وأما الثالث فلأن الصورة مفتقرة في فاعليتها وتأثيرها إلى المادة لأنها إنما تؤثر إذا كانت موجودة مشخصة، وإنما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادة فلو كانت الصورة هي المعلول الأول السابق على غيره لكانت مستغنية في عليتها عن المادة وهو محال، فالحاصل أن الصورة محتاجة في وجودها الشخصي إلى المادة فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من الممكنات لاستحالة اشتراط السابق باللاحق، وإلى هذا القسم أشار بقوله: ولا سبق لمشروط، أي الصورة باللاحق أي بالمادة في وجوده.
وأما الرابع فلأن النفس أنما تفعل بواسطة البدن، فلو كانت هي المعلول الأول لكانت علة لما بعدها من الأجسام فتكون مستغنية في فعلها عن البدن فلا تكون نفسا بل عقلا وهو محال، فهي إذا مشروطة بأسرها (1) بالأجسام، فلو كانت سابقة عليها لكان السابق مشروطا باللاحق في تأثيره المستند إليه وهو محال، وإلى هذا أشار بقوله: ولا سبق لمشروط أي النفس باللاحق أي الجسم في تأثيره.
وأما الخامس فلأن العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر، فلو كان المعلول الأول عرضا لكان علة للجواهر كلها فيكون السابق مشروطا في وجوده باللاحق وهو باطل بالضرورة، وإليه أشار بقوله: ولا سبق لمشروط باللاحق في وجوده، فالحاصل أن الصورة والعرض مشروطان بالمادة والجوهر فلا يكونان سابقين
____________
(1) كما في (م، د) وفي (ص، ق، ز، ش): مشروط تأثيرها.
إذا عرفت هذا الدليل فنقول: بعد تسليم أصوله أنه إنما يلزم لو كان المؤثر موجبا، أما إذا كان مختارا فلا فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله، وسيأتي الدليل على أنه مختار.
قال: وقولهم استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبه بالكامل، إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع، وغير الممكن محال لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه، وعلى حصر أقسام الطلب، مع المنازعة في امتناع طلب المحال.
أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول المجردة مع الجواب عنه.
وتقرير الدليل أن نقول: حركات السماوات إرادية (1) لأنها مستديرة، وكل حركة مستديرة إرادية لأن الحركة إما طبيعية أو قسرية، والمستديرة لا تكون طبيعية لأن المطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع، وكل جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإن تركه بعينه هو التوجه إليه، وإذا انتفت الطبيعة انتفت القسرية لأن القسر على خلاف الطبع وحيث لا طبع فلا قسر فثبت أنها إرادية وكل حركة إرادية فإنها تستدعي مطلوبا، ولأن العبث لا يدوم وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به وإلا لم يتوجه بالطلب نحوه، فإما أن يكون كما لا في نفسه أو لا، والثاني محال وإلا لجاز انقطاع الحركة لأنه لا بد وأن يظهر لذلك الطالب أن
____________
(1) قال عز من قائل: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (يوسف 6) والساجدون صيغة جمع لذوي العقول. وفي الدعاء الثالث والأربعين من الصحيفة الكاملة السجادية وهو دعاؤه عليه السلام إذا نظر إلى الهلال: أيها الخلق المطيع الدائب السريع المتردد في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير.. الخ.
لا يقال: لم لا يتحرك لأجل نفع السافل أو لم لا يختلف في السرعة والبطء والجهة لذلك؟ لأنا نقول: الفلكيات أشرف من هذا العالم ويستحيل أن يفعل العالي شيئا لأجل السافل وإلا لكان مستكملا به فالكامل مستكمل بالناقص هذا خلف، فلا يمكن أن تكون الحركة في أصلها ولا في هيئتها لأجل نفع السافل فهذا تقرير الدليل.
