قال: ويوصف بالزيادة والكثرة ومقابليهما دون الشدة ومقابلها.
أقول: الكم بأنواعه يوصف بأن بعضا منه زائد على بعض آخر، فإن الستة أزيد من الثلاثة وكذا الخط الذي طوله عشرة أزيد من الذي طوله خمسة، فيصدق عليه وصف الزيادة ومقابلها أعني النقصان لأن الزائد أنما يعقل بالقياس إلى الناقص. وكذا يوصف بالكثرة والقلة ويمتنع اتصافه بالشدة والضعف، وبيانه ظاهر فإنه لا يعقل أن خطا أشد من خط آخر في الخطية، ولا ثلاثة أشد من ثلاثة أخرى في الثلاثية. والفرق بين الكثرة والشدة ظاهر، وكذا بين الزيادة والشدة، فإن الكثرة والزيادة أنما تتحققان بالنسبة إلى أصل موجود لا يتغير فصله بسبب الزيادة ولا حقيقته بخلاف الشدة.
قال: وأنواع متصله قد تكون تعليمية.
أقول: الأنواع الثلاثة للكم المتصل القار الذات قد تؤخذ باعتبار ما فتسمى تعليمية، وقد تؤخذ باعتبار آخر، مثلا إذا أخذ المقدار باعتبار ذاته لا من حيث اقترانه بالمواد وأعراضها من الألوان وغيرها كان ذلك مقدارا تعليميا كالسطح التعليمي والخط التعليمي والجسم التعليمي وكذا النقطة، وإنما سميت هذه الأنواع تعليمية لأن علم التعاليم (1) إنما يبحث عنها مجردة عن المواد وتوابعها.
____________
(1) أي علم الرياضي سيما الهندسة، فإنهم أول ما كانوا يتعلمونه هو علم الهندسة لأنه يقوم الفكر ويعدله ويقيمه على الوسط ويحفظه من الانحراف والشطط، وهذا العلم نعم العون لتعديل الفكر. قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه ونعم ما قال: إعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام، جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع. وقد زعموا أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون: من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه، إنتهى، (ص 486 ط مصر).
قال: وإن كانت تختلف بنوع ما من الاعتبار.
أقول: الظاهر من هذا الكلام أن كون الجسم تعليميا يفارق كون السطح والخط كذلك، وبيانه أن الجسم يمكن أن يؤخذ لا بشرط غيره، أو بشرط لا غيره وأما السطح والخط فلا يمكن أخذهما إلا بالاعتبار الأول فلهذا اختلفت الأنواع بنوع ما من الاعتبار.
قال: وتخلف الجوهرية عما يقال في جواب ما هو في كل واحد يعطي عرضيته.
أقول: يريد أن يبين أن هذه الأنواع بأسرها أعراض، واستدل بطريقين أحدهما عام في الجميع والثاني مختص بكل واحد واحد، أما العام فتقريره أن معنى الجوهرية في حد كل واحد من السطح والخط والجسم التعليمي والزمان والعدد غير داخل في جواب ما هو إذا سئل عن حقيقته فيكون خارجا عن الحقيقة فيكون كل واحد من هذه عرضا.
قال: والتبدل (1) مع بقاء الحقيقة وافتقار التناهي إلى برهان وثبوت الكرة
____________
(1) الغرض أن الجسم التعليمي والسطح والخط والزمان والعدد أعراض فلا يكون واحد منها جزءا لماهية الجسم الطبيعي لأنه جوهر. والبرهان الأول للأول وهكذا على الترتيب أي التبدل مع بقاء الحقيقة يعطي عرضية الجسم التعليمي، وافتقار التعليمي إلى برهان يعطي عرضية السطح - إلى قوله: - والتقوم به أي التقوم بالعرض يعطي عرضية العدد.
وفي (ت) وحدها: والتقوم به، والنسخ الأخرى كلها: والتقويم به. ووجههما ظاهر. ولكن قول الشارح: وأما العدد فلأنه متقوم بالآحاد على إطباق النسخ، ظاهر في الأول إن لم يكن نصا صريحا عليه.
الحقيقية والافتقار إلى عرض والتقوم به، يعطي عرضية الجسم التعليمي والسطح والخط والزمان والعدد.
