج بصورها متغيرة في كيفياتها فقط وكيف لا تكون ثابتة فيه والمركب أنما هو مركب عن أجزاء فيه مختلفة وإلا لكان بسيطا لا يقبل الأشد والأضعف.
وأما كيفياتها ولواحقها فتكون قد توسطت ونقصت عن حد الصرافة (ص 693 ط 1).
(2) وفي (م ق): لا امتزاجا. ومفادهما في المقام واحد. وعنوان الفصل في الشفاء كان: في إبطال مذهب محدث في المزاج. وما في الفصل من عبارات الشيخ تارة يناسب المزاج، وأخرى الامتزاج. وتعبير الخواجة في شرح الإشارات والقوشجي وصاحب الشوارق في شرح التجريد هو المزاج.
قال: مع عدم تناهيها بحسب الشخص وإن كان لكل نوع طرفا إفراط وتفريط وهي تسعة.
____________
(1) وأتم منه ما أفاد الخواجة في شرحه على الفصل الأخير من النمط الثاني من الإشارات ونأتي بكلامه السامي تبركا ثم نتبعه بما نشير إليه في المقام لنفاسة البحث عن ذلك المطلب الأسنى، قال قدس سره:
اعلم أن انكسار تضاد الكيفيات واستقرارها على كيفية متوسطة وحدانية نسبة ما لها إلى مبدئها الواحد، وبسببها تستحق لأن يفيض عليها صورة أو نفسا تحفظها فكلما كان الانكسار أتم كانت النسبة أكمل والنفس الفائضة بمبدئها أشبه، إنتهى.
أقول: كلامه السامي في اعتدال المزاج حكم محكم واصل رصين في النفس المكتفية التي هي المركز والقطب وما سواها من النفوس وغيرها تدور حولها، فما كان أقرب منها فهو ذو مزاج أعدل فهكذا الأقرب فالأقرب، وعلى خلافه الأبعد فالأبعد. وبهذا المطلب الأسنى تقدر أن تفهم أسرارا في علم الانسان الكامل الإمام وما جاء في الجوامع الروائية من أن النفوس المكتفية إذا شاؤوا أن يعلموا علموا، فتدبر حق التدبر.
ثم اعلم أن التوحد أيضا هو ملاك تعلقنا الحقائق لأن التعقل هو التوحد والتعلق هو التفرق، والتعقل لا يتحقق مع التعلق، ولذا قال أصحاب التوحيد: إن حقائق الأشياء في الحضرة العلمية بسيطة فلا ندركها على نحو تعينها فيها إلا من حيث أحديتنا كما أفاده في مصباح الأنس (ص 9 ط 1).
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأمزجة تسعة لأن البسائط إما أن تتساوى فيه وهو المعتدل، أو يغلب أحدها فإما الحار مع اعتدال الانفعاليين أو البارد معه أو الحار مع غلبة الرطب أو اليابس أو البارد معهما أو يغلب الرطب مع اعتدال الفعليين أو اليابس معه.
قال:
____________
(1) أي ذلك المزاج الخاص النوعي.
الفصل الثالث
في بقية أحكام الأجسام
وتشترك الأجسام في وجوب التناهي لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به عند مقايسته بمثله مع فرض نقصانه عنه.
أقول: لما فرغ عن البحث في الأجسام شرع في البحث عن باقي أحكامها إذ قد كان سبق البحث عن بعض أحكامها، وهذا الفصل يشتمل على مسائل:
المسألة الأولى
في تناهي الأجسام (1)
وقد اتفق أكثر العقلاء على ذلك وإنما خالف فيه حكماء الهند، واستدل المصنف رحمه الله على ذلك بوجهين: الأول برهان التطبيق، وتقريره أن الأبعاد لو كانت
____________
(1) أقول: أما تناهي الأبعاد الجزئية أي الأجسام الجزئية فهو قريب من الأوليات كتناهي كرة الأرض وغيرها من العناصر والكواكب، وأما تناهي الأبعاد بمعنى أن العالم الجسماني ينتهي في جميع الجهات إلى محدب محدد الجهات وبعده لا خلاء ولا ملاء فدون إثباته خرط القتاد. والأدلة التي ذكروها كلها مدخولة. وتلك الأدلة هي البرهان السلمي، والترسي، وبرهان التطبيق، والبرهان الذي أقامه السيد السمرقندي، والبرهان اللام الفي، والذي أقامه صاحب التلويحات، وبرهان التخليص، وبرهان المسامته. وقد حررتها وبينت وجوه عدم تماميتها في المدعى في كتابنا الموسوم بألف نكتة ونكتة فاطلبها من النكتة الثالثة والثمانين والستمائة منه.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب، فقوله: وتشترك الأجسام في وجوب التناهي، إشارة إلى الدعوى مع التنبيه على كون هذا الحكم واجبا لكل جسم.
