الصفحة 114

يا نفس:

إن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وإنه لا غنى لك عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد، فلا تحملي على ظهرك ما يعجزك حمله، فيكون وبالا عليك نقله (9)، وإن وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك، فيوافيك به غدا يوم معادك، فأكثري من تزويده وحمليه، فلعلك تطلبيه فلا تجديه.

يا نفس:

الخير باق، والاحسان واق، والمرء لما قدم لاق، ومن الفساد إضاعة (2) الزاد، ومفسدة المعاد، وإنما لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، وإذا جزعت على ما تفلت من يديك، فاجزعي على كل ما لم يصل إليك، ولا تكوني كدودة القز تهلك في حبسها، لبنائها من جهلها على نفسها.

شعر:

ألم تر أن المرء طول حياتهمعنى بأمر لا يزال (3) يعالجه
كدود القز ينسج دائماويهلك غما وسط ما هو ناسجه

____________

(1) في ب: ثقله.

(2) في ب: إضافة.

(3) في أ: لم يزل.


الصفحة 115

يا نفس:

كما ينظر المريض إلى لذيذ الطعام، فلا يلتذ من شدة الأسقام، كذلك صاحب الدنيا لا يجد لذة العبادة وحلاوتها، مع ما يجد من محبة الدنيا وغضارتها (1).

واعلمي: أن الدابة إذا لم تركب وتمتهن (2)، نفرت واستصعبت، كذلك القلوب إذا لم ترتق بذكر الموت قست واستغلظت، وأن الزق (3) إذا لم ينخرق شك أن يكون وعاء للعسل، كذلك القلوب إذا لم تخرقها الشهوات يوشك أن تكون أوعية للحكمة وصالح العمل.

يا نفس:

في الحديث: من قال: سبحان الله غرس الله له بها في الجنة عشر شجرات، فيها ما شاء من أنواع الفواكه والطيبات، وهي ذوات أفنان (4)، تحمل من سائر الألوان، فيرى ثمرها إن أراد رطبا، وإذا قضى منه أربا (5) تحول عنبا فإذا قضى منه أملا، انقلب عسلا وتيجانا وحللا، وكذلك تتقلب لوزا،

____________

(1) أي: طيب عيشها. مجمع البحرين 3: 424 غضر.

(2) أي: إذا لم تركب وتستخدم. مجمع البحرين 6: 321 مهن.

(3) وهو: كل وعاء اتخذ لشراب ونحوه. اللسان 10: 143 زقق.

(4) أي: ذوات غصون، أو ذوات ألوان مختلفة. المفردات: 386 فنن.

(5) أي: حاجة. مجمع البحرين 2: 6 أرب.

وفي ب: أملا.

الصفحة 116
وبطيخا (1) وموزا، ورمانا وجوزا، وزيتونا وتينا، أو لحما (2) سمينا، وحورا عينا، وإنها تأتي إلى باغيها (3)، وتذلل قطوفها (4) لجانيها، من غير تكلف الاختراف، (5)، أو تجشم الاقتطاف (6)، فلو تخرج شجرة من تلك إلى الدنيا للابتياع، فما ظنك بما كان تبذل الملوك في قيمتها لجلالة الانتفاع، خصوصا إذا وصفت مع ذلك بأنها لا تحتاج إلى سقي وصرام (7)، ولا في ثمرها جرام، ولا لعمرها انصرام، أو أنها تبقى عشرة آلاف عام.

يا نفس:

قد ورد في الوحي القديم، عن الرب العظيم: أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، هذا مع أن عيان الآخرة أعظم من سماعها، بخلاف الدنيا لخساسة متاعها، وما أيام دنياك التي تشتري بها هذا النعيم المقيم والفضل العظيم إلا ساعة، فاجعليها طاعة، والماضي من دنياك لا تجدين للذته تنعيما، ولا لبؤسه تأليما، والمستقبل قد لا تدركيه، وإنما أنت بالوقت الذي أنت فيه، ثم إن لم تبيعي هذا الوقت القصير بنعيم الآخرة، بعتها بثمن بخس وصفقة خاسرة.

