الصفحة 27
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القديم الواحد، الكريم الماجد، المقدس بكماله عن الشريك والضد والمعاند، المتنزه بوجوب وجوده عن الوالدة والصاحبة والولد والوالد، أحمده حمد معترف بآلائه غير شاك ولا جاحد، وأشكره على إنعامه المتضاعف المتزايد، شكرا يعجز عنه الراكع والساجد، والصلاة على سيد كل زاهد وأشرف كل عابد، محمد المصطفى وعترته الأكارم والأماجد، صلاة تدوم بدوام الأعصار والأوابد.

أما بعد، فهذه رسالة شريفة ومقالة لطيفة، اشتملت على أهم المطالب(1) في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة وهي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان، والتخلص من غضب الرحمن، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من مات لم ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية "(2) خدمت بها خزانة السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم،

____________

(1) في ش 1: و.

(2) وهو حديث متفق عليه بين علماء المسلمين وقد تناقله علماء الخاصة العامة بأسانيد ألفاظ مختلفة تتفق بأجمعها في مضمون واحد. وعلى سبيل المثال لا للحصر فقد أرده الكليني في الكافي 1: 376، باب من مات و ليس له إمام من أئمة الهدى بسنده عن الفضيل بن يسار قال: ابتدأنا أبو عبد الله يوما وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية. فقلت: قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: إي والله قد قال قلت:

فكل من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟ قال: نعم.

ثم أورد ثلاثة أحاديث أخي في هذا الباب.

وروي في 1: 378 - 380، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام بسنده عن حماد بن عبد الأعلى، قال: سألت أبا عبد الله عن قول العامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، فقال: الحق والله... الحديث بطوله. وروى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا 2: 58 بسنده عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من مات وليس له إمام من ولدي، مات ميتة جاهلية.

وروى البرقي في المحاسن: 153 - 154 عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية... الحديث.

وروى في ص 154 عن الصادق عليه السلام، قال: إن الأرض لا تصلح إلا بالإمام، ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية... الحديث وروى في هذا الباب أربعة أحاديث أخرى.

وعقد العلامة المجلسي بابا في كتابه البحار في وجوب معرفة الإمام، وأنه لا يعذر الناس بترك الولاية، وأن من مات لا يعرف إمامه أوشك فيه، مات ميتة جاهلية وكفر ونفاق. أنظر البحار، 23: 76 - 95.

أما العامة فقد روى أحمد في مسنده 4: 96 / الحديث 16434 بسنده عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من مات بغير إمام، مات ميتة جاهلية.

وفي 3: 446 / الحديث 15269 بسنده عن عبد الله بن عامر، عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله من مات وليست عليه طاعة، مات ميتة جاهلية، فإن خلعها من بعد عقدها في عنقه، لقي الله تبارك وتعالى وليست له حجة.

ورواه البخاري في تاريخه 6: 445 بسنده عن عبد الله بن عامر بلفظ من مات ولا طاعة عليه، مات ميتة جاهلية.

وروى الطبراني في معجمه الكبير: 10 / الحديث 10678 بسند عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ريقة الإسلام من عنقه، ومن مات ليس عليه إمام فميتته جاهلية...

الحديث.

ورواه في معجمة الأوسط 4: 243 / الحديث 3429 عن ابن عباس بلفظ قريب. وروى الديلمي في الفردوس 5: 528 / الحديث 8982 عن علي عليه السلام مرفوعا في قوله تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم): بإمام زمانهم وكتاب ربهم وبسنة نبيهم.

وروى ابن سعد في طبقاته 5: 144 بسنده عن أمية بن محمد بن عبد الله بن مطيع، أن عبد الله بن مطيع أراد أن يفر من المدينة ليالي فتنة يزيد بن معاوية، فسمع بذلك عبد الله بن عمر، فخرج إليه حتى جاءه، قال: أين تريد يا بن عم؟ فقال: لا أعطيهم طاعة أبدا فقال: يا بن عم، لا تفعل، فإني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهلية.

ونلاحظ كيف يحاول عبد الله بن عمر تأويل حديث رسول الله ليتماشى مع مهادنة الظلمة، فإن من الجلي لكل ذي بصيرة أن الإمام الذي يموت من جهله ميتة جاهلية هو محيي سنة رسول الله لا هادمها، وهو ناصر الدين لا مقوضه، وهو حامي المسلمين لا مستبيح دمائهم وأعراضهم.

