قال سويد بن غفلة: دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام القصر(1) فوجدته جالسا، بين يديه صحفة فيها لبن حازر(2) أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يديه رغيف أرى قشار الشعير في وجهه، وهو يكسر بيده أحيانا، فإذا غلبه كسره بركبته فطرحه فيه، فقال:
ادن فأصب من طعامنا هذا! فقلت: إني صائم! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه، كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها.
قال: فقلت لجاريته وهي قائمة بقرب منه: ويحك يا فضة، ألا تتقين الله في هذا الشيخ؟
(ألا تنخلون)(3) له طعاما مما أرى فيه من النخالة؟ فقالت: لقد تقدم إلينا ألا ننخل له طعاما.
قال: ما قلت لها؟ فأخبرته، فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز وجل(4).
واشترى يوما ثوبين غليظين، فخير قنبرا فيها، فأخذ واحدا ولبس هو الآخر، ورأى في كمه طولا عن أصابعه فقطعه.(5)
قال ضرار بن ضمرة: دخلت على معاوية بعد قتل علي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: صف لي عليا، فقلت: أعفني! فقال: لا بد أن تصفه، فقلت: أما إذا لا بد، فإنه كان - والله - بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة.
____________
(1) في " ر ": العصر.
(2) في " ش 1 " وش 2 ": حار. واللبن الحازر: الحامض.
(3) في " ش 1 ": لا تنخلين، وفي " ش 2 ": ألا تنخلين.
(4) مناقب الخوارزمي: 118 / الفصل 10 - الحديث 130 وتذكرة الخواص: 112، وقال: وأخرجه أحمد أيضا في الفضائل.
(5) تاريخ دمشق 3: 191 / الحديث 1241، وأسد الغابة 4: 24.
وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن - والله - مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت أم لي تشوقت؟! هيهات هيهات، قد أبنتك ثلاثا لا رجعة فيها: فعمرك قصير، وخطرك يسير، وعيشك حقير آه، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشته الطريق!
فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن! كان... والله... كذلك، (قال معاوية: كيف كان حبك له؟ قال: كحب أم موسى لموسى، قال:)(3) فما حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها.(4).
وبالجملة، فزهده لم يلحقه أحد فيه ولا يسبقه أحد إليه عليه السلام، وإذا كان أزهد الناس، كان هو الإمام، لامتناع تقدم المفضول عليه.
الثاني:
أنه عليه السلام كان أعبد الناس، يصوم النهار ويقوم الليل، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت، وكان يصلي في
____________
(1) ما بين القوسين ليس في " ر ".
(2) في " ش 1 " و " ش 2 ": كثير.
(3) ما بين القوسين ليس في " ر ".
(4) تذكرة الخواص: 118 - 119، وذخائر العقبي: 100، وقال، أخرجه الدولابي وأبو عمر وصاحب الصوفة، والاستيعاب لابن عبد البر 3: 44، عن الحرمازي رجل من همدان، والفصول المهمة: 129 / الفصل 1، / وحلية الأولياء 1: 84.
قال ابن عباس: رأيته في حربه وهو يرقب الشمس، فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا تصنع؟ فقال: انظر إلى الزوال لأصلي، فقلت: في هذا الوقت؟! فقال: إنما نقاتلهم على الصلاة.
فلم يغفل عن فعل العبادة في أول وقتها في أصعب الأوقات، وكان إذا أريد إخراج شئ من الحديث من جسد ترك(2) إلى أن يدخل في الصلاة، فيبقى متوجها إلى الله تعالى غافلا عما سواه، غير مدرك للآلام التي تفعل به.
وجمع بين الصلاة والزكاة، فتصدق وهو راكع، فأنزل الله تعالى فيه قرآنا يتلى، وتصدق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام حتى أنزل فيه وفيهم (هل أتى)، وتصدق ليلا ونهارا.