وقوله: لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به، معناه لوجوب اتصاف الخط الناقص الذي فرض له ضد التناهي لأنا فرضنا الخطين غير متناهيين بالتناهي (1).
وقوله: عند مقايسته بمثله، معناه عند مقايسة الخط الناقص بالخط الكامل المماثل له في عدم التناهي. ومعنى المقايسة هنا مقابلة كل جزء من الناقص بجزء من الكامل.
وقوله: مع فرض نقصانه عنه، يعني مع فرض قطع شئ من الخط الناقص حتى صار ناقصا، فهذا ما خطر لنا في معنى هذا الكلام.
قال: ولحفظ النسبة بين ضلعي الزاوية وما اشتملا عليه مع وجوب اتصاف الثاني به.
أقول: هذا هو الدليل الثاني على تناهي الأبعاد، وتقريره أنا إذا فرضنا زاوية خرج ضلعاها إلى ما لا يتناهى على الاستقامة فإن النسبة بين زيادة الضلعين
____________
(1) صلة لقوله: اتصاف الخط، وهو بيان به في قول الماتن.
المسألة الثانية
في أن الأجسام متماثلة
قال: واتحاد الحد وانتفاء القسمة فيه يدل على الوحدة.
أقول: ذهب الجمهور من الحكماء والمتكلمين إلى أن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمية وإن اختلفت بصفات وعوارض، وذهب النظام إلى أنها مختلفة لاختلاف خواصها وهو باطل لأن ذلك يدل على اختلاف الأنواع لا على اختلاف المفهوم من الجسم من حيث هو جسم.
وقد استدل المصنف رحمه الله على قوله بأن الجسم من حيث هو جسم يحد بحد واحد عند الجميع، أما عند الأوائل فإن حده الجوهر القابل للأبعاد، وأما المتكلمون فإنهم يحدونه بأنه الطويل العريض العميق وهذا الحد الواحد لا قسمة فيه، فالمحدود واحد لاستحالة اجتماع المختلفات في حد واحد من غير قسمة بل متى جمعت المختلفات في حد واحد وقع فيه التقسيم ضرورة، كقولنا: الحيوان إما ناطق أو صاهل، ويراد بهما الانسان والفرس.
المسألة الثالثة
في أن الأجسام باقية
قال: والضرورة قضت ببقائها.
أقول: المشهور عند العقلاء ذلك، ونقل عن النظام خلافه بناء منه على امتناع
وقيل: إن النظام (1) ذهب إلى احتياج الجسم حال بقائه إلى المؤثر، فتوهم الناقل أنه كان يقول بعدم بقاء الأجسام.
المسألة الرابعة
في أن الأجسام يجوز خلوها عن الطعوم والروائح والألوان
قال: ويجوز خلوها عن الكيفيات المذوقة والمرئية والمشومة كالهواء.
أقول: ذهب المعتزلة إلى جواز خلو الأجسام عن الطعوم والروائح والألوان،
____________
(1) أقول: ذهب النظام إلى أن الأجسام متجددة آنا فآنا كالأعراض كما في شرح المواقف (ص 447 ط قسطنطنية). فقد تفوه النظام بالقول الحق أعني القول بحركة الجوهر لأن الأعراض هي المرتبة النازلة للجوهر فإذا كانت متجددة آنا فآنا كانت موضوعاتها متجددة أيضا وهذه حجة من حجج إثبات الحركة في الجوهر، كما قال الحكيم السبزواري في الحكمة المنظومة.
وجوهرية لدينا واقعة | إذ كانت الأعراض كلا تابعة |
فالأجسام ليست بباقية بالبرهان فهي متجددة آنا فآنا فلا بد لها من جامع حافظ يجمع أجزاءها ويحفظ صورها على الاتصال والدوام كما يقوله القائل بتجدد الأمثال أيضا، وذلك الجامع الحافظ ليس إلا أصلا مفارقا ولولاه لاضمحلت الأجسام وتفرقت الصور والهيئات لاقتضاء الحركة ذلك. وادعاء الضرورة في بقائها ليس إلا من شهادة الحس باستمرار الأجسام ولا يصلح الحس وشهادته بالبقاء للتعويل عليه والوثوق به.
