الصفحة 408
الزائد، وقد نازع فيه جميع المجسمة فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى جسم في جهة وأصحاب أبي عبد الله بن كرام اختلفوا، فقال محمد بن الهيصم: إنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها والبعد بينه وبين العرش أيضا غير متناه. وقال بعضهم: البعد متناه. وقال قوم منهم: إنه تعالى على العرش كما تقوله المجسمة، وهذه المذاهب كلها فاسدة لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه ومحل للأكوان الحادثة فيكون حادثا فلا يكون واجبا.

المسألة السادسة عشرة
في أنه تعالى ليس محلا للحوادث

قال: وحلول الحوادث فيه.

أقول: وجوب الوجود ينافي حلول الحوادث في ذاته تعالى وهو معطوف على الزائد، وقد خالف فيه الكرامية، والدليل على الامتناع أن حدوث الحوادث فيه تعالى يدل على تغيره وانفعاله في ذاته وذلك ينافي الوجوب، وأيضا فإن المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزليا وإن كان غيره كان الواجب مفتقرا إلى الغير وهو محال، ولأنه إن كان صفة كمال استحال خلو الذات عنه وإن لم يكن استحال اتصاف الذات به.

المسألة السابعة عشرة
في أنه تعالى غني

قال: والحاجة.

أقول: وجوب الوجود ينافي الحاجة وهو معطوف على الزائد، وهذا الحكم ظاهر فإن وجوب الوجود يستدعي الاستغناء عن الغير في كل شئ فهو ينافي

الصفحة 409
الحاجة، ولأنه لو افتقر إلى غيره لزم الدور، لأن ذلك الغير محتاج إليه لإمكانه.

(لا يقال) الدور غير لازم لأن الواجب مستغن في ذاته وبعض صفاته عن ذلك الغير وبهذا الوجه يؤثر في ذلك الغير، فإذا احتاج في جهة أخرى إلى ذلك الغير انتفى الدور (لأنا نقول) هذا بناء على أن صفاته تعالى زائدة على الذات وهو باطل لما سيأتي، وأيضا فالدور لا يندفع لأن ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في الواجب تعالى صفة يكون محتاجا إليه، وحينئذ يلزم الدور المحال، ولأن افتقاره في ذاته يستلزم إمكانه وكذا في صفاته، لأن ذاته موقوفة على وجود تلك الصفة أو عدمها المتوقفين على الغير فيكون متوقفا على الغير فيكون ممكنا، وهذا برهان عول عليه الشيخ ابن سينا.

المسألة الثامنة عشرة
في استحالة الألم واللذة عليه تعالى

قال: والألم مطلقا واللذة المزاجية.

أقول: هذا أيضا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود يستلزم نفي اللذة والألم.

واعلم أن اللذة والألم قد يكونان من توابع المزاج، فإن اللذة من توابع اعتدال المزاج والألم من توابع سوء المزاج، وهذان المعنيان أنما يصحان في حق الأجسام وقد ثبت بوجوب الوجود أنه تعالى يستحيل أن يكون جسما فينتفيان عنه. وقد يعني بالألم إدراك المنافي وباللذة إدراك الملائم، فالألم بهذا المعنى منفي عنه لأن واجب الوجود لا منافي له، وأما اللذة بهذا المعنى فقد اتفق الأوائل على ثبوتها لله تعالى لأنه مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذا به، والمصنف رحمه الله كأنه قد ارتضى هذا القول، وهو مذهب ابن نوبخت وغيره من المتكلمين إلا أن إطلاق الملتذ عليه يستدعي الأذن الشرعي.


الصفحة 410

المسألة التاسعة عشرة
في نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة في الأعيان

قال: والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا.

أقول: ذهبت الأشاعرة إلى أن لله تعالى معاني قائمة بذاته هي القدرة والعلم وغيرهما من الصفات تقتضي القادرية والعالمية والحيية إلى غيرها من باقي الصفات. وأبو هاشم أثبت أحوالا غير معلومة لكن تعلم الذات عليها (1) وجماعة من المعتزلة أثبتوا لله تعالى صفات زائدة على الذات، وهذه المذاهب كلها ضعيفة لأن وجوب الوجود يقتضي نفي هذه الأمور عنه لأنه تعالى يستحيل أن يتصف بصفة زائدة على ذاته سواء جعلناها معنى أو حالا أو صفة غيرهما لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شئ فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير ذلك من المعاني والأحوال، وإنما قيد الصفات بالزائدة عينا لأنه تعالى موصوف بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس الذات في الحقيقة وإن كانت مغايرة لها بالاعتبار.