أقلا يسأل المسلم نفسه: من هو إمامي في هذا العصر؟ وبمن سيدعوني ربي يوم القيامة يوم يدعو كل أناس بإمامهم؟ وبيعة من أعقد في عنقي لأموت - حين أموت - على سنة الإسلام، لا ميتة جاهلية؟

تلك أسئلة حري بالمسلم أن يفكر فيها، وأن يسعى للإجابة عليها. وقد رسم المصنف " قده " في هذا الكتاب الخطوط العريضة للمنهج الأكمل: منهاج الكرامة في معرفة الإمامة. فجزاء الله خير جزاء المحسنين والمجاهدين.

ونذكر في الخاتمة بأن ما أوردناه عن علماء العامة كان على سبيل المثال لا الحصر، ونحيل الراغب على المصادر الحديثة للعامة والخاصة.

أنظر: معجم أحاديث المهدي 2: 247 - 254، ملحقات إحقاق ج 13، جامع الأحاديث للسيوطي (الجامع الصغير: وزوائد، والجامع الكبير) ينابيع المودة.


الصفحة 28

الصفحة 29
ملك ملوك طوائف العرب والعجم، مولى النعم، ومسند الخير والكرم، شاهنشاه المعظم، غياث الحق والملة والدين، أولجايتو محمد خدابنده محمد خلد الله سلطانه، وثبت قواعد ملكه وشيد أركانه، وأمده بعنايته وألطافه، وأيده بجميل إسعافه، وقرن دولته بالدوام إلى يوم القيامة، قد لخصت فيها خلاصة الدلائل، وأشرت إلى رؤوس المسائل، من غير تطويل ممل، ولا إيجاز محل، وسميتها " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. ورتبتها على فصول:


الصفحة 30

الصفحة 31

الفصل الأول

في نقل المذاهب في هذه المسألة:

ذهبت الإمامية إلى أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، وأن أفعاله إنما تقع لغرض صحيح وحكمة، وأنه لا يفعل الظلم ولا والعبث، وأنه رؤوف بالعباد يفعل بهم ما هو الأصلح لهم والأنفع، وأنه تعالى كلفهم تخييرا لا إجبارا، ووعدهم بالثواب(1) وتوعدهم بالعقاب على لسان أنبيائه ورسله المعصومين، بحيث لا يجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي، وإلا لم يبق وثوق بأقوالهم، فتنتفي فائدة البعثة.

ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالأمة، فنصب أولياء معصومين، ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطائهم، فينقادون إلى أوامرهم، لئلا يخلي الله تعالى العالم من لطفه ورحمته.

وأنه تعالى لما بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وآله، قام بنقل الرسالة، ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب، ثم من بعده ولده الحسن الزكي، ثم على الحسين الشهيد، ثم على علي بن الحسين زين العابدين، ثم على محمد بن علي الباقر، ثم على جعفر بن محمد الصادق، ثم على موسى بن جعفر الكاظم، ثم على علي بن موسى الرضا، ثم على محمد بن علي الجواد، ثم على علي بن محمد الهادي، ثم على الحسن بن علي العسكري، ثم على الخلف الحجة محمد بن الحسن

____________

(1) في " ر " الثواب.


الصفحة 32
عليهم السلام، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمت إلا عن وصية بالإمامة.(1)

وذهب أهل السنة إلى خلاف ذلك كله، فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله، تعالى، وجوزوا عليه فعل القبيح والاخلال بالواجب، وأنه تعالى لا يفعل لغرض، بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض، ولا لحكمة البتة.

وأنه تعالى يفعل الظلم والعبث، وأنه لا يفعل ما هو الأصلح للعباد، بل ما هو الفساد في الحقيقة لأن فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مستندة إليه، تعالى الله عن ذلك.

وأن المطيع لا يستحق ثواب، والعاصي لا يستحق عقابا، بل قد يعذب المطيع طول عمره، المبالغ في امتثال أوامره تعالى، كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها، كإبليس وفرعون.

وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الخطاء والزلل والفسوق والكذب والسهو، وغير ذلك(2).

____________

(1) أنظر: الاعتقادات للشيخ الصدوق: 66 - 70 " أوائل المقالات " للشيخ المفيد: 48 - 49.

(2) قال الشيخ المفيد في " أوائل المقالات " في عصمة الأنبياء.

