وقد ذكر غيره منهم أشياء كثيرة، ونحن نذكر شيئا يسيرا منها.
منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعصم بالوحي، وإن لم شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني.(1)
وكيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟!
وقال: أقيلوني فلست بخيركم!(2) فإن كانت إمامته حقا، كانت استقالته منها معصية، وإن كانت باطلة، لزم الطعن، وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.(3)
ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عمر، وإن كانت باطلة، لزم الطعن عليهما معا وقال أبو بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق؟(4) وهذا يدل على أنه في شك من إمامته، ولم تقع صوابا وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنه في لبنة!!(5).
مع أنهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة أو النار.
وقال أبو بكر: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت يدي على يد أحد الرجلين، وكان
____________
(1) تاريخ الطبري 2: 440، والمعجم الأوسط للطبراني 9: 271 / الحديث 8592 بسنده عن زيد بن عطية، وطبقات ابن سعد 3: 129، والإمامة والسياسة لابن قتيبة: 6، والصواعق المحرقة: 10 - 11، ومجمع الزوائد 5: 183 عن الطبراني في الأوسط.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 171، وتاريخ بغداد 9: 373، والصواعق المحرقة: 11، ومجمع الزوائد 5: 183.
(3) صحيح البخاري 8: 210 / كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة - باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
والفائق: 1393، مادة " فلت "، والنهاية لابن الأثير: 467، مادة " فلت " والصواعق المحرقة: 8 و 11 و 13 و 36، وشرح النهج 2: 145 قال: ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها وخشيت الفتنة... إلى آخر كلامه.
(4) تاريخ الطبري 4: 52.
(5) الصراط المستقيم للعلامة البياضي 2: 299.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته مرة بعد أخرى، مكررا لذلك " أنفذوا جيش أسامة! لعن الله المتخلف عن جيش أسامة "! وكان الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك.(2).
وأيضا لم يول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر عملا البتة في وقته، بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة، وأسامة أخرى، ولما نفده بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله تعالى وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من الله تعالى لأداء عشر آيات من براءة؟!
وقطع [ أبو بكر ] يسار سارق، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى، وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإحراق بالنار، وقال: لا يعذب بالنار إلا رب النار(3)، وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمي ومن الشيطان.(4)
وقضى في الجد سبعين قضية، وهو يدل على قصوره في العلم، فأي نسبة له إلى من قال:
سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء، فإني أعرف بها من طرق الأرض(5)؟
قال أبو البحتري: رأيت عليا عليه السلام صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت
____________
(1) تاريخ الطبري 4: 52، حوادث سنة 513، وميزان الاعتدال 2: 215.
(2) طبقات ابن سعد 2: 190، والصراط المستقيم 2: 296 - 297، عن الطبري في المسترشد، وعن الواقدي، والبلاذري في تاريخه.
(3) مسند أحمد 3: 494، واستيعاب 3: 609 في ترجمة هبار بن الأسود بن المطلب الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونخسها فألقت ذا بطنها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن وجدتم هبارا فأحرقوه بالنار. ثم قال: اقتلوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار... الخ.
وتجد تأسفه على إحراق الفجاءة السلمي في تاريخ الطبري 4: 52، والإمامة والسياسة: 18، ومروج الذهب 1:
414.
(4) تفسير الطبري 6: 30، وتفسير ابن كثير 1: 260.
(5) أنظر الغدير 6: 215 - 218.
