يا نفس:
إن قوارع (1)، الأيام خاطبة فهل أذن لعظاتها واعية؟ وإن فجائع الزبايا صائتة فهل نفس إلى التنزه عنها داعية؟ وإن طوامع الآمال كاذبة فهل قدم إلى التجنب عنها ساعية؟ فكيف تغفلين عن الاستقامة ولا بد من إدراكك؟! وكيف تغترين بالسلامة ولا ريب في هلاكك؟! فيا عجباه لمن تخرب الأيام عمره وهو يعمر دارا، ويا رحمتاه لمن يوقن بحلول الموت به وهو يلذ قرارا.
شعر:
وما الدنيا بباقية لحي | ولا حي على الدنيا بباق |
يا نفس:
استيقظي من غفلتك، وانتبهي من رقدتك، قبل أن يقال فلان عليل، ومدنف (2)، بخيل (3)، فهل على الدواء من دليل؟ أم هل إلى طبيب من سبيل؟ ثم
____________
(1) أي: دواهي. مجمع البحرين 4: 376 قرع.
(2) المدنف: المثقل في المرض. مجمع البحرين 5: 59 دنف.
(3) في ج، د: ثقيل.
يا نفس:
فهلمي إلى محاسبة نفسك قبل مواثبة رمسك، وتدارك يومك وأمسك قبل شهادة حواسك وفض طرسك، وكوني من الله على وجل، ولا تغتري بالأمل ونسيان الأجل، وأن تخرجي بغير زاد، وتقدمي على غير مهاد، فتعظم ندامتك يوم قيامتك، وتكثر حسرتك يوم كرتك، وتغصي في ذلك المقام المهول بريقك، وتصبحي شماتة عدوك ورحمة صديقك.
يا نفس:
قد خفقت فوق رأسك أجنحة الموت، ورمقتك عن قريب أعين الفوت، فأهملي عبراتك إذا ذكرت عثراتك، وكيف يفرح بصحبة الدنيا صدرك؟ وكيف يلتئم في غمراتها أمرك، وقد دعاك باقتراب الأجل قبرك؟ فهلا تنظرين إلى الذين مضوا نظرة، أما لك بهم عبرة، كيف أصبح جمعهم بورا، وأملهم غرورا، وخلفوا فرادى في أضيق المضاجع، وصرعتهم المنايا في أعجب المصارع،
____________
(1) في أ، ج، د: أنينك.
(2) في ج، د: أهلك.
شعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها | من الحرام ويبقى الإثم والعار |
تبقى عواقب سوء في معقبها | لا خير في لذة من بعدها النار |
يا نفس:
حتام إلى الحياة سكونك، وإلى الدنيا وعمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألافك، ومن فجعت به من إخوانك، ونقل (1) إلى دار البلى من أقربائك (2)
شعر:
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها | محاسنهم فيها بوال دواثر |
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم | وساقتهم نحو المنايا المقادر |
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها | وضمتهم تحت التراب الحفائر |
وحلوا بدار لا تزاور بينهم | وأني لسكان القبور التزاور |
____________
(1) في أ: ونقلت.
(2) في ج، د: من أقرائك.
يا نفس:
فكيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائرة إليها لا محالة؟! أم كيف تتهنئين بحياتك، وهي مطيتك إلى مماتك؟! أم كيف تسيغي طعامك وأنت تنظري حمامك؟!
وهل يحرص على الدنيا لبيب، أو يسر بلذتها أريب، وهو على ثقة في فنائها، وغير طامع في بقائها؟! أم كيف تنام عين من يخشى البيات (1)، أو تسكن نفس من يتوقع الممات؟!
ومن يصحب الدنيا يكن مثل مستق | من الماء من بئر عميق بمنخل |
فطلقهما يمن المفازة دائما (2) | وتنجو بعون الله من كل موجل |
يا نفس:
ضعي فخرك، واحططي كبرك، واذكري قبرك، ولا تقولي: غرتني الدنيا وقد أرتك مضاجع آبائك من الثرى، ومصارع (3) أمهاتك من البلى، كم مرضت بكفيك، وكم عالجت بيديك؟! تبتغي لهم الشفاء، وتستوصفي لهم الأطباء، مثلت لك بهم الدنيا مضجعك، وبمصرعهم مصرعك.
____________
(1) البيات: الأخذ بالمعاصي. مجمع البحرين 2: 194 بيت.
(2) كذا في ب، ولم يرد البيت بأكمله في أ.
(3) في ج، د: ومنازل.
