الصفحة 337
لإفاضة العلوم البديهية الكلية من التصورات والتصديقات فهي كليات تلك المحسوسات (1).

وأما النظرية فإنها مستفادة من النفس أو من الله تعالى على اختلاف الآراء لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهية، أما في التصورات فبالحد والرسم، وأما في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدمات الضرورية.

المسألة السادسة عشرة
في المناسبة بين العلم والادراك

قال: وباصطلاح يفارق (2) الإدراك مفارقة الجنس النوع وباصطلاح آخر مفارقة النوعين.

أقول: إعلم أن العلم يطلق على الإدراك للأمور الكلية كاللون والطعم مطلقا، ويطلق الإدراك على الحضور عند المدرك مطلقا فيكون شاملا للعلم وللإدراك الجزئي - أعني المدرك بالحس - كهذا اللون وهذا الطعم، ولا يطلق العلم على هذا النوع من الادراك، ولذلك لا يصفون الحيوانات العجم بالعلم وإن وصفوها بالإدراك، فيكون الفرق بين العلم والإدراك مطلقا على هذا الاصطلاح فرق ما بين النوع والجنس النوع هو العلم والجنس هو الادراك.

وقد يطلق الإدراك باصطلاح آخر على الاحساس لا غير فيكون الفرق بينه وبين العلم هو الفرق ما بين النوعين الداخلين تحت الجنس وهو الإدراك مطلقا هنا.

المسألة السابعة عشرة
في أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول

قال: وتعلقه على التمام بالعلة يستلزم تعلقه كذلك بالمعلول.

____________

(1) كما في (م). والباقية: بين كليات تلك المحسوسات.

(2) كما في (ت) والباقية: وفي الاصطلاح يفارق.


الصفحة 338
أقول: العلم بالعلة يقع باعتبارات ثلاثة، الأول: العلم بماهية العلة من حيث هي ذات وحقيقة لا باعتبار آخر، وهذا لا يستلزم العلم بالمعلول لا على التمام ولا على النقصان.

الثاني: العلم بها من حيث هي مستلزمة لذات أخرى وهو علم ناقص بالعلة فيستلزم علما ناقصا بالمعلول من حيث إنه لازم للعلة لا من حيث ماهيته.

الثالث: العلم بذاتها وماهيتها ولوازمها وملزوماتها وعوارضها ومعروضاتها وما لها في ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير، وهذا هو العلم التام بالعلة وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإن ماهية المعلول وحقيقته لازمة لماهية العلة، وقد فرض تعلق العلم بها من حيث ذاتها ولوازمها.

المسألة الثامنة عشرة
في مراتب العلم

قال: ومراتبه ثلاث.

أقول: ذكر الشيخ أبو علي (1) أن للتعقل ثلاث مراتب: الأولى: أن يكون بالقوة المحضة وهو عدم التعقل عما من شأنه ذلك. الثانية: أن يكون بالفعل التام كما إذا علم الشئ علما تفصيليا. الثالثة: العلم بالشئ إجمالا كمن علم مسألة ثم غفل عنها ثم سئل عنها فإنه يحضر الجواب عنها في ذهنه، وليس ذلك بالقوة المحضة لأنه في الوقت عالم باقتداره على الجواب وهو يتضمن علمه بذلك الجواب وليس علما بها على جهة التفصيل وهو ظاهر.

المسألة التاسعة عشرة
في كيفية العلم بذي السبب

قال: وذو السبب إنما يعلم به كليا.

____________

(1) في الفصل السادس من المقالة الخامسة من نفس الشفاء في البحث عن العقل البسيط (ص 358 ط 1) حيث قال: فنقول إن تصور المعقولات على وجوه ثلاثة.. الخ.


الصفحة 339
أقول: إعلم أن الشئ إذا كان ذا سبب فإنه أنما يعلم بسببه لأنه بدون السبب ممكن وإنما يجب بسببه، فإذا نظر إليه من حيث هو هو لم يحكم العقل بوقوعه ولا بعدمه وإنما يحكم بأحدهما إذا عقل وجود السبب أو عدمه، فذو السبب إنما يحكم بوجوده أو عدمه بالنظر إلى سببه. إذا ثبت هذا فإن ذا السبب أنما يعلم كليا لأن كونه صادرا عن الشئ تقييد له بأمر كلي أيضا، وتقييد الكلي بالكلي لا يقتضي الجزئية.

وتحقيق هذا أنك إذا عقلت كسوفا شخصيا من جهة سببه وصفاته الكلية التي يكون كل واحد منها نوعا مجموعا في شخصه كان العلم به كليا، والكسوف وإن كان شخصيا فإنه عند ذلك يصير كليا ويكون نوعا مجموعا في شخص، والنوع المجموع في شخص، له معقول كلي لا يتغير وما يستند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل فلا يتغير فإنه كلما حصلت علل الشخصي وأسبابه وجب حصول ذلك الجزئي، فيقال: إن هذا الشخصي أسبابه كذا، وكلما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصي أو مثله فيكون كليا بعلله.