قال أبو عمرو الزاهد: قال أبو العباس ثعلب: لا نعلم أحدا قال بعد نبيه " سلوني " من شيث إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا عليا، فسأله الأكابر: أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطع السؤال، ثم قال بعد هذا كله: يا كميل بن زياد! إن هاهنا لعلما جما لو وجدت له حملة.(3)
وأهمل [ أبو بكر ] حدود الله، فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حين قتل مالك بن نويرة - وكان مسلما - وتزوج امرأته من(4) ليلة قتله وضاجعها. وأشار عليه عمر بقتله
____________
(1) مناقب الخوارزمي: 91 - 92 / الحديث 85، وفرائد السمطين 1: 340، وتذكرة الخواص: 27 عن سعيد بن المسيب، قال: فلهذا كان علي عليه السلام يقول: سلوني عن طرق السماوات فإني أعرف بها من طرق الأرضين، ولو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وانظر طبقات ابن سعد 2: 338، وكنز العمال: 4 / الحديث 11322، وحلية الأولياء 1: 80، وينابيع المودة 1: 223 / باب 14، و 3: 208 / باب 68.
(2) شرح النهج 2: 430، وذخائر العقبى: 94 عن ابن عباس، وقال: أخرجه الملا في سيرته، ومناقب الخوارزمي 83 / الحديث 70 بسنده عن أبي الحمراء، وينابيع المودة 1: 363 / الباب 40، 2: 183 / الباب 56.
(3) حلية الأولياء 1: 80، وأخرج المحب الطبري في ذخائر العقبى: 83، والخوارزمي في المناقب: 90 - 91 / الحديث 83 عن سعيد بن المسيب، قال: ما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد يقول: سلوني " غير علي بن أبي طالب عليه السلام.
(4) في " ش 1 " و " ش 2 ": في.
وخالف أمر الله تعالى في توريث بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعها فدكا(2)، وتسمى بخليفة رسول الله من غير أن يستخلفه.(3).
ومنها ما رووه عن عمر: روى أبو نعيم الحافظ في كتاب " حلية الأولياء " أنه لما احتضر قال يا: ليتني كنت كبشا لقومي فسمنوني ما بدا لهم، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني
____________
(1) انظر تفصيل ذلك في الغدير 7: 158 - 161.
(2) أ - إن " فدك " كانت مما أفاءه الله على رسوله، وكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يجلب عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.
أنظر: تاريخ الطبري 3: 95، وسيرة ابن هشام 3: 368.
ب - إن إعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدكا كان بأمر الله تعالى.
قال السيوطي في الدر المنثور 4: 177 ذيل الآية 26 من سورة الإسراء: وأخرج البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية (ذا القربى حقه) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فأعطاها فدك. وقال: وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدكا.
ت - إن فدكا كانت بيد الزهراء عليها السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووضع اليد علامة الملكية، وينبغي لمن يريد مصادرة ملك شخص أن يأتي بدليل يجيز له ذلك. لكننا نرى أن فدك تغتصب من يد الزهراء عليها السلام، وأنها تطالب بإيراد بينة، فشهد لها أمير المؤمنين علي والحسن والحسين عليهم السلام، فسألها أبو بكر شاهدا آخر، فشهدت لها أم أيمن، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين!! مع علمه بالنصوص الصريحة التي نفت الرجس عن أهل البيت وطهرتهم تطهيرا، وبأن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها، وبأن عليا مع الحق والحق مع علي و...
ثم إنه احتج بحديث مختلق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة. وهو حديث مردود عند أهل البيت عليهم السلام. قال تعالى (يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال (وورث سليمان داود). أنظر " فدك في التاريخ " للشهيد الصدر، والغدير 7: 190 - 194 و 2: 275 - 276.
(3) روى ابن قتيبة في " الإمامة والسياسة " أن أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي عليه السلام - فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم... (إلى أن قال): فقال أبو بكر لقنفذ - وهو مولى له - اذهب فادع لي عليا، قال: فذهب إلى علي، فقال: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال علي عليه السلام: لسريع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكي أبو بكر طويلا... الخ.
وقال لابن عباس عند احتضاره: لو أن لي ملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع!(3) وهذا مثل قوله تعالى (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب)(4).