يا نفس:
إن الجنازة عبرة للبصير، وفيها تنبية وتذكير (1)، وأهل الغفلة لا تزيدهم مشاهدتها إلا قسوة، ولا توليهم مباشرتها إلا صبوة، ومنهم من يضمر التوبة، وترك الحوبة، فيغشى من الجزع عليه، وقد خضبت الدموع خديه.
شعر:
عجبت لمن يبكي على فقد غيره | دموعا ولا يبكي على فقد نفسه (2) |
ولو كان له عقل لبكى على نفسه | وما فرط في يومه وأمسه |
شعر:
ويبكي على الموتى ويترك نفسه | ويزعم أن قد قل عنهم عزاؤه |
فلو كان ذا رأي وعقل وفطنة | لكان عليه لا عليهم بكاؤه |
يا نفس:
ثم بعد أن يسير، تنسي ذلك الأمر الخطير، فتحيي شهوات السيئات، وتميتي قربات الحسنات، ولقد أحسن ورام (3) قدس الله سره في هذه الأبيات.
____________
(1) في أ: إن الجنازة عبرة، وفيها تنبيه وتذكرة.
(2) في أ، ب: ولا يبكي على فقده دما، وما أثبتناه من ج، د، وهو الأنسب، لموافقته للقافية.
(3) قال الشيخ منتجب الدين في الفهرست 195: الأمير الزاهد أبو الحسين ورام بن أبي فراس بحلة، من أولاد مالك بن الحارث الأشتر النخعي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. عالم فقيه صالح، شاهدته بحلة ووافق الخبر الخبر. قرأ على شيخنا الإمام سديد الدين محمود الحمصي رحمه الله بحلة وراعاه.
بيت:
مذ رأينا القبور تبنى فتبنا | قدر ما غيب الدفن وغبنا |
كم دفنا أخا عزيزا وابنا | وشرجنا عليه طينا ولبنا |
لو رجعنا عما زجرنا أجرنا | وتركنا ما اغتصبنا أصبنا |
وقبيح علي ذكر الغواني | بعد ما قد مضى الشباب وشبنا |
يا نفس:
من أكثر من ذكر قبره وعمل له وجده روضة من رياض النعيم، ومن غفل ذلك وجده حفرة من حفر الجحيم، وفي الحديث: إن أزهد الناس من لم ينس القبر والبلى، وترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعد من أيامه غدا.
يا نفس:
تعجب الأرض لرجل (1) يمهد مضجعه للمنام، ولا يمهده بالعمل الصالح لطول يوم القيام.
____________
(1) في أ: من رجل.
شعر:
ستندم عند الموت كل ندامة | إذا ضم أعضاك الثرى المتضايق |
وصرت طريحا في ضريحك مفردا | ويهجرك الجار القريب الملاصق |
فذنبك إن أبضغته فمعانق | وما لك إن أحببته فمفارق |
وإنك مأخوذ بما قد جنيته | وإنك مطلوب بما أنت سارق |
يا نفس:
ما من أحد من العباد، إلا ويناديه قبره: أنا بيت الوحدة والانفراد، فإن كنت ذا ثواب كنت عليك اليوم رحمة، وإن كنت ذا عقاب فأنا عليك اليوم نقمة، أنا الذي من دخلني طائعا خرج مسرورا، ومن دخلني عاصيا خرج مثبورا (1)، ثم يناديه الموتى من جيرانه: أيها الوارد علينا بعد موت إخوانه (2) أما كان لك فينا عبرة، أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة.
يا نفس:
فالسعيد من اعتبر بأمسه واستظهر لنفسه (3)، والشقي من جمع لغيره وبخل على نفسه بميره (4).
____________
(1) أي: مهلكا وملعونا. مجمع البحرين 3: 235 ثبر.
(2) في ج، د: أخدانه.
(3) في أ: بنفسه.
(4) قال ابن منظور في اللسان 5: 188 مير: الميرة: الطعام يمتاره الانسان.
شعر:
أيا جامع المال من جله (1) | يبيت ويصبح في ظله |
سيؤخذ منك غدا (2) كله | وتسأل من بعد عن كله |
وارثك يأكله هنيئا، طيبا مريئا، يأكله حلالا، وهو كان عليك وبالا، خضت في جمعه لجج البحار، ومفاوز (3) القفار، ثم لم تؤدي منه الزكاة، ولم تنفقيه في القربات، فكم من باطل جمعتيه، ومن حق منعتيه؟! وإن من أعظم الحسرات، وأكبر البليات، مال لا ينتفع به صاحبه في حياته، وضره بعد وفاته، قد جمع فأوعى، وشد فأدلى، يرى ثواب ماله في ميزان سواه، ووزره يحمله على قفاه، فيا لها من حسرة لا تقال، ورحمة لا تنال.