أقول: إن جميع الأنبياء صلى الله عليهم معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، ومما يستخف فاعله من الصائر كلها. وأما ما كان من صغير لا يستخف فاعله، فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد * و ممتنع منهم بعدها على كل حال، وهذا مذهب جمهور الإمامية. ثم قال في عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله خاصة: أقول: إن نبينا محمد صلى الله عليه وآله ممن لم يعص الله عز وجل منذ خلقه الله عز وجل إلى أن قبضه، ولا تعمد له خلافا، ولا أذنب ذنبا على التعمد ولا النسيان، وبذلك نطق القرآن وتواتر الخبر عن آل محمد صلى الله عليه وآله، وهو مذهب جمهور الإمامية، والمعتزلة بأسرها على خلافه.

وأما ما يتعلق به أهل الخلاف من قول الله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وأشباه ذلك في القرآن وما في الحجة على خلاف ما ذكرناه فإنه تأويل بضد ما توهموه، والبرهان يعضده على البيان، وقد نطق القرآن بما قد وصفناه فقال جل اسمه (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى) فنفى بذلك عنه كل معصية ونسيان...

أنظر كلام الشيخ المظفر في كتابه القيم دلائل الصدق 1: 184 - 202.


الصفحة 33
وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينص على إمام بينهم، وأنه مات عن غير وصية، وأن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة لمبايعة(1) عمر بن الخطاب له برضا أربعة: أبي عبيدة، وسالم مولى حذيفة، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعيد(2)، ثم من بعده عمر بن الخطاب بنص أبي بكر عليه، ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة(3) هو أحدهم، فاختار بعضهم، ثم علي بن أبي طالب عليه السلام لمبايعة(4) الخلق له.

ثم اختلفوا، فقال بعضهم: أن الإمام بعده ابنه الحسن، وبعضهم قال: أنه معاوية بن أبي سفيان، ثم ساقوا الإمامية في بني أمية، إلى أن ظهر السفاح من بني العباس، فساقوا الإمامة إليه، ثم انتقلت الإمامة منه إلى أخيه المنصور، ثم ساقوا الإمامة في بني العباس إلى المعتصم(5) (إلى أربعين)(6).

____________

(1) في " ر " لمتابعة.

(2) في " ش " بشير بن سعد.

(3) وهم: علي عليه السلام، عثمان طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف.

(4) في " ر ": لمتابعة.

(5) في " ر " المستعصم.

(6) ما بين الأقواس ليس في " ر ".


الصفحة 34

الصفحة 35

الفصل الثاني

في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع، لأنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختلف الناس بعده، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم:

فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق، وبايعه(1) أكثر الناس طلبا للدنيا، كما اختار عمر بن سعد ملك الري أياما يسيرة(2) لما خير بينه وبين قتل الحسين عليه السلام، مع علمه بأن في قتله النار وإخباره بذلك في شعره حيث قال:


فوالله ما أدري وإني لصادقأفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري، والري منيتيأم أصبح مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونهاحجاب، ولي في الري قرة عين

وبعضهم اشتبه(3) الأمر عليه، ورأى طالب الدنيا مبايعا(4) له، فقلده وبايعه(5)، وقصر في نظره فخفي عليه الحق، واستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه، بسبب

____________

(1) في " ر " وتابعه.

(2) في هامش النسخة الحجرية، طبع تبريز 1256 هـ. ق: ملك الري عشر سنين، والمراد بقوله " أياما يسيرة " هذه المدة، وقيل: سبع سنين.

(3) في " ش " أشبه.

(4) في " ر " متابعا.

(5) في " ر " تابعه.


الصفحة 36
إهمال النظر.

وبعضهم قلد لقصور فطنته، ورأى الجم الغفير فبايعهم(1)، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب، وغفل عن قوله تعالى (وقليل ما هم)(2) (وقليل من عبادي الشكور)(3).

وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق، وتابعه(4) الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها، ولم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم، بل أخلص(5) لله تعالى واتبع ما أمر به من طاعة من يستحق التقديم.

وحيث حصلت(6) للمسلمين هذه البلية وجب على كل واحد(7) النظر في الحق، واعتماد الإنصاف، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه، فقد قال الله تعالى (ألا لعنة الله على الظالمين)(8) وإنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه:

الأول:

لما نظرنا في المذاهب(9) وجدنا أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل، وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه، (أحسن (ها في) المسائل الأصولية والفروعية،

____________

(1) في " ر ": فتابعهم.

(2) ص: 24.

(3) سبأ: 13.