المسألة العشرون
في تفسير العقل

قال: والعقل غريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات.

أقول: هذا هو المحقق في تفسير العقل، وقد فسره قوم بأنه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر، وهو ضعيف لعدم الملازمة بين التلازم والاتحاد.

قال: ويطلق على غيره بالاشتراك.

أقول: لفظة العقل مشتركة بين قوى النفس الانسانية وبين الموجود المجرد في ذاته وفعله معا، ويندرج تحته عند الأوائل عقول عشرة سبق البحث فيها.


الصفحة 340
أما القوى النفسانية فيقال: عقل علمي وعقل عملي، أما العلمي فأول مراتبه الهيولاني وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروري أو كسبي.

وثانيها العقل بالملكة وهو الذي استعد بحصول العلوم الضرورية لإدراك النظريات فصار له بتلك الأوليات ملكة الانتقال إلى النظريات، وأعلى درجات هذه المرتبة ما يسمى القوة القدسية، وأدناها مرتبة البليد الذي تثبت أفكاره دون حصول مطالبه، وبين هاتين الدرجتين درجات متفاوتة في القرب والبعد بحسب شدة الاستعداد وضعفه.

وثالثها العقل بالفعل وهو أن تكون النفس بحيث متى شاءت استحضرت العلوم النظرية المكتسبة من العلوم الضرورية لا على أنها بالفعل موجودة.

ورابعها العقل المستفاد وهو حصول تلك النظريات بالفعل وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوة.

وأما العملي فيطلق على القوة التي باعتبارها يحصل التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة، وعلى المقدمات التي يستنبط بها الأمور الحسنة والقبيحة، وعلى فعل الأمور الحسنة والقبيحة.

المسألة الحادية والعشرون
في الاعتقاد والظن وغيرهما

قال: والاعتقاد يقال لأحد قسميه.

أقول: الاعتقاد من الأمور الضرورية، لكن اختلفوا في أنه هل هو من قبيل العلوم أو جنس مغاير لها؟ فقال جماعة بالأول، وذهب أبو الهذيل العلاف إلى الثاني، وأبطله أبو علي الجبائي بأنه لو كان كذلك لكان إما مثلا للعلم وهو المطلوب أو ضدا فلا يجتمعان مع أنهما قد يجتمعان أو مخالفا فلا ينتفيان بالضد الواحد.


الصفحة 341
والتحقيق هنا أن نقول: إن الاعتقاد أحد قسمي العلم، وذلك لأنا قد بينا أن العلم يقال على التصور وعلى التصديق كأنه جنس لهما، والاعتقاد هو التصديق وهو قسم من قسمي العلم.

قال: فيتعاكسان في العموم والخصوص.

أقول: هذا نتيجة ما مضى، والذي نفهم منه أن الاعتقاد قد ظهر أنه أحد قسمي العلم فهو أخص منه بهذا الاعتبار، لأن العلم شامل للتصور والتصديق الذي هو الاعتقاد، والاعتقاد باعتبار آخر أعم من العلم لأنه شامل للظن والجهل المركب واعتقاد المقلد. فهذا ما ظهر لنا من قوله: فيتعاكسان أي الاعتقاد والعلم في العموم والخصوص.

واعلم أن لنا في هذا الكلام على هذا التفسير نظرا، وذلك لأن الاعتقاد أنما يكون قسما من العلم لو أخذ العلم التصديقي بالاعتبار الأعم الشامل للعلم بمعنى اليقين والظن والجهل المركب واعتقاد المقلد، وحينئذ لا يتم التعاكس لأن الاعتقاد لا يكون أعم من العلم بهذا الاعتبار فالواجب أن يراد باعتبار اصطلاحين أو ما يؤدي معناه.

قال: ويقع فيه التضاد بخلاف العلم.

أقول: إعلم أن الاعتقاد منه ما هو متماثل ومنه ما هو مختلف، والمختلف على قسمين متضاد وغير متضاد، وهذا ظاهر لكن وجه التضاد عند أبي علي الجبائي تعلقه بالضدين فحكم بتضاد اعتقادي الضدين، وقال به أبو هاشم أولا ثم حكم بأن تضاده أنما هو لتعلقه بالايجاب والسلب لا غير، أما العلم فلا يقع فيه تضاد لوجوب المطابقة فيه.

قال: والسهو عدم ملكة العلم (1) وقد يفرق بينه وبين النسيان.

____________

(1) وفي (ت): والسهو عدم ملكته، والباقية كلها كما اخترناه.


الصفحة 342
أقول: هذا هو المشهور عند الأوائل والمتكلمين، وذهب الجبائيان إلى أن السهو معنى يضاد العلم، وقد فرق الأوائل بينه وبين النسيان فقالوا: إن السهو زوال الصورة عن المدرك خاصة دون الحافظ والنسيان زوالها عنهما معا.