____________

(1) في ب: لو أراد بطيخا.

(2) في أ: ولحما.

(3) أي: طالبها. مجمع البحرين 1: 53 بغا.

(4) جمع قطف بالكسر وهو: العنقود. اللسان 9: 285 قطف.

(5) أي الالتقاط. اللسا ن 9: 64 خرف.

(6) أي: تكلف القطع. اللسان 12: 100 جشم.

(7) الصرام: جذاذ النخل. مجمع البحرين 6: 101 صرم.


الصفحة 117

شعر:

الدهر ساومني عمري فقلت لهما بعت عمري بالدنيا وما فيها
ثم اشتراها بتدريج بلا ثمنتبت يدا صفقة قد خاب شاريها

يا نفس:

لا تقولي أنا أتنعم في الدنيا بما أباحه الله من المستلذات، و (من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات) (1)، فإن هذا القول تمويه وزور، وحمق وغرور، لأن المتوغل في فضول الدنيا لا ينفك عن تورط الشبهات، والحرص الموقع في مهاوي الآفات، وإن سلم من الحرص - وأنى له - لم يسلم من القساوة والملالة، فخائض الماء يجد البلل لا محالة.

يا نفس:

في الحديث: إن المؤمن إذا كان فقيرا عفيفا في رياض الجنة قبل الغني بأربعين، وفي الحديث: إن أهل النار يدعون مالكا أربعين خريفا أي: أربعين سنة (2)، ومثل ذلك كسفينتين مرتا على عشار (3)، إحداهما خالية والأخرى ذات

____________

(1) الأعراف 7: 32.

(2) كذا في ب، وفي أ: في الحديث: إن المؤمن إذا كان فقيرا عفيفا ليتقلب في رياض الجنة قبل الغني بأربعين خريفا، أي: أربعين سنة، وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: من صام يوما في سبيل الله باعده الله من النار أربعين خريفا، وفي رواية أخرى: سبعين خريفا، قاله الهروي والمطرزي.

(3) بالعين المهملة المفتوحة والشين المشددة مأخوذ من التعشير، وهو أخذ العشر من أموال الناس بأمر

=>


الصفحة 118
أوقار (1)، فيقول للخالية: سيروها، وللموقرة: احسبوها لتعشروها.

يا نفس:

وكيف يرغب العاقل عن حب المسكنة والمساكين، وهو يرى الأولياء والنبيين، على بغض الدنيا قد انعكفوا، وبوظيفة القيام بخدمة الله تكلفوا، فلو كان في الدنيا خير لم تفت هؤلاء الأكياس، الذين هم حجج الله على الناس، وأي خير في الملك والمال وصاحبهما إما قائم بحقوقهما فذاك مسلوب اللذة والقرار، وإما مضيع لما وجب عليه فيهما فمصيره إلى النار.

يا نفس:

الاعتماد على الله منوط بالنجاح، ومقود بأزمة الفلاح، والتعلق بغيره مقرون بالخذلان، وموجب للحرمان، وإن الله أقسم بعزته وجلاله، وعظمته وكماله، أن يقطع أمل كل آمل أمل سواه بالأياس، وأن يكسوه ثوب المذلة في الناس، ويأمر السماوات والأرضين أن تقفل دونه أبوابها، وأن تقطع عنه أسبابها، ومن توكل على الله ذلت له الصعاب، وتسهلت عليه الأسباب، فثقي بالله ربك، وتوكلي على الله فهو حسبك، واطلبي رفده (2) (أليس الله بكاف عبده) (3).

واعلمي: أن الذي للتوكل تارك، مكذب بهذه الآية وهو هالك.

____________

<=

الظالم. مجمع البحرين 3: 404 عشر.

(1) أي: ذات حمل. مجمع البحرين 3: 513 وقر.

(2) أي: عطاء وعونه. مجمع البحرين 3: 53 رفد.