وسرا وجهارا، وناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة(3)، فأنزل الله تعالى فيه قرآنا، وأعتق ألف عبد من كسب يده، وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الشعب.
وإذا كان أعبد الناس كان أفضل، فيكون هو الإمام.
الثالث:
أنه عليه السلام كان أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أقضاكم علي "(4)
____________
(1) مسند أحمد 1: 144 / الحديث 1223، وحلية الأولياء 1: 69، وبحار الأنوار 41: 17، عن أبي يعلى في المسند وشرح النهج 1: 9 (طبع بيروت ذات أربع مجلدات).
(2) في " ش 1 " و " ش 2 ": يترك.
(3) في " ر ": صدقات.
(4) الإستيعاب 3: 38، بلفظ قال صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه: (أقضاهم علي بن أبي طالب).
وفيه: وقال عمر بن الخطاب: علي أقضانا وأبي أقرؤنا... الحديث، وعن ابن عباس قال: قال عمر: علي أقضانا.
وفي مناقب الخوارزمي 81، الفصل - 7 الحديث 66 بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أقضى أمتي علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي ذخائر العقبى: 83 عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقضى: أمتي علي، و فيه: عن عمر قال: أقضانا علي. أخرجه الحافظ السلفي.
ولأنه عليه السلام كان في غاية الذكاء والفطنة، شديد الحرص على التعلم، ولازم رسول الله - الذي هو أكمل الناس - ملازمة شديدة ليلا ونهارا من صغره إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " العلم في الصغر كالنقش في الحجر "، فيكون علومه أكثر من علوم غيره، لحصول القابل الكامل والفاعل التام، ومنه استفاد الناس العلم.
أما النحو، فهو واضعه، قال لأبي الأسود الدؤلي: " الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف "... وعلمه وجوه الإعراب.
وأما الفقه فالفقهاء كلهم يرجعون إليه، أما الإمامية فظاهر، لأنهم أخذوا علمهم منه ومن أولاده، وأم ا غيرهم فكذلك، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وزفر، فإنهم أخذوا عن أبي حنيفة، والشافعي قرأ على محمد بن الحسن وعلى مالك، فرجع فقهه إليهما، وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي، فرجع فقهه إليه، وفقه الشافعي راجع إلى (أبي حنيفة(2) وأبو حنيفة قرأ على الصادق، والصادق قرأ على الباقر، والباقر [ قرأ ] على زين العابدين، وزين العابدين قرأ على أبيه، وأبوه قرأ على علي عليه السلام. وأما مالك فقرأ على ربيعة الرأي(3)، وقرأ ربيعة على عكرمة، وعكرمة على عبد الله بن عباس وعبد الله بن عباس تلميذ علي عليه السلام.
وأما علم الكلام، فهو أصله، ومن خطبه استفاد الناس، وكل الناس تلاميذه: فإن المعتزلة انتسبوا إلى واصل بن عطاء وهو كبيرهم، وكان تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي عليه السلام: والأشعرية تلامذة أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة.
وعلم التفسير إليه يعزى: لأن ابن عباس كان تلميذه فيه، قال ابن عباس: حدثني
____________
(1) الحاقة: 12.
(2) ما بين القوسين سقط من " ش 2 ".
(3) في " ر ": الرازي.
وأما علم الطريقة: فإليه منسوب، فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه.
وأما علم الفصاحة، فهو منبعه، حتى قيل في كلامه أنه فوق كلامه المخلوق ودون كلام الخالق، ومنه تعلم الخطباء.(1)
وقال: " سلوني قبل أن تفقدوني! سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض "!(2) وإليه يرجع الصحابة في مشكلاتهم، و (رووا في عمر)(3) قضايا كثيرة قال فيها: " لولا على لهلك عمر "، وأوضح كثيرا من المشكلات: جاء إليه شخصا كان مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة، فجلسا يأكلان، فجاءهما ثالث فشاركهما، فلما فرغوا رمى لها ثمانية دراهم، فطلب صاحب الأكثر خمسة، فأبي عليه صاحب الأقل، فتخاصما ورجعا إلى علي عليه السلام فقال: قد أنصفك، فقال: يا أمير المؤمنين إن حقي أكثر وأنا أريد مر الحق، فقال: إذا كان كذلك فخذ درهما واحدا وأعطه الباقي(4).
