يا نفس:
أراك على شرف الحمام، وأجدك على طرف الثمام (5)، قد انحنت قامتك، ودنت قيامتك، ولم يبق من عمرك إلا ساعة زمنية، وما بعد المشيب إلا بلية أو منية، فتأهبي للعرض يوم القيامة، وتوضأي للفرض قبل الإقامة، وأكثري حزنا على نفس ضيعته، وشيطان أطعته، وهوى تبعته، ودين بعته، وما أخالك (6) إلا كزنجي زنى وسرق، وعصى وأبق، فيرد إلى سيده مكتوفا، ومثل بين يديه موقوفا، يهوى الخلاص وأنى له الخلاص، ويرجو النجاة (ولات حين مناص) (7)، فهو كمريض لا يرجى برؤه، أو محيض لا يرقى (8) قرؤه، أو غريق نبذه الملاح، فأخذه التمساح، أو هائم خلفه الخريت (9)، واستهوته
____________
(1) الابريز: الذهب الخالص من الكدورات. مجمع البحرين 4: 8 برز.
(2) قال الطريحي في المجمع 5: 269 سبك: وسبكت الفضة وغيرها أسبكها سبكا، من باب قتل: أذبتها.
(3) أي: يقطع. اللسان 1: 486 شذب.
(4) أي يجهدون أنفسهم ويتعبونها. مجمع البحرين 5: 339 جفل.
(5) قال ابن منظور في اللسان 12: 80 ثمم: والعرب تقول للشئ الذي لا يعسر تناوله: هو على طرف الثمم.
(6) أي: وما أظنك. مجمع البحرين 5: 368 خيل.
(7) سورة ص 38: 3. والمناص: الملجأ. المفردات: 509 نوص.
(8) أي: لا ينقطع. مجمع البحرين 1: 194 رقا.
(9) في ب: الدليل الحاذق.
يا نفس:
كم من غافل يبيت على فراش الأمن وسنان (1)، والموت يحرق عليه الأسنان، يا ويله يركض بالنهار خيله، ويطوي على الغفلة ليله، وهو كالقطرب (2) في المطاف والمطار، جيفة بالليل بطال بالنهار، يعيش ساخطا (3)، ويموت قانطا، ذلك دأبه وديدنه، حتى يفترق روحه وبدنه، وسيفجأه من ألد (4) ما لا يود، يوم تبيض وجوه وتسود.
____________
(1) أي: نائما نومة خفيفة. اللسان 13: 449 وسن.
(2) في أ: القطرب: دويبة لا تستريح نهارها سعيا.
وفي الحديث: لا يلفين أحدكم قطرب نهار جيفة ليل، يعني: لا ينام أحدكم الليل كله ثم يكون بالنهار كأنه قطرب، لكثرة طوفانه وجولانه في أمر دنياه، فإذا أمسى يكون كالا تعبا فينام ليله كله حتى يصبح كالجيفة لا يتحرك.
وقيل: القطرب صغار الكلاب.
وقيل: ذكر الفيلان.
وقيل: حيوان بأرض الصعيد يظهر للمنفرد من الناس، فربما صده عن نفسه إذا كان شجاعا، وإلا لم ينته عنه حتى ينكحه، فإذا رأوه الناس قالوا: إما منكوح وإما مروع، فإن كان منكوحا يئسوا منه وإن كان مروعا عالجوه.
وقيل: القطرب صغار الجن.
وقيل: الذيب.
وقيل: الفار الأنقط.
هذا ذكر في كتاب نهاية الأرب.
(3) في أ: شاخصا.
(4) أي: أشد. مجمع البحرين 3: 141 لدد.
يا نفس:
مرض القلوب من أشد الأمراض، وعلاجه من أصح الأغراض، فيا من مرض فؤاده، ومل عواده، وتراجع الطبيب في الحمى، وأين الطبيب من الأجل المسمى، وأي حكيم لم تصرعه المنون، ثم لم ينفعه القانون؟ وأي طبيب لم تفده الغب (1)، ثم لم ينفعه الطب؟ فعلام ترفعي إلى الحكيم شأنك، وتدلعي لسانك، فتنهي سرك إلى الطبيب، وتشتكي إلى العدو من الحبيب؟ والله لا ينعشك إلا من صرعك، كما لا يحصدك إلا من زرعك، إن كنت وصفت له علة لم يشفها، وإن عرضت عليه كربة لم يقدر على كشفها.