(3) الزمر 39: 36.


الصفحة 119

يا نفس:

في الحديث: أن جمود العين من قساوة القلب، وهو يؤذن بالبعد عن الرب، وأنه ما من شئ إلا وله وزن أو كيل، إلا الدموع من خشية الله في جوف الليل، فإن القطرة القليلة المقدار، تطفئ بحارا من النار، وإن القطرة كمثل رأس الذباب، كجبل أحد يوم الحساب من الأجر والثواب، والبكاء من خشية الله ينير القلب، ويعصم عن معاودة الذنب.

يا نفس:

فعليك بإرسال الدموع السجام (1)، عند تذكارك الذنوب العظام، والفضائح في يوم القيام، وإشفاق الخلائق من الملك العلام، وقد خرست الألسن والشقاشق (2)، وكانت الجوارح هي (3) الشاهد والناطق، يوم تكشف فيه العورات، ويؤمن فيه النظر والالتفات، وكيف للمرء بالنظر إلى من يليه، و (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) (4).

____________

(1) أي: في حال كونها سجام الذي هو: قطرات الدمع وسيلانه. اللسان 12: 280 سجم.

(2) قال ابن منظور في اللسان 10: 185 شقق: والشقشقة: لهاة البعير ولا تكون إلا للعربي من الإبل وقيل: هو شئ كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج، والجمع الشقاشق، ومنه سمي الخطباء شقاشق شبهوا المكثار بالبعير الكثير الهدر.

(3) في ب: بين.

(4) عبس 80: 37.


الصفحة 120

يا نفس:

فمنهم المسحوب على وجهه، والمقرون مع شكله وشبهه، ومنهم الجاثي على ركبتيه، والمعلق بشفتيه، ومنهم كالذر فيوطأ بالأقدام، ومنهم من يصلب على شفير جهنم عشرة آلاف عام، أو صلبا ليس لمدته انصرام (1)، ومنهم من يطوق بشجاع (2) في جيده (3)، ينهشه في وجهه ووريده، ومنهم من تطؤه ذوات الأخفاف بأخفافها، وذوات الأظلاف بأظلافها، ومنهم المقرون مع الشياطين، والمسجون في سجين، ومنهم من القردة والخنازير في صورتهم، ومنهم كالجيف (4) فيتقذرهم أهل الموقف لشدة نتنهم، ومنهم من يسيل من أفواههم وفروجهم القيح والصديد، ومنهم من له ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد، فأحق الناس بالتغبيط (5) الطائع الرشيد، وأحق الناس بالعذاب البسيط العاصي العتيد (6)، وقلت شعرا.

شعر:

أحق الناس أن يصلى بنارفتى ذو مال أذهبه الغناء

____________

(1) أي: انقطاع. مجمع البحرين 6: 101 صرم.

(2) وهي: الحية الذكر، وقيل: الحية مطلقا. لسان العرب 8: 174 شجع.

(3) أي: في عنقه. مجمع البحرين 3: 33 جيد.

(4) في أ: كالجيفة.

(5) من الغبطة التي هي: أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها ولا أن تتحول عنه. اللسان 7: 359 غبط.

(6) في أ: العنيد.


الصفحة 121

تجمع من نهاوش (1) ثم يلقىنهابر (2) إن ذاك هو الشقاء
فويل ثم ويل ثم ويلله في الحشر إذ عظم البلاء

يا نفس:

احذري: (يوما عبوسا قمطريرا) (3)، (يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا) (4) (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) (5)، (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) (6).

يا نفس:

احذري: (يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا) (7)، (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) (8)، (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا) (9)، (يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة

____________

(1) وهو: أن يكتسبه من غير حله. كأنه أخذه من أفواه الحيات. اللسان 6: 361 نهش.

(2) أي: مهالك وأمورا شدادا صعبة. اللسان 5: 239 نهبر.

(3) الانسان 76: 10.

(4) الطور 52: 9 - 10.

(5) الحديد 57: 13.

