واحتج القاضي بأن مستحق العوض لا يقدر على استيفائه ولا على المطالبة به. ولا يعرف مقداره ولا صفته فصار كالصبي المولى عليه لا يصح له إسقاط حقه عن غريمه.
والوجه عندي (1) جواز ذلك لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب، ويمكن نقل هذا الحق إليه فكان جائزا. والحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع الصبي من التصرف في ماله لمصلحة شرعية حتى أنا لولا الشرع لجوزنا من الصبي المميز إذا علم دينه، وأن هبته (2) إحسان إلى الغير وآثر هذا الإحسان لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاختيار في الهبة لأنه كالبالغ لكن الشرع فرق بينهما، وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبته مستحقة لغيره من العباد لما ذكرنا من أنه حقه، وفي هبته انتفاع الموهوب وإمكان نقل هذا الحق، أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا لأنه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه.
قال: والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حد الرضا عند كل عاقل وعلينا يجب مساواته.
أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه إما أن يكون علينا أو عليه تعالى، أما العوض الواجب عليه تعالى فإنه يجب أن يكون زائدا عن الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل زيادة تنتهي إلى حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به، لأنه لولا ذلك لزم الظلم، أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل، وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته لما
____________
(1) هو كلام الشارح العلامة خالف المصنف وأبا هاشم وقاضي القضاة في عدم صحة إسقاط العوض علينا، واختار رأي أبي الحسين في صحة إسقاط العوض علينا، ثم صرح بالفرق بين العوض والثواب بأن الأول يصح إسقاطه علينا دون الثاني، فتبصر.
(2) باتفاق النسخ كلها إلا (ز) ففيها: من الصبي المميز إذا علم دينه بأن هبته.. الخ، ثم الظاهر أن دينه فتح الدال.
المسألة الخامسة عشرة
في الآجال
قال: وأجل الحيوان (1) الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياته فيه.
أقول: لما فرغ من البحث عن الأعواض انتقل إلى البحث عن الآجال، وإنما بحث عنه المتكلمون لأنهم بحثوا عن المصالح والألطاف، وجاز أن يكون موت انسان في وقت مخصوص لطفا لغيره من المكلفين فبحثوا عنه بعد بحثهم عن المصالح. (واعلم) أن الأجل هو الوقت، ونعني بالوقت هو الحادث أو ما يقدر تقدير الحادث، كما يقال: جاء زيد عند طلوع الشمس، فإن طلوع الشمس أمر حادث معلوم لكل أحد فجعل وقتا لغيره، ولو فرض جهالة طلوع الشمس وعلم مجئ زيد لبعض الناس صح أن يقال: طلعت الشمس عند مجئ زيد. إذا عرفت هذا فأجل الحيوان هو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة ذلك الحيوان فيه، وأجل الدين هو الوقت الذي جعله الغريمان محلا له.
قال: والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه.
أقول: اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل، فقالت المجبرة: إنه كان يموت قطعا، وهو قول أبي الهذيل العلاف. وقال بعض البغداديين: إنه كان يعيش قطعا.
وقال أكثر المحققين: إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز أن يموت. ثم اختلفوا فقال قوم منهم: إن من كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان. وقال الجبائيان
____________
(1) وفي (ت): وأجل الحيوان الموقت الذي على الله تعالى بطلان حياته فيه. والشرح يوافق الأول. وكلمة على في (ت) تحريف علم لأن رسم الخط القديم كان علم قريبا من على.
واحتج الموجبون لموته بأنه لولاه لزم خلاف معلوم الله تعالى وهو محال.
واحتج الموجبون لحياته بأنه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسنا إليه، ولما وجب القود لأنه لم يفوت حياته.
والجواب عن الأول ما تقدم من أن العلم لا يؤثر في المعلوم، وعن الثاني بمنع الملازمة إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضا زائدا على الله تعالى فبذبحه فوت عليه الأعواض الزائدة، والقود من حيث مخالفة الشارع إذ قتله حرام عليه وإن علم موته، ولهذا لو أخبر الصادق بموت زيد لم يجز لأحد قتله.