يا نفس:
إياك أن تكوني ممن إذا ذكر بالآخرة قبع قبوع (2) الوسنان في جيب الكسل، وإن ظفر بالحلوة الخضرة وقع وقوع الذباب على ظرف العسل، وهذه علامات المنافقين لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعات سكون وثبات، وفي الطمع حركات قمرية، وفي الورع سكنات زحلية، إذا قلت: حي على الشهوات طاروا إليها خفافا وثقالا، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
____________
(1) قال الخليل في العين 4: 35 غب: ويقال: ما يغبهم لطفي ولهذا العطر مغبة طيبة أي: عافية.
(2) في ب: قبع قبوعا: إذا أدخل رأسه في قميصه.
يا نفس:
اعمري (1) دنياك بقدر محياك، ودبري أمر عقباك التي هي مأواك بقدر مثواك، فما الدنيا إلا دار غرور، وجسر مرور، فما أسخر من خيم على الجسر فلا يجوز، وما درى أن القعود على طرقات المارة لا يجوز، المخدوع من وضع لبنة على لبنة، والمخذول من ادخر تبنة على تبنة، وبال المرء مال أعد، أو درهم عدد، وشقاء الغافل بيت يبنيه، ويعمره لبنيه، فاحملي من الدنيا زاد الضرورة، واحرمي إلى الآخرة إحرام الصرورة.
واعلمي: أن الدنيا بئر هاروت، أو نهر طالوت، وأن الله مبتلي الخلق به فمن تبرض (2) ولم يصب ريا، شرب مريا، ومن ارتوى، أشرف على التوى (3)، إلا من نضح نفاضة على كبده، أو اغترف غرفة بيده.
يا نفس: (4)
القطيعة شيمة الشرس (5)، والغمر الذي لم يجرب الأمور (6)، وصلة
____________
(1) في أ: عمري.
(2) في أ: التبرض: التبلغ بالقليل من العيش، والبرض والبراض بالضم القليل. قاله الجوهري.
الصحاح 3: 1066 برض.
(3) أي الهلاك. مجمع البحرين 1: 71 توا.
(4) من هنا إلى قوله: يا نفس ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك ...، لم يرد في ب، فالاعتماد يكون على نسخة أ.
(5) في أ: الرجل السئ الخلق، وهو أيضا: العسر الشديد الخلاف. وشارس القوم: تعادوا.
(6) في أ ورد بمد لفظ الأمور: العمر، ولم نثبته لعدم اقتضاء السياق له.
يا نفس:
ابيض فودك وفؤادك فاحم، وبأخت (6) نارك وحرصك جاحم (7)، كيف
____________
(1) في أ: في الحديث: أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح، وهو: العدو الذي يضمر عداوته في كشحه، والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف.
(2) كذا في (أ).
(3) أي: غصن من شجرته. اللسان 7: 297 خوط، و 2: 426 دوح.
(4) في أ: الجوانح الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدور، وفصيلة الرجل: رهطه الأدنون، قاله الجوهري، وقال العزيزي: الشعوب أعظم من القبائل، ثم العمائر، ثم البطون واحدها بطن، ثم الأفخاذ واحدها فخذ، ثم الفصائل، ثم العشائر وليس تعد العشائر حي بوصف.
(5) وردت كلمة غير مقروءة في أ.
(6) أي سكنت وفترت. اللسان 3: 9 بوخ.
(7) في أ: الجاحم المكان الشديد الحر.
يا نفس:
ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك، والتمهيد لرمسك (7) إلا لكفر خفي أو لحمق جلي، فأما الكفر الخفي فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب، وقلة معرفتك بعظيم قدر الثواب والعقاب، وأما الحمق الجلي فاعتمادك على عفوه تعالى وستره، من غير التفات إلى معاجلته ومكره، فلا تضيعي أوقاتك، ولا
____________
(1) في أ: أي وقع، والنشوب: العلوق في الشئ.