فلينظر المنصف العاقل قول الرجلين عند احتضارهما، وقول علي عليه السلام: متى ألقاها؟ متى يبعث أشقاها؟ متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه؟ وقوله حين قتل: فزت ورب الكعبة!(5) وروى صاحب الصحاح السبعة في السنة من مسند ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مرض موته: ائتوني بدواة وبياض لأكتب لكم كتابا لا تضلون به من بعدي، فقال عمر: إن الرجل ليهجر، حسبنا كتاب الله! وكثر اللغط فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي فقال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(6).
____________
(1) حلية الأولياء 1: 52، وكنز العمال: 12 / الحديث 35912.
(2) النبأ: 40.
(3) حلية الأولياء 1: 52، والمعجم الأوسط للطبراني 1: 344 - 346 / الحديث 583 بسنده عن ابن عمر في حديث طويل، جاء فيه، فخرج بياض اللبن من الجرحين، فعرف أنه الموت، فقال: الآن لو أن لي الدنيا كلها لافتديت بها من هول المطلع. وقال: ويلك وويل أمك عمر إن لم يغفر الله لك. وانظر المستدرك للحاكم 3: 92.
وفي طبقات ابن سعد 3: 360: آخر كلمة فاهها عمر حتى قضى: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي! ويلي و ويل أمي إن لم يغفر الله لي، ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي.
(4) الزمر: 47.
الإستيعاب لابن عبد البر 3: 59، في ترجمة أمير المؤمنين علي عليه السلام، وطبقات ابن سعد 3: 33 و 34، وتذكرة الخواص: 172 - 175، والفصول المهمة: 131.
(6) صحيح البخاري 1: 39 / كتاب العلم - باب كتابة العلم، و 9: 137 / كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب كراهة الخلاف، وصحيح مسلم 5: 76 / كتاب الوصية - باب ترك الوصية، وطبقات ابن سعد 2: 242 - 244.
ولما وعظمت فاطمة عليه السلام أبا بكر في فدك، كتب لها بها كتابا ورودها عليها، فخرجت من عنده فلقيها عمر، فخرق الكتاب، فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة به(4).
وعطل حد الله تعالى، فلم يحد المغيرة بن شعبة(5)، وكان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي، فكان يعطي عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم(6) وغير حكم الله تعالى في المتعتين(7).
وكان قليل المعرفة بالأحكام: أمر برجم حامل، فقال له علي عليه السلام: إن كان لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فأمسك، وقال: لولا على لهلك عمر.(8)
و - مر برجم مجنونة، فقال له علي عليه السلام: إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، فأمسك وقال: لولا على لهلك عمر.(9)
وقال في خطبة له: من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال، فقالت له امرأة: كيف
____________
(1) الزمر: 30.
(2) آل عمران: 144.
(3) تاريخ الطبري 3: 200، والكامل لابن الأثير 2: 219، وشرح النهج 2: 40.
(4) أنظر الصراط المستقيم 3: 21.
(5) أنظر تاريخ ابن كثير 7: 81، وشرح النهج 3: 161. وانظر تفصيل ذلك في النص والاجتهاد للسيد شرف الدين، وفي الغدير 6: 137 - 144.
(6) شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 153 في ذيل شرح كلامه عليه السلام (لله بلاد فلان).
(7) أنظر الغدير 6: 198 - 213.
(8) مناقب الخوارزمي: 81 / الحديث 65، وذخائر العقبى: 81، وتذكرة الخواص: 148.
(9) مناقب الخوارزمي: 80 / الحديث 64، وذخائر العقبى: 80، وتذكرة الخواص: 147، عن أحمد في الفضائل والمسند.
ولم يحد قدامة بن مظعون في الخمر، لأنه تلا عليه (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)(4)، فقال له علي (عليه السلام: ليس قدامة من أهل هذه الآية، وأمره بحده، فلم يدر كم يحده، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: حدده ثمانين، إن شارب الخمر إذا شربها سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى.(5).