(4) في " ش 1 ": وبايعه.

(5) في " ش 1 " وش 2 ": أخلصوا لله تعالى واتبعوا ما أمروا به.

(6) في " ر ": حصل.

(7) في " ر ": أحد.

(8) هود: 18.

(9) في " ش 1 ": المذهب. وهو تصحيف.


الصفحة 37
مذهب الإمامية.

لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى هو المخصوص بالأزلية والقدم، وأن كل ما سواء محدث، لأنه واحد.

وأنه ليس بجسم، ولا في مكان، وإلا لكان محدثا، بل نزهوه عن مشابهة المخلوقات، وأنه تعالى قادر على جميع المقدورات.

وأنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا لزم الجهل والحاجة، تعالى الله عنهما، ويثيب المطيع، لئلا يكون ظالما، ويعفو عن العاصي أو يعذبه بجرمه من(1) غير ظلم له.

وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة، وإلا لكان عابثا، وقد قال: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)(2)، وأنه أرسل الأنبياء لإرشاد العالم.

وأنه تعالى غير مرئي، ولا مدرك بشئ من الحواس، لقوله تعالى (لا تدركه الأبصار)(3)، وأنه(4) ليس في جهة.

وأن أمره ونهيه وإخباره حادث، لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره. وأن الأنبياء معصومون عن الخطاء والسهو والمعصية، صغيرها وكبيرها، من أول العمر إلى آخره(5)، وإلا يبق وثوق بما يبلغونه، فانتفت فائدة البعثة، ولزم التنفير عنهم، وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك، لما تقدم.

و [ لأن الشيعة ] أخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين، الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الأخذ ذلك من الله تعالى بوحي جبرئيل عليه السلام إليه، يتناقلون ذلك عن الثقات

____________

(1) سقط من " ش 1 ".

(2) الأنبياء: 16.

(3) الأنعام: 103.

(4) في " ش ": لأنه.

(5) أنظر كتاب " تنزيه الأنبياء " للسيد المرتضى " قده "، وقد فاضل الشيخ المفيد " قده " في كتاب " أوائل المقالات " بين الأنبياء والملائكة، فقال: اتفقت الإمامية على أن أنبياء الله تعالى ورسله من البشر أفضل من الملائكة، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك. أوائل المقالات: 55.


الصفحة 38
خلفا عن سلف، إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين، ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والاجتهاد، وحرموا الأخذ بالقياس والاستحسان.

أما باقي المسلمين، فقد ذهبوا كل مذهب:

فقال بعضهم - وهم جماعة الأشاعرة - أن القدماء كثيرون مع الله تعالى، وهي المعاني التي يثبتونها موجودة في الخارج، كالقدرة والعلم وغيره ذلك، فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى، هو العلم، وفي كونه قادر إلى ثبوت معنى هو القدرة، وغير ذلك، ولم يجعلوه قادرا لذاته، ولا عالما لذاته، ولا رحيما لذاته، ولا مدركا لذاته، بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها، فجعلوه محتاجا، ناقصا في ذاته، كاملا بغيره، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال: إن النصارى كفروا لأنهم قالوا أن القدماء ثلاثة، والأشاعرة أثبتوا قدماء(1) تسعة، وقال جماعة الحشوية والمشبهة أن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق، وأنه يجوز عليه المصافحة، وأن المخلصين من المسلمين يعانقونه(2) في الدنيا(3).

وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا، وأن يزورهم ويزورونه(4).

وحكي عن داود الظاهري أنه قال: اعفوني عن اللحية والفرج، واسألوني عما رواه ذلك، وقال أن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء وكبد ورجل ولسان وعينين(5) وأذنين، وحكي أنه قال: هو مجوف(6) من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى

____________

(1) في " ر ": أن القدماء.

(2) في " ر ": يعاينونه.

(3) الملل والنحل 2: 148.

(4) الملل والنحل 1: 136، قال: " ومن مذهب الأشعري أن كل موجود يصح أن يرى، فإن المصح للرؤية إنما هو الوجود، والباري تعالى موجود، فيصح أن يرى ".

(5) في " ش 1 " و " ش 2 ": وعين.

(6) في " ر ": أجوف.


الصفحة 39
ذلك، وله شعر قطط، (حتى قالوا: اشتكت)(1) عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وأنه يفضل من العرش عنه من كل جانب أربع أصابع(2).