(2) في أ: أي: تبدلت.
(3) في أ: وقوله (ومن نعمره ننكسه) 36: 68، من أطلنا عمره نكسنا خلقه.
وفيها أيضا: فصار بدل القوة الضعف وبدل الشباب الهرم، وإلى البقاء وقد شبت، ولم نثبته في المتن لانتفاء. السجع بين الكلمات، ولاحتمال أن يكون شرحا.
(4) أي: اضطرب وتحير. اللسان 2: 370 موج.
(5) أي: قبل الحين والوقت. مجمع البحرين 6: 197 ابن.
(6) في أ: تزعزع الصبي: إذا نشأ وطال، واليافع: الذي قد قارب الاحتلام، والفرط: المتقدم، وفرطتهم أي: سبقتهم.
(7) أي: لقبرك. مجمع البحرين 4: 76 رمس.
شعر:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه | فما فاته منها فليس بضائر (1) |
فأنفاسك معدودة، وأوقاتك محدودة، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك، ومارت (2) سماؤك ورخت (3) أرضك.
شعر:
ويح ابن آدم كيف يذهب عقله | أو يستلذ بليله ونهاره |
يمسي وقد أمن الحوادث بغتة | ولربما طرقته في أسحاره |
يضحي وكف الموت في أطرافه | كالكبش يلعب في يدي جزاره |
من ليس يدري كيف تصبح داره | من بعده فلينظرن في جاره |
يا نفس:
اقلعي عن فعلك، وانزعي عن جهلك، واغتنمي صحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك.
____________
(1) في ب: بضار.
(2) المور: الجريان السريع. المفردات: 478 مور.
(3) في ج: ورجت.
شعر:
آلة المرء وشباب | فإذا وليا عن المرء ولى |
وانظري إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا، وانظري إلى حمقهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويأملون (1) ما لا يدركون؟! فهل في الدنيا أحمق ممن يعمر دنياه وهو مرتحل عنها يقينا، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعا رهينا؟!
يا نفس:
إذا كان طلبك للدنيا غايتك، وما بلغت منها إرادتك، فما ظنك بدار لم تطلبيها، وكيف يكون حالك فيها؟
شعر:
إذا كان أدنى العيش ليس بحاصل | لذي اللب في الدنيا بغير المتاعب |
فكيف بأسنى العيش في عالم البقا | لذي الجهل في تفريطه (2) في المطالب |
أف للدنيا الدنية، خبثت فعلا ونية، ولعيش حشوه هم وعقابه منية.
واعلمي: أن الدنيا ليست تعطيك لتسرك، إنما تعطيك لتضرك (3).
____________
(1) في ب: ويؤملون.
(2) في ب: مع تفريطه.
(3) في ب: لتغرك.
شعر:
فذي الدار أخون من مومس (1) | وأخدع من كفة الحابل |
تفانى الرجال على حبها | ولا يحصلون على طائل |
يا نفس:
إن الدنيا أقل عند الله من جناح بعوضة وأحقر، فمن عظم هذا الجناح كان منه أصغر، فكم تشعبيها وتنصدع، وترقعي خرقها فيتسع، وتجمعي منها ما لا يجتمع.
شعر:
تأمل بعينيك كيف الذهاب | فإن لكل حياة مماتا |
فمن عاش شب ومن شب شاب | ومن شاب شاخ ومن شاخ ماتا |
يا نفس:
ما عسى أن ينال طالب (2) الدنيا من لذتها، ويتمتع به من بهجتها، مع ما يرى من فنون مصائبها، وأصناف عجائبها، وكثرة تعبه في طلابها، وتكادحه في اكتسابها، وما يكابده (3) من أسقامها وأوصابها.
____________
(1) أي: فاجرة. اللسان 6: 224 ميس.
(2) في أ: صاحب.
(3) في ب: وما يكايده.