ووقع مالكا جارية عليها جهلا في طهر واحد، فحملت فأشكل الحال، فترافعا إليه،
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 6 - 7.
(2) روى هذا الحديث بألفاظ وأسانيد مختلفة، وقد أخرجها بهذا اللفظ القندوزي في ينابيع المودة 3: 208 / الباب 68 ضمن خطبة مفصلة لأمير المؤمنين عليه السلام. ورواه في 3: 224 بلفظ آخر عن أحمد في مسنده، بسنده عن ابن عباس.
وأخرج الخوارزمي في مناقب، عن أبي البتري حديثا بهذا المضمون، المناقب: 91 - 92 / الحديث 85 كما أخرج في ص 90 - 91 / الحديث 83 عن سعيد بن المسيب، قال: ما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد يقول " سلوني " غير علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأخرج الكنجي الشافعي في الكفاية: 208 / الباب 52 عن أبي الطفيل، قال: قال علي بن أبي طالب: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل ثم قال: هكذا أخرجه صاحب الطبقات، وما كتبناه إلا من هذا الوجه. انتهى. وأخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر صاحب الإستيعاب في كتابه 3: 43.
(3) في " ش 1 " " وش 2 ": ورد عمر في.
(4) الإستيعاب لابن عبد البر 3: 41 - 42 مفصلا، وذخائر العقبى للمحب الطبري: 84
وركبت جارية أخرى فنخستها ثالثة، فوقعت الراكبة فماتت، فقضى بثلثي ديتها على الناخسة والقامصة، وصوبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2).
وقتلت بقرة حمارا، فترافع المالكان إلى أبي بكر، فقال: بهيمة قتلت بهيمة، لا شئ على ربها! ثم مضيا إلى عمر فقضي بذلك أيضا، ثم مضيا إلى علي عليه السلام فقال: إن كانت البقرة دخلت على الحمار في منامه، فعلى ربها قيمة الحمار لصاحبه، وإن كان الحمار دخل على البقرة في منامها فقتلته فلا غرم على صاحبها! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد قضى علي بن أبي طالب بينكما بقضاء الله عز وجل(3) والأخبار العجبية في ذلك لا تحصى كثرة وإذا كان أعلم، وجب أن يكون هو الإمام لقوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)(4)
الرابع:
أنه كان أشجع الناس، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان، ما انهزم
____________
(1) المناقب لابن شهرآشوب 2: 353 عن أبي داود وابن ماجة في سننهما وابن بطة في الإبانة وأحمد في فضايل الصحابة وأبو بكر بن مردويه في كتابه، وفيه: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتى إلى علي باليمن ثلاثة نفر يختصمون في ولد، هم كلهم يزعم أنه وقع على أمه في طهر واحد ذلك في الجاهلية، فقال علي عليه السلام: إنهم شركاء متشاكسون، فقرع على الغلام باسمهم، فخرجت لأحدهم، فألحق الغلام به وألزمه ثلثي الدية لصاحبيه، وزجرهما عن مثل ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود.
(2) مناقب ابن شهرآشوب 2: 354 عن أبي عبيد في غريب الحديث، وابن مهدي في نزهة الأبصار عن الأصبغ بن نباتة.
(3) الصواعق المحرقة: 73، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 354 عن مصعب بن سلام عن الصادق عليه السلام، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 34 - 35 / الفصل 1.
(4) يونس: 35 والآية والعلمتان اللتان قبلها ساقطة من " ر ".
