أقول: اختلف الناس هاهنا، فذهب جماعة من العقلاء إلى جواز التناسخ (1) في النفوس بأن تنتقل النفس التي كانت مبدأ صورة لزيد مثلا إلى بدن عمرو وتصير مبدأ صورة له، ويكون بينهما من العلاقة كما كان بين البدن الأول وبينها.
وذهب أكثر العقلاء إلى بطلان هذا المذهب، والدليل عليه أنا قد بينا أن النفوس حادثة وعلة حدوثها قديمة فلا بد من حدوث استعداد وقت حدوثها ليتخصص ذلك الوقت بالايجاد فيه، والاستعداد أنما هو باعتبار القابل فإذا حدث وتم وجب حدوث النفس المتعلقة به، فإذا حدث بدن تعلقت به نفس تحدث عن مباديها، فإذا انتقلت إليه نفس أخرى مستنسخة لزم اجتماع النفسين لبدن واحد، وقد بينا بطلانه ووجوب التعادل في الأبدان والنفوس حتى لا توجد نفسان لبدن واحد وبالعكس.
المسألة الحادية عشرة
في كيفية تعقل النفس وإدراكها (2)
قال: وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات للامتياز بين المختلفين وضعا من غير إسناد.
أقول: إعلم أن التعقل هو إدراك الكليات والادراك هو الاحساس بالأمور الجزئية، وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أن النفس تعقل الأمور الكلية بذاتها من غير احتياج إلى آلة، وتدرك الأمور الجزئية بواسطة قوى جسمانية هي محال الادراك، والحكم الأول ظاهر فإنا نعلم قطعا أنا ندرك الأمور الكلية مع اختلال
____________
(1) القول الحق المحقق في التناسخ هو ما حررناه بعون الفياض على الإطلاق في كتابنا المسمى بألف نكتة ونكتة، فراجع النكتتين 637 و 849 منه.
(2) هذه المسألة من أغمض المسائل الحكمية، وقد حررنا البحث عنها والفحص عن مبانيها في الدرس التاسع عشر من كتابنا الموسوم باتحاد العاقل بالمعقول.
إذا عرفت هذا فقوله: وتعقل بذاتها، إشارة إلى ما ذكرناه من أن التعقل للأمور الكلية لذات النفس من غير آلة. وقوله: وتدرك بالآلات، إشارة إلى أن إدراك الأمور الجزئية أنما يكون بواسطة قوى جسمانية. وقوله: للامتياز بين المختلفين وضعا، إشارة إلى ما مثلناه من الامتياز بين العينين. وقوله: من غير إسناد، أي من غير إسناد إلى الخارج.
المسألة الثانية عشرة
في القوى النباتية
قال: وللنفس قوى تشارك بها غيرها وهي الغاذية والنامية والمولدة.
أقول: لما كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه، ولما كان البدن مركبا من العناصر المتضادة وكان تأثير الجزء الناري فيه الإحالة احتج في بقائه إلى إيراد بدل ما يتحلل منه، فاقتضت حكمة الله تعالى جعل النفس
قال: وأخرى أخص يحصل بها الادراك إما للجزئي أو للكلي.
أقول: للنفس أيضا قوى أخص من الأولى هي الادراك إما للجزئي وهو الاحساس، وإما للكلي وهو التعقل، فالإحساس مشترك بينه وبين الحيوان خاصة فهو أخص من القوى الأولى المشتركة بينها وبين النبات، والتعقل أخص من الاحساس لأنه لا يحصل للحيوان بل للانسان.
قال: فللغاذية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة.
أقول: القوة الغاذية يتوقف فعلها على أربع قوى ليتم الاغتذاء (3) وهي:
____________
(1) أي في أبعاده الثلاثة من الطول والعرض والعمق على تناسبه الطبيعي.
(2) وهو قوله الآتي بعيد هذا: والمصورة عندي باطلة.
(3) كما في غير (م) من النسخ الخمس، وأما (م) ففيها: ليتم الغذاء.