شعر:
تعاوره آفاتها وهمومها | وكم ما عسى يبقى لها للتعاور |
فلا هو مغبوط بدنياه آمن | ولا هو عن طلابها لم لنفس قاصر |
يا نفس:
هب أنك لست بخبيرة، ولا ذات بصيرة، وإنما تميلين بطبع الصباء، إلى التشبيه في الاقتداء، فقيسي (1) عقل الأنبياء والأبدال، بعقل هؤلاء الأغمار الجهال، وأيضا إذا كنت لا تتركين الدنيا لعمى بصيرتك، وخبث سريرتك، فما لك لا تتركيها ترفعا عن خسة شركائها، وتنزها عن كثرة عنائها، وتوقيا من سرعة فنائها، وتفصيا من لأوائها وضرائها، مع أن بلادك لا تخلو من جماعة من اليهود والمجوس، يزيدون عليك في نعيم المأكول والملبوس، فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأنذال، الأخساء الجهال، وعلام لا تستحين من مساعدتهم على حماقتهم، ومراودتهم على جهالتهم؟
يا نفس:
إذا رغبت عن أن تكوني في جملة (2) المقربين، من الأولياء والمؤمنين، والأنبياء والمرسلين، في جوار رب العالمين، لتكوني من جملة الهالكين، والسفهاء الجاهلين، أياما معدودات على اليقين، لقد خسرت الدنيا والدين، فإذا ما أخس
____________
(1) في ب: تقيسي.
(2) في ج، د: ني زمرة.
يا نفس:
ما أشبهك في قصر العمر وطول الأمل، بالجمل، له عنق طويل وذنب قصير، وجسد كبير وأذن صغير، فصورتك صورة انسان وقلبك قلب حيوان، فأنت كالنقد (3) بل أذل، وكالأنعام بل أضل، لا تقتفين (4) أثر نبي، ولا تقتدين بعمل وصي، فيا ويلك ثم يا ويلك، إن أقمت على ضلالتك، وثبت (5) على جهالتك، ودمت على إصرارك، وتماديت في اغترارك.
يا نفس:
كم من جرم اجترمت، وإثم اقترفت، تنقلبين في أودية الغفلات، تقلب الريشة في الفلوات (6)، لا والله ما لهذا فطرت، ولا بهذا أمرت، إنه لم يخلقك لعبا، ولم يعدك كذبا، عدلك وسواك فلا تخرفي، ونورك وصفاك فلا تنكسفي (7)،
____________
(1) في ج، د: حياك.
(2) في ج، د: وفاك.
(3) في أ: النقد بالتحريك: جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه. قاله الجوهري.
(4) في أ، ج، د: لا تقتصين.
(5) في ب: وتثبت.
(6) جمع فلاة، وهي: الأرض التي لا ماء فيها. مجمع البحرين 1: 332 فلا.
(7) أي: فلا تتغيري. مجمع البحرين 5: 112 كسف.
يا نفس:
ما أكثر انهماكك في غوايتك، وتهورك في عمايتك (5)، وتمسكك بشقاوتك، وتشبثك بغباوتك، وعمهك (6) في سكرتك، وترددك في غمرتك، وخبطك في عشوائك، واستمرارك على التوائك، وما أعظم عنودك وشقاقك، وكنودك ونفاقك، وطغواك وعداوتك، وفسقك وعصيانك، إن قلت كذبت، أو عوتبت غضبت، أو سئلت بخلت، أو وعدت مطلت.
يا نفس:
أنت التي حسدت، أنت التي كندت، أنت التي حقدت، أنت التي
____________
(1) قال الطريحي في المجمع 5: 68 زيف: جاء في الحديث درهم زيف أي: ردئ.
(2) غرة كل شئ: أولة، والغرة بالضم بياض في الجبهة. اللسان 5: 14 - 15 غرر.
(3) في أ: جعلت.
(4) قال الطريحي في مجمع البحرين 2: 414 مسح: والمسح بالكسر فالسكون واحدا المسوح ويعبر عنه بالبلاس وهو كساء معروف.
(5) في ج، د: في غايتك.
(6) في ج، د: وغمرك.
____________
(1) في ب: راهيت.
(2) في ج: ضايعت.
(3) في أ: مهلت.
(4) في ج، د: غللت.
(5) في أ: أضللت.
(6) في أ: اختلت.
(7) في أ: اغتلت.
(8) في أ: أجرمت.