قال: والشك تردد الذهن بين الطرفين.

أقول: الشك هو سلب الاعتقاد وتردد الذهن بين طرفي النقيض على التساوي وليس معنى قائما بالنفس وهو مذهب الأوائل وأبي هاشم. وقال أبو علي: إنه معنى يضاد العلم، واختاره البلخي لتجدده بعد أن لم يكن، وهو خطأ لعدم اتحاد المتعلق الذي هو شرط في تضاد المتعلقات.

قال: وقد يصح تعلق كل من الاعتقاد والعلم بنفسه وبالآخر فيتغاير الاعتبار لا الصور.

أقول: إعلم أن العلم والاعتقاد من قبيل النسب والإضافات يصح تعلقهما بجميع الأشياء حتى بأنفسهما فيصح تعلق الاعتقاد بالاعتقاد وبالعلم وكذا العلم يتعلق بنفسه وبالاعتقاد، إذا عرفت هذا فإذا تعلق العلم بنفسه وجب تعدد الاعتبار إذ العلم كان آلة ينظر به، وباعتبار تعلق العلم به يصير شيئا منظورا فيه، وكون الشئ معلوما مغاير لاعتبار كونه علما فلا بد من تغاير الاعتبار، أما الصور فلا وإلا لزم وجود صور لا تتناهى بالنسبة إلى معلوم واحد، لأن العلم بالشئ لا ينفك عن العلم بالعلم بذلك الشئ عند اعتبار المعتبرين. (واعلم) أن العلم بالعلم علم بكيفية وهيئة للعالم يقتضي النسبة إلى معلوم ذلك العلم وليس علما بالمعلوم كما ذهب إليه الجبائيان.

قال: والجهل بمعنى يقابلهما وآخر (1) قسم لأحدهما.

أقول: إعلم أن الجهل يقال على معنيين: بسيط ومركب، فالبسيط هو عدم

____________

(1) أي بمعنى آخر. وفي (م ش ص د): وبآخر. وفي (ز): وتأخر.


الصفحة 343
العلم عما من شأنه أن يكون عالما، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة. والمركب هو اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه وهو قسم للاعتقاد إذ الاعتقاد جنس للجهل وغيره، ويسمى الأول بسيطا نظرا إلى عدم تركبه والثاني مركبا لتركبه من اعتقاد وعدم مطابقة.

قال: والظن ترجيح أحد الطرفين وهو غير اعتقاد الرجحان.

أقول: الظن ترجيح أحد الطرفين - أعني طرف الوجود وطرف العدم - ترجيحا غير مانع من النقيض، ولا بد من هذا القيد ليخرج الاعتقاد الجازم.

واعلم أن رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان، لأن الأول ظن لا غير والثاني قد يكون علما.

قال: ويقبل الشدة والضعف وطرفاه علم وجهل.

أقول: لما كان الظن عبارة عن ترجيح الاعتقاد من غير منع النقيض وكان للترجيح مراتب داخلة بين طرفي شدة في الغاية وضعف في الغاية كان قابلا للشدة والضعف، وطرفاه العلم الذي لا مرتبة بعده للرجحان والجهل البسيط الذي لا ترجيح معه البتة أعني الشك المحض.

المسألة الثانية والعشرون
في النظر وأحكامه

قال: وكسبي العلم يحصل بالنظر مع سلامة جزئيه ضرورة.

أقول: قد بينا أن العلم ضربان: ضروري لا يفتقر إلى طلب وكسب، ونظري يفتقر إليه. فالثاني هو المكتسب بالنظر وهو ترتيب أمور ذهنية للتوصل إلى أمر مجهول، فالترتيب جنس بعيد لأنه كما يقع في الأمور الذهنية كذلك يقع في الأشياء الخارجية، فالتقييد بالأمور الذهنية يخرج الأخير عنه.

ثم الترتيب الخاص قد يراد لاستحصال ما ليس بحاصل، وقد لا يكون كذلك.


الصفحة 344
فالثاني ليس بنظر وهذا الحد قد اشتمل على العلل الأربع للنظر أعني المادة والصورة والغاية وفيه إشارة إلى الفاعل، وهذه الأمور قد تكون تصورات هي إما حدود أو رسوم يستفاد منها علم بمفرد، وقد تكون تصديقات يكتسب بها تصديق.

واعلم أن النظر لما كان مركبا اشتمل بالضرورة على جزء مادي وجزء صوري، فالمادي هو المقدمات والصوري هو الترتيب بينها، فإذا سلم هذان الجزءان بأن كان الحمل والوضع والربط والجهة على ما ينبغي وكان الترتيب على ما ينبغي حصل العلم بالمطلوب بالضرورة هذا في التصديقات، وكذا في التصورات فإنه إذا كان الحد مشتملا على جنس قريب وفصل أخير وقدم الجنس على الفصل حصل تصور المحدود قطعا، وإليه أشار المصنف بقوله: مع سلامة جزئيه يعني الجزء المادي والجزء الصوري.