قال: وقد تتضاعف هذه لبعض الأعضاء.
أقول: قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة التي تجذب بقوتها غذاء كلية البدن، والتي تمسكه هناك، والتي تغيره إلى ما يصلح لأن يصير دما، والتي تدفعه إلى الكبد. وفيها أيضا قوة جاذبة لما تغتذي به المعدة خاصة وقوة ماسكة وقوة هاضمة وقوة دافعة.
قال: والنمو مغاير للسمن.
أقول: النمو هو زيادة الجسم بسبب اتصال جسم آخر به من نوعه، وتكون الزيادة مداخله (1) في أجزاء المزيد عليه وهو مغاير للسمن وكذا الذبول مغاير للهزال، فإن الواقف في النمو قد يسمن كالشيخ إذا صار سمينا فإن أجزاءه الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها فلا يتحقق النمو، وكذلك النامي قد يهزل.
قال: والمصورة عندي باطلة (2) لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة عن قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا.
أقول: أثبت الحكماء للنفس قوة يصدر عنها التصوير والتشكيل بشكل نوع ذي القوة، والحق ما ذهب إليه المصنف من أن ذلك محال، لأن هذه الأشكال والصور أمور محكمة متقنة فلا تصدر عن طبيعة غير شاعرة بما يصدر عنها بل
____________
(1) جمع المدخل، والضمير راجع إلى جسم آخر. والكلمة حرفت تارة بمداخلة، وأخرى بمتداخلة.
(2) التحقيق التام في هذه المسألة مذكور في العين الثانية والثلاثين من كتابنا عيون مسائل النفس فراجع.
المسألة الثالثة عشرة
في أنواع الإحساس
قال: وأما قوة الإدراك للجزئي فمنه اللمس وهو قوة منبثة في البدن كله.
أقول: لما فرغ من البحث عن الأمر العام - أعني القوة النباتية - شرع الآن في البحث عما هو أخص منه وهو القوة الحيوانية أعني الإحساس المشترك بين الانسان وغيره من الحيوانات، وبدأ باللمس لأن باقي الحواس يراد لجلب النفع وهذا لدفع الضرر، ولما كان دفع الضرر أولى من جلب النفع لا جرم قدم البحث فيه على غيره من القوى الحساسة. واعلم أن اللمس كيفية قائمة بالبدن منبثة في ظاهره أجمع يدرك بها المنافي والملائم.
قال: وفي تعدده نظر (1).
أقول: اختلف الناس في أن اللمس هل هو قوة واحدة أو قوى كثيرة، فالجمهور على أنها قوى أربع: الأولى: الحاكمة بين الحار والبارد. الثانية:
الحاكمة بين الرطب واليابس. الثالثة: الحاكمة بين الصلب واللين. الرابعة: الحاكمة بين الخشن والأملس، لأن القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من أمر واحد.
قال: ومنه الذوق ويفتقر إلى توسط الرطوبة اللعابية الخالية عن المثل والضد.
أقول: الذوق قوة قائمة بسطح اللسان لا يكفي فيه الملامسة بل لا بد من متوسط من الرطوبة اللعابية الخالية عن الطعوم، لأنها إن كانت ذات طعم مماثل
____________
(1) وفي (ت) كتب في هامشها على صورة النسخة: وهي متعددة. وفي (د) بالعكس أعني جعل قوله: وفي تعدده نظر، نسخة. وكأن ما في الشرح يستشم منه صحة قوله: وهي متعددة.
قال: ومنه الشم ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل أو ذي الرائحة (1) إلى الخيشوم.
أقول: الشم قوة في الدماغ تحملها زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي نابتتان من مقدم الدماغ وقد فارقتا لين الدماغ قليلا ولم تلحقهما صلابة العصب، ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل عن ذي الرائحة إلى الخيشوم أو وصول أجزاء من ذي الرائحة إليه، لأنه أنما يدرك بالملاقاة.