(9) في أ: غمرت.
(10) في أ: هزمت.
(11) في أ، ج، د: أخلفت.
(12) في أ: صلفت.
(13) في ب: سرفت.
يا نفس:
وبالجملة فخيرك يسير، وشرك كثير، بل خيرك ظفر، وشرك شبر، لا تزيدك الموعظة إلا خسارا، ولا تفيدك الوصية إلا إصرارا، قد ضج منك الضياء والظلام، والليالي والأيام، والملائكة الكرام، ولا جرم أنه من كانت هذه المعائب صفته، واعتماده وسيرته، أن يستوجب سخط الخالق، ومقت الخلائق، فعلام بعت الدين بالدون، ودنست ثوب عرضك المصون؟ فإنا لله وإنا إليه
____________
(1) في ج، د: مننت.
(2) في أ، ج، د: أصررت.
(3) في أ: أخفرت أي: نقضت العهد، وأخفرت الرجل: إذا نقضت عهدك. وفي الحديث: من صلى الصبح فهو خفرت الله، أي: في ذمته وجواره.
وفي ب: خفرت.
(4) في أ: الختر: أقبح العذر، والشطط: تجاوز القدر في كل شئ، وأسقطت أي: عثرت وزللت، والسقاط: العثرة والزلل، وسفهت أي جهلت. وعمهت أي: تحيرت وترددت.
يا نفس:
عجبا لك وقد قادتك أزمة الحين، واستغلق على قلبك أقفال الرين، وقد أشرفت على الهلاك، وحل بك الإرتباك، وآن فوتك، واقترب موتك، كيف تعمين عن هذه الأمور، ولا تحسبين عواقب يوم النشور؟! وقد قيل: من تدبر (1) العواقب، أمن من المعاطب.
شعر:
فإن الجرح ينفر بعد حين | إذا كان البناء على فساد (2) |
وكيف تبيعين (3) ما يبقى أبد الآبدين، بما لا يبقى إلا عدد سنين؟! فأنت كمنخل يمسك النخالة ويرسل الطحين.
يا نفس:
أنت تستعدين للشتاء بجمع عدته، بقدر طول مدته، فتجمعين له من الكسوة والأحطاب، وجميع (4) الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه،
____________
(1) في ب، ج، د: من بدر.
(2) في ب: الفساد.
(3) في ج، د: تتبعين.
(4) في ج: وجمع.
يا نفس:
أما تعلمين أن الموت ميعادك (3)، والتراب في القبر وسادك، والدود يأكل لحم خديك، وإنسان عينك، والفزع الأكبر بين يديك، أما تعلمين أن الأموات يتمنون الرجعة إلى هذه الدار، ليشتغلوا بتدارك تكفير الأوزار، ولو قدروا على يوم من عمرك، أو ساعة من دهرك، لاشتروا ذلك بأعلى (4) الأثمان، والياقوت (5) البهرمان (6)، وأنت الآن في أمنيتهم لا في منيتهم، وفي مقامتهم لا في قيامتهم.
____________
(1) قال ابن منظور في اللسان 5: 82 قرر: القر: البرد عامة، بالضم، وقال بعضهم: القر في الشتاء، والبرد في الشتاء والصيف.
(2) في ب: أتظنين.
(3) في ب: معادك.
(4) في أ: بأغلى.
(5) في أ: والماقور.
(6) في ج. د: ومعادن العقيان.
يا نفس:
أما تستحين تزينين ظاهرك للعوام، وتبارزين الله في السر في الجرائم (1)، وكيف تأمرين بالخير الداني والقاصي (2) وأنت ملطخة بالمعاصي؟! تدعين إلى اللين وأنت قاسية، وتذكرين بالله وأنت له ناسية.
شعر:
إذا أنت عبت الأمر ثم أتيته | فأنت ومن تزري (3) عليه سواء |
فليكن قلبك محزونا، وشرك مأمونا، ونفسك عفيفة، وحوائجك خفيفة، واصبري أياما قليلة، لراحة طويله، وانظري وجهك في المرآة في كل آن، وفي كل وقت وزمان، فإن كان وجهك مليحا، فاستقبحي أن تضيفي إليه فعلا قبيحا، وإن كان وجهك ليس بالزين، فلا تجمعي بين القبيحين (4)، وانظري إلى قول الشاعر:
شعر:
يا حسن الوجه فكن محسنا | لا تبدلن الزين بالشين |
ويا قبيح الوجه لا تجمعن | بالله ما بين قبيحين |
____________
(1) في أ: بالجرائم، وفي ج، د: بالعظائم.