أقول: هذا هو الوجه الدال على عرضية كل واحد واحد بخصوصيته، أما الجسم التعليمي فإنه عرض لأن الجسم قد يتبدل في كل واحد من أبعاده والحقيقة باقية، فإن الشمعة تقبل الأشكال المختلفة مع بقاء حقيقتها، فزوال كل واحد من الأبعاد وبقاء الجسمية يدل على عرضية الأبعاد أعني الجسم التعليمي.
وأما السطح فإنه عرض لأن ثبوته للجسم إنما هو بواسطة التناهي العارض للجسم لافتقاره إلى برهان يدل عليه مع أن أجزاء الحقيقة لا تثبت بالبرهان، وإذا كان التناهي عارضا كان ما يثبت بواسطته أولى بالعرضية.
وأما الخط فإنه عرض لأنه غير واجب الثبوت للجسم وما كان كذلك كان عرضا، وبيان عدم وجوبه أنه أنما يثبت للسطح بواسطة تناهيه والسطح قد لا يفرض فيه النهاية كما في الكرة الحقيقية الساكنة فإنه لا خط فيها بالفعل.
وأما الزمان فإنه يفتقر إلى الحركة لأنه مقدارها والمقدار مفتقر إلى المتقدر والحركة عرض والمفتقر إلى العرض أولى بالعرضية فالزمان عرض.
وأما العدد فلأنه متقوم بالآحاد على ما تقدم والآحاد عرض فالعدد كذلك.
قال: وليست الأطراف أعداما وإن اتصفت بها مع نوع من الإضافة.
أقول: ذهب جماعة من المتكلمين إلى أن السطح الذي هو طرف الجسم والخط الذي هو طرف السطح والنقطة التي هي طرف الخط اعدام صرفة لا تحقق لها في الخارج وإلا لانقسمت لانقسام محلها، ولأن الطرف عبارة عن نهاية الشئ التي هي عبارة عن فنائه وعدمه، ولأن السطحين إذا التقيا عند تلاقي الأجسام إن كان بالأسر لزم التداخل وإلا فالانقسام (1)، وكذا الخط والنقطة.
____________
(1) كما في النسخ كلها إلا (ص) ففيها: وإلا لزمه الانقسام. ولكنها تصحيح قياسي وتصرف وهمي من غير لزوم وضرورة.
وأما الثاني فلأن النهاية ليست عدما محضا ولا فناء صرفا (1) لأن العدم لا يشار إليه، والأطراف يشار إليها بل هاهنا أمور ثلاثة:
أحدها: السطح وهو مقدار ذو طول وعرض قابل للإشارة موجود.
والثاني: فناء الجسم بمعنى انقطاعه في جهة معينة من جهات الامتداد وليس بعدم صرف بل هو عدم أحد أبعاد الجسم وهو ثخنه.
والثالث: إضافة تعرض تارة للسطح فيقال: سطح مضاف إلى ذي السطح، وتارة للفناء فيقال: نهاية لجسم ذي نهاية، والإضافة عارضة لهما متأخرة عنهما، وقد يؤخذ السطح عاريا عن هذه الإضافة فيكون موضوعا لعلم الهندسة، وكذا البحث في الخط والنقطة.
وأما الثالث فأن الجسمين (2) إذا التقيا عدم السطحان وصارا جسما واحدا إن اتصلا، وإن تماسا فالسطحان باقيان.
قال: والجنس معروض التناهي وعدمه.
أقول: يريد بالجنس الكم من حيث هو هو، فإنه جنس لنوعي المتصل والمنفصل، وهو الذي يلحقه لذاته التناهي وعدم التناهي عدم الملكة لا العدم المطلق، فإن العدم المطلق قد يصدق على الشئ الذي سلب عنه ما باعتباره يصدق أنه متناه كالمجردات. وإنما يلحقان أعني التناهي وعدمه العدم الخاص ما عدا الكم بواسطة الكم، فيقال للجسم أنه متناه أو غير متناه باعتبار مقداره، ويقال للقوة ذلك باعتبار عدد الآثار (3) وامتداد زمانها وقصره، ويقال للبعد
____________
(1) وفي النسخ الست الأولى: ولا نفيا صرفا.
(2) وفي عدة نسخ معتبرة: وعن الثالث أن الجسمين، ولكن سياق العبارة يقتضي ما اخترناه من نسخ أخرى.
(3) وفي (م) باعتبار عدد الآنات، ولا معنى للآنات في المقام.
قال: وهما اعتباريان.