وقال الآمدي كما في شرح المواقف: نحن نعلم بالضرورة العقلية أن ما شاهدناه بالأمس من الجبال الراسيات والأرضين والسماوات هو عين ما نشاهده اليوم، وكذا نعلم بالاضطرار أن من فاتحناه بالكلام هو عين من ختمناه معه، وأن أولادنا ورفقاءنا الآن هم الذين كانوا معنا من قبل، إنتهى.
وأقول: التعبير بالضرورة العقلية محض ادعاء، والحق أن يقال: نحن نعلم بالضرورة الحسية.
المسألة الخامسة
في أن الأجسام يجوز رؤيتها
قال: ويجوز رؤيتها بشرط الضوء واللون وهو ضروري.
أقول: ذهب الأوائل إلى أن الأجسام مرئية لكن لا بالذات بل بالعرض، فإنها لو كانت مرئية بالذات لرؤي الهواء والتالي باطل فالمقدم مثله، وإنما يمكن رؤيتها بتوسط الضوء واللون وهذا حكم ضروري يشهد به الحس وجمهور العقلاء على ذلك ولم أعرف فيه مخالفا.
المسألة السادسة
في أن الأجسام حادثة
قال: والأجسام كلها حادثة لعدم انفكاكها من جزئيات متناهية حادثة فإنها لا تخلو عن الحركة والسكون وكل منهما حادث وهو ظاهر.
أقول: هذه المسألة من أجل المسائل وأشرفها في هذا الكتاب وهي المعركة العظيمة بين الأوائل والمتكلمين، وقد اضطربت أنظار العقلاء فيها وعليها مبنى
إذا عرفت هذا فنقول: الدليل على أن الأجسام حادثة أنها لا تخلو عن أمور متناهية حادثة، وكل ما لم يخل عن أمور متناهية حادثة فهو حادث، فالأجسام حادثة أما الصغرى فلأن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهي أمور حادثة متناهية، أما بيان عدم انفكاك الجسم عنهما فضروري لأن الجسم لا يعقل موجودا في الخارج منفكا عن المكان فإن كان لابثا فيه فهو الساكن، وإن كان منتقلا عنه فهو المتحرك. وأما بيان حدوثهما فظاهر لأن الحركة هي حصول الجسم في الحيز بعد أن كان في حيز آخر، والسكون هو الحصول في الحيز بعد إن كان في ذلك الحيز، فماهية كل واحد منهما تستدعي المسبوقية بالغير والأزلي غير مسبوق بالغير فماهية كل واحد منهما ليست قديمة.
وأيضا فإن كل واحد منهما يجوز عليه العدم، والقديم لا يجوز عليه العدم أما الصغرى فلأن كل متحرك على الإطلاق فإن كل جزء من حركته يعدم ويوجد عقيبه جزء آخر منها، وكل ساكن فإنه إما بسيط أو مركب، وكل بسيط ساكن يمكن عليه الحركة لتساوي الجانب الملاقي منه لغيره من الأجسام والجانب الذي لا يلاقيه في قبول الملاقاة فأمكن على غير الملاقي الملاقاة كما أمكنت على
____________
(1) أي وهو مبنى قواعد جميع الأديان الإلهية لأن الدين عند الله الاسلام، ولا شك في حدوثها آنا فآنا لأنه سبحانه وتعالى دائم الفضل على ما سواه بشؤون جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا كما أخبر عن نفسه بأنه كل يوم هو في شأن، فلا تعطيل في اسم من أسمائه أزلا وأبدا لأنه الحق الأحدي الصمدي الغني المغني، فلا حالة انتظار له في فعل من أفعاله وإيفاء حكم اسم من أسمائه المنتشأة من ذاته بل الأسماء عين المسمى كما أنها غيره وكل يوم هو في شأن، وإذا كان هو في شأن فأسماؤه غير المتناهية أزلا وأبدا في شؤونهم. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال: وأما تناهي جزئياتها (1) فلأن وجود ما لا يتناهى محال للتطبيق، ولوصف كل حادث بالإضافتين المتقابلتين ويجب زيادة المتصف بإحداهما من حيث هو كذلك على المتصف بالأخرى فينقطع الناقص والزائد أيضا.