(6) الفرقان 25: 22.

(7) المزمل 73: 17 - 18.

(8) المزمل 73: 14.

(9) الإسراء 17: 71.

الصفحة 122
تنزيلا) (1)، (يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) (2)، (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) (3).

يا نفس:

احذري: (يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) (4)، (يوم الفصل) (5)، (وما أدراك ما يوم الفصل) (6)، (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) (7)، (يوم نسير الجبال) (8)، (يوم لا بيع فيه ولا خلال) (9)، (يوم الآزفة) (10)، (يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة) (11).

____________

(1) الفرقان 25: 25.

(2) الفرقان 25: 27.

(3) الأحزاب 33: 66.

(4) البقرة 2: 48.

(5) الصافات 37: 21، الدخان 44: 40، المرسلات 77: 38، النبأ 78: 17.

(6) المرسلات 77: 14.

(7) الأنعام 6: 158.

(8) الكهف 18: 47.

(9) إبراهيم 14: 31.

(10) غافر 40: 18.

(11) النازعات 79: 6 - 8.

الصفحة 123

يا نفس:

احذري: (يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) (1)، (يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (2)، (يوم لا ينفع مال ولا بنون) (3)، (يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) (4)، (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون) (5)، (يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) (6)، (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) (7).

يا نفس:

احذري: (يوم الدين) (8)، (وما أدراك ما يوم الدين) (9)،

____________

(1) فصلت 41: 19.

(2) المرسلات 77: 35 - 36.

31) الشعراء 26: 88.

(4) الجاثية 45: 27.

(5) الطور 52: 13 - 14.

(6) المعارج 70: 43 - 44.

(7) النحل 16: 111.

(8) الانفطار 82: 15.

(9) الانفطار 82: 17.

الصفحة 124
(يوم يقوم الناس لرب العالمين) (1)، (يوم التناد يوم تولون مدبرين) (2)، (يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين) (3)، (يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) (4)، (يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجاء يومئذ وما لكم من نكير) (5).

يا نفس:

احذري: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) (6)، (يوم يتذكر الانسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى) (7)، (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد) (8)، (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) (9).

____________

(1) المطففين 83: 6.

(2) غافر 40: 32 - 33.

(3) النمل 27: 87.

(4) الشورى 42: 7.

(5) الشورى 42: 47.

(6) عبس 80: 34 - 36.

(7) النازعات: 79: 35 - 36.

(8) المجادلة 58: 6.

(9) الحج 22: 2.

الصفحة 125

يا نفس:

احذري: (يوم التلاق) (1) (يوم يكشف عن ساق) (2)، (إلى ربك يومئذ المساق) (3)، (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (4)، (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) (5).

يا نفس:

احذري نارا شديد كلبها (6)، عال لجبها، ساطع لهبها، متأجج سعيرها، متغيظ زفيرها، بعيد خمودها، ذاك (7) وقودها، متخوف وعيدها، قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، وحليها أصفاد (8) الحديد (9)، وإذا قيل لها: هل

____________

(1) غافر 40: 15.

(2) القلم 68: 42.

(3) القيامة 75: 30.

(4) النبأ 78: 38 - 39.

(5) النبأ 78: 40.

(6) في أ: قوله: كلبها أي: مشارتها، والتكالب: المشارة. ولجبها أي: صوتها، وجيش لجب أي: ذي صوت وكثرة. وبحر لجب: إذا سمع اضطراب موجه. والأجيج: تلهب النار. وقوله: متغيظ زفيرها التغيظ: الصوت الذي يهمهم به المغتاظ، والزفير: صوت من الصدر

(7) من الذكاء بالفتح الذي هو: شدة وهج النار واشتعالها. مجمع البحرين 1: 159 ذكا.

(8) أي: أغلال. المفردات: 282 صفد.

(9) في ج، د: وحليها حديد.


الصفحة 126
امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد (1).