وقد ذهب قوم إلى أن الشم أنما يكون بأن تتحلل أجزاء الجسم ذي الرائحة وتنتقل مع الهواء المتوسط إلى الحاسة، لأن الدلك والتبخير يهيج (2) الرائحة ويذكيها.
وقال آخرون: إن الهواء المتوسط يتكيف بتلك الكيفية لا غير وإلا لنقص وزن الجسم ذي الرائحة مع استنشاقها، والمصنف رحمه الله قد نبه بكلامه على تجويز الأمرين، فإن الشم قد يحصل بكل واحد منهما.
قال: ومنه السمع ويتوقف على وصول الهواء المنضغط إلى الصماخ.
أقول: ذهب قوم إلى أن السمع أنما يحصل عند تأدي الهواء (3) المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ ولهذا تدرك الجهة، ويتأخر السماع عن الأبصار لتوقف الأول على حركة الهواء دون الثاني، والمصنف رحمه الله مال إلى هذا هاهنا، وفيه نظر لأن الصوت قد يسمع من وراء الجدار مع امتناع بقاء الشكل (4) على
____________
(1) باتفاق النسخ كلها كما هو صريح الشرح أيضا. وما في المطبوعة: (المنفعل من ذي الرائحة) فهو وهم.
(2) كما في (م)، وفي نسخة: يفيح والباقية: يفتح.
(3) النسخ كلها إلا (م) ففيها: عند بادي الهواء. وفي النسخ المطبوعة: عند تعدي الهواء.
(4) أي شكل تموج الهواء وهيئة الصوت. وقوله: لهذا تدرك الجهة ويتأخر السماع عن الإبصار، استدلال على أن الصوت له وجود في الخارج. وفي المباحث المشرقية للفخر الرازي لمعتقد أن يعتقد أن الصوت لا وجود له في الخارج بل إنما يحدث في الحس من ملامسة الهواء المتموج، وهذا باطل لأنا كما أدركنا الصوت أدركنا مع ذلك جهته.. الخ (ج 1 ط 1 ص 306).
واعلم أن صفتي القرب والبعد في الأصوات أمران معنويان، فإدراك النفس إياهما تدل على تجردها عن الأحياز وسائر أوصاف المادة كما حررناه في رسالتنا المصنوعة في براهين تجردها، وجملة الأمر في المقام ما أفادها صدر المتألهين في الفصل الثاني من الباب الرابع من الجواهر والأعراض من الأسفار (ج 2 ط 1 ص 32) من أن التحقيق أن يقال: إن تعلق النفس بالبدن يوجب تعلقها بما اتصل به كالهواء المجاور بحيث كأنهما شئ تعلقت به النفس تعلقا ولو بالعرض، فكلما حدث فيه شئ مما يمكن للنفس إدراكه بشئ من الحواس من الهيئات والمقادير والأبعاد بينها والجهة التي لها وغيرها فأدركت النفس له كما هو عليه.
أقول: هذا التحقيق الأنيق هو أحد البراهين على أن النفس الناطقة تصير بعد تكاملها الجوهري عارية عن المواد، وهو كلام سام سامك يعقله من كان له قلب. وقد حررناه بالتقرير الأبين في الدرس الثمانين من دروس معرفة النفس، وأما نظر الشارح العلامة ففيه أن الصوت المسموع من وراء الجدار يدل على بقاء الشكل على حاله.
قال: ومنه البصر (1) ويتعلق بالذات بالضوء واللون.
أقول: المبصرات إما أن يتعلق الأبصار بها أولا وبالذات أو ثانيا وبالعرض، والأول هو الضوء واللون لا غير والثاني ما عداهما من سائر المبصرات كالشكل والحجم والمقدار والحركة والوضع والحسن والقبح وغير ذلك من أصناف المرئيات.
قال: وهو راجع فينا إلى تأثر الحدقة (2).