____________
(1) كما في (ت، ق، ز) والضمير راجع إلى الأجسام وذلك لأن المصنف بين حدوث الأجسام من جهة عدم انفكاكها من جزئيات متصفة بوصفين: أحدهما كونها متناهية، وثانيهما كونها حادثة. فما لم يتبين تناهي الجزئيات وحدوثها لم يتبين حدوث الأجسام فأخذ المصنف في بيانهما فبدأ بحدوث الجزئيات مع أن ترتيب العبارة يوجب تقديم بيان تناهيها لأن الحدوث مأخوذ في بيان التناهي، فقال: فإنها - يعني الجزئيات - لا تخلو من الحركة والسكون وكل منهما حادث. ثم تصدى لبيان تناهي الجزئيات فقال: وأما تناهي جزئياتها.. الخ. فكان ينبغي في الشرح أن يقال: لما بين حدوث الجزئيات شرع الآن في بيان تناهيها، إلا أن الشارح قرأ جزئياتها على التثنية فأرجع الضمير إلى الحركة والسكون والنساخ كتبوا المتن على منواله على صورة التثنية وهو كما ترى.
ثم المراد من قوله: فيجب زيادة المتصف بإحداهما، هو الذي اتصف بالإضافتين أي السبوق واللحوق أو العلية والمعلولية كليهما، والناقص هو الذي اتصف بالسبق مثلا وحده، والزائد ما اتصف بالسبق واللحوق معا.
والمتكلمون استدلوا على قولهم بوجوه: أحدها: أن كل فرد حادث فالمجموع كذلك، وهو ضعيف إذ لا يلزم من حدوث كل فرد حدوث المجموع.
الثاني: إنها قابلة للزيادة والنقصان فتكون متناهية، وهو ضعيف بمعلومات الله تعالى ومقدوراته، فإن الأولى أزيد من الثانية (1) ولا يلزم تناهيهما.
الثالث: التطبيق وهو (2) أن تؤخذ جملة الحركات من الآن إلى الأزل جملة، ومن زمان الطوفان إلى الأزل جملة أخرى ثم تطبق إحدى الجملتين بالأخرى فإن استمرا إلى ما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص هذا خلف، وإن انقطع الناقص تناهى وتناهى الزائد لأنه إنما زاد بمقدار متناه والزائد على المتناهي بمقدار متناه
____________
(1) الحق أن معلوماته تعالى ومقدوراته غير متناهيتين بالفعل لأنه صمد غير متناه فكذلك معلوماته ومقدوراته فلا تجري النسبة فيهما فلا تتطرق الزيادة والنقصان فيهما، فتبصر.
(2) أقول: الأمر المهم في التناهي هو أن جميع أعيان الموجودات المتحققة في الخارج مستندة في وجوداتها إلى الغني الواجب بالذات بالفعل وهذا معنى انتهاؤها واستنادها الوجودي إلى الواجب كان على وزان قوله سبحانه لكليمه: أنا بدك اللازم يا موسى. والحركات الماضية ليست عللا فاعلية لوجودها والأمر أرفع من المباحث العادية. قالت المتكلمة: إن دوام الشئ مع الشئ يقتضي مساواتهما وعدم أولوية أحدهما بالعلية وهو ممنوع فإن الشعاع المحسوس من النير لا النير منه وهو معه يدوم بدوامه، وكذا حركة الخاتم مع حركة الإصبع فلأن يدوم أثر أقوى المؤثرات وما له كل التأثير في الحقيقة كان أولى، والخلو عن التأثير تعطيل. ثم كون الحركات دائمة أزلية لا يلزم منه أن يكون كل حادث متوقفا على حصول ما لا يتناهى فيقال: إن كل ما كان كذلك فلا يحصل، وذلك أعني عدم اللزوم لأن المتوقف على غير المتناهي وجودا يلزم منه عدم حصوله، لا على غير المتناهي إعدادا له. والأهم من ذلك الأمر هو النيل بمعنى توحيده سبحانه. ورأينا التعرض بواحدة واحدة من شبههم والرد عليها موجبا للإسهاب فالأعراض عنها أنسب بالتعليقة على الكتاب.
الرابع: أن كل حادث يوصف بإضافتين متقابلتين هما السابقية والمسبوقية، لأن كل واحد من الحوادث غير المتناهية يكون سابقا على ما بعده ولاحقا لما قبله، والسبق واللحوق إضافتان متقابلتان وإنما صح اتصافه بهما لأنهما أخذا بالنسبة إلى شيئين.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا اعتبرنا الحوادث الماضية المبتدئة من الآن تارة من حيث إن كل واحد منها سابق، وتارة من حيث هو بعينه لاحق، كانت السوابق واللواحق المتبائنتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق، ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع فيه النزاع، وإلى هذا أشار بقوله: ويجب زيادة المتصف بإحداهما، أعني بإحدى الإضافتين وهو إضافة السبق على المتصف بالأخرى أعني إضافة اللحوق، فإذن اللواحق منقطعة في الماضي قبل انقطاع السوابق فتكون متناهية، والسوابق أيضا تكون متناهية لأنها زادت بمقدار متناه، وهذا الوجه الأخير استنبطه المصنف رحمه الله ولم نعثر عليه في كلام القدماء.