واعلم أن الناس اختلفوا هنا، فقال من لا مزيد تحصيل له: إن النظر لا يفيد العلم لأن العلم بإفادته للعلم إن كان ضروريا لزم اشتراك العقلاء فيه، وإن كان نظريا تسلسل، ولأن النظر لو استلزم العلم لم يختلف الناس في آرائهم لاشتراكهم في العلوم الضرورية التي هي مبادئ النظرية. وذهب المحققون إلى أنه يفيد العلم بالضرورة فإنا متى اعتقدنا أن العالم ممكن وأن كل ممكن محدث حصل لنا العلم بالضرورة بأن العالم محدث فخرج الجواب عن الشبهة الأولى بقوله:

ضرورة، ولا يجب اشتراك العقلاء في الضروريات فإن كثيرا من الضروريات يتشكك فيها بعض الناس إما لخفاء في التصور أو لغير ذلك، وخرج الجواب عن الشبهة الثانية بقوله: مع سلامة جزئيه، وذلك لأن اختلاف الناس في الاعتقاد أنما كان بسبب تركهم الترتيب الصحيح وغفلتهم عن شرائط الحمل وغير ذلك من أسباب الغلط، أما في الجزء المادي أو الصوري فإذا سلما حصل المطلوب لكل من حصل له سلامة الجزئين.

قال: ومع فساد أحدهما قد يحصل ضده.


الصفحة 345
أقول: النظر إذا فسد إما من جهة المادة أو من جهة الصورة لم يحصل العلم، وقد يحصل ضده أعني الجهل وقد لا يحصل، والضابط في ذلك أن نقول: إن كان الفساد من جهة الصورة لم تلزم النتيجة الباطلة وإن كان من جهة المادة لا غير كان القياس منتجا، فإن كانت الصغرى في الشكل الأول صادقة والكبرى كاذبة في كل واحد (1) كانت النتيجة كاذبة قطعا وإلا جاز أن تكون صادقة وأن تكون كاذبة.

وبهذا التحقيق ظهر بطلان ما يقال من أن النظر الفاسد لا يستلزم الجهل وإلا لكان المحق إذا نظر في شبهة المبطل أفاده الجهل وليس كذلك مع أنه معارض بالنظر الصحيح، فإن شرط اعتقاد حقية المقدمات في الصحيح شرطناه نحن في الفاسد أيضا.

قال: وحصول العلم عن الصحيح واجب.

أقول: اختلف الناس هنا، فالمعتزلة على أن النظر مولد للعلم وسبب له، والأشاعرة قالوا: إن الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم عقيب النظر وليس النظر موجبا ولا سببا للعلم، واستدلوا على ذلك بأن العلم الحادث أمر ممكن والله تعالى قادر على كل الممكنات فاعل لها على ما يأتي في خلق الأعمال، فيكون العلم من فعله، والمعتزلة لما أبطلوا القول باستناد الأفعال الحيوانية إلى الله تعالى بطل عندهم هذا الاستدلال، ولما رأوا العلم يحصل عقيب النظر وبحسبه وينتفي عند انتفائه حكموا عليه بأنه سبب له كما في سائر الأسباب. والحق أن النظر الصحيح يجب عنده حصول العلم ولا يمكن تخلفه عنه، فإنا نعلم قطعا أنه متى حصل لنا اعتقاد المقدمتين فإنه يجب حصول النتيجة، قالت الأشاعرة: التذكر لا يولد العلم فكذا النظر بالقياس عليه والجواب الفرق بينهما ظاهر.

قال: ولا حاجة إلى المعلم.

____________

(1) أي في كل واحد من الضروب. وفي (م): في كل واحدة. ولكن الصواب ما اخترناه كما في النسخ الأخرى كلها.


الصفحة 346
أقول: ذهبت الملاحدة إلى أن النظر غير كاف في حصول المعارف بل لا بد من معونة من المعلم للعقل لتعذر العلم بأظهر الأشياء وأقربها من دون مرشد، وأطبق العقلاء على خلافه لأنا متى حصلت المقدمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل لنا الجزم بالنتيجة سواء كان هناك معلم أو لا، وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر الأشياء لا يدل على امتناعها مطلقا من دون المعلم، وقد ألزمهم المعتزلة الدور والتسلسل لتوقف العلم بصدقه على العلم بتصديق الله تعالى إياه بواسطة المعجزة، فلو توقفت المعرفة بالله تعالى عليه دار، ولأن احتياج كل عارف إلى معلم يستلزم حاجة المعلم إلى آخر ويتسلسل. وهذان الإلزامان ضعيفان، لأن الدور لازم على تقدير استقلال المعلم بتحصيل المعارف وليس كذلك بل هو مرشد إلى استنباط الأحكام من الأدلة التي من جملتها ما يدل على صدقه من المقدمات والتسلسل يلزم لو وجب مساواة عقل المعلم لعقولنا، أما على تقدير الزيادة فلا.