قال: ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلف.
أقول: لا استبعاد في أن يكون أجل الانسان لطفا لغيره من المكلفين ولا يمكن أن يكون لطفا للمكلف نفسه، لأن الأجل يطلق على عمره وحياته، ويطلق على أجل موته. (أما الأول) فليس بلطف لأنه تمكين له من التكليف واللطف زائد على التمكين، (وأما الثاني) فهو قطع التكليف فلا يصح أن يكلف بعده فيكون لطفا له فيما يكلفه من بعد واللطف لا يصح أن يكون لطفا فيما مضى.
المسألة السادسة عشرة
في الأرزاق
قال: والرزق ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه.
أقول: الرزق عند المجبرة ما أكل سواء كان حراما أو حلالا، وعند المعتزلة أنه ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المنتفع به لقوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم) والله تعالى لا يأمر بالإنفاق من الحرام، قالوا: ولا يوصف الطعام المباح في الضيافة أنه رزقه ما لم يستهلكه لأن للمبيح منعه قبل استهلاكه بالمضغ والبلع،
قال: والسعي في تحصيله قد يجب ويستحب ويباح ويحرم (1).
أقول: ذهب جمهور العقلاء إلى أن طلب الرزق سائغ، وخالف فيه بعض الصوفية لاختلاط الحرام بالحلال بحيث لا يتميز، وما هذا سبيله يجب الصدقة به فيجب على الغني دفع ما في يده إلى الفقير بحيث يصير فقيرا ليحل له أخذ الأموال الممتزجة بالحرام ولأن في ذلك مساعدة للظالمين بأخذ العشور والخراجات ومساعدة الظالم محرمة. والحق ما قلناه ويدل عليه المعقول والمنقول، أما المعقول فلأنه دافع للضرر فيكون واجبا. وأما المنقول فقوله تعالى: (وابتغوا من فضل الله) إلى غيرها من الآيات، وقوله عليه السلام: (سافروا تغنموا) أمر بالسفر لأجل الغنيمة.
والجواب عن الأول بالمنع من عدم التميز، إذ الشارع ميز الحلال من الحرام
____________
(1) كذا في النسخ كلها إلا في (م) ففيها: ويباح ويكره ويحرم. والشرح على وزان النسخ الأولى.
المسألة السابعة عشرة
في الأسعار
قال: والسعر تقدير العوض الذي يباع به الشئ وهو رخص وغلاء ولا بد من اعتبار العادة واتحاد الوقت والمكان ويستند (3) إليه تعالى وإلينا أيضا.
أقول: السعر هو تقدير العوض الذي يباع به الشئ وليس هو الثمن ولا المثمن وهو ينقسم إلى رخص وغلاء، فالرخص هو السعر المنحط عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان، والغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان. وإنما اعتبرنا الزمان والمكان لأنه لا يقال: إن الثلج قد رخص سعره في الشتاء عند نزول الثلج لأنه ليس أوان بيعه، ويجوز أن يقال:
رخص في الصيف إذا نقص سعره عما جرت به عادته في ذلك الوقت، ولا يقال:
رخص سعره في الجبال التي يدوم نزوله فيها لأنها ليست مكان بيعه، ويجوز أن يقال: رخص سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها.
____________
(1) باتفاق النسخ كلها.
(2) وفي (ش): لا معونة الظلمة. وفي (د): لا معونة، نسخة. والنسخ الأخرى هي ما اخترناه في الكتاب.
(3) أي السعر، وإن شئت قلت: كل واحد من الرخص والغلاء. وفي (ش ق د): ويستندان، أي الرخص والغلاء، والمال واحد. وفي (م ص ز ت): ويستند. وظاهر الشرح يوافق الوجهين، والنسخ الثانية أمتن من الأولى غالبا كما اخترناه.