ووقاه بنفسه لما بات على فرشه مسترا بإزاره، فظنه المشركون - وقد اتفقوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنه هو، فأحدقوا به وعليهم السلام يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا، فيذهب دمه، ويعدو كل قبيل إلى رهطه، وكان ذلك سبب حفظ دم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمت السلامة، وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة فلما أصبح القوم وأرادوا الفتك به، ثار إليهم فتفرقوا عنه حين عرفوه، وانصرفوا وقد ضلت حيلتهم وانتقض تدبيرهم(1).
وفي غزاة بدر - وهي أول الغزوات - كانت على رأس ثمانية عشر شهرا من قدومه المدينة، وعمره سبعة وعشرون سنة، قتل عليه السلام منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده، وهم أعظم من نصف المقتولين وشرك في الباقين(2).
وفي غزاة أحد انهزم الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وحده، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،: لقد ذهبت فيها عريضة!(3) وتعجبت الملائكة من ثبات علي عليه السلام، وقال جبرئيل وهو يعرج إلى السماء " لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي " 4)، وقتل علي عليه السلام أكثر المشركين في هذه الغزاة، وكان الفتح
____________
(1) وفيه: نزل (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) كما سبقت الإشارة إليه، وانظر الفصول المهمة:
46 - 47 / الفصل.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 8 وانظر الفصول المهمة: 53 - 54 " ذكر أسماء رؤوس الكفر الذين انفرد عليه السلام بقتلهم ".
(3) ذكر فرار عثمان في معركة أحد وتغيبه عن بدر وتخلفه عن بيعة الرضوان في صحيح البخاري 5: 1265 / باب غزوة أحد، وجاء فيها محاولة الدفاع عنه بتأويلات باردة، وانظر بحار الأنوار 20: 84.
(4) مناقب الخوارزمي: 172 - 173 / الحديث 208، وذخائر العقبى: 74، وقال: خرجه الحسن بن عرفة العبدي وبحار الأنوار 20: 84 - 86، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 88.
روى قيس بن سعد عن أبيه، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة، سقطت إلى الأرض في أربع منهن، فجاءني رجل حسن الوجه (حسن الكلم)(1) طيب الريح، فأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسوله، فهما عنك راضيا ن، قال علي: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقال: يا علي، أما تعرف الرجل؟ قتل: لا ولكن شبهته بدحية الكلبي، فقال: يا علي، أقر الله عينك، كان جبرئيل عليه السلام.(2)
وفي غزاة الأحزاب - وهي غزاة الخندق - لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عمل الخندق أقبلت قريش يقدمها أبو سفيان، وكنانة وأهل تهامة في عشرة آلاف، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم، كما قال تعالى: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)(3).
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف، وجعل الخندق بينهم، واتفق المشركون مع اليهود، وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود.
وركب عمرو بن ود وعكرمة بن أبي جهل ودخلوا من مضيق في الخندق إلى المسلمين، وطلب المبارزة، فقام على(7) وأجابه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه عمرو، فسكت، ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا، وكل ذلك يقوم علي ويقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه عمرو، فأذن له في الرابعة.
فقال له علي عليه السلام: كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى
____________
(1) في " ش 1 " و " ش 2 ": حسن السلام واللمة.
(2) بحار الأنوار 20: 93، عن خصائص العلوية، وقريب منه في ترجمة الإمام علي من أسد الغابة.
(3) الأحزاب: " 10.
ما أحب أن أقتلك فقال له علي عليه السلام: ولكني أحب أن أقتلك.
فحمي عمرو ونزل عن فرسه، وتجاولا، فقتله علي عليه السلام وولده(1)، وانهزم عكرمة، ثم انهزم باقي المشركين واليهود، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قتل علي لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين(2).
وفي غزاة بني النضير قتل علي عليه السلام رامي قبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسهم، وقتل بعده عشرة منهم فانهزموا.