قال: نعم لا بد من الجزء الصوري.

أقول: يشير بذلك إلى ترتيب المقدمات فإنه لا بد مع حصول المقدمتين في الذهن من ترتيب حاصل بينهما ليحصل العلم بالنتيجة وهو الجزء الصوري للنظر، إذ لولا الترتيب لحصلت العلوم الكسبية لجيمع العقلاء ولم يقع خلل لأحد في اعتقاده. وقيل: لا حاجة إليه وإلا لزم التسلسل أو اشتراط الشئ بنفسه وهو سهو، فإن التسلسل يلزم لو قلنا بافتقار كل زائد إلى ترتيب وليس كذلك بل المفتقر إلى الترتيب إنما هو الأجزاء المادية خاصة.

قال: وشرطه عدم الغاية وضدها وحضورها.

أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن شرط النظر عدم العلم بالمطلوب الذي هو غاية النظر وإلا لزم تحصيل الحاصل، ويشترط أيضا عدم ضدها أعني الجهل المركب لأنه باعتقاده حصول العلم له لا يطلبه فلا يتحقق النظر في طرفه،

الصفحة 347
ويشترط أيضا حضورها (1) أعني حضور المطلوب الذي هو الغاية، إذ الغافل عن الشئ لا يطلبه والنظر نوع من الطلب.

قال: ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان (2) وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته كان التكليف به عقليا.

أقول: اختلف الناس في وجوب النظر هل هو عقلي أو سمعي؟ فذهبت المعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني، أما المعتزلة فاستدلوا على وجوب النظر عقلا بأن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا ولا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، فهاهنا ثلاث مقدمات: إحداها: أن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا، واستدلوا على ذلك بوجهين: الأول: أن معرفة الله تعالى دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ودفع الخوف واجب عقلا، الثاني: أن شكر الله تعالى واجب لأن نعمه على العبد كثيرة، والمقدمتان ضروريتان والشكر لا يتم إلا بالمعرفة ضرورة. الثانية: أن معرفة الله تعالى لا تتم إلا بالنظر وذلك قريب من الضرورة إذ المعرفة ليست ضرورية قطعا فهي كسبية ولا كاسب سوى النظر إذ التقليد يستند إليه وتصفية الخاطر إن انفلت عن ترتيب المقدمات لم يحصل منها علم بالضرورة. الثالثة: أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب وإلا لخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا أو لزم تكليف ما لا يطاق، لأن الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه، فحينئذ إما أن يجب على المكلف المشروط أو لا، والثاني يلزم منه خروجه عن كونه واجبا مطلقا، والأول يلزم منه تكليف ما لا يطاق، إذ وجوب المشروط حال عدم الشرط إيجاب لغير المقدور وهو محال، فثبت أن وجوب النظر عقلي ولا يجب سمعا خاصة وإلا لم يجب، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية أن النظر إذا لم يجب إلا بالسمع لزم إفحام الأنبياء لأن النبي إذا جاء إلى

____________

(1) وذلك لأن طلب المجهول المطلق محال، فمن يطلب شيئا فلا بد من أن يدرك منه أولا شيئا.

(2) وفي (م ز): العقليات بالجمع. والنسخ الأخرى كلها بالتثنية كما في الشرح.


الصفحة 348
المكلف وأمره باتباعه لم يجب على المكلف الامتثال حتى يعلم صدقه ولا يعلم صدقه إلا بالنظر، فإذا امتنع المكلف من النظر حتى يعرف وجوبه عليه لم يجز استناد الوجوب إلى النبي لعدم العلم بصدقه حينئذ ولا وجوب عقلي فينتفي الوجوب على تقدير الوجوب السمعي. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان، أشار بلفظة ما إلى المعرفة والعقليان أشار به إلى وجوب الشكر ووجوب دفع الخوف عن النفس. وقوله: وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته، يشير به إلى انتفاء الوجوب السمعي الذي هو ضد المطلوب لأن المطلوب هو الوجوب العقلي وضده هو الوجوب السمعي. وقوله: على تقدير ثبوته، يعني لو فرض الوجوب سمعيا لم يكن واجبا، فهذا ما فهمناه من كلامه في هذا الموضع.