أقول: يريد به أن التناهي وعدمه من الأمور الاعتبارية لا العينية فإنه ليس في الخارج ماهية يقال لها أنها تناه أو عدم تناه، بل إنما يعقلان عارضين لغيرهما في الذهن.
قال: الثاني الكيف ويرسم بقيود عدمية تخصه جملتها (1) بالاجتماع.
أقول: لما فرغ من البحث عن الكم شرع في البحث عن الكيف وهو الثاني من الأعراض التسعة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في رسمه
إعلم أن الأجناس العالية لا يمكن تحديدها لبساطتها بل ترسم بأمور أعرف منها عند العقل، والرسم أنما يتألف من خواص الشئ وعوارضه، ولما كانت العوارض قد تكون عامة وقد تكون خاصة والعام لا يفيد التميز الذي هو أقل مراتب التعريف لم تصلح العوارض العامة للتعريف إلا إذا اختصت بالاجتماع بالماهية المرسومة، كما يقال في تعريف الخفاش: إنه الطائر الولود، ولما لم يوجد لهذا الجنس خاصة تفيد تصوره توصلوا إلى تعريفه بعوارض عدمية كل واحد منها أعم منه لكنها باجتماعها خاصة به، فقالوا في تعريفه: إنه هيئة قارة لا يتوقف تصورها على تصور غيرها ولا تقتضي القسمة واللاقسمة في محلها اقتضاء أوليا.
فقولنا: هيئة، يشمل جميع الأعراض التسعة ويخرج عنها الجوهر.
وقولنا: قارة، يخرج عنه الحركة وما ليس بقار من الأعراض.
وقولنا: لا يتوقف تصورها على تصور غيرها، يخرج عنه الأعراض النسبية.
____________
(1) وفي (م): تحصر جملتها. وفي (ت) تخص جملتها.
وقولنا: اقتضاء أوليا، ليدخل في المحدود العلم بالأشياء التي لا تنقسم فإنه يقتضي اللاقسمة مع أنه من الكيف لأن اقتضاءه لذلك ليس أوليا بل لوحدة المعلوم.
المسألة الثانية
في أقسامه
قال: وأقسامه أربعة.
أقول: الكيف له أنواع أربعة: أحدها: الكيفيات المحسوسة كالسواد والحرارة، الثاني: الكيفيات المختصة بذوات الأنفس كالعلوم والإرادات والظنون، الثالث:
الكيفيات الاستعدادية كالصلابة واللين، الرابع: الكيفيات المختصة بالكميات كالزوجية والانحناء والاستقامة وغيرها.
المسألة الثالثة
في البحث عن المحسوسات
قال: فالمحسوسات إما إنفعاليات أو إنفعالات.
أقول: الكيفيات المحسوسة إن كانت راسخة عسرة الزوال سميت انفعاليات لانفعال الحواس عنها أولا، وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال سميت انفعالات وهي وإن لم تكن في أنفسها انفعالات لكنها لقصر مدتها وسرعة زوالها منعت اسم جنسها واقتصر في تسميتها على الانفعالات.
المسألة الرابعة
في مغايرة الكيفيات للأشكال والأمزجة
قال: وهي مغايرة للأشكال لاختلافهما في الحمل.
والمحققون أبطلوا هذه المقالة بأن الأشكال والألوان مختلفة في المحمولات فيحمل على أحدهما بالايجاب ما يحمل على الآخر بالسلب فيلزم تغايرهما بالضرورة، وبيانه أن الأشكال ملموسة وغير متضادة والألوان متضادة غير ملموسة، وأيضا الأشكال مبصرة والحرارة والبرودة ليستا كذلك.
قال: والمزاج لعمومها.