وذهب بعضهم إلى أنه تعالى ينزل في كل ليلة جمعة(3) على شكل أمرد حسن الوجه راكبا على حمار، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلقا، يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا، لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح، فيشتغل الحمار بالأكل، ويشتغل الرب بالنداء " هل من تائب "، هل من مستغفر(4)؟ تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية(5) في حق الله تعالى.

وحكي عن بعض المنقطعين التاركين (الدنيا)(6) من شيوخ الحشوية، أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة، قطط الشعر - على الصفات التي يصفون ربهم بها - فألح الشيخ في النظر إليه وكرره، وأكثر تصويبه إليه، فتوهم فيه النفاط، فجاء إليه ليلا، وقال: أيها الشيخ، رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام، وقد أتيت به إليك، فإن كان لك فيه نية(7) فأنت الحاكم، فحرد(8) عليه، وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل الله على صورة هذا الغلام، فتوهمت أنه الله، فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة.

وقالت الكرامية: أن الله تعالى في جهة فوق، ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث،

____________

(1) ما بين القوسين ساقط من " ش 1 ".

(2) الملل والنحل 1: 149.

(3) في " ش 1 " و " ش 2 ": الجمعة.

(4) الملل والنحل 1: 153 - 154.

(5) في " ش 1 ": الدنية.

(6) وردت في " ش 1 " فقط.

(7) في " ش 2 ": حاجة أونية.

(8) أي غضب.


الصفحة 40
ومحتاج إلى تلك الجهة(1).

وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد، وآخرون إلى أنه لا يقدر على عين مقدور العبد، وذهب الأكثر منهم إلى أن الله تعالى يفعل القبائح: وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله تعالى وقدره، وأن العبد لا تأثير له في ذلك، وأنه لا غرض لله تعالى في أفعاله، ولا يفعل لمصلحة العباد شيئا، وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة، وهذا يستلزم أشياء شنيعة:

منها: أن يكون الله تعالى أظلم من كل ظالم: لأنه يعاقب الكافر على كفره، وهو قدره عليه، ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان، فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره - لأنه لا قدرة له فيها - كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه.

ومنها: إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال للكافر: " آمن بي وصدقني "، يقول له: " قل للذي بعثك يخلق في الإيمان أو القدرة المؤثرة فيه، حتى أتمكن من الإيمان فأومن، وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه، بل خلق في الكفر، وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى "، فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه، ومنها: تجويز أن يعذب الله تعالى سيد المرسلين على طاعته، ويثيب إبليس على معصية، لأنه يفعل (الأشياء)(2) لا لغرض، فيكون فاعل الطاعة سفيها: لأنه يتعجل من الاجتهاد في العبادة، وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له: لأنه قد يعاقبه على ذلك، لأنه، ولو فعل - عوض ذلك - ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه، فاختيار الأول يكون سفها عند كل عاقل، والمصير إلى هذا المذهب يؤدي إلى خراب العالم واضطراب أمر الشريعة المحمدية(3).

____________

(1) الملل والنحل 1: 159.

وانظر دلائل الصدق 1: 135. والكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام.

(2) في " ش 2 " يفعل أشياء.

(3) في " ش 2 ": غفور حليم.


الصفحة 41
ومنها: أنه يلزم أن لا يتمكن أحد من تصديق أحد من الأنبياء عليهم السلام: لأن التوصل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين: إحداهما: أن الله تعالى فعل المعجز على يد النبي لأجل التصديق. والثانية: أن كل ما صدقه الله تعالى فهو صادق، وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم، لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض، استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق، وإذا كان فاعلا للقبيح، ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك، جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق أحد من الأنبياء، ولا التدين بشئ من الشرائع والأديان.

ومنها: أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه غفور رحيم حليم عفو(1) لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان الله تعالى مسقطا(2) للعقاب في حق الفساق، بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا رحيما(3)، وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد لا من الله تعالى.

ومنها: أنه يلزم منه(4) تكليف ما لا يطاق: لأنه يكلف الكافر بالإيمان (ولا قدرة له عليه، وهو قبيح عقلا، والسمع قد منع منه، فقال)(5): (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)(6) ومنها: أنه يلزم منه أن يكون أفعالنا الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا، مثل حركتنا يمنة ويسرة، وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا، كالأفعال الاضطرارية، مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما، أن كل عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركات الاختيارية، وغير قادرين على الحركة إلى السماء.