يا نفس:

انظري أولا في ذنوبك الظاهرة، قبل حلول الساهرة (2)، ثم انظري في الموت وسكرته، والقبر ومسألته، ثم انظري بعد هذه الثلاث، إلى عذاب الأجداث، ثم انظري رابعا في أهوال النداء يوم النشور، عند نفخة الصور، وكيف يساق الخلق من القبور، إلى موقف الساهرة حفاة، وإلى أرض المحشر عراة؟!

يسوقهم الله بالنفخة الأولى وهي الراجفة، ثم يتبعها بعد أربعين سنة بالنفخة الثانية وهي الرادفة.

يا نفس:

ثم انظري خامسا في جميع (3)، الخلائق على صعيد، وأهوال اليوم الشديد (4)، وعدة تلك الأمور (5) العظام، على ما ورد عن النبي عليه السلام: خمسون هولا بخمسين ألف عام، ثم انظري سادسا في المناقشة في الحساب في القليل والكثير، والاستقصاء (6) والمضايقة في النقير والقطمير (7).

____________

(1) إشارة إلى قوله تعالى (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) سورة ق 50: 30.

(2) وهي أرض القيامة. المفردات 245 سهر.

(3) في ج، د: في جمع.

(4) في ج، د: وهول ذلك اليوم الشديد.

(5) في أ: الأهوال.

(6) في أ: والاستفصاء.

(7) النقير: النقرة التي في ظهر النواة. والقطمير: الجلدة الرقيقة على ظهر النواة. مجمع البحرين 3  500 نقر، و 462 قطمر.


الصفحة 127

يا نفس:

ثم انظري سابعا في جهنم (1) وأهوالها، وسلاسلها وأغلالها، وسمومها ونكالها، وزقومها ووبالها، وإلي شررها التي ترمي بها كالجبال، وإلى عقاربها الفاغرة (2) أفواهها وهي كالبغال، وإلى حياتها الصالفة بأنيابها وهي كالنخل الطوال، وإلى زبانيتها (3) العظام، الذي ما بين منكبي أحدهم مسير عام، كيف وقد زمت (4) بسبعين ألف زمام، وردمت (5) بالغضب والانتقام، معذبها مقيم، وهينها أليم، يأكل بعضها بعض، ويصول بعضها على بعض، تذر العظام رميما، وتسقي أهلها حميما (6)، لا ترحم من استعطفها وتضرع لديها، ولا يقدر على التخفيف عمن خشع لها واستسلم إليها.

يا نفس:

إن الله يحشر المتكبرين والمتجبرين كالذر في صورهم وألوانهم، يطؤهم

____________

(1) في ج، د: ثم صوري في نفسك جهنم.

(2) أي: الفاتحة. مجمع البحرين 3: 441 فغر.

(3) الزبانية: قسم من الملائكة غلاظ شداد، وسمو بذلك لدفعهم أهل النار إليها. اللسان 13: 194 زبن.

وفي ب: زبانيها.

(4) أي: شدت. مجمع البحرين 6: 80 زمم.

(5) أي: سدت. مجمع البحرين 6: 72 ردم.

وفي ج، د: مردومة.

(6) في أ: جحيما.

الصفحة 128
أهل الموقف يوم القيامة لهوانهم، فيا خجل المقصرين من التوبيخ في محل القيامة، ويا حسرة أهل التفريط من زلات يوم الطامة، ويا سوء منقلب الظالمين عند حلول الندامة، ويا حسرة الهالكين إذا عاينوا أهل السلامة، ويا هوان المتكبرين إذا حرموا من دار الكرامة.

يا نفس:

يومئذ تبرز المخبئات، وتبدوا المكتومات (1)، وتظهر الفضائح، وتكثر الجوائح (2)، وتشهد الجوارح، وتبعثر الضرائح، وتعدد القبائح، وقيد الجبابرة بخطم الأرغام (3)، وجثى (4) الظالمون بين يدي حاكم الحكام، وعرف المجرمون بسيماهم فأخذوا بالنواصي والأقدام، وقضي بدار البوار لمن حرم دار السلام.