(2) أي: القريب والبعيد. مجمع البحرين 1: 148 دنا و 341 قصا.
(3) في أ: تبني، وفي ب: شئ، وما أثبتناه من ج، د، وهو الأنسب.
(4) في أ: بين قبيحين.
يا نفس:
إياك واستعمال الرياء، فإنه موجب للمقت والشقاء، حيث ينادى عليه يوم تبلى السرائر: يا مرائي يا فاجر يا غادر، ثم يقال له في التوبيخ على رؤوس الأشهاد: أما استحييت إذ استخففت نظر سلطان المعاد، وراقبت قلوب العباد وتقربت إلى المخلوقين بالبعد عن المهيمن الجواد.
يا نفس:
لو لم يكن في الرياء إلا تحويل العمل من جزيل الثواب، إلى وبيل العقاب، لكان إلى معرفة ضرره كافيا، ولترك قوله والعمل به واعيا (1)، مع أنه من طلب رضى المخلوق (2) منعه الله في الدارين ثواب ما لديه، وسخط عليه وأسخطهم عليه، وأيضا فإن رضاهم لا يزيده رزقا ولا أجلا، ولا يرى نافعا يوم فاقته قولا وعملا (3).
يا نفس:
وكيف يترك العاقل ما عند الله تعالى برجاء كاذب، ووهم خائب؟! مع أن مدح الناس لا ينفعه وهو مذموم عند الله ومن أهل النار، وذمهم لا يضره
____________
(1) في أ: داعيا.
(2) في أ: المخلوقين.
(3) في أ: ولا عملا.
يا نفس:
فكوني على وجل، ولا تصحبي غير الخالص من العمل، كما أن المسافر إلى بعيد القفار (1)، لا يصحب معه إلا خالص النضار، طلبا للخفة وكثرة الانتفاع، والابتياع به عند الحاجة لما يباع، ولا حاجة أعظم من فاقة القيامة، ولا عمل أنفع من الخالص لله يوم الطامة، فهو أحس الذخائر، وأخفها حملا عند أولي البصائر
شعر:
ما بال دينك ترضى أن تدنسه | وثوب جسمك مغسول من الدنس |
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها | إن السفينة لا تجري على اليبس |
يا نفس:
في الخبر: أن العمل الصالح يمهد في الجنة لصاحبه، كما يرسل الرجل غلامه بفراشه ومآربه، بل هو يحمل صاحبه على ما ورد عن العلماء في رواياتهم، في تفسير قوله تعالى: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) (2)، إذ العمل
____________
(1) قال الطريحي في المجمع 3: 463 قفر: القفر من الأرض: المفازة التي لا ماء فيها ولا نبات والجمع قفار.
(2) الزمر 39: 61.
يا نفس:
إياك والحرص فالحرص مذموم، والحريص محروم، والرزق مقسوم، لا يزيده قيام حريص طامع، ولا ينقصه قعود مجمل قانع.
شعر:
إياك أن تحرص في مكتسب | يحظى به الغير وتشقى به |
كالكلب يستبدل مجهوده | في طلب الصيد لأصحابه |
فخفضي في الطلب، وأجملي في المكتسب، ففي الحديث: لا تموت نفس من الخلق، حتى تستكمل ما قسم لها من الرزق، إن الله قسم الرزق بين خلقه حلالا ولم يقسمه حراما، فمن اتقى وصبر أعطاه الله رزقه تماما، ومن هتك حجاب الستر فأخذه من غير حله، قوقص (1) به من رزقه الحلال كله.
شعر:
يفني الحريص بجمع المال مدته | وللحوادث ما يبقى وما يدع |
كدورة القز ما تبنيه يهلكها | وغيرها بالذي تبنيه ينتفع |
____________