أقول: الإدراك عند جماعة من الفلاسفة والمعتزلة راجع إلى تأثر الحاسة، فالإبصار بالعين معناه تأثر الحدقة وانفعالها عن الشئ المرئي، هذا في حقنا نحن
____________
(1) في النسخ المطبوعة زيادة كانت تعليقة أدرجت في المتن على هذه الصورة ومنه البصر وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان وتتفارقان إلى العينين بعد تلاقيهما بتلك ويتعلق بالذات بالضوء واللون.
(2) وفي (ت) وهو راجع فيهما إلى تأثر الحدقة.
قال: ويجب حصوله مع شرائطه.
أقول: شروط الإدراك (2) سبعة: الأول: عدم البعد المفرط. الثاني: عدم القرب المفرط، ولهذا لا يبصر ما يلتصق بالعين. الثالث: عدم الحجاب. الرابع: عدم الصغر المفرط. الخامس: أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل. السادس: وقوع الضوء على المرئي إما من ذاته أو من غيره. السابع: أن يكون المرئي كثيفا، بمعنى وجود الضوء واللون له. إذا عرفت هذا فنقول: عند المعتزلة والأوائل أن عند حصول هذه الشرائط يجب الإدراك بالضرورة، فإن سليم الحاسة يشاهد الشمس إذا كانت على خط نصف النهار بالضرورة، ولو تشكك العقل في ذلك جاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وأصوات هائلة وإن كنا لا ندركها وذلك سفسطة.
أما الأشاعرة فلم يوجبوا ذلك وجوزوا حصول جميع الشرائط مع انتفاء الإدراك، واحتجوا بأنا نرى الكبير صغيرا، والسبب فيه رؤية بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الجميع في الشرائط وهو خطأ لوقوع التفاوت بالقرب والبعد، فلهذا أدركنا بعض الأجزاء وهي القريبة دون الباقي، ويتحقق التفاوت بخروج خطوط ثلاثة من الحدقة إلى المرئي، أحدها عمود والباقيان ضلعا مثلث قاعدته المرئي، فالعمود أقصر لأنه يوتر الحادة والضلعان أطول لأنهما يوتران القائمة.
____________
(1) أقول: بل لا يصح فينا على الإطلاق أيضا، لأنا نبصر في منامنا بل في يقظتنا في أحوالنا الأخرى أبصارا أرفع وأشد مما في يقظتنا مع أنه لا يتحقق بتأثر الحدقة، فعلى هذا اقرأ وأرقه.
(2) أي الإدراك البصري ولكن الأبصار في الرؤيا بل في كثير من أحوالنا حالة اليقظة أيضا لا يشترط فيه واحدة من تلك الشرائط.
ثم جاءت النسخ كلها هكذا: شرائط الإدراك سبعة: الأول.. الثاني.. الثالث. والصواب:
شروط الإدراك سبعة: الأول.. الخ. أو شرائط الإدراك سبع: الأولى.. الثانية.. الثالثة.. الخ.
قال: بخروج الشعاع (1).
أقول: اختلف الناس في كيفية الأبصار، فقال قوم: إنه بخروج شعاع متصل من العين إلى المرئي على هيئة مخروط رأسه عند الحدقة وقاعدته عند المرئي، وهو اختيار المصنف رحمه الله. وقال أبو علي: إن الأبصار أنما يكون بانطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية (2). والقولان عندي باطلان، أما الأول فلأن الشعاع إما جسم أو عرض، والثاني يستحيل عليه الانتقال، والأول باطل لامتناع أن يخرج من العين على صغرها حجم متصل منها إلى كرة الثوابت، وأيضا فإن حركة الشعاع ليست طبيعية لعدم اختصاصها بجهة دون أخرى فلا تكون قسرية وظاهر أنها ليست إرادية، ولأن الشعاع جسم لطيف جدا فيلزم تشوشه عند هبوب الرياح فلا يحصل الأبصار للمقابل، وأما الثاني فلأنه يستحيل انطباع العظيم في الصغير.
قال: فإن انعكس إلى المدرك أبصر وجهه.