المسألة العشرون
في أنه تعالى ليس بمرئي

قال: والرؤية (2).

____________

(1) وفي (ش) علتها، أعربها بتشديد اللام والتاء المنقوطتين من فوق. وفي (د) بدون تشديد وإعجام، وفي النسخ الأخرى: عليها، على الجار والمجرور بالإعجام. وفي نسخة أخرى عندنا صححت العبارة وأعربت هكذا: (لكن بعلم الذات عللها) بإضافة العلم إلى الذات المجرور بالباء، وعللها على هيئة الجمع.

والصواب هو الأوسط المختار أعني عليها على الجار والمجرور كما في نسختين من شرح القديم لمؤلفه محمود بن أحمد الأصفهاني حيث قال في المقام: ومذهب أبي هاشم أن لله تعالى أحوالا مثل العالمية والقادرية وغيرهما، والحال لا يعلم ولكن يعلم الذات عليها، إنتهى. وكلام الفخر الرازي في المحصل أيضا يفيد هذا المعنى (ص 136 ط 1 مصر).

(2) الحق أن الرؤية بمعنى لقائه سبحانه هي غاية آمال العارفين بالله وقد ندب إليه الشرع بأنحاء عديدة، وأما الرؤية بمعنى الأبصار بالعين فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

والراقم قد صنف في كل واحدة من المسألتين رسالة على حدة لعلها وافية في شعوب مباحثها العقلية والنقلية.

قال الشيخ الأجل الصدوق في باب رؤية كتاب التوحيد ما هذا لفظه: والأخبار التي رويت في هذا المعنى - يعني في الرؤية - صحيحة وإنما تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز وجل وهو لا يعلم.

والأخبار التي ذكرها أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره، والتي أوردها محمد بن أحمد بن يحيى في جامعه في معنى الرؤية صحيحة لا يردها إلا مكذب بالحق أو جاهل به، وألفاظها ألفاظ القرآن، ولكل خبر منها معنى ينفي التشبيه والتعطيل ويثبت التوحيد، وقد أمرنا الأئمة صلوات الله عليهم أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم.

ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار العلم، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ما تزول به الشكوك كوك ويعلم حقيقة قدرة الله عز وجل، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).

إنتهى ما أردنا من نقل كلامه - رضوان الله تعالى عليه - في التوحيد، ولكن لا يخفى عليك أن الأئمة عليهم السلام أمرونا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، وما أمرونا أن لا نروي أحاديثهم التي حدثوا بها. والشيخ الأكرم المفيد قدس سره قال في تصحيح الاعتقادات نقدا عليه: ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه.

والمتأله السبزواري في شرح الأسماء عند قوله عليه السلام في الفصل الخمسين من الجوشن الكبير:

يا من يرى ولا يرى، حرر أقوال القوم في الرؤية أتم تحرير فراجعه إليه (ص 185 ط 1).


الصفحة 411
أقول: وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضا، (واعلم) أن أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى، والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم، ولو اعتقدوا تجرده لم تجز رؤيته عندهم، والأشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا وزعموا أنه تعالى مع تجرده تصح رؤيته، والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب وجوده يقتضي تجرده ونفي الجهة والحيز عنه فينتفي الرؤية عنه بالضرورة، لأن كل مرئي فهو من جهة يشار إليه بأنه هنا أو هناك، ويكون مقابلا أو في حكم المقابل، ولما انتفى هذا المعنى عنه تعالى انتفت الرؤية.


الصفحة 412

قال: وسؤال موسى لقومه.

أقول: لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن احتجاج الأشاعرة، وقد احتجوا بوجوه أجاب المصنف عنها، الأول: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لم يصح منه السؤال.

والجواب أن السؤال كان من موسى عليه السلام لقومه ليبين لهم امتناع الرؤية لقوله تعالى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) وقوله: (أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا).

قال: والنظر لا يدل على الرؤية مع قبوله التأويل.