والجواب أن هذا مبني على دوام الحركة، ونحن قد بينا حدوث العالم فيجب انقطاعها فبطل هذا الدليل من أصله. وأيضا فهذا الدليل يتوقف على حصر أقسام الطلب والأقسام التي ذكروها ليست حاصرة، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون الطلب لما يستحيل حصوله أو لما هو حاصل ولا شعور للطالب بذلك ونمنع وجوب الشعور بذلك؟ ثم نقول: لا نسلم أن الحركة الفلكية دورية فلم لا يتحرك على الاستقامة؟ سلمنا أنها دورية فلم لا تكون قسرية قوله: انتفاء الطبع يقتضي
____________
(1) وفي (م): الحركات والجهة، وفي غيرها: في الجهة. وهذا هو الصواب المختار.
إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب، فقوله: وقولهم يقرأ بالجر عطفا على قوله: كقولهم. وقوله: استدارة الحركة توجب الإرادة، إشارة إلى ما نقلناه عنهم من أن الحركة المستديرة لا تكون إلا إرادية. وقوله: المستلزمة للتشبه بالكامل، إشارة إلى أن الغاية من الحركة ليس كما لا يحصل دفعة ولا يمتنع من الحصول بل هو التشبه الحاصل على التعاقب. وقوله: إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع، إشارة إلى أن ذلك الكمال ليس حاصلا بالفعل وإلا لوقفت
____________
(1) كما في غير (م) وأما في (م) - وهي أقدم النسخ - فالعبارة: بل الألوان. والمراد من الأيون أمكنة الأفلاك التي هي غير أمكنتها الفعلية. وقال الشيخ في التعليقات: هذه الأوضاع والأيون كلها طبيعية للفلك. وقال في إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 615): فهذه الحركة لا تشبه سائر الحركات إلى قوله: لأنها نفس استبقاء الأوضاع والأيون على التعاقب.. الخ، ونحوه في طبيعيات الشفاء (ج 1 ط 1 ص 46) فكلماته فيهما يؤيد الأيون في الكشف، بل المحقق هو الأيون لا الألوان.
(2) وفي غير واحدة من النسخ المعتبرة: كمال مفقود له.
قال: وقولهم لا علية بين المتضائفين (1) وإلا لأمكن الممتنع أو علل الأقوى بالأضعف لمنع الامتناع الذاتي.
أقول: هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول، وتقريره أن نقول: الأفلاك ممكنة فلها علة فهي إن كانت غير جسم ولا جسماني ثبت المطلوب، وإن كانت العلة جسمانية لزم الدور، وإن كانت جسما فإما أن يكون الحاوي علة للمحوي أو بالعكس، والثاني محال لأن المحوي أضعف من الحاوي فلو كان المحوي علة لزم تعليل الأقوى الذي هو الحاوي بالأضعف الذي هو المحوي وهو محال، والأول وهو أن يكون الحاوي علة في المحوي (2) محال أيضا، وبيانه يتوقف على مقدمات: إحداها: أن الجسم لا يكون علة إلا بعد صيرورته شخصا معينا، وهو ظاهر لأنه إنما يؤثر إذا صار موجودا بالفعل ولا وجود لغير الشخصي. الثانية: أن المعلول حال فرض وجود العلة يكون ممكنا وإنما يلحقه الوجوب بعد وجود العلة ووجوبها. الثالثة: أن الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان، إذا عرفت هذا فنقول: لو كان الحاوي علة
____________
(1) وفي (م): قال لا علية بين المتضائفين. وظاهر الشرح يوافقها.
(2) باتفاق النسخ كلها، وأسلوب الكلام يقتضي أن يقال: علة للمحوي.
إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب، فنقول: قوله: لا علية بين المتضائفين، الذي يفهم من هذا الكلام أنه لا علية بين الحاوي والمحوي وسماهما المتضائفين لأنه أخذهما من حيث هما حاو ومحوي، وهذان الوصفان من باب المضاف. وقوله: وإلا لأمكن الممتنع، إشارة إلى ما بيناه من إمكان الخلاء الممتنع لذاته على تقدير كون الحاوي علة. وقوله: أو علل الأقوى بالأضعف، إشارة إلى ما بيناه من كون الضعيف علة في القوي على تقدير كون المحوي علة للحاوي. وقوله: لمنع الامتناع الذاتي، إشارة إلى ما بيناه في الجواب من المنع من كون الخلاء ممتنعا لذاته، فهذا ما فهمناه من هذا الموضع.