أقول: الشعاع إذا خرج (3) من العين واتصل بالمرئي وكان صقيلا كالمرآة انعكس عنه إلى كل ما نسبته إلى المرئي كنسبة العين إليه، ولهذا وجب تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس ووجب أن يشاهد بالمرآة (4) كل ما وضعه إليها كوضع الرائي فإن انعكس الشعاع إلى الرائي نفسه أدرك وجهه، وإذا انتفت الصقالة لم
____________
(1) الأمر الأهم في الأبصار أن تعلم أن المقصود من خروج الشعاع عند قائليه خروج الشعاع من المرئي إلى البصر لا بالعكس كما اشتهر في صحف المتأخرين وراجع في ذلك العين الثلاثين من عيون مسائل النفس.
(2) الرطوبة الجليدية هي رطوبة نيرة تشبه الجليد، مستديرة غير صحيحة الاستدارة وبها يكون البصر.
(3) عبارة القوشجي في المقام هكذا: الشعاع إذا وقع على صقيل كالمرآة مثلا ينعكس منه إلى شئ آخر وضعه من ذلك الصقيل كوضعه مما خرج عنه الشعاع فزاوية الانعكاس كزاوية الشعاع على ما ذكر في المناظر.
(4) كما في (ز). والباقية: في المرآة. ولكن الأولى أنسب بكلام أصحاب الشعاع من الثانية.
قال: وإن عرض تفرق السهمين تعدد المرئي.
أقول: هذا إشارة إلى علة الحول عند القائلين بالشعاع، والسبب في الحول عندهم أن النور الممتد من العين على شكل المخروط قوته في سهم المخروط، فإذا خرج من العينين مخروطان والتقى سهماهما عند المبصر واتحدا أدرك المدرك الشئ كما هو، وإن لم يلتق السهمان عند شئ واحد بل حصل الإدراك بطرف المخروط لا بوقوع السهم عليه رأى الرائي الشئ الواحد شيئين.
أما القائلون بالانطباع فإنهم قالوا: الصورة تنطبع أولا في الرطوبة الجليدية وليس الإدراك عندها وإلا لأدركنا الشئ الواحد شيئين، كما إذا لمسنا باليدين كان لمسين لكن الصورة التي في الجليدية تتأدى بواسطة الروح المصبوب في العصبتين المجوفتين إلى ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقي المخروطان هناك وعند الملتقى روح مدرك وحينئذ تتحد عند الروح من الصورتين صورة واحدة، وإن لم ينفذ المخروطان نفوذا على سبيل التقاطع انطبع من كل شبح ينفذ عن الجليدية خيال بانفراده وهو الحول.
المسألة الرابعة عشرة
في أنواع القوى الباطنة المتعلقة بإدراك الجزئيات
قال: ومن هذه القوى بنطاسيا الحاكمة بين المحسوسات.
خزانته وهي الحافظة. الخامسة: القوة المتصرفة في الصور الجزئية والمعاني الجزئية بالتركيب والتحليل فتركب صورة انسان يطير وجبل ياقوت، وهذه القوة تسمى متخيلة إن استعملتها القوة الوهمية، ومتفكرة (2) إن استعملتها القوة الناطقة.
إذا عرفت هذا فنقول: الدليل على ثبوت الحس المشترك وجوه: أحدها أنا نحكم على صاحب لون معين بطعم معين فلا بد من حضور هذين المعينين عند الحاكم، لكن الحاكم وهو النفس أنما يدرك الجزئيات بواسطة الآلات على ما تقدم فيجب حصولهما معا في آلة واحدة وليس شئ من الحواس الظاهرة لذلك فلا بد (3) من إثبات قوة باطنة هي الحس المشترك، وإلى هذا الدليل أشار بقوله:
الحاكمة بين المحسوسات.
قال: لرؤية القطرة خطا والشعلة دائرة.