يا نفس:

فإذا عرفت في هذا المقام، بعض شدائد أهوال يوم القيام، فانظري إلى الجنة كيف زخرفها الله بالنعيم وملأها بالإنعام، وشوق إليها الأتقياء والأخيار من الأنام، وجعلها ثمانية أقسام: جنة عدن وجنة نعيم وجنة الخلد وجنة المأوى وجنة الفردوس ودار الجلال ودار الكمال ودار السلام، لبنة من ذهب ولبنة من

____________

(1) في ب: المكنونات.

(2) في أ: قوله الجوائح أي: الشدائد، والجائحة الشدة، والجوح: الاستيصال، وأجاحه: أهلكه بالجائحة.

وفي د: الصوائح.

(3) الخطم: الأنف، والرغام: التراب. اللسان 12: 186 خطم، و 247 رغم.

(4) في ج: وجث.


الصفحة 129
فضة حصاؤها (1) اللؤللؤ والمرجان وترابها الزعفران تضع عليها الأقدام.

يا نفس:

وفيها كما ذكر ذو الجلال في سورة القتال: (أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات) (2)، مطهرة من الدنس والآثام، أهلها في أكناف القصور كأمثال البدور بيض الوجوه سود العيون نواعم الأجسام، حسنهم على قدر أعمالهم فمنهم كالكوكب الدري الغاير في الأفق ومنهم كالبدر في ليالي التمام، تشرق وجوههم وتضئ أعمالهم ويذهب عنهم الهم ويذهب عنهم السقام، في نعيم وسرور وجنة وحرير وغبطة وحبور ومساكن وقصور وقباب وخيام.

يا نفس:

وعلى كل واحد منهم سبعون حلة من سندس وإستبرق منسجلة (3) الذيول مطرزة الأعلام، وكلما غردت فون الغصون حمامات الأوكار وجرت تحت القصور أمواه الأنهار هبت النسيم نفحت الأشجار تلألأت الزهور تفتحت الأكمام، وكلما تعبت مصاريع القصور تغنت الولدان والحور تراقصت البلابل

____________

(1) في أ: حصياتها.

(2) سورة القتال - محمد صلى الله عليه وآله وسلم - 47: 15.

(3) أي: مسترخية. اللسان 11: 325 سجل.

الصفحة 130
وتجاوبت الطيور بأحسن نغام وأمتن (1) نظام، يأكلون ويشربون ويتنعمون لا يفنى شرخ شبابهم (2) ولا يبلى صافي ثيابهم ولا يترنق (3) صافي شرابهم على طول الدهور وممر الأيام.

يا نفس:

فوا عجبا لطالب هذا الخير العميم، والرزق الجم (4) العظيم، والمغفرة والأجر الكريم، كيف يطيب له رقاد ويلذ له منام؟! أو كيف ينام قرير العين من طالبه لا ينام؟! أو كيف يطمع بالبقاء من ينقص عمره على ممر الساعات والأيام والشهور والأعوام؟ صدق عليه السلام: الناس نيام.

شعر:

يا أيها الرقد كم ذا المنام (5)علام ذا الغفلة جهلا علام
علام تفني العمر لا ترعويسكرت يا هذا بغير المدام (6)
في طمع الدنيا ولذاتهاوجمع ما تتركه من حطام
حل بك الشيب أما تستحيما آن إقلاعك عن ذي المرام
تماري الشبان في جهلهمذو شيبة يفعل فعل الغلام

____________

(1) في أ: وأبين.

(2) أي: أول شبابهم. اللسان 3: 29 شرخ.

(3) أي: لا يكدر. مجمع البحرين 5: 13 رشق.

(4) في أ: الجسيم.

(5) في أ: القيام.

(6) في أ: المرام.