المسألة الثامنة عشرة
في الأصلح
قال: والأصلح قد يجب لوجود الداعي وانتفاء الصارف.
أقول: اختلف الناس هنا، فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما: إن الأصلح ليس بواجب على الله تعالى. وقال البلخي: إنه واجب، وهو مذهب البغداديين وجماعة من البصريين. وقال أبو الحسين البصري: إنه يجب في حال دون حال، وهو اختيار المصنف رحمه الله. وتحرير صورة النزاع أن الله تعالى إذا علم لم انتفاع زيد بإيجاد قدر من المال له وانتفاء الضرر به في الدين عنه وعن غيره من المكلفين هل يجب إيجاد ذلك القدر له أم لا؟ احتج الموجبون بأن لله تعالى داعيا إلى إيجاده وليس له صارف عنه، فيجب ثبوته لأن مع ثبوت القدرة ووجود الداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل. وبيان تحقق الداعي أنه إحسان خال عن جهات المفسدة، وبيان انتفاء الصارف أن المفاسد منتفية ولا مشقة فيه.
واحتج النفاة بأن وجوبه يؤدي إلى المحال فيكون محالا، بيان الملازمة أنا لو فرضنا انتفاء المفسدة في الزائد على ذلك القدر وثبوت المصلحة فإن وجب
قال أبو الحسين: إذا كان ذلك القدر مصلحة خالية عن المفسدة وكان الزائد عليه مفسدة وجب عليه أن يعطيه ذلك القدر لوجود الداعي وانتفاء الصارف، وإذا لم يكن في الزائد مفسدة إلى غير النهاية فإنه تعالى قد يفعل ذلك القدر وقد لا يفعله، لأن من دعاه الداعي إلى الفعل وكان ذلك الداعي حاصلا في فعل ما يشق فإن ذلك يجري مجرى الصارف عنه فيصير الداعي مترددا بين الداعي والصارف فلا يجب الفعل ولا الترك، وتمثل بأن من دعاه الداعي على دفع درهم إلى فقير ولم يظهر له ضرر في دفعه فإنه يدفعه إليه، فإن حضره من الفقراء جماعة يكون الدفع إليهم مساويا للدفع إلى الأول ويشق عليه الدفع إليهم لحصول الضرر فإنه قد يدفع الدرهم إلى الفقير منهم وقد لا يدفعه، فإذا كان حصول الداعي فيما يشق يقتضي تجويز العدم فحصوله فيما يستحيل وجوده أولى لانتفاء الفعل معه، فلهذا قال: قد يجب الأصلح في بعض الأحوال دون بعض. وللنفاة وجوه أخر ذكرناها في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء.
البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يدل عليه واستفادة الحكم فيما لا يدل وإزالة الخوف واستفادة الحسن والقبح والنافع والضار (1) وحفظ النوع الانساني وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة وتعليمهم الصنائع الخفية والأخلاق والسياسات والأخبار بالعقاب والثواب فيحصل اللطف للمكلف.
أقول: في هذا المقصد مسائل:
المسألة الأولى
في حسن البعثة
اختلف الناس في ذلك، فذهب المسلمون كافة وجميع أرباب الملل وجماعة من الفلاسفة إلى ذلك ومنعت البراهمة منه، والدليل على حسن البعثة أنها قد اشتملت على فوائد وخلت عن المفاسد فكانت حسنة قطعا، وقد ذكر المصنف رحمه الله جملة من فوائد البعثة:
منها: أن يعتضد العقل بالنقل فيما يدل العقل عليه من الأحكام كوحدة الصانع وغيرها، وأن يستفاد الحكم من البعثة فيما لا يدل العقل عليه كالشرائع وغيرها من
____________
(1) كما في (ق ش د ز ت) وفي (م ص): والمنافع والمضار. ونسخ الشرح القديم موافقة للأولى.