أقول: هذا دليل ثان على إثبات الحس المشترك، وتقريره أنا نرى القطرة النازلة خطا مستقيما، والشعلة التي تدار بسرعة دائرة مع أنه ليس في الخارج كذلك ولا في القوة الباصرة، لأن البصر أنما يدرك الشئ على ما هو عليه، ولا النفس لأنها لا تدرك الجزئيات فلا بد من قوة أخرى يحصل بها إدراك القطرة
____________
(1) ويقال لها الخيال أيضا. والأطباء يسمونها المصورة، تفصيل البحث يطلب في عيون مسائل النفس.
(2) كما في (ش) وفي (ق ص د ز) مفكرة. المفكرة صفة للقوة الناطقة من حيث إنها استعملت القوة المتصرفة، والمتفكرة صفة للمتصرفة من تلك الحيثية كالمتخيلة.
(3) كما في (ص). والباقية: كذلك فلا بد.
قال: والمبرسم ما لا تحقق له (1).
أقول: هذا دليل ثالث على إثبات هذه القوة، وتقريره أن صاحب البرسام يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج وإلا لشاهدها كل ذي حس سليم فلا بد من قوة ترتسم فيها تلك الصور حال المشاهدة، وكذا النائم يشاهد صورا لا تحقق لها في الخارج والسبب فيه ما ذكرناه، وقد بينا أن تلك القوة لا يجوز أن تكون هي النفس فلا بد من قوة جسمانية ترتسم فيها هذه الصور.
قال: والخيال لوجوب المغايرة بين القابل والحافظ.
أقول: هذه القوة الثانية المسماة بالخيال وهي خزانة الحس المشترك الحافظة لما يزول عنه بعد غيبوبة الصور التي باعتبارها تحكم النفس بأن ما شوهد ثانيا هو الذي شوهد أولا، واستدلوا على مغايرتها الحس المشترك بأن هذه القوة حافظة والحس المشترك قابل والحافظ مغاير للقابل لامتناع صدور الأثرين عن علة واحدة، ولأن الماء فيه قوة القبول وليس فيه قوة الحفظ فدل على المغايرة. وهذا كلام ضعيف بينا ضعفه في كتاب الأسرار.
قال: والوهم المدرك للمعاني الجزئية (2).
____________
(1) المبرسم على هيئة المفعول معرب من كلمتين فارسيتين إحداهما بر بمعنى الجنب والأخرى سام بمعنى المرض. وفي البرسام من بحر الجواهر للهروي قال نفيس أنه قد خالف جمهور القوم في تعريف هذا المرض فإنهم اتفقوا على أنه ورم في الحجاب الحاجز نفسه وهو الحجاب المعترض الذي بين القلب والمعدة. وفي بعض النسخ المخطوطة المسرسم مكان المبرسم وأصله من السرسام كالبرسام.
(2) والحق أن الأمر في الإدراك تثليث لا تربيع، والوهم عقل ساقط، والبحث عن تحقيق هذا المطلب الأسنى يطلب في كتابنا الموسوم بألف نكتة ونكتة فراجع النكتة 515 منه.
الجزئية، وللحس المشترك لأن هذه القوة تدرك المعاني والحس يدرك الصور المحسوسة (1) وأشار إليه بقوله: للمعاني، وللخيال لأن الخيال شأنه الحفظ والوهم شأنه الإدراك فتغايرا كما قلنا الحس والخيال وأشار إليه بقوله: المدرك.
قال: والحافظة.
أقول: هذه القوة الرابعة المسماة بالحافظة وهي خزانة الوهم ودليل إثباتها كما قلناه في الخيال سواء. وهذه تسمى المتذكرة باعتبار قوتها على استعادة الغائبات ولهم خلاف في أن المتذكرة هي الحافظة أو غيرها.
قال: والمتخيلة المركبة للصور والمعاني بعضها مع بعض (2).
أقول: هذه القوة الخامسة المسماة بالمتخيلة باعتبار استعمال الحس لها والمتفكرة باعتبار استعمال العقل لها وهي التي تركب بعض الصور مع بعض كما تركب صورة جذع عليه رأس انسان، وتركب بعض المعاني مع بعض وتركب بعض الصور مع بعض المعاني. ويدل على مغايرتها لما تقدم صدور هذا الفعل عنها دون غيرها من القوى لامتناع صدور أكثر من فعل واحد عن قوة واحدة.