المسألة الثانية
في النفس الناطقة
قال: وأما النفس فهي كمال (1) أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة.
أقول: هذا هو البحث عن أحد أنواع الجوهر وهو البحث عن النفس الناطقة، وقبل البحث عن أحكامها شرع في تعريفها وقد عرفها الحكماء بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، لأن الجسم إذا أخذ بمعنى المادة كانت النفس المنضمة إليه الذي يحصل من اجتماعهما (2) نبات أو حيوان أو انسان صورة، وإذا أخذ بمعنى الجنس كانت كمالا لأن طبيعة الجنس ناقصة قبل الفصل، وقد عرفوا
____________
(1) أقول يناسب المقام الرجوع إلى رسالتنا الموسومة بعيون مسائل النفس مما برز من قلم الراقم. وهي تنشعب إلى ستة وستين عينا في كل عين تنهمر حقائق نورية في معرفة النفس، ونرجوا أن تكون تامة الفائدة لأهل التحقيق وأن تقع موقع قبول أرباب البحث والتنقيب، والله سبحانه ولي التوفيق.
(2) هكذا بإفراد الموصول بإطباق النسخ وكأن الصواب الذين على التثنية أي الجسم والنفس الذين يحصل من اجتماعها.. الخ (الشفاء ج 1 ط 1 ص 278).
المسألة الثالثة
في أن النفس الناطقة ليست هي المزاج
قال: وهي مغايرة لما هي شرط فيه لاستحالة الدور.
أقول: ذهب المحققون إلى أن النفس الناطقة مغايرة للمزاج، وعليه ثلاثة أوجه (2): الأول: ما ذكر الأوائل أن النفس الناطقة شرط في حصول المزاج، لأن المزاج أنما يحصل من اجتماع العناصر المتضادة فعلة ذلك الاجتماع يجب أن تكون متقدمة عليه وكذا شرط الاجتماع وهو النفس الناطقة فلا تكون هي المزاج المتأخر عن الاجتماع لاستحالة الدور. وفي هذا الوجه نظر (1) لأنهم عللوا حدوث النفس بالاستعداد الحاصل من المزاج فكيف جعلوا الآن حدوث الاجتماع من النفس. وللشيخ هنا كلام طويل ليس هذا موضع ذكره.
____________
(1) وذلك كعلم النفس بنفسها وبآلاتها من القوى ومحالها، وإدراكها الحقائق المرسلة والكليات المطلقة.
(2) باتفاق النسخ كلها، أي يستدل عليه، أو يدل عليه، أو نحوهما.
(3) والماتن في شرحه على الفصل الخامس من نفس الإشارات أورد هذا النظر ثم أجابه على أسلوب الحكمة المشائية. والشارح العلامة ناظر إلى كلامه هناك فراجع العين الخامسة عشر من عيون مسائل النفس.
قال: وللممانعة في الاقتضاء.
أقول: هذا هو الوجه الثاني، وتقريره أن المزاج يمانع النفس في مقتضاها كما في الرعشة، فإن مقتضي النفس الحركة إلى جانب ومقتضي المزاج الحركة إلى جانب آخر وتضاد الآثار يستدعي تضاد المؤثر فهاهنا الممانعة بين النفس والمزاج في جهة الحركة. وكذلك قد يقع بينهما الممانعة في نفس الحركة إما بأن تكون الحركة نفسانية لا يقتضيها المزاج كما في حال حركة الانسان على وجه الأرض فإن مزاجه يقتضي السكون عليها ونفسه تقتضي الحركة، أو بأن تكون طبيعية لا تقتضيها النفس كما في حال الهوي.
قال: ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر.
أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال على أن النفس مغايرة للمزاج، وتقريره أن الادراك أنما يكون بواسطة الانفعال فإن اللامس إذا أدرك شيئا لا بد وأن ينفعل عن الملموس (1) فلو كان اللامس هو المزاج لبطل عند انفعاله وحدثت كيفية مزاجية أخرى، وليس المدرك هو الكيفية الأولى لبطلانها ووجوب بقاء المدرك عند الادراك، ولا الثانية لأن المدرك لا بد وأن ينفعل عن المدرك والشئ لا ينفعل عن نفسه.
المسألة الرابعة
في أن النفس ليست هي البدن
قال: ولما تقع الغفلة عنه.
أقول: ذهب من لا تحصيل له إلى أن النفس الناطقة هي البدن، وقد أبطله المصنف بوجوه ثلاثة:
الأول: أن الانسان قد يغفل (2) عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة
____________
(1) هكذا جاءت العبارة في جميع النسخ وكان الصواب: فلا بد وأن ينفعل لأن في إذا معنى الشرط.
(2) إن شئت فراجع في ذلك الدرس الرابع والخمسين من كتابنا الموسوم بدروس معرفة النفس (ص 172 ط 1) بل يجديك ذلك الكتاب في مسائل النفس الموردة في هذه المباحث من التجريد وشرحه غاية الجدوى.
قال: والمشاركة به.
أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على أن النفس ليست هي البدن، وتقريره أن البدن جسم وكل جسم على الإطلاق فإنه مشارك لغيره من الأجسام في الجسمية فالانسان يشارك غيره من الأجسام في الجسمية ويخالفه في النفس الانسانية وما به المشاركة غير ما به المباينة فالنفس غير الجسم، فقوله: والمشاركة به عطف على قوله: الغفلة عنه أي وهي مغايرة لما تقع الغفلة عنه والمشاركة به.
قال: والتبدل فيه.
أقول: هذا هو الوجه الثالث، وتقريره أن أعضاء البدن وأجزائه تتبدل كل وقت ويستبدل ما ذهب بغيره فإن الحرارة الغريزية تقتضي تحليل الرطوبات البدنية، فالبدن دائما في التحلل والاستخلاف والهوية باقية من أول العمر إلى آخره، والمتبدل مغاير للباقي فالنفس غير البدن، فقوله: والتبدل فيه عطف على قوله: والمشاركة به أي وهي مغايرة لما تقع المشاركة به والتبدل فيه.
المسألة الخامسة
في تجرد النفس
قال: وهي جوهر مجرد لتجرد عارضها.
أقول: اختلف الناس في ماهية النفس وأنها هل هي جوهر أم لا، والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجرد أم لا، والمشهور عند الأوائل وجماعة
الأول: تجرد عارضها وهو العلم، وتقرير هذا الوجه أن هاهنا معلومات مجردة عن المواد فالعلم المتعلق بها يكون لا محالة مطابقا لها فيكون مجردا لتجردها، فمحله وهو النفس يجب أن يكون مجردا لاستحالة حلول المجرد في المادي.
قال: وعدم انقسامه.
أقول: هذا هو الوجه الثاني وهو أن العارض للنفس أعني العلم غير منقسم فمحله أعني المعروض كذلك، وتقرير هذا الدليل يتوقف على مقدمات: إحداهما:
أن هاهنا معلومات غير منقسمة وهو ظاهر فإن واجب الوجود غير منقسم وكذا الحقائق البسيطة. الثانية: أن العلم بها غير منقسم لأنه لو انقسم لكان كل واحد من جزئيه إما أن يكون علما أو لا يكون، والثاني باطل لأنه عند الاجتماع إما أن يحصل أمر زائد أو لا، فإن كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بعلم هذا خلف، وإن كان الأول فذلك الزائد إما أن يكون منقسما فيعود البحث، أو لا يكون فيكون
____________
(1) هذا الرجل يذكر في البحث عن المعاد الجسماني من هذا الكتاب أيضا، والنسخ المطبوعة عارية عن اسمه وغير واحدة من المخطوطة الموثوق بها واجدة إياه، وكذلك الراغب في الموضعين لكن لم نظفر بالحليمي في غير واحد من تراجم الرجال.