أقول: تقرير الوجه الثاني لهم أنه تعالى حكى عن أهل الجنة النظر إليه فقال: (إلى ربها ناظرة) والنظر المقرون بحرف (إلى) يفيد الرؤية لأنه حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماسا لرؤيته، وهذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة عنه فبقي المراد منه مجازه وهو الرؤية التي هي معلول النظر الحقيقي واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز.

والجواب المنع من إرادة هذا المجاز، فإن النظر وإن اقترن به حرف (إلى) لا يفيد الرؤية، ولهذا يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، وإذا لم يتعين هذا المعنى للإرادة أمكن حمل الآية على غيره، وهو أن يقال: إن (إلى) واحد الآلاء ويكون معنى ناظرة أي منتظرة، أو نقول: إن المضاف هنا محذوف وتقديره: إلى ثواب ربها. (لا يقال) الانتظار سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم، (لأنا نقول) سياق الآية يدل على تقدم حال لأهل الثواب والعقاب على استقرارهم في الجنة والنار بقوله: (وجوه يومئذ ناضرة) بدليل قوله تعالى: (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) فإن في حال استقرار أهل النار في النار قد فعل لها فاقرة فلا يبقى للظن معنى، وإذا كان كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سببا للغم بل سببا للفرح والسرور ونضارة الوجه، كمن يعلم وصول نفع إليه يقينا في وقت

الصفحة 413
فإنه يسر بذلك وإن لم يحضر الوقت كما أن انتظار العقاب بعد الانذار بوروده يوجب الغم ويقتضي بسارة الوجه.

قال: وتعليق الرؤية (1) على استقرار الجبل المتحرك لا يدل على الإمكان.

أقول: هذا جواب عن الوجه الثالث للأشعرية، وتقرير احتجاجهم أن الله سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه السلام على استقرار الجبل والاستقرار ممكن، لأن كل جسم فسكونه ممكن والمعلق على الممكن ممكن. والجواب أنه تعالى علق الرؤية على الاستقرار لا مطلقا بل على استقرار الجبل حال حركته واستقرار الجبل حال الحركة محال فلا يدل على إمكان المعلق.

قال: واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل والحصر.

أقول: هذا جواب عن شبهة الأشاعرة من طريق العقل استدلوا بها على جواز رؤيته تعالى، وتقريرها أن الجسم والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية وهذا حكم مشترك يستدعي علة مشتركة ولا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود، والحدوث لا يصلح للعلية لأنه مركب من قيد عدمي فيكون عدميا فلم يبق إلا الوجود فكل موجود تصح رؤيته والله تعالى موجود.

وهذا الدليل ضعيف جدا لوجوه: الأول: المنع من رؤية الجسم بل المرئي هو اللون والضوء لا غير. الثاني: لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية فإن رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض. الثالث: لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي لأن جنس صحة الرؤية وهو الإمكان عدمي فلا يفتقر إلى العلة. الرابع: لا نسلم أن المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة فإنه يجوز اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية. الخامس: لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود وعدم العلم لا يدل على العدم مع أنا نتبرع بذكر قسم آخر وهو الإمكان وجاز التعليل به وإن

____________

(1) كما في (م) وفي (ق، ص، ش، د): وتعليق الرؤية باستقرار المتحرك لا يدل على الإمكان.

وفي (ز): لاستقرار المتحرك. وفي (ت): والتعليق باستقرار الجبل لا يدل على الإمكان.


الصفحة 414
كان عدميا لأن صحة الرؤية عدمية. السادس: لا نسلم أن الحدوث لا يصلح للعلية، وقد بينا أن صحة الرؤية عدمية على أنا نمنع من كون الحدوث عدميا لأنه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم. السابع: لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الإمكان أو بشرط الحدوث، والشروط يجوز أن تكون عدمية. الثامن: المنع من كون الوجود مشتركا لأن وجود كل شئ نفس حقيقته، ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركا لكن وجود الله تعالى مخالف لغيره من الوجودات لأنه نفس حقيقته، ولا يلزم من كون بعض الماهيات (1) علة لشئ كون ما يخالفه علة لذلك الشئ. التاسع: المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي فإنه جاز وجود مانع في حقه تعالى إما ذاته أو صفة من صفاته أو قبول الحكم يتوقف على شرط كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى فلا يلزم وجود الحكم فيه.