قال:
____________
(1) أي الحس المشترك يدركها.
(2) وفي بعض النسخ بعضها ببعض، ولكن الصواب هو ما اخترناه لأن التركيب ليس بمزجي بل انضمامي، فتدبر.
الفصل الخامس
في الأعراض
وتنحصر في تسعة.
أقول: لما فرغ من البحث عن الجواهر انتقل إلى البحث عن الأعراض، وفي هذا الفصل مسائل:
المسألة الأولى
في أن الأعراض منحصرة في تسعة
هذا رأي أكثر الأوائل فإنهم قسموا الموجود إلى واجب وممكن، والواجب هو الله تعالى لا غير، والممكن إما غني عن الموضوع وهو الجوهر أو محتاج إليه وهو العرض (وأقسامه تسعة): الكم والكيف والأين والوضع والملك والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل والمتى. والمتكلمون حصروه في أحد وعشرين هي: الكون واللون والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والتأليف والاعتماد والحياة والقدرة والاعتقاد والظن والنظر والإرادة والكراهة والشهوة والنفرة والألم واللذة. وأثبت بعضهم أعراضا أخر يأتي البحث عنها وهذه الأعراض مندرجة تحت تلك، لأن الكون هو الأين أو ما يقاربه وباقي الأعراض التي ذكروها مندرجة تحت الكيف، فلأجل هذا بحث المصنف رحمه الله عن الأعراض التسعة لدخول هذه تحتها، ومع ذلك فالأوائل لم يوجد لهم دليل على حصر
الجوهر والكم والكيف والنسبة، وبالجملة فالحصر لم يقم عليه برهان.
المسألة الثانية
في قسمة الكم
قال: الأول الكم فمتصله القار جسم وسطح وخط وغيره الزمان ومنفصله العدد.
أقول: الكم إما متصل أو منفصل، ونعني بالمتصل ما يوجد فيه جزء مشترك يكون نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر كالجسم إذا نصف فإن موضع التنصيف حد مشترك بين النصفين هو نهاية لأحدهما وبداية للآخر، والمنفصل ما لا يكون كذلك كالأربعة المنقسمة إلى اثنين واثنين فإنه ليس بينهما حد مشترك وكذا الثلاثة، ولا يتوهم أن الوسط نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر لأنه إن عد فيهما صارت الثلاثة أربعة وإن أسقط منها صارت اثنين ولا أولوية لأحدهما دون الآخر.
إذا عرفت هذا فنقول: المتصل إما قار الذات وهو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالجسم، أو غير قار الذات وهو الذي لا يكون كذلك كالزمان فإنه لا يمكن أن يكون أحد الزمانين مجامعا للآخر، والقار الذات إما أن ينقسم في جهة واحدة وهو الخط، أو في جهتين وهو السطح أو في ثلاث جهات وهو الجسم التعليمي. وغير قار الذات هو الزمان لا غير. والمنفصل هو العدد خاصة لأن تقومه من الوحدات التي إذا جردت عن معروضاتها كانت أجزاء العدد لا غير.
المسألة الثالثة
في خواصه
قال: ويشملها قبول المساواة وعدمها والقسمة وإمكان وجود العاد (1).
____________
(1) والعاد يطلق على الكم المنفصل، والمقدر على المتصل والعدد الأول هو الذي لا يعده غير الواحد، والمركب هو الذي يعده عدد آخر كما في صدر تاسعة الأصول، والظاهر أنه أراد معناه الأعم كما هو المستفاد من كلام الشارح أيضا.
ثم إن أصول النسخ المعتبرة التي عندنا مطبقة على لفظة ويشملها، كما في (ت د ص ق ش ز) وأما (م) فناقصة هنا. فالضمير راجع إلى الجسم والسطح والخط والزمان والعدد، وفي غيرها جاءت اللفظة ويشملهما، فالضمير راجع إلى الكمين المتصل والمنفصل.