ولعل الحليمي هو الحكيمي وفي الفهرست لابن النديم (ص 168 ط تجدد): أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن قريش الحكيمي. وكان أخباريا قد سمع من جماعة.. الخ.
(2) قد جمعنا أدلة تجردها العقلية من مصادرها العلمية تنتهي إلى أكثر من سبعين دليلا عدة منها ناطقة في تجردها البرزخي، وطائفة منها في تجردها العقلي، وبعضها في فوق طور تجردها. ثم قوله لاستحالة حلول المجرد في المادي، كان على ممشى المشاء والمتكلمة والأمر أشمخ من الحلول وأرفع منه كما حقق في الحكمة المتعالية. وهكذا كثير من التعبيرات الآتية من الحال والمحل والعروض والعارض والمعروض أو القبول والقابل والمقبول ونظائرها.
قال: وقوتها على ما تعجز المقارنات عنه.
أقول: هذا هو الوجه الثالث، وتقريره أن النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنها تقوى على ما لا يتناهى لأنها تقوى على تعقلات الأعداد غير المتناهية، وقد بينا أن القوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجردة، وفيه نظر لأن التعقل (2) قبول لا فعل وقبول ما لا يتناهى للجسمانيات ممكن.
قال: ولحصول عارضها بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا.
أقول: هذا هو الوجه الرابع، وتقريره أن النفس لو حلت جسما من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقل له أو كانت لا تعقله البتة، والتالي باطل بقسميه فكذا
____________
(1) وفي نظره نظر لأن الحكم لم يجر على صرف التعلق حتى يرد اعتراضه بل التعلق الذي يكون العلم بالجزء علما بكل ذلك المعلوم فيلزم على هذا أن يكون الجزء مساويا للكل بلا كلام.
(2) وفي (م): لأن التعقل قبول الفعل. والنسخ الأخرى: لأن التعقل قبول لا فعل. ثم إن نظر الشارح منظور فيه، فتدبر.
ولنرجع إلى ألفاظ الكتاب فقوله رحمه الله: ولحصول عارضها يعني بالعارض التعقل. قوله: بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا، أي ولحصول العارض وهو التعقل بالنسبة إلى ما يعقل محلا من قلب أو دماغ حصولا منقطعا لا دائما.
قال: ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض.
أقول: هذا وجه خامس يدل على تجرد النفس العاقلة، وتقريره أن النفس تستغني في عارضها وهو التعقل عن المحل فتكون في ذاتها مستغنية عنه، لأن استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض لأن العارض محتاج إلى المعروض، فلو كان المعروض محتاجا إلى شئ لكان العارض أولى بالاحتياج إليه، فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض.
وبيان استغناء التعقل عن المحل أن النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة وكذا تدرك آلتها وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها، كل ذلك من غير آلة متوسطة (1) بينها وبين هذه المدركات، فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن الآلة فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا، فقوله رحمه الله: ولاستلزام استغناء العارض، عنى بالعارض هنا التعقل. وقوله: استغناء المعروض، عنى به النفس التي يعرض لها التعقل.
____________
(1) كما في (م، ش) والنسخ الأخرى تتوسط، وقوله الآتي: التي يعرض لها التعقل، جاءت العبارة في (م) يحصل مكان يعرض. ولكن سياق الكلام في المتن والشرح بقرينة العارض والمعروض يوافق المختار.
قال: ولانتفاء التبعية.
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن هذا وجه آخر دال على تجرد النفس، وتقريره أن القوة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها والنفس بالضد من ذلك فإنها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة تقوى وتكثر تعقلاتها، فلو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلها وليس كذلك فلما انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دل ذلك على أنها ليست جسمانية.
قال: ولحصول الضد.
أقول: هذا وجه سابع يدل على تجرد النفس، وتقريره أن القوة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكل لأنها تنفعل عنها، ولهذا فإن من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تاما والقوى النفسانية بالضد من ذلك، فإن عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد، فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضد ما يحصل للقوة الجسمانية عند كثرة الأفعال، فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمه الله: ولحصول الضد.