ومنها: إزالة الخوف الحاصل للمكلف عند تصرفاته، إذ قد علم بالدليل العقلي أنه مملوك لغيره وأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح، فلولا البعثة لما علم حسن التصرفات فيحصل الخوف بالتصرف وبعدمه، إذ يجوز العقل طلب المالك من العبد فعلا لا سبيل إلى فعله إلا بالبعثة فيحصل الخوف.
ومنها: أن بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة، ثم الحسنة منها ما يستقل العقل بمعرفة حسنه ومنها ما لا يستقل وكذا القبيحة ومع البعثة يحصل معرفة الحسن والقبح اللذين لا يستقل العقل بمعرفتهما.
ومنها: أن بعض الأشياء نافعة لنا مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها ضار لنا مثل كثير من السموم والحشائش والعقل لا يدرك ذلك كله، وفي البعثة تحصل هذه الفائدة العظيمة.
ومنها: أن النوع الانساني خلق لا كغيره من الحيوانات فإنه مدني بالطبع يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه لا يتم نظامه إلا بها وهو عاجز عن فعل الأكثر منها إلا بمشاركة ومعاونة والتغلب موجود في الطبائع البشرية بحيث يحصل التنافر المضاد لحكمة الاجتماع فلا بد من جامع يقهرهم على الاجتماع وهو السنة والشرع، ولا بد للسنة من شارع يسنه ويقرر ضوابطها ولا بد وأن يتميز ذلك الشخص من غيره من بني نوعه لعدم الأولوية، وذلك المائز لا يجوز أن يكون مما يحصل من بني النوع لوقوع التنافر في التخصيص فلا بد وأن يتميز من قبل الله تعالى بمعجزة ينقاد البشر إلى تصديق مدعيها ويخوفهم من مخالفته ويعدهم على متابعته بحيث يتم النظام ويستقر حفظ النوع الإنساني على كماله الممكن له.
ومنها: أن أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات وتحصيل المعارف واقتناء الفضائل، فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه وكمال إدراكه وشدة استعداده للاتصال بالأمور العالية، وبعضهم عاجز عن ذلك بالكلية، وبعضهم متوسط الحال وتتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحد
ومنها: أن النوع الإنساني محتاج إلى آلات وأشياء نافعة في بقائه كالثياب والمساكن وغيرها وذلك مما يحتاج في تحصيله إلى معرفة عمله والقوة البشرية عاجزة عنه، ففائدة النبي في ذلك تعليم هذه الصنائع النافعة الخفية.
ومنها: أن مراتب الأخلاق وتفاوتها معلوم يفتقر فيه إلى مكمل بتعليم الأخلاق والسياسات بحيث تنتظم أمور الانسان بحسب بلده ومنزله.
ومنها: أن الأنبياء يعرفون الثواب والعقاب على الطاعة وتركها فيحصل للمكلف اللطف ببعثتهم فتجب بعثتهم لهذه الفوائد.
قال: وشبهة البراهمة باطلة بما تقدم.
أقول: احتجت البراهمة على انتفاء البعثة بأن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة ولا فائدة فيه، وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله. وهذه الشبهة باطلة بما تقدم في أول الفوائد وذلك أن نقول: لم لا يجوز أن يأتوا بما يوافق العقول وتكون الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل؟ أو نقول: لم لا يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول ولا تهتدي إليه وإن لم يكن مخالفا للعقول؟ بمعنى أنهم لا يأتون بما يقتضي العقل نقيضه مثل كثير من الشرائع والعبادات التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها.
المسألة الثانية
في وجوب البعثة
قال: وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية.
أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إن البعثة واجبة. وقالت الأشعرية:
إنها غير واجبة. احتجت المعتزلة بأن التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية
المسألة الثالثة
في وجوب العصمة
قال: ويجب في النبي العصمة (1) ليحصل الوثوق فيحصل الغرض ولوجوب متابعته وضدها والإنكار عليه (2).