المسألة الحادية والعشرون
في باقي الصفات

قال: وعلى ثبوت الجود.

أقول: هذا عطف على قوله: على سرمديته، أي أن وجوب الوجود يدل على سرمديته وعلى ثبوت الجود، واعلم أن الجود هو إفادة ما ينبغي للمستفيد من غير استعاضة منه، والله تعالى قد أفاد الوجود الذي ينبغي للممكنات من غير أن يستعيض منها شيئا من صفة حقيقية أو إضافية فهو جواد، وجماعة الأوائل نفوا الغرض عن الجواد وهو باطل وسيأتي بيانه في باب العدل.

____________

(1) أي بعض الماهيات بوجوده علة لشئ كما هو ظاهر. أو أن الكون في الموضعين بمعنى الوجود. وفي المطبوعة: ولا يلزم من كون وجود بعض الماهيات، ولكن النسخ كلها عارية عن الوجود والكلمة كانت تعليقة أدرجت في المتن.


الصفحة 415

قال: والملك.

أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى ملكا لأنه غني عن الغير في ذاته وصفاته الحقيقية المطلقة والحقيقية المستلزمة للإضافة وكل شئ مفتقر إليه، لأن كل ما عداه ممكن إنما يوجد بسببه وله ذات كل شئ لأنه مملوك له مفتقر إليه في تحقق ذاته فيكون ملكا، لأن الملك هو المستجمع لهذه الصفات الثلاث.

قال: والتمام وفوقه.

أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى تاما وفوق التمام، أما كونه تاما فلأنه واحد على ما سلف، واجب من كل جهة يمتنع تغيره وانفعاله وتجدد شئ له، فكل ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل، وأما كونه فوق التمام فلأن ما حصل لغيره من الكمالات فهو منه مستفاد.

قال: والحقية.

أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت الحقية له تعالى، واعلم أن الحق يقال للثابت مطلقا والثابت دائما، ويقال على حال القول والعقد بالنسبة إلى المقول والمعتقد إذا كان مطابقا وهو الصادق أيضا لكن باعتبار نسبة القول والعقد إليه، والله تعالى واجب الثبوت والدوام غير قابل للعدم والبطلان، فذاته أحق من كل حق وهو محقق كل حقيقة.

قال: والخيرية.

أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت وصف الخيرية لله تعالى، لأن الخير عبارة عن الوجود والشر عبارة عن عدم كمال الشئ من حيث هو مستحق له، وواجب الوجود يستحيل أن يعدم عنه شئ من الكمالات فلا يتطرق إليه الشر بوجه من الوجوه فهو خير محض.

قال: والحكمة.

أقول: وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة، لأن الحكمة قد يعني

الصفحة 416
بها معرفة الأشياء وقد يراد بها صدور الشئ على الوجه الأكمل، ولا عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول، وأيضا فإن أفعاله تعالى في غاية الأحكام والإتقان ونهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني أيضا.

قال: والتجبر.

أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه جبارا، لأن وجوب الوجود يقتضي استناد كل شئ إليه فهو يجبر ما بالقوة بالفعل والتكميل كالمادة بالصورة فهو جبار من حيث إنه واجب الوجود.

قال: والقهر.

أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه قهارا بمعنى أنه يقهر العدم بالوجود والتحصيل.

قال: والقيومية.

أقول: وصفه تعالى بكونه واجب الوجود يقتضي وصفه بكونه قيوما بمعنى أنه قائم بذاته ومقيم لغيره، لأن وجوب الوجود يقتضي استغناءه عن غيره وهو معني قيامه بذاته ويقتضي استناد غيره إليه وهو المعنى بكونه مقيما لغيره.

قال: وأما اليد والوجه والقدم والرحمة والكرم والرضا والتكوين فراجعة إلى ما تقدم.

أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن اليد صفة وراء القدرة، والوجه صفة مغايرة للوجود، وذهب عبد الله بن سعيد إلى أن القدم صفة مغايرة للبقاء وأن الرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة، وأثبت جماعة من الحنفية التكوين صفة مغايرة للقدرة، والتحقيق أن هذه الصفات راجعة إلى ما تقدم.