المسألة السادسة
في أن النفس البشرية متحدة بالنوع (1)
قال: ودخولها تحت حد واحد يقتضي وحدتها.
أقول: اختلف الناس في ذلك، فذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة بالنوع متكثرة بالشخص وهو مذهب أرسطا طاليس. وذهب جماعة من القدماء إلى أنها مختلفة بالنوع، واحتج المصنف رحمه الله على وحدتها بأنها يشملها حد واحد والأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حد واحد.
____________
(1) بل التحقيق أن النفس في النشأة الأولى نوع وتحتها أفراد، وفي النشأة الأخرى جنس وتحتها أنواع، فتبصر.
قال: واختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها.
أقول: هذا جواب عن شبهة من استدل على اختلافها، وتقرير الدليل أنهم قالوا: وجدنا النفوس البشرية تختلف في العفة والفجور والذكاء والبلادة، وليس ذلك من توابع المزاج لأن المزاج قد يكون واحدا والعوارض مختلفة، فإن بارد المزاج قد يكون في غاية الذكاء وكذا حار المزاج قد يكون في غاية البلادة وقد يتبدل والصفة النفسانية باقية، ولا من الأشياء الخارجية لأنها قد تكون بحيث تقتضي خلقا والحاصل ضده فعلمنا أنها لوازم للماهية، وعند اختلاف اللوازم يختلف الملزوم.
والجواب أن الملزومات مختلفة، وليست هي النفس وحدها بل النفس والعوارض المختلفة، ومجموع النفس مع العوارض إذا كان مختلفا لا يلزم أن يكون كل جزء أيضا مختلفا فهذه الحجة مغالطية، هذا صورة ما أجاب به المصنف في بعض كتبه عن هذه الحجة، وفي هذا نظر والأقرب في الجواب ما ذكره هنا وهو أن هذه عوارض مفارقة غير لازمة، فاختلافها لا يقتضي اختلاف معروضها.
____________
(1) كما في (م). وفي غيرها: يصح جمعها.
المسألة السابعة
في أن النفوس البشرية حادثة (1)
قال: وهي حادثة وهو ظاهر على قولنا، وعلى قول الخصم لو كانت أزلية لزم اجتماع الضدين أو بطلان ما ثبت أو ثبوت ما يمتنع.
أقول: اختلف الناس في ذلك، فالمليون ذهبوا إلى أنها حادثة وهو ظاهر على قواعدهم لما ثبت من حدوث العالم وهي من جملة العالم، ولأجل ذلك قال المصنف رحمه الله: وهو ظاهر على قولنا.
وأما الحكماء فقد اختلفوا هاهنا، فقال أرسطو: إنها حادثة. وقال أفلاطون:
إنها قديمة (2). والمصنف رحمه الله ذكر هاهنا حجة أرسطو أيضا على الحدوث.
وتقرير هذه الحجة أن النفوس لو كانت أزلية لكانت إما واحدة أو كثيرة، والقسمان باطلان، فالقول بقدمها باطل أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان وحدتها فلأنها لو كانت واحدة أزلا فإما أن تتكثر فيما لا يزال أو لا تتكثر، والثاني باطل وإلا لزم أن يكون ما يعلمه زيد يعلمه كل أحد وكذا سائر الصفات النفسانية، لكن الحق خلاف ذلك فإنه قد يعلم زيد شيئا وعمرو جاهل به، ولو اتحدت نفساهما لزم اتصاف كل واحد بالضدين. والأول باطل أيضا لأنها لو تكثرت لكانت النفسان الموجودتان الآن إما أن يقال: كانتا حاصلتين قبل الانقسام فقد كانت الكثرة حاصلة قبل فرض حصولها هذا خلف، وإما أن يقال: حدثتا بعد الانقسام وهو محال وإلا لزم حدوث النفسين وبطلان النفس التي كانت موجودة، وأظن أن
____________
(1) التحقيق أنها حادثة بحدوث الأبدان لا مع حدوثها.