أقول: اختلف الناس هنا، فجماعة المعتزلة جوزوا الصغائر على الأنبياء إما على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم، أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم، أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم. وذهبت الأشعرية والحشوية إلى أنه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلا الكفر والكذب. وقالت الإمامية: إنه تجب عصمتهم عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها والدليل عليه وجوه: أحدها: إن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام أنما يحصل بالعصمة فتجب العصمة تحصيلا للغرض.
وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية جوزوا في
____________
(1) الحق أن السفير الإلهي مؤيد بروح القدس، معصوم في جميع أحواله وأطواره وشؤونه قبل البعثة أو بعدها، فالنبي معصوم في تلقي الوحي وحفظه وإبلاغه كما أنه معصوم في أفعاله مطلقا بالأدلة العقلية والنقلية فمن أسند إليه الخطأ فهو مخطئ، ومن أسند إليه السهو فهو أولى به. ونقل الروايات والأخبار بل الآيات القرآنية في ذلك يؤدي إلى الإسهاب وتنزيه الأنبياء لعلم الهدى السيد المرتضى أغنانا عن ورود البحث عن هذه المسائل.
(2) وفي (ق د): للانكار عليه. والباقية كلها: والانكار عليه.
قال: وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكلما ينفر عنه من دناءة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والغلظة والابنة وشبهها والأكل على الطريق وشبهه.
أقول: يجب أن يكون في النبي هذه الصفات التي ذكرها، وقوله: وكمال العقل، عطف على العصمة أي ويجب في النبي كمال العقل وذلك ظاهر، وأن يكون في غاية الذكاء والفطنة وقوة الرأي بحيث لا يكون ضعيف الرأي مترددا في الأمور متحيرا، لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه، وأن لا يصح عليه السهو لئلا يسهو عن بعض ما أمر بتبليغه، وأن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات لأن ذلك منفر عنه، وأن يكون منزها عن الفظاظة والغلظة لئلا يحصل النفرة عنه، وأن يكون منزها عن الأمراض المنفرة (1) نحو الابنة وسلس الريح والجذام والبرص وعن
____________
(1) في خصال الصدوق وخامس البحار في كتاب النبوة (ص 204 ط 1).
في خبر القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: إن أيوب عليه السلام ابتلى سبع سنين من غير ذنب (بغير ذنب - خ ل) وإن الأنبياء عليهم السلام لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا لا صغيرا ولا كبيرا، وقال: إن أيوب عليه السلام من جميع ما ابتلي به لم تنتئن له رائحة ولا قبحت له صورة ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ولا استقذره أحد رآه ولا استوحش منه أحد شاهده ولا تدود شئ من جسده، وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى من التأييد والفرج. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإنما ابتلاه الله عز وجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى شاهدوه وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله تعالى على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه ولا فقيرا لفقره ولا مريضا لمرضه وليعلموا أنه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء بأي سبب شاء ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشقاوة لمن شاء وسعادة لمن شاء، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا قوة لهم إلا به، إنتهى.
قوله صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس بلاء الأنبياء. ومن ذلك العظم الضر بالضم قال عز من قائل: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) إذ الضر بالفتح الضر في كل شئ، وبالضم الضرر في النفس، ذكره في الكشاف.
قال علم الهدى في تنزيه الأنبياء: فإن قيل أفتصحون ما روي من أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟ قلنا: أما العلل المستقذرة التي تنفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الأنبياء عليهم السلام لأن النفور ليس بواقف على الأمور القبيحة بل قد يكون من الحسن والقبح معا وليس ينكر أن يكون أمراض أيوب عليه السلام وأوجاعه ومحنه في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما تزيد في الغم والألم على ما ينال المجذوم وليس ينكر تزايد الألم فيه عليه السلام وإنما ينكر ما اقتضى التنفير.
قال في مجمع البيان عند قوله سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (آل عمران 159).