الصفحة 417

الفصل الثالث
في أفعاله

وفيه مسائل:

المسألة الأولى
في إثبات الحسن والقبح العقليين

قال: الثالث في أفعاله، الفعل المتصف بالزائد إما حسن أو قبيح، والحسن أربعة.

أقول: لما فرغ من إثباته تعالى وبيان صفاته شرع في بيان عدله وأنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب وما يتعلق بذلك من المسائل، وبدأ بقسمة الفعل إلى الحسن والقبيح وبين أن الحسن والقبح أمران عقليان، وهذا حكم متفق عليه بين المعتزلة. وأما الأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح أنما يستفادان من الشرع فكل ما أمر الشارع به فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح، ولولا الشرع لم يكن حسن ولا قبح، ولو أمر الله تعالى بما نهى عنه لا نقلب القبيح إلى الحسن.

والأوائل ذهبوا إلى أن من الأشياء ما هو حسن ومنها ما هو قبيح بالنظر إلى العقل العملي، وقد شنع أبو الحسين على الأشاعرة بأشياء ردية وما شنع به فهو حق إذ لا تتمشى قواعد الاسلام بارتكاب ما ذهب إليه الأشعرية من تجويز القبائح عليه تعالى وتجويز إخلاله بالواجب، وما أدري كيف يمكنهم الجمع بين المذهبين.

واعلم: أن الفعل من التصورات الضرورية، وقد حده أبو الحسين بأنه ما

الصفحة 418
حدث عن قادر مع أنه حد القادر بأنه الذي يصح أن يفعل وأن لا يفعل فلزمه الدور، على أن الفعل أعم من الصادر عن قادر وغيره. إذا عرفت هذا، فالفعل الحادث إما أن لا يوصف بأمر زائد على حدوثه وهو مثل حركة الساهي والنائم وإما أن يوصف وهو قسمان حسن وقبيح، فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم القبيح بخلافه، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل والترك، وإما أن يكون له وصف زائد على حسنه فإما أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه، فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة: الواجب والمندوب والمباح والمكروه ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة.

قال: وهما عقليان للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع.

أقول: استدل المصنف رحمه الله على أن الحسن والقبح أمران عقليان بوجوه، هذا أولها وتقريره أنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع، فإن كل عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه، وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادا من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع.

قال: ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا.

أقول: هذا وجه ثان يدل على أن الحسن والقبح عقليان، وتقريره أنهما لو ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا، والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فإذا أخبرنا في شئ أنه قبيح لم نجزم بقبحه وإذا أخبرنا في شئ أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.


الصفحة 419

قال: ولجاز التعاكس.

أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام أنه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لجاز أن يقع التعاكس في الحسن والقبح بأن يكون ما نتوهمه حسنا قبيحا وبالعكس، فكان يجوز أن يكون هناك أمم عظيمة تعتقد حسن مدح من أساء إليهم وذم من أحسن كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك، ولما علم كل عاقل بطلان ذلك جزمنا باستناد هذه الأحكام إلى القضايا العقلية لا الأوامر والنواهي الشرعية ولا العادات.

قال: ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور.

أقول: لما استدل على مذهبه من إثبات الحسن والقبح العقليين شرع في الجواب عن شبهة الأشاعرة، وقد احتجوا بوجوه: الأول: لو كان العلم بقبح بعض الأشياء وحسنها ضروريا لما وقع التفاوت بينه وبين العلم لزيادة الكل على الجزء، والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت. (والجواب) المنع من الملازمة فإن العلوم الضرورية قد تتفاوت لوقوع التفاوت في التصورات، فقوله: (ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور) إشارة إلى هذا الجواب.

قال: وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان المخلص (1).

أقول: هذا يصلح أن يكون جوابا عن شبهتين للأشعرية: إحداهما: قالوا: لو

____________

(1) مع إمكان التخلص كما في (ش، ت) وفي (م، ص، ز) مع إمكان المخلص. وفي (د) مع عدم إمكان المخلص. وفي (ق) مع عدم إمكان التخلص. يعني إذا اضطر إلى ارتكاب القبيحين ولم يمكنه الخلاص عنهما ارتكب أقل القبيحين كالمثال الثاني في الكتاب فإنه أن يكذب غدا فالكذب قبيح، وإن لم يكذب فخلاف الوعد قبيح، لكنه يرتكب أقل القبيحين.