وأما الأشعرية فقد احتجوا بوجهين: الأول: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفى التعذيب بدون البعثة فلا يكون النظر واجبا قبلها. الثاني:

لو وجب النظر فإما لفائدة عاجلة والواقع مقابلها أو آجلة وحصولها ممكن بدون النظر، فتوسط النظر عبث وكذا إن لم يكن لفائدة، ثم قالوا: ما ألزمتمونا به من الافحام على تقدير الوجوب السمعي لازم لكم على تقدير الوجوب العقلي، لأن وجوب النظر وإن كان عقليا إلا أنه كسبي، فالمكلف إذا جاءه النبي وأمره باتباعه كان له أن يمتنع حتى يعرف صدقه، ولا يعرف صدقه إلا بالنظر، والنظر لا يجب عليه بالضرورة بل بالنظر، فقبل النظر لا يعرف وجوبه فله أن يقول: لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، وذلك يستلزم الافحام أيضا.

والجواب عن الأول التخصيص، وهو حمل نفي التعذيب المتوقف على الرسالة على ترك التكليف السمعي، أو تأول الرسول بالعقل جمعا بين الأدلة.

وعن الثاني أن الفائدة عاجلة وهي زوال الخوف وآجلة وهي نيل الثواب بالمعرفة الذي لا يمكن الابتداء به في الحكمة.

وعن الثالث أن وجوب النظر وإن كان نظريا إلا أنه فطري القياس، فكان الإلزام عائدا على الأشاعرة دون المعتزلة.


الصفحة 349

قال: وملزوم العلم دليل والظن أمارة.

أقول: لما كان النظر متعلقا بما يستلزم العلم من الاعتقادات أو الظن وجب البحث عن المتعلق، فالمستلزم للعلم يسمى دليلا والمستلزم للظن يسمى أمارة، وقد يقال الدليل على معنى أخص من المذكور وهو الاستدلال بالمعلول على العلة.

قال: وبسائطه عقلية ومركبة لاستحالة الدور.

أقول: بسائط الدليل يعني به مقدماته فإن الدليل لما كان مركبا من مقدمتين كانت كل واحدة من تينك المقدمتين جزءا بسيطا بالنسبة إلى الدليل وإن كانت مركبة في نفس الأمر. إذا عرفت هذا فالمقدمات قد تكون عقلية محضة وقد تكون مركبة من عقلي وسمعي، ولا يمكن تركبها من سمعيات محضة وإلا لزم الدور لأن السمعي المحض ليس بحجة إلا بعد معرفة صدق الرسول، وهذه المقدمة لو استفيدت بالسمع دار بل هي عقلية محضة، فإذن إحدى مقدمات النقليات كلها عقلية، والضابط في ذلك أن كل ما يتوقف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنقل، وكل ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز إثباته بالعقل وما عدا هذين يجوز إثباته بهما.

قال: وقد يفيد اللفظي القطع.

أقول: قيل: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لتوقفه على أمور كلها ظنية وهي:

اللغة والنحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص والاضمار والنسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي، والحق خلاف هذا فإن كثيرا من الأدلة اللفظية تعلم دلالتها على معانيها قطعا وانتفاء هذه المفاسد عنها.

قال: ويجب تأويله عند التعارض.

أقول: إذا تعارض دليلان نقليان أو دليل عقلي ونقلي وجب تأويل النقل، أما مع تعارض النقلين فظاهر لامتناع تناقض الأدلة، وأما مع تعارض العقلي والنقلي

الصفحة 350
فكذلك أيضا. وإنما خصصنا النقلي بالتأويل لامتناع العمل بهما وإلغائهما والعمل بالنقلي وإبطال العقلي لأن العقلي أصل للنقلي، فلو أبطلنا الأصل لزم إبطال الفرع أيضا، فوجب العدول إلى تأويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه.

قال: وهو قياس وقسيماه.

أقول: الضمير في وهو عائد على الدليل مطلقا، واعلم أن الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس واستقراء وتمثيل، وإلى الأخيرين أشار بقوله: وقسيماه، وذلك لأن الاستدلال إما أن يكون بالعام على الخاص أو بالعكس أو بأحد المتساويين المندرجين تحت عام شامل لهما على الآخر. فالأول هو أجلى الأدلة وأشرفها لأفادته اليقين وهو المسمى بالقياس أخذا من المحاذاة، كأن القائس يطلب محاذاة النتيجة للمقدمتين في العلم، والثاني الاستقراء أخذا من قصد القرى قرية فقرية، كأن المستقرئ يتبع الجزئيات، والثالث التمثيل.

قال: فالقياس اقتراني واستثنائي.

أقول: القياس إما أن يكون المطلوب أو نقيضه مذكورا فيه بالفعل أو بالقوة، والأول يسمى الاستثنائي والثاني الاقتراني، مثال الأول: إن كان هذا انسانا فهو حيوان لكنه انسان ينتج أنه حيوان فالنتيجة مذكورة بالفعل، أو نقول: لكنه ليس بحيوان ينتج أنه ليس بانسان، فالنقيض مذكور في القياس بالفعل. ومثال الثاني:

كل انسان حيوان وكل حيوان جسم، ينتج كل انسان جسم وهو مذكور في القياس بالقوة.