____________
(1) أي الأجزاء التي تحيط بها.. الخ. وقوله الآتي: والذي يقطع، وكذا والذي ينفصل أي الجزء الذي كان كذلك. وعبارة النسخ مضطربة، وعبارة القوشجي في المقام موافقة للمختار، وصاحب الشوارق نقل عبارة القوشجي أيضا حرفا بحرف، قال: زعم جمع من الأوائل أن هذه الكيفيات نفس الأشكال قالوا: إن الأجسام ينتهي تحليلها إلى أجزاء صلبة قابلة للانقسام الوهمي دون الانقسام الفعلي، وزعموا أن تلك الأجزاء متخالفة الأشكال فالأجزاء التي يحيط بها أربع مثلثات تكون متحدة الأطراف مفرقة لاتصال العضو فتحس منها بالحرارة. والأجزاء التي يحيط بها ست مربعات تكون غليظة الأطراف غير نافذة في العضو فتحس منها بالبرودة. وكذا الحال في الطعوم فإن الجزء الذي يقطع العضو إلى أجزاء صغار وتكون شديدة النفوذ فيه هو الحريف، والجزء الذي يتلاقى هذا التقطيع هو الحلو. وكذا القول في الألوان فإن الجزء الذي ينفصل منه شعاع مفرق للبصر هو الأبيض، والذي ينفصل منه شعاع جامع للبصر هو الأسود، ويتحصل من اختلاط هذين النوعين من الشعاع الألوان المتوسطة بين السواد والبياض.
المسألة الخامسة
في البحث عن الملموسات
قال: فمنها أوائل الملموسات وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والبواقي منتسبة إليها.
أقول: لما كانت الكيفيات الملموسة أظهر عند الطبيعة لعمومها بالنسبة إلى كل حيوان قدم البحث عنها. واعلم أن الكيفيات الملموسة إما فعلية أو انفعالية أو ما ينسب إليهما، فالفعلية كيفيتان هما الحرارة والبرودة، والمنفعلة اثنتان هما الرطوبة واليبوسة، ونعني بالفعلية ما تفعل الصورة بواسطتها في المادة، وبالمنفعلة ما تنفعل المادة باعتبارها. وإنما كانت الأوليان فعليتين والأخريان منفعلتين وإن كانت المادة تنفعل باعتبارهما لأن الأوليين تفعلان في الأخريين دون العكس، وأما باقي الكيفيات الملموسة كاللطافة والكثافة واللزوجة والهشاشة والجفاف والبلة والثقل والخفة فإنها تابعة لهذه الأربعة.
قال: فالحرارة جامعة للمتشاكلات، مفرقة للمختلفات، والبرودة بالعكس.
أقول: الحرارة من شأنها إحداث الخفة والميل الصاعد ويحصل بسبب ذلك الحركة، فإذا وردت الحرارة على المركب وسخنته طلب الألطف الصعود قبل غيره لسرعة انفعاله فاقتضى ذلك تفريق أجزاء المركب المختلفة، فإذا صعد الألطف جامع مشاكله، فمن هاهنا قيل: إنها تقتضي جمع المتشاكلات وتفريق المختلفات، وأما البرودة فإنها بالعكس من ذلك.
قال: وهما متضادتان.
أقول: الحرارة والبرودة كيفيتان وجوديتان بينهما غاية التباعد فهما متضادتان، ولم يخالف في هذا الحكم أحد من المحققين، وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن البرودة عدم الحرارة عما من شأنه أن يكون حارا، فيكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة وهو خطأ، لأنا ندرك من الجسم البارد كيفية زائدة على الجسمية المطلقة والعدم غير مدرك، فالبرودة صفة وجودية.
قال: وتطلق الحرارة على معان أخر مخالفة للكيفية في الحقيقة.
أقول: لفظة الحرارة تطلق على معان: أحدها: الكيفية المحسوسة من حرارة النار، والثاني: الحرارة المناسبة للحياة وهي شرط فيها وتسمى الحرارة الغريزية (1) وهي مخالفة لتلك في الحقيقة لأن تلك مضادة للحياة والثانية شرط فيها، والثالث: حرارة الكواكب النيرة وهي مخالفة لما تقدم.
قال: والرطوبة كيفية تقتضي سهولة التشكل، واليبوسة بالعكس.
أقول: الرطوبة فسرها الشيخ بأنها كيفية تقتضي سهولة التشكل والاتصال والتفرق، والجمهور يطلقون الرطوبة على البلة لا غير فالهواء ليس برطب عندهم، وعند الشيخ أنه رطب وجعل البلة هي الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم، كما أن الانتفاع هو الرطوبة الغريبة النافذة إلى باطنه والجفاف عدم البلة عما من شأنه أن يبتل واليبوسة مقابلة للرطوبة.
قال: وهما مغايرتان للين والصلابة.