وظاهر الشرح حيث قال: وأيضا قد يمكن التخلص عن الكذب، يوافق عدم العدم وإن كان للعدم معنى صحيح، وكذا التخلص في المتن، ولكن قد تكرر ذكر المخلص في الكتاب ونسخ (م ص) متفقة فيه والشرح تعبير بعبارة أخرى.


الصفحة 420
كان الكذب قبيحا لكان الكذب المقتضي لتخليص النبي من يد ظالم قبيحا، والتالي باطل لأنه يحسن تخليص النبي فالمقدم مثله. الثانية: قالوا: لو قال الانسان: لأكذبن غدا، فإن حسن منه الصدق بإيفاء الوعد لزم حسن الكذب، وإن قبح كان الصدق قبيحا فيحسن الكذب.

والجواب فيهما واحد، وذلك لأن تخليص النبي أرجح من الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب، فيجب ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق. وأيضا يجب عليه ترك الكذب في غد لأنه إذا كذب في الغد فعل شيئا فيه جهتا قبح وهو العزم على الكذب وفعله، ووجها واحدا من وجوه الحسن وهو الصدق وإذا ترك الكذب يكون قد ترك تتمة العزم والكذب وهما وجها حسن، وفعل وجها واحدا من وجوه القبح وهو الكذب. وأيضا قد يمكن التخلص عن الكذب في الصورة الأولى بأن يفعل التورية أو يأتي بصورة الإخبار الكذب من غير قصد إليه، ولأن جهة الحسن هي التخلص (1) وهي غير منفكة عنه وجهة القبح هي الكذب وهي غير منفكة عنه فما هو حسن لم ينقلب قبيحا وكذا ما هو قبيح لم ينقلب حسنا.

قال: والجبر باطل.

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا: الجبر حق فينتفي الحسن والقبح العقليان والملازمة ظاهرة وبيان صدق المقدم ما يأتي والجواب الطعن في الصغرى وسيأتي البحث فيها.

المسألة الثانية
في أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب

قال: واستغناؤه وعلمه يدلان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى.

____________

(1) دليل للصورتين كلتيهما وإن كان بظاهره يناسب الثانية، فما في (م) من قوله: ولأن جهة الحسن هي التخليص، كان مفاده بينا مناسبا للصورة الأولى.


الصفحة 421
أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنه تعالى لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، ونازع الأشعرية في ذلك وأسندوا القبائح إليه تعالى الله عن ذلك، والدليل على ما اختاره المعتزلة أن له داعيا إلى فعل الحسن وليس له صارف عنه، وله صارفا عن فعل القبيح وليس له داع إليه وهو قادر على كل مقدور، ومع وجود القدرة والداعي يجب الفعل، وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح، ومن المعلوم بالضرورة أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا من جهات المفسدة فإنه يوجده، وتحريره أن الفعل بالنظر إلى ذاته ممكن وواجب بالنظر إلى علته، وكل ممكن مفتقر إلى قادر فإن علته أنما تتم بواسطة القدرة والداعي، فإذا وجدا فقد تم السبب، وعند تمام السبب يجب وجود الفعل. وأيضا لو جاز منه فعل القبيح أو الاخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده ووعيده لإمكان تطرق الكذب عليه ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وذلك يفضي إلى الشك في صدق الأنبياء ويمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه.

المسألة الثالثة
في أنه تعالى قادر على القبيح

قال: مع قدرته عليه لعموم النسبة ولا ينافي الامتناع اللاحق.

أقول: ذهب العلماء كافة إلى أنه تعالى قادر على القبيح إلا النظام، والدليل على ذلك أنا قد بينا عموم نسبة قدرته إلى الممكنات والقبيح منها فيكون مندرجا تحت قدرته. احتج بأن وقوعه منه يدل على الجهل أو الحاجة وهما منفيان في حقه تعالى. والجواب أن الامتناع هنا بالنظر إلى الحكمة فهو امتناع لاحق لا يؤثر في الإمكان الأصلي، ولهذا عقب المصنف رحمه الله الاستدلال على مراده بالجواب عن الشبهة التي له وإن لم يذكرها صريحا.