____________

(1) في " ش 2 ": غفور حليم.

(2) في " ش 1 ": مستحقا، وهو تصحيف.

(3) في " ش 1 ": غفورا رحيما.

(4) ليس في " ش 2 ".

(5) في " ش 1 ": ولم يخلق قدرة الإيمان عليه، فكيف يؤمن عليه تعالى، وذلك أمر بلا طاقة قبيح عقلا وشرعا، مع أنه تعالى قال:

6. البقرة: 286.


الصفحة 42
قال أبو الهذيل العلاف(1): " حمار بشر أعقل من بشر، لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره، ولو أتيت به(2) إلى جدول كبير لم يطفره، لأنه فرق بين ما يقدر على طفره، وما لا يقدر عليه(3) وبشر لا يفرق بين المقدور له وغير المقدور ".

ومنها: أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره، وبين من أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره، ولم يحسن منا شكر الأول وذم الثاني، لأن الفعلين صادران من الله تعالى عندهم.

ومنها: التقسيم الذي ذكره مولانا وسيدنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي فقال: المعصية ممن؟ فقال الكاظم عليه السلام: (المعصية إما من العبد أو من ربه أو منهما، فإن كان من الله تعالى فهو أعدل(4) وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه(5)، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن

____________

(1) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البصري شيخ البصريين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم، وصاحب المقالات في مذهبهم، كان معاصرا لأبي الحسن الميثمي المتكلم الإمامي. حكي أنه سأل أبو الحسن أبا الهذيل فقال: ألست تعلم أن إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر كله؟

قال: بلى.

قال: فيجوز أن يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه، وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه؟

قال: لا.

فقال له أبو الحسن: قد ثبت أن إبليس يعلم الشر كله والخير كله. قال أبو الهذيل: أجل.

قال: فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل يعلم الخير كله والشر كله؟

قال: لا.

قال له: فإبليس أعلم من إمامك إذا.

فانقطع أبو الهذيل.

عن " الكنى والألقاب " للمحدث القمي 1: 170.

(2) في " ش 1 ": ولو بلغ.

(3) في " ش 2 ": ما يقدر عليه وما لا يقدر.

(4) العبارة بين القوسين ساقطة من " ش 1 ".

(5) في " ش 2 ": فهو شريكه فقط.


الصفحة 43
كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجه المدح والذم، وهو أحق بالثواب والعقاب، وجبت(1) له الجنة أو النار. فقال أبو حنيفة (ذرة بعضها من بعض)(2) ومنها: أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعا بكفره، لأنه قد فعل ما هو مراد الله تعالى، لأنه أراد منه الكفر. وقد فعله، ولم يفعل الإيمان الذي كرهه الله تعالى منه، فيكون قد أطاعه لأنه فعل مراده ولم يفعل ما كرهه(3).

ومنها: أنه يلزم نسبة السفه(4) إلى الله تعالى، لأنه أمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه، وينهاه عن المعصية وقد أرادها(5)، وكل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه، تعالى الله عن ذلك.

ومنها: أنه يلزم عدم الرضا بقضاء الله تعالى وقدره: لأن الرضا بالكفر حرام بالإجماع، والرضا بقضاء الله تعالى وقدره واجب، فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى وقدره، وجب علينا الرضا به، لكن لا يجوز الرضا بالكفر.

ومنها: أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من الله تعالى، ولا يحسن قوله تعالى (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)(6)، لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي، وأضافوها إلى الله تعالى، فيكون على المكلفين شرا من إبليس عليهم، تعالى الله عن ذلك.

ومنها: أنه لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ووعيده، لأنهم إذا جوزوا استناد(7) الكذب في العالم إليه جاز أن يكذب في إخباراته كلها، فتنتفي فائدة بعثة الأنبياء، بل وجاز منه إرسال

____________

(1) في " ش 2 ": فوجبت.

(2) آل عمران: 34. وانظر هذه المحادثة في الاحتجاج للطبرسي 2: 387 - 388، وبحار الأنوار 48: 106.

(3) في " ش 2 ": بزيادة: ويكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاصيا، لأنه يأمره بالأيمان الذي لا يريده الله تعالى منه، وينهاه عن الكفر الذي يريده منه.

(4) في " ش 1 ": السفه والحمق.

(5) في " ش 2 ": وقد أرادها منه.

(6) النحل: 98.

(7) في " ش 1 ": إسناد.