شعر:
يلج ابن آدم في رزقه | كأن رحى الموت لا تطحنه |
فكم من حريص على ماله | لأعدائه عد وله يخزنه |
فمن يزرع خيرا يحصد السلامة، ومن يزرع شرا يحصد الندامة.
بيت:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد | ذخرا يكون كصالح الأعمال |
____________
(1) في ب: من حيلة.
(2) في أ: غدا منك.
(3) أي: مهالك. مجمع البحرين 4: 30 فوز.
يا نفس:
ما شر بشر بعده النعيم، وما خير بخير بعده الجحيم، فكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار يسير.
واعلمي: أن الغني قلة تمنيك، والرضى بما يكفيك، ومن أطال الأمل أساء العمل، ومن أكثر الرقاد عدم المراد، وتخليص النية من الفساد، أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
يا نفس:
ومن العجب أنك، تخافين اللص على مالك، فتستظهرين في حفظ ذلك بإغلاق الباب (1)، وإقامة الحجاب، ورفع الحيطان، وترصيص البنيان، ثم تنسين الموت الذي يدرك بلا طلب (2)، ويعلق بلا سبب، لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع، فانظري إلى الموت هل فاتته نفس في مطمح النسر أو مسبح النون (3).
يا نفس:
أنظري إلى محاسن ما قيل، وذكر في الكنز المذكور في التنزيل: عجبا
____________
(1) في ب: الأبواب.
(2) في ب: بلا طالب.
(3) جملة: فانظري إلى الموت هل فاتته نفس في مطمح النسر أو مسبح النون. غير واضحة القراءة في أ و ب، فأثبتنا ما استظهرناه، والله العالم.
شعر (3):
إذ المرء كانت له فكرة | ففي كل شئ له عبرة |
والتفكر في خلق الله وأمره عبادة جليلة، ففي الحديث: فكر ساعة خير من قيام ليلة، فمن لم يكن كلامه ذكرا فهو لغو، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو، ومن لم يكن سكوته فكرا فهو سهو، فتفكري قبل أن تعزمي، وتدبري قبل أن تهجمي، وشاوري قبل أن تقدمي.
شعر:
دافع الأيام بالفكرة | في يوم الممات |
وارض من عيشك بالكسرة | والماء الفرات |
فهي تكفيك وتغني | عن جميع الشهوات |
____________
(1) في أ: با لقدر.
(2) أي: كيف يحزن. مجمع البحرين 2: 344 ترح.
وفي ب: كيف ينزع.
(3) في أ، ب: يا نفس.
يا نفس:
إقبال الدنيا كإلمامة (1) ضيف، أو سحابة صيف، أو زيارة طيف.
بيت:
ومن يصحب الدنيا يكن مثل قابض | على الماء خانته فروج الأصابع |
وفي الخبر: أن عيسى عليه السلام أتته الدنيا، في صورة عجوز هتما (2)، وتبرجت وتجلت، وبأحسن الحلي تحلت، فقال لها: كيف أزواجك إذا فارقوك، أماتوا عنك أم طلقوك؟ فقالت: بل قتلتهم بمضرتي (3)، وأدخلتهم في غرتي، فقال: تبا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين.
بيت:
إنما الدنيا فناء | ليس للدنيا ثبوت (4) |
إنما الدنيا كبيت | نسجته العنكبوت |
إنما يكفيك منها | أيها العاقل (5) قوت |
____________
(1) أي: كنزول. مجمع البحرين 6: 165 لمم.
(2) الهتماء: التي انكسرت ثنيتها: اللسان 12: 600 هتم.
(3) في ب: بمضربي.
(4) في أ:
إنما الدنيا بلاء | ليس فيها من ثبوت |
(5) في أ. المغرور.
ولعمري عن قريب (1) | كل من فيها يموت |
يا نفس:
أراك تفرحين كل يوم (2) بزيادة (3) مالك، ولا تحزنين لنقصان (4) عمرك وصالح أعمالك، وما ينفع مال يزيد وعمر ينقص، وإثم يدوم (5) ونعيم يخلص.
شعر:
حياتك أنفاس تعد فكلما | مضى نفس منها انقضت به جزء |
وما أقبح بك يأتيك اليسير من الدنيا فتفرحين، ويفوتك الكثير من دينك فلا تحزنين.