الصفحة 422

المسألة الرابعة
في أنه يفعل لغرض

قال: ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه.

أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت المعتزلة إلى أنه تعالى يفعل لغرض ولا يفعل شيئا لغير فائدة، وذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض والمقاصد. والدليل على مذهب المعتزلة أن كل فعل لا يفعل لغرض فإنه عبث والعبث قبيح، والله تعالى يستحيل منه فعل القبيح. احتج المخالف بأن كل فاعل لغرض وقصد فإنه ناقص بذاته مستكمل بذلك الغرض، والله تعالى يستحيل عليه النقصان. (والجواب) النقص أنما يلزم لو عاد الغرض والنفع إليه، أما إذا كان النفع عائدا إلى غيره فلا كما نقول: إنه تعالى يخلق العالم لنفعهم.

المسألة الخامسة
في أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

قال: وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن وللأمر والنهي (1).

أقول: مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن والكافر سواء وقعت أو لا، ويكره المعاصي سواء وقعت أو لا. وقالت الأشاعرة: كل ما هو واقع فهو مراد سواء كان طاعة أو معصية. والدليل على ما ذهب إليه المعتزلة وجهان:

الأول: أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح على ما تقدم، فكما أن فعل القبيح قبيح

____________

(1) كما في (م) وهو الصواب والشرح يوافقه. والنسخ الباقية كلها: والأمر والنهي. وعلى هذه النسخ كان معنى العبارة هكذا: وكذا ترك إرادة الحسن قبيح، وكذا ترك الأمر والنهي قبيح.

لأنه سبحانه يجب عليه الأمر بالحسن والنهي عن القبيح، ولكن شرح العلامة ناص على صحة النسخة الأولى.


الصفحة 423
فكذا إرادته قبيحة، وكما أن ترك الحسن قبيح فكذا إرادة تركه. الثاني: أنه تعالى أمر بالطاعات ونهى عن المعاصي والحكيم إنما يأمر بما يريده لا بما يكرهه، وينهى عما يكرهه لا عما يريده، فلو كانت الطاعة من الكافر مكروهة لله تعالى لما أمر بها، ولو كانت المعصية مرادة لله تعالى لما نهاه عنها، وكان الكافر مطيعا بكفره وعدم إيمانه لأنه فعل ما أراده الله تعالى منه وهو المعصية وامتنع عما كرهه وذلك باطل قطعا.

قال: وبعض الأفعال مستندة إلينا والمغلوبية غير لازمة والعلم تابع.

أقول: لما فرغ من الاستدلال شرع في إبطال حجج الخصم، وهي ثلاثة:

الأولى: قالوا: الله تعالى فاعل لكل موجود فتكون القبائح مستندة إليه بإرادته. والجواب ما يأتي من كون بعض الأفعال مستندة إلينا.

الثانية: إن الله تعالى لو أراد من الكافر الطاعة، والكافر أراد المعصية وكان الواقع مراد الكافر لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا، إذ من يقع مراده من المريدين هو الغالب. والجواب أن هذا غير لازم لأن الله تعالى أنما يريد الطاعة من العبد على سبيل الاختيار وهو أنما يتحقق بإرادة المكلف، ولو أراد الله تعالى إيقاع الطاعة من الكافر مطلقا سواء كانت عن إختيار أو إجبار لوقعت.

الثالثة: قالوا: كل ما علم الله تعالى وقوعه وجب وما علم عدمه امتنع، فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال إرادتها منه وإلا لكان مريدا لما يمتنع وجوده. والجواب أن العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل، وقد مر تقرير ذلك.

المسألة السادسة
في أنا فاعلون

قال: والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا (1).

____________

(1) ينبغي في المقام الفرق بين إسناد الفعل وإيجاده والموجد هو الوجود الحق سبحانه وتعالى، وأفعالنا مستندة إلينا، بحول الله وقوته أقوم وأقعد. وسلطانه لا يرفع عن ممكن ولا معنى للرفع أصلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، فتدبر في قوله سبحانه: وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى فالأفعال الستة موجدها هو سبحانه واستنادها إلى الخلق. والمسائل والبحث عنها حول هذا المطلب تطلب في رسالتنا المصنوعة في رد الجبر والتفويض وإثبات أمر بين الأمرين.