وفي غزاة السلسلة وفي غزاة جاء أعرابي فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جماعة من العرب قصدوا أن يبيتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من للوادي) فقال أبو بكر: أنا له، فدفع إليه اللواء وضم إليه سبعمائة: فلما وصل إليهم قالوا له: ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير، فرجع.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني من للوادي؟ فقال عمر: أنا ذا يا رسول الله، فدفع إليه الراية:
ففعل كالأول، فقال صلى الله عليه وآله وسلم في ليوم الثالث: أين علي بن أبي طالب؟ فقال: أنا ذا يا رسول الله، فدفع إليه الراية، فمضى إلى القوم فلقيهم بعد صلاة الصبح، فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون، وأقسم الله تعالى (بفعل أمير المؤمنين عليه السلام(3) فقال (والعاديات ضبحا)(4) السورة(5).
وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه، وسبي كثيرا من جملتهم جويرية بنت الحارث بن
____________
(1) في " ر " فقط.
(2) مستدرك الحاكم 3: 32 بسنده عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة. ومقتل الحسين للخوارزمي 1: 45.
(3) في " ش 2 " بفعله.
(4) العاديات: 1.
(5) إرشاد المفيد: 60 - 61، بحار الأنوار 21: 78.
وفي غزاة خيبر كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين عليه السلام، دفع صلى الله عليه وآله وسلم الراية إلى أبي بكر فانهزم، ثم إلى عمر فانهزم، ثم إلى علي عليه السلام وكان أرمد العين، فتفل في عينه، وخرج فقتل مرحبا، فانهزم الباقون وغلقوا عليهم الباب، فعالجه أمير المؤمنين عليه السلام فقلعه وجعله جسرا على الخندق - وكان الباب يغلقه عشرون رجلا - ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم، وقال عليه السلام: والله ما قلعت(3) باب خيبر بقوة جسمانية، بل بقوة ربانية.(4)
وكان فتح مكة بواسطته عليه السلام.
وفي غزاة حنين خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوجها إليهم في عشرة آلاف من المسلمين، فعاينهم أبو بكر وقال: لن نغلب اليوم من كثرة، فانهزموا ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير تسعة من بني هاشم وأيمن ابن أم أيمن، وكان أمير المؤمنين عليه السلام بين يديه يضرب(5) بالسيف، وقتل من المشركين أربعين (نفرا فانهزموا)(6).
الخامس:
إخباره بالغائب والكائن قبل كونه.
فأخبر بأن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة: " لا والله ما يريدان العمرة
____________
(1) ما بين القوسين ليس في " ر ".
(2) الإرشاد للمفيد: 62.
(3) في " ر ": فتحت.
(4) أمالي الصدوق: 415 / المجلس 77، في رسالته عليه السلام إلى سهل بن حنيف.
(5) سقط من " ر ".
(6) ما بين القوسين سقط من " ر "، وانظر الارشاد للمفيد: 74.
وأخبر وهو (بذي قار جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون، يبايعوني)(2) على الموت، فكان كذلك، وكان آخرهم أويس القرني(3).
وأخبر بقتل ذي الثدية، وكان كذلك(4) وأخبره شخص بعبور القوم في قضية النهروان، فقال " لم يعبروا " ثم أخبره آخر بذلك، فقال: " لم يعبروه، وإنه - الله - لمصرعهم " فكان كذلك(5) وأخبر بقتل نفسه الشريفة(6)، وأخبر جويرية بن مسهر بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه، ففعل به معاوية ذلك(7)، وأخبر ميثم التمار بأنه يصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة، وهو أقصرهم خشبة، وأراه النخلة التي يصلب عليها.
فوقع كذلك(8).
وأخبر رشيد الهجري بقطع يديه ورجليه وصلبه وقطع لسانه، فوقع(9)، وأخبر كميل بن زياد بأن الحجاج يقتله، فوقع(10)، وإن قنبرا يذبحه الحجاج، فوقع(11) وقال للبراء بن
____________
(1) الإرشاد: 166، وإعلام الوري: 169 - 170.
(2) ما بين القوسين سقط من " ش 1 ".
