يا نفس:
فالأخلاق السعيدة والأفعال الحميدة، تكتسب بالعادة، والرياضة والإفادة، ومثاله: أنه من أراد أن يصير (1) في النسخ حاذقا، وفي الكتابة فائقا، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد هذه الخصلة الجميلة، ويواظب عليها مدة طويلة، فإذا طال عليه النسخ وضعا، صدر منه حسن الخط طبعا.
يا نفس:
وكذلك من أراد أن يكون فقيها، وكره أن يكون سفيها، فلا طريق إلا بتعاطي أفعال (2) الفقهاء، وتكرار أقوال العلماء، وكذلك من أراد أن يصير عفيفا حليما، ومتواضعا كريما، لزمه أن يدأب (3) نفسه في التخلق بآدابهم، والتعلق بأسبابهم.
يا نفس:
إذا أردت أن تقفين على عيوب نفسك، فخذيها من ألسنة أعدائك لا من ألسنة أحبائك وأوليائك، ولو سمعت صفتك عن غيرك لمقتيه، إذا كنت لا
____________
(1) في ج: أن يكون.
(2) في د: أقوال.
(3) أي: يعود. مجمع البحرين 2: 54 دأب.
وفي ب: يؤدب.
يا نفس:
إن محبتك لنفسك، ونسيانك لرمسك (2)، قد أصمك وأعماك، وأضلك وأرداك، لأن الانسان إذا أحب الشئ أغمض (3) عن مواضع عيوبه كأنه لا ينظرها، وأعرض عن المقابح من ذنوبه كأنه لا يسمعها، فصار من هذا الوجه كالأعمى لتغاضيه، والأصم لتغابيه.
بيت:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة | كما أن عين السخط تبدي المساويا |
يا نفس:
جاهدي نفسك على أربعة أقسام: قلة القوت من الطعام، والغمض من المنام، وترك إكثار الكلام، واحتمال الأذى من الأنام، فإنه يتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من
____________
(1) المداهنة: المصانعة واللين. اللسان 13: 162 دهن.
(2) أي: قبرك. مجمع البحرين 4: 76.
(3) في أ، ب، ج: أغضى.
يا نفس:
الدنيا يجمع لها من لا عقل له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له.
شعر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا | فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع |
فطوبى لعبد آثر الله ربه | وجاد بدنياه لما يتوقع |
يا نفس:
دعي المساخرة والمشاجرة، وصومي عن الدنيا تفطري بالآخرة (1)، فإن رأس مال الدنيا الهوى، وربحها لظى (2)، تقرب المنية، وتبعد الأمنية.
شعر:
ومن يجمد الدنيا لعيش يسره | فسوف لعمري عن قليل يلومها (3) |
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة | وإن أقبلت كانت كبيرا همومها (4) |
____________
(1) في ج، د: والتذي بالآخرة.
(2) اللظى: اللهب الخالص، ولظى غير مصروفة: اسم لجهنم. المفردات 450 لظى.
(3) في ج، د: غمومها.
(4) في د: سمومها.
يا نفس:
لو أن الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان ينبغي لك أن تختاري ما يبقى على ما يفنى، فكيف وقد اخترت خزفا يفنى على ذهب يبقى؟!.
بيت:
هب الدنيا تساق إليك عفوا | أليس مصير ذاك إلى انتقال |
وما دنياك إلا مثل فيء | أظلك ثم آذن بالزوال |
يا نفس:
الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يشيدها ويخطبها، والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يريدها ويطلبها، فبيعي دنياك بآخرتك تربحيهما، ولا تبيعي آخرتك بدنياك تخسريهما.
شعر:
يا خاطب الدنيا إلى نفسها | تنح عن خطبتها تسلم |
إن التي تخطب غدارة | قريبة العرس من المأتم |
يا نفس:
إذا سألت الله الدنيا فإنما تسأليه طول الوقوف، يوم الحشر الموصوف،
بيت:
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها | إن اغترار بظل زائل حمق |
يا نفس:
لا تفرحي بما أتاك، ولا تأسي على ما فاتك من دنياك، ففرحك إنما هو بموجود لا يتركه في يدك الموت، وأسفك إنما هو على مفقود لا يرده عليك الفوت، وإذا قد علمت أن رزقك لا يأكله غيرك فلم به تهتمين؟! وأن عملك (3) لا يعمله غيرك فلم بغيره تشتغلين؟! وأن الموت يأتيك على بغتة فلم لا إلى الطاعة تبادرين؟! وأنك بعين الله على كل حال فعلام منه لا تستحين؟! وإياك أن يراك الله حيث زجرك، أو يفقدك حيث أمرك.
يا نفس:
إن لم تقنعي بالقليل، وطلبت المال الجزيل، ساهمت النصارى واليهود
____________
(1) في ج، د: أرباب.
(2) أي: دواء الدنيا. اللسان 10: 32 ترق.
(3) في ب: وأن عملا.
يا نفس:
إن كان لا يغنيك ما يكفيك، فكل ما في الأرض ما يغنيك (2)، وأقل ما في الخطر في جمع المال يوم المقام، أن يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام.