أقول: اللين والصلابة من الكيفيات الاستعدادية، فاللين كيفية يكون الجسم بها مستعدا للانغمار، ويكون للشئ بها قوام غير سيال فينفصل عن موضوعه ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة وإنما يكون قبوله للغمر من الرطوبة وتماسكه من
____________
(1) الغريزية في قبال الغريبة. ويقال للغريزية: الروح البخاري.
قال: والثقل كيفية تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم إن كان مطلقا، والخفة بالعكس، ويقالان بالإضافة باعتبارين.
أقول: لما كان الثقل والخفة من الكيفيات المحسوسة صادرتين عن الحرارة والبرودة بحث عنهما. واعلم أن كل واحد منهما يقال بمعنيين: حقيقي وإضافي، فالثقل الحقيقي كيفية تقتضي حركة الجسم إلى أسفل بحيث ينطبق مركزه على مركز العالم إذا لم يعقه عائق، والخفة بالعكس وهي كيفية تقتضي حركة الجسم إلى فوق بحيث يطفو على العناصر وينطبق سطحه على سطح الفلك إن لم يعقه عائق.
وأما الإضافي فإنه يقال بمعنيين في كل واحد منهما، فالخفيف بالإضافة يقال بمعنيين: أحدهما الذي في طباعه أن يتحرك في أكثر المسافة الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المحيط وقد يعرض له أن يتحرك عن المحيط ولا تتضاد هاتان الحركتان، والثاني الذي إذا قيس إلى النار نفسها كانت النار سابقة له إلى المحيط فهو عند المحيط ثقيل وخفيف بالإضافة.
قال: والميل طبيعي وقسري ونفساني.
أقول: الميل هو الذي يسميه المتكلمون اعتمادا، وينقسم بانقسام معلوله أعني الحركة إلى طبيعي كميل الحجر المسكن في الهواء والزق في الماء، وإلى قسري كميل الحجر إلى فوق عند قسره على الصعود، وإلى نفساني كميل الحيوان إلى الحركة حال اندفاعه الإرادي.
قال: وهو العلة القريبة للحركة، وباعتباره يصدر عن الثابت متغير.
أقول: الميل هو العلة القريبة للحركة، وباعتبار تحققه يصدر عن الثابت شئ متغير وذلك لأن الطبيعة أمر ثابت، وكذا القوة القسرية والنفسانية فيستحيل صدور الحركة المتغيرة عنها فلا بد من أمر يشتد ويضعف بسبب مصادمات الموانع الخارجية والداخلية هو الميل يصدر عن الطبيعة ويقتضي الحركة فيحصل
قال: ومختلفه متضاد.
أقول: يشير إلى عدم إمكان اجتماع ميلين مختلفين، وذلك لأن الميل يقتضي الحركة إلى جهة والصرف عن أخرى، فلو اجتمع في الجسم ميلان لاقتضى حركته وتوجهه إلى جهتين مختلفتين وذلك غير معقول، نعم كما يجوز أن يجتمع في جسم واحد حركتان مختلفتان أحداهما بالذات والأخرى بالعرض، كذلك يجوز اجتماع ميل ذاتي وعرضي كحجر يحمله انسان متحرك فإن الثقل موجود فيه وهو ميله الذاتي حال خرق الهواء به وهو ميله العرضي الذي هو للانسان ذاتي، فإذا تجدد على ذي ميل طبيعي ميل قسري تقاوم السببان أعني الطبيعة والقاسر وحدث ميل القاهر منهما فإن كان القاسر غالبا أخذت الطبيعة والموانع الخارجية في إفنائه قليلا قليلا ثم تقوى الطبيعة ويأخذ الميل القسري في النقص والطبيعة في الزيادة إلى أن يتعادلا، فيبقى الجسم عديم الميل ثم تأخذ الطبيعة في الازدياد على التعادل فتوجد ميلا مشوبا بآثار الضعف (1) ثم يشتد الميل ويزداد الضعف فلا
____________
(1) وفي (م ص): فتوجد ميلا مستويا بإزاء الضعف. وعبارته الآتية بعد بضع أسطر: فإذا فرضناه ممنوا بالمعاوقة: حرفت هكذا: محفوفا، وفي بعضها ممنوعا وفي بعضها مستوا، وفي بعضها بكلمات أخرى، ونظائر هذا التحريف في الكتاب كثيرة جدا. وكذا الإضافات التي هي إلحاقات الحواشي بالكتاب، وكذا الاسقاط الأخرى رأينا عدم التعرض بها أجدر وأولى واعلم أن عبارة المحقق الطوسي في شرحه على الإشارات المطبوع الرائج موافقة لما اخترناها حيث قال في شرح الفصل السادس من النمط الثاني: فإذا طرأ على جسم ذي ميل طبيعي بالفعل ميل قسري تقاوم السببان أعني القاسر والطبيعة فإن غلب القاسر وصارت الطبيعة مقهورة حدث ميل قسري وبطل الطبيعي، ثم تأخذ الموانع الخارجية والطبيعية معا في إفنائه قليلا قليلا وتقوى الطبيعة بحسب ذلك، ويأخذ الميل القسري في الانتقاص وقوة الطبيعة في الازدياد إلى أن تقاوم الطبيعة الباقي من الميل القسري فيبقى الجسم عديم الميل، ثم تجدد الطبيعة ميلها مشوبا بآثار الضعف الباقية فيها ويشتد الميل بزوال الضعف فيكون الأمر بين قوة الطبيعة والميل القسري قريبا من الامتزاج الحادث بين الكيفيات المتضادة (ص 49 ط شيخ رضا).