في هذه الآية دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره صلى الله عليه وسلم أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم إلى التواضع وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وهذه كلها من دواعي الترفع. ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك ويجلس في الأرض ويأكل على الأرض وكان يدعو إلى الله من غير زئر وكهر ولا زجر. ولقد أحسن من مدحه في قوله:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها | أبر وأوفى ذمة من محمد |
إلى أن قال رحمه الله: وفيها أيضا دلالة على ما نقوله في اللطف لأنه سبحانه نبه على أنه لولا رحمته لم يقع اللين والتواضع ولو لم يكن كذلك لما أجابوه فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق، وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر لأن التنفير في ذلك أكثر.
المسألة الرابعة
في الطريق إلى معرفة صدق النبي
قال: وطريق معرفة صدقه (2) ظهور المعجز على يده وهو ثبوت (3) ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى.
أقول: لما ذكر صفات النبي وجب عليه ذكر بيان معرفة صدقه وهو شئ واحد وهو ظهور المعجز على يده، ونعني بالمعجز ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى، لأن الثبوت والنفي سواء في الإعجاز فإنه لا فرق بين قلب العصا حية وبين منع القادر على رفع أصغر الأشياء. وشرطنا
____________
(1) في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغداة ومعه كسرة قد غمسها في اللبن وهو يأكل ويمشي وبلال يقيم الصلاة. وفيه عن أمير المؤمنين عليه السلام: لا بأس أن يأكل الرجل وهو يمشي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. نقله الشيخ بهاء الدين رحمه الله في الكشكول (ص 571 ط 1) فتدبر في الروايتين فإن في الأولى ناصا على أنه خرج قبل الغداة فهي تقيد الثانية على وجه لا ينافي التنافر العقلي.
(2) الحق أنه نفسه دليل لنفسه كما أن الدليل دليل لنفسه أي دليل كل أمر فإنما هو دليل لنفسه.
كما أن الوحي إذا أنزل إليه وجبرئيل نزل به على قلبه أدرك النبوة بنفسه وصدقها بذاته إدراكا ما اعتراه وسوسة، وتصديقا ما اعتوره دغدغة بل هو على بينة من ربه رأى نبوته على بصيرة أشد من رؤية الشمس البازغة على بصر.
(3) المعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة.
ولا بد في المعجز من شروط: أحدها: أن يعجز عن مثله أو ما يقاربه الأمة المبعوث إليها. الثاني: أن يكون من قبل الله تعالى أو بأمره. الثالث: أن يكون في زمان التكليف، لأن العادة تنتقض عند أشراط الساعة. الرابع: أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جاريا مجرى ذلك، ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه وأنه لا مدعي للنبوة غيره ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه فيكون ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه لأنه يعلم تعلقه بدعواه وأنه لأجله ظهر كالذي ظهر عقيب دعواه. الخامس: أن يكون خارقا للعادة.
المسألة الخامسة
في الكرامات
قال: وقصة مريم (2) وغيرها تعطي جواز ظهوره على الصالحين.
قال: اختلف الناس هنا، فذهب جماعة من المعتزلة إلى المنع من إظهار
____________
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: مع عدم برء عماه.
(2) حكم حكيم وكلام كامل رصين لأن النفوس الانسانية مجبولة ومفطورة على الاعتلاء إلى مقاماتها الشامخة التي تعطي المفاتيح وتصرف في مادة الكائنات بإذن الله سبحانه، والأنبياء والأوصياء دعوا ما سواهم من النفوس الانسانية إلى الارتقاء إلى معارجهم كما يناديك بذلك القرآن الفرقان بقوله السلام الصدق تعالوا، فلولا هذه الشأنية لهم لما وقعوا في محل الخطاب بذلك الأمر المستطاب، وهم عليهم السلام معصومون في جميع شؤون أحوالهم، فحاشاهم أن يدعوا الذين ليسوا بمستحقين لذلك الخطاب وقابلين له فإن هذا من أعمال الجهال قال تعالى شأنه: (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) (البقرة 68) نعم يجب الفرق في المقام بين النبوة الإنبائية والنبوة التشريعية على ما حررناهما في سائر رسائلنا، والإشارات القرآنية والمأثورات المتظافرة معاضدة على أفصح لسان وأنطق بيان في ذلك.