بيت:
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي | ودينك منقوص ومالك وافر (6) |
____________
(1) في أ: عن قليل.
(2) في أ: أراك كل يوم تفرحين.
(3) في ج، د: لزيادة.
(4) في أ، ج، د: بنقصان.
(5) في د: وعمر ينقص ولم يدم.
(6) في ب: زاخر.
يا نفس:
في الحديث المشهور، والخبر المأثور (1): إن العبد إذا بلغ أربعين، من مدة عمره من السنين، ناداه مناد من عند الجليل (2): قد دنا الرحيل، فأعد الزاد، ليوم المعاد، ويؤمر حافظاه بالتحقيق عليه والاحصاء، والمناقشة والاستقصاء.
وفي حديث آخر: إن لله ملكا ينادي كل ليلة: يا أبناء الستين، عدوا أنفسكم في الموتى ولو بعد حين، وقد حكم سيد البرايا، أن ما بين الخمسين إلى الستين مبدأ اعتراك المنايا.
شعر:
ما عذر من جر عاريا رسنه | ما عذره بعد أربعين سنة |
أكل ما طالت الحياة به | أطال عن أخذ حذره وسنه |
فعلام يا نفس الإهمال، عن صالح الأعمال، وقد لهزك القتير، ووافاك النذير؟!
شعر:
وما أقبح التفريط في زمن الصبا | فكيف به والشيب للرأس شامل |
____________
(1) في ج، د: في الحديث المأثور والخبر المشهور.
(2) في أ: الخليل.
يا نفس:
ومن العجب أنك تبذلي الهدايا الجزيلة، والتحف النبيلة، من الملابس والمطاعم، مما تستحسنه الأكابر والأعاظم: من برد يمني، أو ديباج رومي، أو خز سوسي، أو حرير صيني، أو جوخ (1) نبطي، أو صوف قبرصي، أو بساط أرمني، أو سكر أهوازي، أو عسل أصفهاني، أو شهد كسرواني، أو مسك نبني، أو عنب شجري، أو عود صندلي، لتبتغي بذلك جزاه، وزيادة الأبهية (2) والجاه، وليس فعلك ذلك لله، ثم قد تذهب هديتك عليك مجانا (3)، ولا ترين من المهدي إليه إحسانا، وأنت مع ذلك لا تهدين إلى المسكين والفقير، ولا تجبرين قلب الحزين الكسير، ولا تلفين إلى اللطيف الخبير، بل لو دعاك الفقير إلى مائدته لأبيت، ولو دعاك الغني لبيت، وقد يحسن لك هديتك في إحسانه أكثر، ومنته عليك عند الناس أكبر، هذا مع خلوك من الثواب الجزيل، والأجر النبيل، وكونه سبحانه يحاسبك على هديتك على القليل والكثير، ويناقشك على الفتيل (4) والنقير، وتحملين وزر هديتك على قفاك، لأنك لم تجعليه لله الذي خلقك فسواك، فبالله إلا ما اشتريت نفسك من العذاب المهين، بالاحسان إلى الفقير والمسكين، واذكري (يوم يتذكر الانسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى * فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة
____________
(1) في ب: أو جوج.
(2) أي: العظمة والكبرياء. مجمع البحرين 6: 339 أبه.
(3) بالتشديد أي: بلا بدل مجمع البحرين 6: 314 مجن.
(4) وهو: قشر يكون في بطن النواة، وهو مثل للقلة. مجمع البحرين 5: 439 فتل.
يا نفس:
إذا سرك أن تذوقي حلاوة عبادة الحميد المجيد، فاجعلي بينك وبين شهوات الدنيا حائطا من حديد، واعلمي: أن الصبر على طاعته أهون من الصبر على عذابه الشديد، فالمداوي جرحه يصبر على الدواء، مخافة من طول الداء، فاصبري على عمل لا غنا لك عن ثوابه، وعن عمل لا صبر لك على عقابه.
يا نفس:
لو علمت قدر بأس الله وعذابه، ونكاله وعقابه، ما رقى لك دمع، ولا عمر لك ربع.
واعلمي: أن أعقل الناس محسن وهو يعد نفسه من الخائفين، وأجهلهم مسئ وهو يعدها من الآمنين، وإياك أن تكون الدنيا همك، فيكثر في الآخرة
____________
(1) النازعات 79: 35 - 41.
(2) أي: بالاتباع واللحوق. مجمع البحرين 5: 264 درك.
(3) أي: ما رجع الليل والنهار. مجمع البحرين 3: 471 كرر و 23 جدد.