قال: ولولا ثبوته لتساوى ذو العائق وعادمه.
أقول: هذا إشارة إلى الدليل على وجود الميل الطبيعي في كل جسم (1) قابل للحركة القسرية، وتقريره أن المتحرك إذا كان خاليا عن المعاوقة وقطع بميله القسري مسافة ما فإنه يقطعها في زمان، فإذا فرضناه ممنوا بالمعاوقة قطعها في زمان أطول، فإذا فرضناه مع معاوقة أقل من الأولى على نسبة الزمانين قطعها في زمان مساو لزمان عديم المعاوقة، وذلك محال قطعا لامتناع تساوي زماني عديم المعاوقة وواجدها.
قال: وعند آخرين هو جنس بحسب عدد الجهات ومتماثل ومختلف باعتبارها.
أقول: لما فرغ من البحث عن الميل وأحكامه على رأي الأوائل شرع في
____________
(1) هذا لو لم يكن القول بقوة جاذبة الأرض حاكما عليه. وقد ذهب ثابت بن قرة من علماء صدر الاسلام إلى القول بتجاذب الأرض كما نص به المتأله السبزواري في شرح الأسماء حيث قال في شرح الفصل السادس من الجوشن الكبير عند قوله عليه السلام: يا من استقرت الأرضون بإذنه: وقال ثابت بن قرة: سببه - أي سبب ميل الأجزاء الثقيلة من جميع الجوانب إلى المركز - طلب كل جزء موضعا يكون فيه قربه من جميع الأجزاء قربا متساويا إذ عنده ميل المدرة إلى السفل ليس لكونها طالبة للمركز بالذات بل لأن الجنسية منشأ الانضمام، فقال: لو فرض أن الأرض تقطعت وتفرقت في جوانب العالم ثم أطلقت أجزاؤها لكان يتوجه بعضها إلى بعض ويقف حيث يتهيأ تلاقيها (ص 53 ط 1) فبما قلنا دريت أن مذهب نيوتن في القوة الجاذبة للأرض ليس بمذهب بديع لم يكن قبل ولم يذهب إليه أحد وهو ممن نطق به وليس إلا. وأكثر الآراء الغربية الرائجة الدارجة في أصول المسائل العلمية كانت هكذا وما منها إلا وله أصل رصين في الصحف الاسلامية إلا أن الناس لغفلتهم عما في أيديهم يأكلون نعمهم ويشكرون الأغيار.
واختلف أبو علي وأبو هاشم في مختلفه، فقال أبو هاشم: إنه غير متضاد لاجتماع الميلين في الحجر الصاعد قسرا وفي الحلقة التي يتجاذبها اثنان، وقال أبو علي:
إنه متضاد.
قال: ومنه الثقل وآخرون منهم جعلوه مغايرا.
أقول: من أجناس الاعتماد عند أبي هاشم الثقل وهو الاعتماد اللازم الموجب للحركة سفلا، وقال أبو علي (1): إن الثقل راجع إلى تزايد أجزاء الجسم فجعله مغايرا لجنس الاعتماد، وهو خطأ لأن تزايد الأجزاء الحقيقية حاصل في الخفيف ولا ثقل له.
قال: ومنه لازم ومفارق.