(3) الإرشاد للمفيد: 166 - 167، وإعلام الورى: 170.
(4) الإرشاد: 167، وإعلام الورى: 170.
(5) الإرشاد: 167 - 168، وإعلام الورى: 171، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 268 - 269.
(6) الإرشاد: 168، وتذكرة الخواص: 172 - 175، والفصول المهمة لابن الصباغ: 131، ومناقب ابن شهرآشوب 3: 310 - 311.
(7) الإرشاد: 170، وإعلام الورى: 172، وشرح النهج 1: 209، في إخباره بالمغيبات.
(8) الإرشاد للمفيد: 170، وإعلام الورى: 172 - 173، وشرح النهج 1: 210.
(9) الإرشاد للمفيد: 171 - 172، وإعلام الورى: 174، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 269.
(10) الإرشاد للمفيد: 172 - 173، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 271 - 272.
(11) الارشاد للمفيد: 173، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 271 - 272.
وأخبر بملك بني العباس وأخذ الترك الملك منهم، فقال: " ملك بني العباس يسر لا عسر فيه، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسند والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم لما قدروا أن يزيلوه، حتى يشد عنهم مواليهم وأرباب دولتهم، ويسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم، لا يمر بمدينة إلا فتحها، ولا ترفع له راية إلا نكسها، الويل الويل لمن ناواه، فلا يزال كذلك حتى يظفر، ثم يدفع بظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به " وكان الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خراسان، ومنه ابتدأ ملك بني العباس، حيث بايع لهم أبو مسلم الخراساني.
السادس: أنه كان مستجاب الدعاء.
دعا على بسر بن أرطاة بأن يسلبه الله عقله، فخولط فيه(2)، ودعا على العيزار بالعمى فعمى(3) ودعا على أنس بن مالك لما كتم شهادته بالبرص، فأصابه(4)، وعلى زيد بن أرقم بالعمى، فعمي(5).
السابع:
أنه لما توجه إلى صفين لحق بأصحابه عطش شديد فعدل بهم قليلا، فلاح لهم دير،
____________
(1) الإرشاد للمفيد: 174، وإعلام الورى: 175، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 270.
(2) الإرشاد للمفيد: 169 وبحار الأنوار 21: 204.
(3) الإرشاد: 184 - 185، ومناقب ابن شهرآشوب: 2: 279، وبحار الأنوار 41: 198 - 199، والعيزار هو رجل اتهمه أمير المؤمنين عليه السلام برفع أخباره إلى معاوية.
(4) الإرشاد: 185، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 279 - 280، وبحار الأنوار 21: 204.
(5) الإرشاد: 185، ومناقب ابن شهرآشوب: 2: 281 وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج في ترجمة زيد بن أرقم.
الثامن:
ما رواه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى بني المصطلق جنب عن الطريق وأدركه الليل، فنزل بقرب واد وعر، فهبط جبرئيل عليه السلام آخر الليل وأخبره(3) أن طائفة من كفار الجن قد استوطنوا(4) الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعلي عليه السلام وعوذه وأمره بنزول الوادي، فقتلهم عليه السلام(5).
التاسع:
رجوع الشمس له مرتين، إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والثانية بعده.
أما الأولى: فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل عليه جبرئيل يوما
____________
(1) في " ش 1 " و " ش 2 ": فجاء صاحب الدير عنده وقال: أنت رسول الله؟
(2) الإرشاد للمفيد: 176 - 178، وأورد في آخرها قصيدة السيد الحميري البائية المذهبة، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 264 - 265، وإعلام الورى: 176 - 177.
(3) في " ش 1 " و " ش 2 ": وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(4) في " ر ": استبطنوا.
(5) الإرشاد للمفيد: 178 - 179.
ردت عليه الشمس لما فاته | وقت الصلاة وقد دنت للمغرب |
حتى تبلج نورها في وقتها | للعصر ثم هوت هوي الكوكب |
____________
(1) في " ش 1 " و " ش 2 ": فائت.