الصفحة 131

كأن بالصحة قد حولتوالبس المسكين ثوب السقام
فارقت القوة أركانهاعن كل ما يعهد حتى الطعام
طاف به الأهل ولا حيلةحتى سقاه الموت كأس الحمام
فيا هنيئا لامرئ قدمتيداه خيرا بعده لا يضام
ويا حيا المذنب من زلة (1)موبقة ترديه (2) بين الأنام

يا نفس:

فدراك دراك، قبل حلول الهلاك، قبل هجوم ما لا يدفع، وذهاب ما لا يرجع، والاعتذار بما لا يسمع، وشخوص الأبصار في المحاجر (3)، وبلوغ القلوب الحناجر.

وانظري إلى منظر تنصدع منه المرائر، وتعلن فيه السرائر، وتكشف فيه الصغائر والكبائر، فلا مشمر (4) يومئذ إلا ظافر، ولا مقصر إلا خاسر.

يا نفس:

ما أقبح التقصير بعد التحذير، وما أحسن التشمير بعد التبذير، وما أعظم المصيبة على من فقد قلبا واعيا، وما أسرع العقوبة على من عدم طرفا

____________

(1) في أ، ب: ذلة، والأنسب ما أثبتناه، وهو من ج، د.

(2) في ج، د: تفضحه.

(3) جمع محجر بالكسر وهو: ما دار بالعين من جميع الجوانب وبدا من البرقع. مجمع البحرين 3: 260 حجر.

(4) أي: متهيأ. اللسان 4: 427 شمر.

الصفحة 132
باكيا.

شعر:

كنت في سفرة الغواية والجهلدواما فحان (1) منك قدوم
بعد خمس وأربعين لقد ماطلت لولا أن الغريم كريم
فعسى أن رجعت عن كل حوبيمح بهذا الحديث ذاك القديم

يا نفس:

إنك عن قريب في البرزخ منبوذة، وبكبائر ذنوبك وصغائرها مأخوذة، فكيف بك إذا بلغ كتابك المسطور الأجل؟! وحرر حسابك المحصور وحصل؟

وقضي قضاؤك المقدور ونزل؟ وخاب رجاؤك المغرور وبطل؟

شعر:

فيا هنيئا لخير كسبتيداه خيرا وجد في أجره
وقد تردى بحكمة وتقىسيان في عسره وفى يسره
ودأبه الصوم والصلاة معافي يومه والهجود (2) في سحره
ويا تبابا لكادح كدحتيداه شرا وقد جد في ضرره
مشتمل بالضلال كم بدعأبدع في بدوه وفي حضره
مباغي البغي يبتغي أثراوخده لا يزال في صغره

____________

(1) في ج، د: فحار.

(2) من التهجد، قال تعالى: (ومن الليل فتهجد به) 17: 79 أي: تيقظ بالقرآن.


الصفحة 133

فذاك قصراه في قيامتهبقصره مرتق على سرره
وأن هذا بيوم مبعثهمسعر الجسم ظل في سعره

يا نفس:

ألا تنظرين إلى الذين عمروا الدنيا زمانا، وجعلوها أوطانا، واتخذوا منها أموالا وأعوانا، فاخرجوا منها وحدانا، وزودوا من متاعها أكفانا، ولم يجدوا من خوفها أمانا.

شعر:

جرت الرياح على محل ديارهمفكأنهم كانوا على ميعاد

أقاموا (1) في بطون الأرض بعد ظهورها، وسكنوا في قبورها بعد قصورها، فهم في مضاجع الهلكات راقدون، وفي بلاقع (2) الفلوات خامدون.

يا نفس:

فلو كشفت عنهم أغطية الأجداث، بعد يومين أو ثلاث، لرأيت الأحداق (3) على الخدود سائلة، والديدان في الأجساد جائلة، والألوان من ضيق اللحود حائلة، ينكرها من كان لها عارفا، وينفر عنها من لم يزل بها آلفا، قد

____________

(1) في ج، د: قاموا.

(2) جمع بلقع وهو: الأرض القفر التي لا شئ بها. اللسان 8: 21 بلقع.

(3) قال الطريحي في المجمع 5: 144 حدق: وفي الحديث حدقة العين وهي: سوادها.