وأرسل إلى حامل يستدعيها، فأجهضت خوفا، فقال له الصحابة: نراك مؤدبا ولا شئ عليك، ثم سأل أمير المؤمنين عليه السلام فأوجب الدية على عاقلته.(6)
وتنازعت امرأتان في طفل، فلم يعلم الحكم، وفزع فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فاستدعى المرأتين ووعظهما فلم ترجعا، فقال عليه السلام: ائتوني بمنشار! فقالت المرأتان له:
ما تصنع؟ قال: أقده نصفين تأخذ كل واحد نصفا، فرضيت إحداهما وقالت الأخرى: الله الله يا أبا الحسن، إن كان لا بد من ذلك قد سمحت به لها، فقال عليه السلام: الله أكبر، هو ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقت عليه، فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها، ففرح عمر ودعا لأمير المؤمنين عليه السلام.(7)
وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فقال له علي عليه السلام: إن خاصمتك بكتاب الله
____________
في " ش 1 " و " ش " 2 ": حين.
(2) النساء: 20.
(3) مجمع الزوائد للهيثمي 4: 284، والدر المنثور للسيوطي 2: 133 ذيل الآية 20 من سورة النساء، والقنطار:
جلد البقر المملوء من الذهب والفضة.
(4) المائدة: 93.
(5) الدر المنثور 2: 316، ذيل الآية، ومناقب الخوارزمي: 99 - 100 / الحديث 102، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 366، وقد أشار ابن عبد البر إلى القصة في ترجمة قدامة بن مظعون، وانظر الإستيعاب 3: 259 - 262.
(6) شرح النهج 1: 58. والعاقلة: هم العصبة، وهم القرابة. من قبل الأدب الذين يعطون دية قتل الخطاء.
(7) إرشاد المفيد: 110، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 368.
وكان يضطرب في الأحكام، فقضى في الجد بمائة(4) قضية، وكان يفضل في الغنيمة والعطاء، وأوجب الله تعالى التسوية، وقال بالرأي والحدس والظن.
وجعل الأمر شورى من بعده وخالف فيه من تقدمه، فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس، ولا نص على إمام بعده، بل تأسف على سالم مولى حذيفة، وقال: لو كان حيا لم يختلجني فيه شك(5)، وأمير المؤمنين علي عليه السلام حاضر، وجمع في من يختار بين المفضول والفاضل، ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تلده حيا، ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة، ثم ناقض فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور، ثم قال: إن اجتمع أمير المؤمنين وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة ثلاثة، فالقول للذين فيهم عبد الرحمن، لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر، وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه(6) وهو عثمان وابن عمه، ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة، (وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم)(7)، وأمر بقتل
____________
(1) الأحقاف: 15.
(2) البقرة: 233.
(3) مناقب الخوارزمي: 95 - 94 / الحديث 94، وتذكرة الخواص: 148، وسنن البيهقي 7: 442.
(4) في " ش 1 " و " ش 2 ": بئمانين.
(5) الإستيعاب لابن عبد البر 2: 70 - 71، وتاريخ الطبري 5: 34.
(6) أي بالمواخاة.
(7) ما بين القوسين سقط من " ش 1 ".
وقال لعلي عليه السلام: إن وليتها - وليسوا فاعلين - لتركبنهم على المحجة البيضاء، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها.
وقال لعثمان: إن وليتها لتركبن آل أبي معيط على رقاب الناس، ولئن فعلت لتقتلن، وفيه إشارة إلى الأمر بقتله.(2)
وأما عثمان، فإنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية، حتى ظهر من بعضهم الفسوق، ومن بعضهم الخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه، وعوتب على ذلك مرارا فلم يرجع.
واستعمل الوليد بن عقبة(3) حتى ظهر منه شرب الخمر، وصلى بالناس وهو سكران.(4)
واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة، فظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها(6).
وولى عبد الله بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتبه أن يتمر على ولايته سرا، خلاف ما كتب إليه جهرا، وأمره بقتل محمد بن أبي بكر.(7)
وولى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدث، وولى عبد الله بن عامر العراقي ففعل من المناكير ما فعل.
____________
(1) تاريخ الطبري 4: 277.
(2) أنظر شرح النهج 1: 185، والغدير 8: 289.