قال: فالأول باعتبار الصورة القريبة أربعة والبعيدة اثنان.

أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن القياس الاقتراني له اعتباران: أحدهما بحسب مادته أعني مقدماته، والثاني بحسب صورته أعني الهيئة والترتيب اللاحقين به العارضين لمجموع المقدمات وهو ما يسمى باعتباره شكلا، وهو بهذا الاعتبار على أربعة أقسام كل قسم سموه شكلا، لأن الحد الأوسط إن كان محمولا

الصفحة 351
في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الشكل الأول كقولنا: كل (ج ب) وكل (ب ا)، وإن كان محمولا فيهما فهو الثاني كقولنا: كل (ج ب) ولا شئ من (ا ب)، وإن كان موضوعا فيهما فهو الثالث كقولنا: كل (ج ب) وكل (ج ا)، وإن كان موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى فهو الرابع كقولنا: كل (ج ب) وكل (ا ج)، وهذه القسمة باعتبار الصورة القريبة. وأما بالنظر إلى المادة فله اعتباران أيضا: أحدهما باعتبار صورة كل مقدمة والثاني باعتبار مادتها، فبالاعتبار الأول وهو اعتباره بالنظر إلى الصورة البعيدة ينقسم إلى قسمين: حملي وشرطي، فالحملي كما قلنا، والشرطي كقولنا: كلما كان (أب) ف (ج د) وكلما كان (ج د) ف (ه ز) ينتج كلما كان (أب) ف (ه ز) أو نقول: كلما كان (أب) ف (ج د) وليس البتة إذا كان (ه ز) ف (ج د) أو نقول: كلما كان (أب) ف (ج د) وكلما كان (أب) ف (ه ز) أو نقول: كلما كان (أب) ف (ج د) وكلما كان (ه ز) ف (أب).

قال: وباعتبار المادة القريبة خمسة والبعيدة أربعة.

أقول: مقدمات القياس هي المادة البعيدة له باعتبار مقدمة مقدمة ومجموعها لا باعتبار صورة خاصة وشكل معين هي المادة القريبة، ومقدمات القياس أربع:

مسلمات ومظنونات ومشبهات ومخيلات، هذا باعتبار المادة البعيدة. وأما باعتبار المادة القريبة فأقسام القياس خمسة: البرهان والجدل والخطابة والسفسطة والشعر.

قال: والثاني متصل فناتجه أمران وكذا غير الحقيقي من المنفصل، ومنه ضعفه.

أقول: الثاني هو الاستثنائي وهو ضربان: الأول: أن تكون مقدمته الشرطية متصلة وينتج منه قسمان: أحدهما: استثناء عين المقدم لعين التالي، والثاني:

استثناء نقيض التالي لنقيض المقدم. والثاني: أن تكون منفصلة وهو قسمان أيضا:

أحدهما أن تكون غير حقيقية، والثاني أن تكون حقيقية، فغير الحقيقية ضربان:


الصفحة 352
مانعة الجمع وينتج قسمان منها استثناء عين المقدم لنقيض التالي واستثناء عين التالي لنقيض المقدم، ومانعة الخلو وينتج قسمان منها أيضا استثناء نقيض المقدم لعين التالي واستثناء نقيض التالي لعين المقدم. وأما الحقيقة فإنها تنتج أربع نتائج من استثناء عين المقدم لنقيض التالي وبالعكس، ومن استثناء عين التالي لنقيض المقدم وبالعكس.

قال: والأخيران يفيدان الظن، وتفاصيل هذه الأشياء مذكورة في غير هذا الفن.

أقول: يريد بالأخيرين الاستقراء والتمثيل وهما يفيدان الظن لا العلم، واعلم أن تفاصيل هذه الأشياء وبيان شرائطها مذكورة في علم المنطق وإنما انساق الكلام إليه هنا.

قال: والتعقل والتجرد متلازمان لاستلزام انقسام المحل انقسام الحال، فإن تشابهت (1) عرض الوضع للمجرد وإلا تركب مما لا يتناهى.

أقول: هذه المسألة وما بعدها من تتمة مباحث التعقل، وقد ادعى هنا أن التعقل والتجرد متلازمان بمعنى أن كل عاقل مجرد وبالعكس (أما الأول) فاستدل عليه بعد ما تقدم بأن التعقل حال في ذات العاقل فذلك المحل إما أن ينقسم أو لا، والثاني هو المراد والأول باطل لأن انقسام المحل يستدعي انقسام الحال، إذ الحال إما أن يحل بتمامه في جزئي المحل أو في أحد جزئيه أو لا يحل في شئ منه، والأول يلزم منه الانقسام إن كان الحال في أحد الجزئين غير الحال في الآخر أو تعدد الواحد إن اتحدا، والثاني يفيد المطلوب والثالث خلاف الفرض.