(2) أخرج حديث رد الشمس طائفة كبيرة من أئمة الحديث، وقد أخرجه الخوارزمي في مناقبه: 306 / الحديث 301 عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام، عن أسماء بنت عميس، وفي: 306 - 307 الحديث 302، عن أسماء بنت عميس، وأخرجه ابن المغازلي في مناقبه: 96 / الحديث 140 بسنده عن أسماء بنت عميس، وفي: 98 / الحديث 141 بسنده عن أبي رافع، وأخرجه سبط ابن الجوزي في التذكرة: 49 - 50، حديث " في رد الشمس له " عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام، عن أسماء بنت عميس. وله كلام مع من ضعف الحديث، قال في آخره: وقد حبست (الشمس) ليوشع بالإجماع، ولا يخلو إما أن يكون ذلك معجزة لموسى أو كرامة ليوشع، فإن كان لموسى فنبينا أفضل منه، وإن كان ليوشع، فعلي (عليه السلام) أفضل من يوشع، قال صلى الله عليه وآله وسلم: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، وهذا في حق الآحاد فما ظنك بعلي... ثم استشهد سبط ابن الجوزي بما ذكره أحمد في الفضائل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله الصديقون ثلاثة... وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم وقد مر الحديث آنفا فاكتفيت بالإشارة إليه.
وأخرج الحديث الكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 381 - 387 عن أسماء بنت عميس، وقال: هكذا ذكره الحاكم في تاريخ نيسابور، وأخرجه بطريق آخر عن أسماء بنت عميس، وقال: هكذا رواه أبو الوقت في الجزء الأول من أحاديث الأمير أبي أحمد، ورواه عن عامر بن واثلة أبي الطفيل في حديث المناشدة يوم الشورى، ثم قال: هكذا رواه الحاكم في كتابه، وقد تكلم في الحديث من حيث الإمكان، فروى حديث رد الشمس لنبي من الأنبياء حسب ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد، ومن حيث عدالة من نقل ذلك، وذكر جمع ممن رواه من العلماء. وانظر كتاب " الغدير " للعلامة الأميني 3: 126 - 141 فقد استقصى الكلام في رواة حديث رد الشمس من الأعلام.
وعليه قد ردت ببال مرة | أخرى وما ردت لخلق معرب(1) |
العاشر:
ما رواه أهل السيرة أن الماء زاد في الكوفة وخافوا الغرق، ففزعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج الناس معه، فنزل على شاطئ الفرات فصلى، ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب في يده، فغاض الماء وسلم عليه كثير من الحيتان، ولم ينطق الجري والزمار والمار ما هي، فسئل عن ذلك، فقال: أنطق الله لي ما طهر من السموك، وأصمت ما حرمه ونجسه وأبعده(2).
الحادي عشر:
روى جماعة أهل السيرة أنه عليه السلام كان يخطب على منبر الكوفة، فظهر ثعبان فرقى المنبر، فخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم، فخاطبه ثم نزل، فسأل الناس عنه، فقال: إنه حاكم من حكام الجن التبس عليه قضية فأوضحتها له، وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه " باب الثعبان "، فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة، فنصبوا على ذلك الباب فيلا مدة طويلة حتى سمي " باب الفيل "(3).
الثاني عشر:
الفضائل إما نفسانية أو بدنية أو خارجية، وعلى التقديرين الأولين فإما أن تكون
____________
(1) الإرشاد للمفيد: 182 - 183 وقد أورد بيتا رابعا للحميري يقول فيه:
إلا ليوشع أوله من بعده | ولردها تأويل أمر معجب |
وانظر مناقب ابن شهرآشوب 2: 316 - 318، وإعلام الوري للطبرسي: 178 - 179.
(2) الإرشاد للمفيد: 183، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 330، وإعلام الورى: 179 - 180.
(3) الإرشاد للمفيد: 183 - 184، وإعلام الورى: 179.