(3) وهو الذي أنزل الله فيه (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) فسماه في قرآن فاسقا. أنظر أسباب النزول للنيسابوري: 261، وتفسير الطبري 21: 86، وتذكرة الخواص: 207.
(4) مسند أحمد 1: 144 - 145 الحديث 1234، والكامل لابن الأثير 3: 42: وتذكرة الخواص: 205.
(5) سقطت من " ش 1 " و " ش 2 ".
(6) ومن أقواله " إنما السواد بستان لقريش " وقد عزله عثمان مجبورا. أنظر أنساب الأشراف 5: 39 - 40.
(7) تاريخ الطبري 5: 119 - 120، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 158 - 159.
وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت مال المسلمين، حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش - زوجهم بناته - أربع مائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار(1).
وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره، ولما علم ضربه حتى مات(2) وضرب عمارا حتى صار به فتق،(3) وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عمار جلدة بين عيني، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة(4) وكان عمار يطعن عليه.
وطرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان، فلم يزل طريدا هو وابنه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة(5) وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره، مع أن الله تعالى قال: (لا تجد قوما يؤمنون بالله) - الآية(6).
ونفي أبا ذر إلى الربذة، وضربه ضربا وجميعا، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حقه: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.(7) وقال: إن الله تعالى أوحي إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم، فقيل له: من هم يا رسول الله؟ قال: علي سيدهم،
____________
(1) طبقات ابن سعد 3: 64، وتاريخ الخلفاء: 156، وتاريخ ابن الأثير 3: 71.
(2) تاريخ ابن كثير 27: 163، وشرح النهج لابن أبي الحديث 1: 236 و 237.
(3) السيرة الحلبية 2: 87، والاستيعاب لابن عبد البر 2: 477 في ترجمة عمار.
(4) مسند أحمد 2: 164، وصحيح البخاري 4: 25 / باب مسح الغبار عن الناس في السبيل، و 1 / 121 / كتاب الصلاة - باب التعاون في بناء المسجد.
(5) الإستيعاب لابن عبد البر 1: 317، والمعارف لابن قتيبة: 84، وانظر الغدير 8: 242.
(6) المجادلة: 22.
(7) مسند أحمد 2: 163 / الحديث بسنده عن عبد الله بن عمرو، والاستيعاب 4: 64 - 65 في ترجمته، وطبقات ابن سعد 4: 226 عن زيد بن وهب.
وضيع حدود الله، فلم يقد(2) عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين عليه السلام بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية و أراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حده أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر(4).
وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهي بدعة وصار سنة إلى الآن،(5) وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل، وعابوا فعاله وقالوا له: غبت عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان(6) والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
وقد ذكر الشهرستاني - وهو أشد المبغضين على الإمامية - أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلافات الواقعة في مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأول تنازع وقع في مرضه فيما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس، قال: لما اشتد بالنبي مرضه الذي توفي فيه قال: ائتوني بدواة وقرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي، فقال عمر إن صاحبكم ليهجر، حسبنا كتاب الله! وكثر(7) اللغط، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.
والخلاف الثاني في مرضه صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: جهزوا جيش أسامة! لعن الهل من تخلف عنه.
____________
(1) حلية الأولياء 1: 172، والاستيعاب 2: 59 في ترجمة سلمان الفارسي، والمستدرك للحاكم 3: 130، وصححه.
(2) في " ش 1 " وش 2 ": يقتل.
(3) أنظر ترجمته في الإصابة 3: 618 - 619، وفي آخره: فانطلق عبيد الله بن عمر... فأتى الهرمزان فقتله... فلما استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص: إن هذا الأمر كان، وليس لك على الناس سلطان! فذهب دم الهرمزان هدرا!! وانظر تاريخ الطبري 5: 42.
(4) صحيح البخاري 2: 10 - باب الأذان يوم الجمعة، وانظر الغدير 8: 125 - 128.