فإذا ثبت ذلك فالجزءان إما أن يتشابها أو يختلفا، والأول يستلزم وجود المقدار لما فرض مجردا والثاني يستلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء للصورة العقلية

____________

(1) أي فإن تشابهت أقسام المحل المستفادة من قوله: لاستلزام انقسام المحل انقسام الحال.

والمحل هو القوة العاقلة في المقام.


الصفحة 353
وذلك بحسب ما في المحل من الانقسامات الممكنة.

قال: ولاستلزام التجرد صحة المعقولية المستلزمة لإمكان المصاحبة.

أقول: هذا دليل الحكم الثاني وهو أن كل مجرد عاقل، وتقريره أن كل مجرد فإنه يصح أن يكون معقولا بالضرورة، إذ العائق عن التعقل أنما هو المادة لا غير وكلما صح أن يكون معقولا وحده صح أن يكون معقولا مع غيره وهو قطعي، فإذن كل مجرد فإنه يصح أن يقارن غيره فنقول: هذه الصحة إما أن تتوقف على ثبوت المجرد في العقل أو لا، والأول محال لأن الثبوت في العقل نوع من المقارنة فيلزم توقف إمكان الشئ على وقوعه وهو باطل بالضرورة والثاني هو المطلوب.

وهذا الدليل عندي في غاية الضعف، لأن توقف إمكان مقارنة المجرد المعقول للصورة المعقولة على ثبوت مقارنة المجرد للعقل لا يقتضي توقف الإمكان على الوقوع، إذ الإمكان هنا عائد إلى مقارنة المعقول للمعقول وهي غير، والثبوت عائد إلى مقارنة المعقول للعاقل وهي غير فلا يلزم ما ذكر من المحال.

المسألة الثالثة والعشرون
في أحكام القدرة

قال: ومنها القدرة وتفارق الطبيعة والمزاج بمقارنة الشعور والمغايرة في التابع.

أقول: لما فرغ من البحث عن العلم شرع في البحث عن القدرة، وأشار بقوله:

ومنها أي ومن الكيفيات النفسانية لأنها صفة قائمة بذوات الأنفس.

واعلم أن الجسم من حيث هو غير مؤثر وإلا لتساوت الأجسام في ذلك، وإنما يؤثر باعتبار صفة قائمة به، والصفة المؤثرة إما أن تؤثر مع الشعور أو بدونه وعلى كلا التقديرين إما أن يتشابه التأثير أو يختلف، فالأقسام أربعة: أحدها:

الصفة المقترنة بالشعور المتفقة في التأثير وهي القوة الفلكية. الثاني: المقترنة

الصفحة 354
بالشعور المختلفة في التأثير وهي القوة الحيوانية أعني القدرة التي يأتي البحث عن أحكامها. الثالث: الصفة المؤثرة غير المقترنة بالشعور المتشابهة في التأثير وهي القوة الطبيعية. الرابع: غير المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير وتسمى النفس النباتية.

إذا عرفت هذا فنقول: القدرة مغايرة للطبيعة والمزاج، أما الأول فلوجوب اقترانها بالشعور بخلاف الطبيعة، وأما الثاني فلأن المزاج كيفية متوسطة بين الحرارة والبرودة فيكون من جنسهما فتكون تابعة أعني تأثيره من جنس تأثيرهما، وأما القدرة فإن تأثيرها مضاد لتأثيرهما وإلى هذا أشار بقوله: والمغايرة في التابع.

قال: مصححة للفعل بالنسبة.

أقول: القدرة صفة تقتضي صحة الفعل من الفاعل لا إيجابه، فإن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك معا فلو اقتضت الايجاب لزم المحال، ومعنى قوله:

بالنسبة أي باعتبار نسبة الفعل إلى الفاعل وذلك لأن الفعل صحيح في نفسه لا يجوز أن يكون للقدرة مدخل في صحته الذاتية لأن الإمكان للممكن واجب وأما نسبته إلى الفاعل فجاز أن يكون معللا، هذا الذي فهمناه من قوله: بالنسبة.

قال: وتعلقها بالطرفين.

أقول: هذا هو المشهور من مذهب الحكماء والمعتزلة وهو أن القدرة متعلقة بالضدين، وقالت الأشاعرة: إنما تتعلق بطرف واحد، وهو خطأ لوقوع الفرق بين القادر والموجب.

قال: وتتقدم الفعل لتكليف الكافر وللتنافي ولزوم أحد محالين لولاه.

أقول: هذا مذهب الحكماء والمعتزلة، وقالت الأشاعرة: إنها مقارنة للفعل، والضرورة قاضية ببطلان هذا فإن القاعد يمكنه القيام قطعا، والأشاعرة بنوا مقالتهم على أصل لهم سيأتي بطلانه وهو أن العرض لا يبقى.