(2) والحق أن مراده من قدمها قدم مبدعها ومنشئها الذي ستعود إليه بعد انقطاعها عن الدنيا كما في الفصل السابع من الطرف الثاني من المسلك الخامس من الأسفار (ط 1 ج 1 ص 319) وراجع في ذلك الدرس الثالث من كتابنا اتحاد العاقل بالمعقول (ص 42 ط 1).
وأما بطلان كثرتها أزلا فلأن التكثر إما بالذاتيات أو باللوازم أو بالعوارض، والكل باطل. أما الأول فلما ثبت من وحدتها بالنوع، وكذا الثاني لأن كثرة اللوازم تستلزم كثرة الملزومات، وأظن أن قوله: أو بطلان ما ثبت، إشارة إلى هذا لأن القول بالكثرة الذاتية يستلزم بطلان وحدتها بالنوع وقد أثبتناه.
وأما الثالث فلأن اختلاف العوارض للذوات المتساوية أنما يكون عند تغاير المواد لأن نسبة العارض إلى المثلين واحدة ومادة النفس البدن لاستحالة الانطباع عليها وقبل البدن لا مادة وإلا لزم التناسخ وهو محال.
وأظن أن قوله: أو ثبوت ما يمتنع، إشارة إلى هذا.
المسألة الثامنة
في أن لكل نفس بدنا واحدا وبالعكس
قال: وهي مع البدن على التساوي.
أقول: هذا حكم ضروري أو قريب من الضروري، فان كل انسان يجد ذاته ذاتا واحدة (1) فلو كان لبدن نفسان لكان تلك الذات ذاتين وهو محال، فيستحيل تعلق النفوس الكثيرة ببدن واحد. وكذا العكس فإنه لو تعلقت نفس واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس وكذا باقي الصفات النفسانية وهو باطل بالضرورة.
____________
(1) كما قال سبحانه وتعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه (الأحزاب 5).
المسألة التاسعة
في أن النفس لا تفنى بفناء البدن (1)
قال: ولا تفنى بفنائه.
أقول: اختلف الناس هاهنا، فالقائلون بجواز إعادة المعدوم جوزوا فناء النفس مع فناء البدن، والمانعون هناك منعوا هنا. أما الأوائل فقد اختلفوا أيضا والمشهور أنها لا تفنى، أما أصحابنا فإنهم استدلوا على امتناع فنائها بأن الإعادة واجبة على الله تعالى على ما يأتي، ولو عدمت النفس لامتنعت إعادتها لما ثبت من امتناع إعادة المعدوم فيجب أن لا تفنى، وأما الأوائل فاستدلوا بأنها لو عدمت لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محل مغاير لها لأن القابل يجب وجوده مع المقبول ولا يمكن وجود النفس مع العدم فذلك المحل هو المادة فتكون النفس مادية فتكون مركبة هذا خلف، على أن تلك المادة يستحيل عدمها لاستحالة التسلسل.
وهذه الحجة ضعيفة لأنها مبنية على ثبوت الإمكان واحتياجه إلى المحل الوجودي وهو ممنوع، سلمنا لكن ذلك ينتقض بالجواهر البسيطة فإنها ممكنة ومعنى إمكانها قبولها للعدم فتكون مادية، سلمنا لكن لم لا يجوز القول بكون النفوس مركبة من جوهرين مجردين أحدهما يجري مجرى المادة والآخر يجري مجرى الصورة، وبقاء الجوهر المادي لا يكفي في بقاء جوهر النفس، ثم ينتقض ذلك بإمكان الحدوث فإنه قد تحقق هناك إمكان من دون مادة قابلة فكذا إمكان الفساد.
المسألة العاشرة
في إبطال التناسخ
قال: ولا تصير مبدأ صورة لآخر وإلا بطل (2) ما أصلناه من التعادل.
____________
(1) هذا الحكم المحكم نتيجة أدلة تجردها مطلقا.
(2) وفي (ت) وحدها: وإلا لبطل. والنسخ الأخرى كما اخترناه.