(6) مسند أحمد 1: 68 / الحديث 492.
(7) في " ش 1 " وش 2 ": فكثر.
والثالث في موته صلى الله عليه وآله وسلم قال عمر: من قال أن محمدا قد مات قتلته بسيفي هذا، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم، وقال أبو بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت.
الرابع: في الإمامة: وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة: إذا ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان، واختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري، فاستدرك عمر وأبو بكر بأن حضرا سقيفة بني ساعدة ومد عمر يده إلى أبي بكر بايعه، فبايعه الناس. وقال عمر: إنما كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وأمير المؤمنين عليه السلام مشغول بما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره، وتخلف هو وجماعة عن البيعة.
الخامس: في فدك والتوارث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودفعها أبو بر بروايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
والسادس: في قتال مانعي الزكاة، فقاتلهم أبو بكر، واجتهد عمر في أيام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين:
السابع: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة، فمن الناس من قال: وليت علينا فظا غليظا.
الثامن: في أمر الشورى، واتفقوا بعد الاختلاف على إمامة عثمان، ووقعت اختلافات كثيرة، منها رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله، وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن تشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا.
ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة، وتزويجه مروان بن الحكم ابنته، وتسليمه خمس غنائم
التاسع: في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له، فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة، ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه، ويعرف ذلك بحرب الجمل، والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان، وفي الجملة: كان علي مع الحق والحق معه.
وظهر في زمانه الخوارج عليه، مثل الأشعث بن قيس، ومسعود بن مذكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، وغيرهم، وظهر في زمانه الغلاة كعبد الله بن سبأ، ومن الفريقين(2) ابتدأت البدعة والضلالة، وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يهلك فيك اثنان، محب غال ومبغض قال(3).
فانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل، هل خرج موجب الفتنة عن المشائخ أو تعداهم؟
____________
(1) في " ش 1 ": أمراؤه.
(2) أي من الخوارج والغلاة.
(3) الملل والنحل 1: 13 - 21.
الفصل الثالث
في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى، لكن نذكر المهم منها، وننظمه أربعة مناهج:
المنهج الأول
في الأدلة العقلية وهي خمسة:
الأول:
إن الإمام يجب أن يكون معصوما، ومتى كان كذلك، كان الإمام هو علي عليه السلام أما المقدمة الأولى، فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا، لافتقاره في بقائه إلى مأكل وملبس ومسكن لا يمكن بنفسه، بل يفتقر إلى مساعدة غيره بحيث يفزع كل منهم لما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم نظام النوع، ولما كان الاجتماع في مظنة التغالب والتناوش، فإن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره، فتدعوه قوته الشهوية إلى أخذه وقهره عليه وظلم فيه، فيؤدي ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن، فلا بد من نصب إمام معصوم(1) يصدهم عن الظلم والتعدي، ويمنعهم عن التغلب
____________
(1) سقطت من " ش 2 ".
وأما المقدمة الثانية فظاهرة، لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقا، وعلي عليه السلام معصوم، فيكون هو الإمام.
الثاني:
إن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه، لما بينا من بطلان الاختيار، وأنه ليس بعض المختارين (لبعض الأمة أولى من البعض)(2) المختار للآخر، ولأدائه إلى التنازع والتناحر(3)، فيؤدي نصب الإمام إلى أعظم الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه، وغير علي عليه السلام من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع، فتعين أن يكون هو الإمام.
الثالث:
إن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع، لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل أحكام الجزئيات الواقعة إلى يوم القيامة، فلا بد من إمام (منصوب)(4) من الله تعالى، معصوم من الزلل والخطأ، لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا، وغير علي عليه السلام لم يكن كذلك بالإجماع.
____________
(1) في " ش 1 " و " ش 2 ": إمام آخر.
(2) ما بين القوسين ساقط من " ش 2 ".
(3) في " ش 1 " و " ش 2 ": التشاجر.
(4) في " ش 1 " و " ش 2 ": منصوص.