قال: والضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية.
أقول: لما بين أن الأجسام لا تنفك عن الحركة والسكون وبين حدوثهما وتناهيهما وجب القول بحدوث الأجسام لأن الضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية.
قال: فالأجسام حادثة ولما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها.
أقول: هذا نتيجة ما ذكر من الدليل وهو القول بحدوث الأجسام، وأما الأعراض فإنه يستحيل قيامها بأنفسها وتفتقر في الوجود إلى محل تحل فيه وهي إما جسمانية أو غير جسمانية والكل حادث، أما الجسمانية فلامتناع قيامها بغير الأجسام وإذا كان الشرط حادثا كان المشروط كذلك بالضرورة، وأما غير
قال: والحدوث اختص بوقته إذ لا وقت قبله، والمختار يرجح أحد مقدوريه لا لأمر عند بعضهم (1).
أقول: لما بين حدوث العالم شرع في الجواب عن شبه الفلاسفة، وأقوى شبههم ثلاثة أجاب المصنف رحمه الله عنها في هذا الكتاب.
الشبهة الأولى وهي أعظمها قالوا: المؤثر التام في العالم إما أن يكون أزليا أو حادثا، فإن كان أزليا لزم قدم العالم لأن عند وجود المؤثر التام يجب وجود الأثر، لأنه لو تأخر عنه ثم وجد لم يخل إما أن يكون لتجدد أمر أو لا، والأول يستلزم كون ما فرضناه مؤثرا تاما ليس بتام هذا خلف، والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا لمرجح لأن اختصاص وجود الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده مع حصول المؤثر التام يكون ترجيحا من غير مرجح.
وإن كان المؤثر في العالم حادثا نقلنا الكلام إلى علة حدوثه ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى المؤثر القديم وهو محال لتخلف الأثر عنه، وهذا المحال أنما نشأ من فرض حدوث العالم.
وقد أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة بوجوه: أحدها: أن المؤثر التام قديم لكن الحدوث اختص بوقت الإحداث لانتفاء وقت قبله، فالأوقات التي يطلب فيها الترجيح معدومة ولا يتمايز إلا في الوهم، وأحكام الوهم في مثل ذلك غير مقبولة بل الزمان يبتدأ وجوده مع أول وجود العالم ولم يمكن وقوع ابتداء سائر
____________
(1) كما في (ت، ق، ش، ز، د) وذلك الأمر هو الداعي والمرجح. وفي بعض النسخ: أحد مقدوريه بلا داع ومرجح عند بعضهم والمظنون أن تفسير الأمر جعل موضعه في المتن. وفي (ص): أحد مقدوريه لا لمرجح عند بعضهم، وفي هامشه لا لأمر - خ ل. وقوله: لأن عند وجود المؤثر التام يجب وجود الأثر، باتفاق النسخ كلها.
الثاني: أن المؤثر التام أنما يجب وجود أثره معه لو كان موجبا، أما إذا كان مختارا فلا لأن المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح، فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده لكن المؤثر المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا لأمر.
الثالث: أنه لم لا يجوز اختصاص بعض الأوقات بمصلحة تقتضي وجود العالم فيه بها دون ما قبل ذلك الوقت وبعده، فالمؤثر التام وإن كان حاصلا في الأزل لكن لا يجب وجود العالم فيه تحصيلا لتلك المصلحة.
الرابع: أن الله تعالى علم وجود العالم وقت وجوده وخلاف علمه محال، فلم يمكن وجوده قبل وقت وجوده.
الخامس: أن الله تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده والإرادة مخصصة لذاتها.
السادس: أن العالم محدث لما تقدم فيستحيل وجوده في الأزل لأن المحدث هو ما سبقه العدم والأزل ما لم يسبقه العدم والجمع بينهما محال، ثم عارضوهم بالحادث اليومي فإنه معلول إما لقديم فيلزمه قدمه أو لحادث فيتسلسل.