الثانية: قبول القسمة، وذلك لأن الماهية أنما يعرض لها الانقسام والإثنينية بواسطة المقدار، وهذا الانقسام قد يعني به كون الشئ بحيث يوجد فيه شئ غير شئ وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته، والثاني قبول الافتراق وهو من توابع المادة عندهم على ما سلف البحث فيه، ومرادهم هنا الأول.
الثالثة: إمكان وجود العاد، وذلك لأن المنقسم أنما ينقسم إلى آحاد هي أجزاؤه فتلك الآحاد عادة له، ولما كان الانقسام قد يكون بالفعل كما في الكم المنفصل وقد يكون بالقوة كما في المتصل كان اللازم لمطلق الكم هو إمكان وجود واحد عاد لا الوجود بالفعل.
قال: وهو ذاتي وعرضي.
أقول: الكم منه ما هو بالذات كالأقسام التي عددناها له، ومنه ما هو بالعرض وهو معروضها كالجسم الطبيعي أو عارضها (1) كالسواد الحال في السطح فإنه متقدر بقدرة فكميته عرضية لا ذاتية، أو ما يجامعه في المحل أو ما يتعلق بما يعرض له كقولنا: قوة متناهية أو غير متناهية بسبب تناهي المقوى عليه في العدة أو المدة أو الشدة وعدم تناهيه.
____________
(1) وفي المطبوعة زيادة تقرب من سطر كانت تعليقة أدرجت في الكتاب وهي هذه: كالجسم الطبيعي الذي هو معروض للكم المتصل، وكالمعدود الذي هو معروض للكم المنفصل، أو عارضها كالسواد.
المسألة الرابعة
في أحكامه
قال: ويعرض ثاني القسمين فيهما لأولهما (1).
أقول: قد بينا أن الكم إما متصل وإما منفصل، وأيضا إما ذاتي أو عرضي، والثاني من القسمين في القسمين معا يعرض للأول منهما فإن الجسم التعليمي يعرض له الانقسام فيحصل له التعدد فيصير معدودا قد عرض له النوع الثاني من الكم وهو المنفصل، وكذا الزمان يقسم إلى الساعات والشهور والأيام والأعوام فيحصل له التعدد، وأيضا الزمان متصل بذاته ويعرض له التقدير بالمسافة أيضا كما يقال زمان حركة فرسخ فظهر معنى قوله: ويعرض ثاني القسمين فيهما لأولهما.
قال: وفي حصول المنافي وعدم الشرط دلالة على انتفاء الضدية.
أقول: يريد أن الكم لا تضاد فيه، والدليل عليه وجهان: أحدهما: أن المنافي للضدية حاصل فلا تكون الضدية موجودة، بيانه أن أنواع الكم المنفصل يتقوم بعضها ببعض فأحد النوعين إما مقوم لصاحبه أو متقوم به ويستحيل تقوم أحد الضدين بالآخر. وأما المتصل فلأن أحد النوعين إما قابل للآخر كالسطح للخط والجسم للسطح أو مقبول له كالعكس والضد لا يكون قابلا لضده ولا مقبولا له، فحصول التقويم والقابلية المنافيان للضدية يقتضي انتفاء الضدية.
الثاني: أن الشرط في التضاد مفقود في الكم فلا تضاد فيه، بيانه أن للتضاد شرطين أحدهما اتحاد الموضوع، الثاني أن يكون بينهما غاية التباعد، وهما منتفيان هنا أما عدم اتحاد الموضوع في العدد فلأنه ليس لشئ من العددين
____________
(1) كما في (ق) وفي (ز ت د ص ش): منهما لأولهما. ولكن الشرح موافق للوجه الأول لأن المراد من قوله الثاني من القسمين هو المنفصل والعرضي، والمراد من قوله: في القسمين معا هو قسما الكم، أحدهما: إما متصل ومنفصل، وثانيهما: إما ذاتي أو عرضي.