شعر:
المرء مرتهن بسوف وليتني | وهلاكه في الليت والتسويف |
يا نفس:
علام وسعت قصرك، وضيقت قبرك، فرفعت الطين، ووضعت الدين.
شعر:
أما بيوتك في الدنيا فواسعة | فليت قبرك بعد الموت يتسع |
واعلمي: أن الدنيا والآخرة ضرتان، وهما ككفتي الميزان، فإن رجحت إحداهما خفت الأخرى، فانظري الأولى بك والأحرى.
يا نفس:
ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه، واعلمي أن الدنيا دار ممر، لا دار مقر.
بيت:
أحلام يوم أو كظل زائل | إن اللبيب بمثلها لا يخدع |
يا نفس:
في الحديث: من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شرا من يومه (2) فهو ملعون، ومن أحب المكارم، اجتنب المحارم، ومن غمس يده في المكاره، سيق إلى النار وهو كاره، والجنة مضمونة لمن أمسك ما بين فكيه، وأطلق ما بين كفيه.
يا نفس:
لو نظر إليك وجوه أهل الأرض، ذات الطول والعرض، لأبيت إلا أن يروك (3) على ما تحبين، ولا يروك على ما تكرهين، فكيف برب العالمين، فلا تغرنك دنيا كالحية لين مسها، شديد نهشها، يحذرها العاقل، ويهوي إليها الجاهل.
بيت:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
____________
(1) أي: فأهلكها. مجمع البحرين 5: 243 وبق.
(2) في ب: من أمسه.
(3) في أ، ج، د: لأحببت أن يروك.
يا نفس:
هول لا تدرين متى يغشاك، لم لا تستعدين له قبل أن يفجاك.
بيت:
وما الموت إلا سارق دق شخصه | يصول بلا كف ويسعى بلا رجل |
واعلمي: أن غاية كل متحرك سكون، ونهاية كل متكون تكون، وإذا الدهر أعار، فاحسبيه قد أغار.
شعر:
إذا حيوان كان طعمة ضده | توقاه كالفأر الذي يتقي الهرا |
ولا شك أن المرء طعمة دهره | فما باله يا ويحه يأمن الدهرا |
يا نفس:
من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة، وطلاق الدنيا مهر الآخرة، والزاهد في الدنيا كلما ازدادت له تجليا، ازداد عنها توليا، واعلمي:
أنك لن تكسبي في الدنيا شيئا فوق معيشتك إلا كنت فيه خازنة (1) لورثتك، يكثر به في الدنيا نصيبك ويقل ثوابك ويحظى به وارثك ويطول حسابك، فخذي
____________
(1) في ب: حارسة.
يا نفس:
أوحى الله إلى الدنيا: من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه، واعلمي: أنه ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، ولا جرم أن المال يفنى، والبدن يبلى، والأعمال تحصى، والذنوب لا تنسى.
شعر:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله | مخافة فقر فالذي فعل الفقر |
يا نفس:
اتخذي تقوى الله صناعة، تأتك الأرباح من غير بضاعة. فإن التقوى حرز من المهلكات واق، وكنز من المحيى والممات باق، من اتخذها صاحبا كانت له في ظلم القيامة نورا، ومن نبذها جانبا ركب من الندامة مركبا عثورا.
بيت:
تزود من التقوى فإنك راحل | وبادر فإن الموت لا شك نازل |
وإن امرأ قد عاش خمسين حجة | ولم يتزود للمعاد فجاهل |
يا نفس:
كفى بجهنم عذابا، وبالموت نائبا واغترابا.
وكل ذي غيبة يؤوب (1) | وغائب الموت لا يؤوب |
واحذري مصارع الجهال، واجتراح معصية لا تقال، وأقيمي الصلاة وآتي الزكاة تأمني من العذاب الشديد، فإن لله سطوات ونقمات وما هي من الظالمين ببعيد.
بيت:
الخير يبقى وإن طال الزمان به | والشر أخيب ما أوعيت من زاد |
يا نفس:
وطني نفسك على ألم العبادة، ليصير ذلك خلقا لك وعادة، فإن المقامر يلتذ بالقمار وإن سلبه جميع ماله، وكذلك اللاعب بالحمام وإن طال وقوفه وتعبه في إرساله، فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ بالقبائح، وتميل بالألف إلى غير الصالح (2) فكيف لا تستلذ بالحق لو ردت (3) مدة إليه، وألزمت المواظبة عليه.
____________
(1) أي: يرجع. اللسان 1: 217 أوب.
(2) في أ، ب، ج: المصالح.