الصفحة 424
أقول: اختلف العقلاء هنا، فالذي ذهب إليه المعتزلة أن العبد فاعل لأفعال نفسه، واختلفوا فقال أبو الحسين: إن العلم بذلك ضروري، وهو الحق الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله. وقال آخرون: إنه إستدلالي. وأما جهم بن صفوان فإنه قال: إن الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد وإضافتها إليهم على سبيل المجاز، فإذا قيل:

فلان صلى وصام، كان بمنزلة قولنا: طال وسمن. وقال ضرار بن عمرو والنجار وحفص الفرد (1) وأبو الحسن الأشعري: إن الله تعالى هو المحدث لها والعبد مكتسب، ولم يجعل لقدرة العبد أثرا في الفعل بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، وهذا الاقتران هو الكسب، وفسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة ومعصية صفتان واقعتان بقدرة العبد. وقال أبو إسحاق الإسفرايني من الأشاعرة: إن الفعل واقع بمجموع القدرتين. والمصنف التجأ إلى

____________

(1) في غير واحد من كتب الملل والنحل: وحفص بن الفرد. والفرد بالفاء، وبالقاء تصحيف.

قال الأستاذ في شرحه على التجريد بالفارسية ما هذا لفظه: وحفص القرد يعني بوزينه لقب است. أقول الظاهر أن تحريف الفرد بالقرد نشأ من تكفير الشافعي إياه. وفي أول المقالة الخامسة من الفن الثالث من الفهرست لابن النديم (ص 229 ط رضا تجدد): وكان حفص الفرد من المجبرة من أكابرهم نظيرا للنجار. ويكنى أبا عمرو. وكان من أهل مصر، قدم البصرة فسمع بأبي الهذيل واجتمع معه وناظره فقطعه أبو الهذيل، وكان أولا معتزليا ثم قال بخلق الأفعال وكان يكنى أبا يحيى، ثم عد كتبه.

وفي لسان الميزان للعسقلاني (ص 330 ج 1 ط حيدرآباد، الترجمة رقم 1355) حفص القرد (معجمة بالقاف) مبتدع. قال النسائي صاحب كلام لا يكتب حديثه وكفره الشافعي في مناظرته.

وفي ميزان الاعتدال (1 / 564 الترجمة رقم 2143) مثل ما في اللسان.


الصفحة 425
الضرورة هاهنا فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختيارا وبين حركة الحجر الهابط، ومنشأ الفرق هو اقتران القدرة في أحد الفعلين به وعدمه في الآخر.

قال: والوجوب للداعي (1) لا ينافي القدرة كالواجب.

أقول: لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبه الخصم، وتقرير الشبهة الأولى أن صدور الفعل من المكلف إما أن يقارن تجويز لا صدوره أو امتناع لا صدوره، والثاني يستلزم الجبر والأول إما أن يترجح منه الصدور على لا صدوره لمرجح أو لا لمرجح، والثاني يلزم منه الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح وهو محال، والأول يستلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما يجب معه الترجيح، وهو ينافي التقدير ويستلزم الجبر.

والجواب أن الفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن وواجب بالنظر إلى داعيه وذلك لا يستلزم الجبر، فإن كل قادر فإنه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما في حق الواجب تعالى فإن هذا الدليل قائم في حقه تعالى ووجه المخلص ما ذكرناه، على أن هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح، وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم، فما أدري لم كان الجواب مسموعا هناك ولم يكن مسموعا هاهنا.

قال: والإيجاد لا يستلزم العلم إلا مع اقتران القصد فيكفي الاجمال (2).

أقول: هذا الجواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة. وبيان بطلان التالي أنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها وإنما نقصد الحركة إلى المنتهى وإن لم نقصد جزئيات تلك الحركة.

____________

(1) كما في (ق ش د ز) وفي (م ت): والوجوب الداعي. وفي (ص): والوجوب والداعي.

والشرح يوافق ما اخترناه وهي النسخ الأربع المذكورة.

(2) كما في (م د). والنسخ الأخرى: فيكفي الاجمالي، مع الياء.