أقول: ذهب المتكلمون إلى أن الاعتماد منه ما هو لازم وهو الاعتماد نحو الفوق والسفل، ومنه ما هو مفارق وهو المختلف (2) وهو المقتضي للحركة إلى إحدى الجهات الأربع، وإنما كان مفارقا لعدم وجوب وقوف الجسم في إحداها أو ذهابه عنها بخلاف الجهتين.
قال: ويفتقر إلى محل لا غير (3).
أقول: لما كان الاعتماد عرضا وكان كل عرض مفتقرا إلى محل كان الاعتماد مفتقرا إلى المحل، ولما امتنع حلول عرض في محلين كان الاعتماد كذلك، فلأجل
____________
(1) هو أبو علي الجبائي المعتزلي.
(2) كما في (م ق) والنسخ الأخرى: المجتلب. وقد تقدم ذكر المختلف في هذه المسألة غير مرة، وسيأتي أيضا.
(3) أي يحتاج الاعتماد إلى محل واحد، أما إلى محل فلكونه عرضا، وأما إلى محل واحد فلامتناع حلول عرض في محلين، والقياس بالتأليف وهم. ومدافعة محله أي خفظه.
قال: وهو مقدور لنا.
أقول: ذهب المتكلمون إلى أن الاعتماد مقدور لنا، لأنه يقع بحسب دواعينا وينتفي بحسب صوارفنا فيكون صادرا عنا.
قال: وتتولد عنه أشياء بعضها لذاته من غير شرط، وبعضها بشرط، وبعضها لا لذاته.
أقول: قسم المتكلمون الاعتماد بالنسبة إلى ما يتولد عنه إلى أقسام ثلاثة، أحدها: ما يتولد عنه لذاته من غير حاجة إلى شرط وإن كان قد يحتاج إليه أحيانا وهو الأكوان والاعتماد في محله وإن كان يولدهما في غير محله بشرط التماس.
وإنما قلنا: إنه يتولد عنه الأكوان، لأن الجسم يختص بجهة دون أخرى حال حركته فلا بد من مخصص لتلك الجهة وهو الاعتماد. وقلنا إنه يولد الاعتماد لوجود الحركة القسرية شيئا بعد شئ، فإن المتحرك يوجد (1) فيه الاعتماد والاعتماد يولد الحركة الأولى والاعتماد معا ثم إذا تحرك ولد الاعتماد حركة أخرى واعتمادا آخر.
وثانيها: ما يتولد عنه بشرط ولا يصح بدونه وهو الأصوات فإنها تتولد عنه
____________
(1) كما في (د، ش) وفي نسخ أخرى المحرك مكان المتحرك، ولكن الحق هو الأول، والأكوان هي الأكوان الأربعة على اصطلاح المتكلمين وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق.
وسيأتي البحث عنها في مقولة الأين.
وثالثها: ما يتولد عنه لا بنفسه بل بتوسط وهو الألم والتأليف، فإن الاعتماد يولد المجاورة والتفريق، والمجاورة تولد التأليف، والتفريق يولد الألم.
المسألة السادسة
في البحث عن المبصرات
قال: ومنها أوائل المبصرات وهي اللون والضوء.
أقول: من الكيفيات المحسوسة المبصرات، وقد نبه بقوله: أوائل المبصرات على أن من المبصرات ما يتناوله الحس البصري أولا وبالذات وهو ما ذكره هنا من اللون والضوء، ومنها ما يتناوله بواسطة كغيرهما من المرئيات، فإن البصر إنما يدركها بواسطة هذين وهذا كما قال في الأول، ومنها أوائل الملموسات فإن فيه تنبيها على أن هناك كيفيات تدرك باللمس بواسطة غيرها.
قال: ولكل منهما طرفان.
أقول: لكل واحد من اللون والضوء طرفان، ففي اللون السواد والبياض وفي الضوء النور الخارق والظلمة، وما عدا هذه فإنها متوسطة بين هذه كالحمرة والخضرة والصفرة والغبرة وغيرها من الألوان وكالظل وشبهه من الأضواء.
قال: وللأول حقيقة.
أقول: ذهب من لا مزيد تحصيل له إلى أن الألوان لا حقيقة لها، فإن البياض المتخيل أنما يحصل من مخالطة الهواء للأجسام الشفافة المنقسمة إلى الأجزاء الصغار كما في زبد الماء والثلج، والسواد المتخيل أنما يتخيل لعدم غور الجسم (1)
____________
(1) هذه هي العبارة الصحيحة. والعدم بضم العين وسكون الدال المهملتين. والغور بفتح الغين المعجمة، والضوء منصوب على المفعولية. وقد حرفت العبارة في النسخ المطبوعة بصور مشوهة.