قال: ولا يلزم خروجه عن الأعجاز ولا التنفير ولا عدم التميز ولا إبطال دلالته ولا العمومية.
أقول: هذه وجوه استدل بها المانعون من المعتزلة: الأول: قالوا: لو جاز ظهور المعجزة على غير الأنبياء إكراما لهم لجاز ظهورها عليهم وإن لم يعلم بها غيرهم، لأن الغرض هو سرورهم، وإذا جاز ذلك بلغت في الكثرة إلى خروجها عن الإعجاز. والجواب المنع من الملازمة، لأن خروجها عن حد الإعجاز وجه قبح ونحن أنما نجوز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح فنجوز ظهورها ما لم تبلغ في الكثرة إلى حد خروجها عن الإعجاز.
الثاني: قالوا: لو جاز ظهور المعجزة على غير النبي لزم التنفير عن الأنبياء، إذ علة وجوب طاعتهم ظهور المعجزة عليهم، فإذا شاركهم في ذلك من لا تجب طاعته هان موقعه، ولهذا لو أكرم (2) الرئيس بنوع ما كل أحد هان موقع ذلك النوع
____________
(1) الرهص بالكسر العرق الأسفل من الحائط، يقال: رهصت الحائط بما يقيمه، قاله الجوهري في الصحاح. وفي منتهى الإرب: رهص بالكسر چينه بن ديوار. والإرهاص إحداث معجزات تدل على بعثته وكأنه تأسيس لقاعدة نبوته فكأنه العرق الأسفل من الحائط يقال له الرهص بالنسبة إلى ما يبنى عليه ويأتي بعده.
(2) أي هان موقع الإعجاز. والنسخ كلها متفقة على ما اخترناه، وضمير موقعهم كما في المطبوعة من قبل راجع إلى الأنبياء.
الثالث: احتجاج أبي هاشم قال: المعجز يدل بطريق الإبانة والتخصيص، وفسره قاضي القضاة بأن المعجز يدل على تميز النبي عن غيره، إذ الأمة مشاركون له في الانسانية ولوازمها فلولا المعجز لما تميز عنهم فلو شاركه غيره فيه لم يحصل الامتياز. والجواب أن امتياز النبي يحصل بالمعجز واقتران دعوى النبوة، وهذا شئ يختص به دون غيره ولا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له في كل شئ.
الرابع: لو جاز إظهار المعجز على غير النبي لبطلت دلالته على صدق مدعي النبوة، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة أن ثبوت المعجز في غير صورة النبوة ينفي اختصاصه بها، وحينئذ لا يظهر الفرق بين مدعي النبوة وغيرها في المعجز فبطلت دلالته، إذ لا دلالة للعام على الخاص. (والجواب) المنع من الملازمة، لأن المعجز مع الدعوى مختص بالنبي، فإذا ظهرت المعجزة على شخص فإما أن يدعي النبوة أو لا، فإن ادعاها علمنا صدقه إذ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا، وإن لم يدع النبوة لم يحكم بنبوته. والحاصل أن المعجزة لا تدل على النبوة ابتداء بل تدل على صدق الدعوى، فإن تضمنت الدعوى النبوة دلت المعجزة على تصديق المدعي في دعواه ويستلزم ذلك ثبوت النبوة.
الخامس: قالوا: لو جاز إظهار المعجز على صادق ليس بنبي لجاز إظهاره على كل صادق، فجاز إظهار المعجز على المخبر بالجوع والشبع وغيرهما.
والجواب لا يلزم (1) العمومية أي لا يلزم إظهار المعجز على كل صادق إذ نحن أنما نجوز إظهاره على مدعي النبوة أو الصلاح إكراما له وتعظيما، وذلك لا يحصل
____________
(1) النسخ كلها متفقة على ما اخترناه في المقام.