قال: والمادة منفية.
أقول: هذا جواب عن الشبهة الثانية، وتقريرها أنهم قالوا: كل حادث فهو مسبوق بإمكان وجوده وذلك الإمكان ليس أمرا عدميا وإلا فلا فرق بين نفي الإمكان والامكان المنفي، ولا قدرة القادر لأنا نعللها به فهو مغاير، وليس جوهرا لأنه نسبة وإضافة فهو عرض فمحله يكون سابقا عليه وهو المادة، فتلك المادة إن كانت قديمة ويستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة فيلزم قدم الجسم وإن كانت حادثة تسلسل.
والجواب قد بينا أن المادة منفية وقد سلف تحقيقه.
قال: والقبلية لا تستدعي الزمان وقد سبق تحقيقه.
أقول: هذا جواب عن الشبهة الثالثة، وتقريرها أنهم قالوا: كل حادث فإن عدمه سابق على وجوده، وأقسام السبق منفية هنا إلا الزماني، فكل حادث يستدعي سابقة الزمان عليه فالزمان إن كان حادثا لزم أن يكون زمانيا وهو محال، وإن كان قديما وهو مقدار الحركة لزم قدمها لكن الحركة صفة للجسم فيلزم قدمه.
والجواب ما تقدم من أن السبق لا يستدعي الزمان وإلا لزم التسلسل.
قال:
الفصل الرابع
في الجواهر المجردة
أما العقل فلم يثبت دليل على امتناعه (1).
أقول: لما فرغ من البحث عن الجواهر المقارنة شرع في البحث عن الجواهر المجردة ولبعدها عن الحس أخرها عن البحث عن المقارنات وفي هذا الفصل مسائل:
المسألة الأولى
في العقول المجردة
(واعلم) أن جماعة من المتكلمين نفوا هذه الجواهر واحتجوا بأنه لو كان هاهنا موجود ليس بجسم ولا جسماني لكان مشاركا لواجب الوجود في هذا الوصف فيكون مشاركا له في ذاته. وهذا الكلام سخيف لأن الاشتراك في الصفات السلبية لا يقتضي الاشتراك في الذوات فإن كل بسيطين يشتركان في سلب ما عداهما عنهما مع انتفاء الشركة بينهما في الذات، بل الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي اشتراك الذوات لأن الأشياء المختلفة قد يلزمها لازم واحد فإذا ثبت ذلك لم يلزم من كون هذه الجواهر المجردة مشاركة للواجب تعالى في
____________
(1) بل الأدلة الرصينة العقلية والنقلية قائمة على تحققه وجودا.
قال: وأدلة وجوده مدخولة كقولهم: الواحد لا يصدر عنه أمران، ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده، ولا لما انتفت صلاحية التأثير عنه لأن المؤثر هنا مختار.
أقول: لما بين انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرد الذي هو العقل شرع في بيان انتفاء الجزم بثبوته وذلك ببيان ضعف أدلة المثبتين.
واعلم أن أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أن المعلول الأول هو العقل الأول (1) وهو موجود مجرد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معا، ثم إن ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثيره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله، ثم يصدر عن العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير وهو المسمى بالعقل الفعال، وإلى الفلك الأخير التاسع وهو فلك القمر.
واستدلوا على إثبات الجواهر المجردة التي هي العقول بوجوه:
الأول: قالوا: إن الله تعالى واحد فلا يكون علة للمتكثر فيكون الصادر عنه واحدا فلا يخلو إما أن يكون جسما أو مادة أو صورة أو نفسا أو عرضا أو عقلا، والأقسام كلها باطلة سوى الأخير.
أما الأول فلأن كل جسم مركب من المادة والصورة، وقد بينا أن المعلول الأول يكون واحدا وإلى هذا القسم أشار بقوله: الواحد لا يصدر عنه أمران.
وأما الثاني: فلأن المادة هي الجوهر القابل فلا تصلح للفاعلية، لأن نسبة
____________
(1) المعلول هو المخلوق وقد اعتبر في الخلق التقدير فينبغي أن يفرق ويميز في هذا المقام بين أول ما صدر وبين أول ما خلق. أما الصادر الأول فهو نور مرشوش ورق منشور عليها جميع الكلمات النورية الخلقية من العقل الأول إلى آخر الخلق. والبحث عن ذلك بالتفصيل والاستيفاء موكول إلى محله. ولعل ما في رسالتنا الفارسية الموسومة بالوحدة في نظر الحكيم والعارف يجديك في المقام.