وعبارة الشيخ في الشفاء هكذا: قالوا فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم وعمقه الضوء والإشفاف معا (أول الفصل الرابع من المقالة الثالثة من نفس الشفاء، ص 313 ج 1 ط 1).
قال: وطرفاه السواد والبياض المتضادان.
أقول: طرفا اللون هما السواد والبياض، وقيدهما بالمتضادين لأن الضدين هما اللذان بينهما غاية التباعد فلأجل ذلك ذكر هذا القيد في الطرفين، وهذا تنبيه على أن ما عداهما متوسط بينهما وليس نوعا قائما بانفراده كما ذهب إليه بعض الناس من أن الألوان الحقيقية خمسة: السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة، ونبه بقوله: المتضادان على امتناع اجتماعهما خلافا لبعض الناس حيث ذهب إلى أنهما يجتمعان كما في الغبرة وهو خطأ.
قال: ويتوقف على الثاني في الادراك لا الوجود.
أقول: ذهب أبو علي ابن سينا إلى أن الضوء شرط وجود اللون، فالأجسام الملونة حال الظلمة تعدم عنها ألوانها لأنا لا نراها في الظلمة فإما أن يكون لعدمها وهو المراد، أو لحصول المانع وهو ما يقال من أن الظلمة كيفية قائمة بالمظلم مانعة من الأبصار وهو باطل وإلا لمنعت من هو بعيد عن النار عن مشاهدة القريب منها ليلا وليس كذلك وهو خطأ جدا، لأنا نقول: إنما لم تحصل الرؤية لعدم الشرط وهو الضوء لا لانتفاء المرئي في نفسه، ونبه المصنف على ذلك بقوله: ويتوقف - أي اللون - على الثاني - أي الضوء - في الإدراك لا الوجود.
قال: وهما متغايران حسا.
أقول: يريد أن اللون والضوء متغايران خلافا لقوم غير محققين ذهبوا إلى أن الضوء هو اللون، قالوا: إن الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو الظلمة، والمتوسط بينهما هو الظل، والحس يدل على المغايرة.
قال: قابلان للشدة والضعف، المتباينان نوعا.
أقول: كل واحد من هذين - أعني اللون والضوء - قابل للشدة والضعف وهو ظاهر محسوس، فإن البياض في الثلج أشد من البياض في العاج، وضوء الشمس أشد من ضوء القمر. إذا عرفت هذا فاعلم أن الشديد في كل نوع يخالف الضعيف منه بالنوع، وذهب قوم إلى أن سبب الشدة والضعف ليس الاختلاف بالحقيقة بل باختلاط بعض أجزاء الشديد بأجزاء الضد فيحصل الضعف وإن لم يختلط حصلت الشدة، وقد بينا خطأهم فيما تقدم.
قال: ولو كان الثاني جسما لحصل ضد المحسوس.
أقول: ذهب من لا تحصيل له إلى أن الضوء جسم، وسبب غلطه ما يتوهم من كونه متحركا بحركة المضئ، وإنما كان ذلك باطلا لأن الحس يحكم بافتقاره إلى موضوع يقوم به ولا يمكنه تجريده عن محل يقومه، فلو كان جسما لحصل ضد هذا الحكم المحسوس وهو قيامه بنفسه واستغناؤه عن موضوع يحل فيه.
ويحتمل أن يكون قوله: لحصل ضد المحسوس، أن الضوء إذا أشرق على الجسم ظهر وكلما ازداد إشراقا ازداد ظهورا في الحس، فلو كان جسما لكان ساترا لما يشرق عليه فكان يحصل ضد المحسوس أعني ضد الاشراق، ويكون كلما ازداد إشراقه ازداد ستره، لكن الحس يشهد بضد ذلك.
أو نقول: إن الحس يشهد بسرعة ظهور ما يشرق عليه الضوء، فإن الشمس إذا
طلعت على وجه الأرض أشرقت دفعة واحدة، ولو كان الضوء جسما افتقر إلى
زمان يقطع فيه هذه المسافة الطويلة فكان يحصل ضد السرعة المحسوسة، فهذه