بيت:
سر من عاش ما له فإذا | حاسبه الله سره الإعدام |
يا نفس:
إذا اثني عليك بالصلاح والورع، وعدم الرياء والطمع، وأنت تعلمين خبث سريرتك، وعظم جريرتك، كان ذلك من غاية جهالتك، ونهاية سفاهتك، وكنت كمن يهزء بإنسان ويقول له: يا فلان ما أكثر العطر الذي في أحشائك، وما أطيب الروائح الأرجة التي تفوح من أمعائك، وذلك إذا قضى من الغائط حاجته، ومن البول أمنيته، وهو يعلم ما اشتمل عليه قلبه من الشر والفتنة،
____________
(1) في ب: والأرجاس.
(2) في أ، ج، د:
إن كان لا يغنيك ما يكفيك | فكل ما في الأرض ما يغنيك |
يا نفس:
إياك والعجب وهو: استعظام العمل الصالح والنظر إلى استكثاره، والابتهاج به والميل إلى استكباره، فهو يوقع في مهاوي الهلكات، ناقل للعمل الصالح من كفة الحسنات إلى كفة السيئات، ومن رفيع الدرجات إلى أسفل الدركات، فكم من عبادة أفسدها العجب، وإذا أفسدها العجب لم يقبلها الرب، فعن علي عليه السلام: سيئة تسوء عاملها، خير من حسنة تعجب فاعلها، وفي الحديث: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بعمل صالح صنع.
يا نفس:
وكيف تعجبين بقيام بعض ليلة، ولا تنظرين إلى نعم الله الجزيلة وأياديه الجميلة، لو قست أكثر عملك على التقدير، بأقل نعمة من نعم اللطيف الخبير، لم تجديه وافيا باليسير، ولا ناهضا بعشر العشير، ألا تنظرين إلى صاحب العبادة الطويلة، كيف باعها بشربة وبولة.
يا نفس:
وأنت ترين الأجير يعمل طول النهار بدرهمين، والحارس يسهر جملة الليل بدانقين، وإذا صرفت الفعل إلى الملك العلام، وصمت يوما من الأيام،
وكم زمان السجدة، مع ما حصل فيها من الغفلة والرقدة، لكن لما نسبت السجدة إلى الملك الجبار، بلغت قيمتها من النفاسة والجلالة هذا المقدار
يا نفس:
فحقيق عليك أن تقصري من أملك، وترين حقارة عملك، ففي:
الحديث من مقت نفسه وألزمها الندامة، آمنة الله تعالى من فزع يوم القيامة، وروي: أنه إن يبيت أحدكم نادما على ذنوبه وأفعاله، خير له من أن يصبح مبتهجا بصالح أعماله، ونائم مقر بذنبه، خير من مصل مدل على ربه.
يا نفس:
فعليك بتحصين عملك من العجب والرياء، والغيبة والكبرياء، فالعجب هلاك، والرياء إشراك، والغيبة قوت كلاب الجحيم، والكبر مصيدة إبليس الرجيم، والعجب ممن يدخله العجب والكبر، والتبختر والفخر، وأوله نطفة، وآخره جيفة.
شعر:
ما بال من أوله نطفة | وجيفة آخره يفخر |
يا نفس:
وعليك بالذكر، والحمد والشكر، فإنه يرفع البلاء الحاصل، ويدفع السوء النازل، وفي الحديث: ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم حسرة وندامة، ووبالا يوم القيامة، وأنه من شغله ذكر الله عن مسألته، أعطاه الله أفضل ما يعطي السائلين من أمنيته، وأنه في كل حاله، لا تصيبه منيات السوء ولا تناله، وأنه ينير البصائر، ويؤنس الضمائر، وأنه شيمة كل مؤمن، ولذة كل موقن، وأنه دعامة الإيمان، وعصمة من الشيطان.
يا نفس:
وعليك بالاستغفار خصوصا في الأسحار، فقد روي: أنه من أكثر الاستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ بالأنوار، وجعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، فعودي نفسك الاستتار، في الذكر (1) والاستغفار، تمحى عنك الحوبة، وتعظم لك المثوبة، فمن تعطر بأرياح استغفاره، لم ينفضح من نتنة إصراره على أوزاره، ومن قبل فم الشهوات عضته أسنان الندامة، ومن تلفع بأردية التقوى اعتنقته (2) أكناف السلامة، فانتهبي زمانك قبل الزمن، ولا
____________
(1) في ب: فعودي نفسك الاستتار والذكر.
(2) في ب: كشفته.
شعر:
خطبت يا خاطب الدنيا مشمرة | في ذبح أولادها الغيد الغرانيق (2) |
كم من ذبيح لها من تحت ليلتها | زفت إليه بمعزاف وتصفيق |
يا نفس:
[ أترين ] من استؤجر على إصلاح آنية من الدر، وشرط له على ذلك شيئا من الأجر، وكان الشارط إذا وعد وفى، وإذا توعد عفى، فجاء الأجير إلى الآنية وكسرها بعهده (3)، وأفسد مصالحها بجهده (4)، ثم جلس على الباب ، ينتظر الأجر والثواب، بزعم أن المستأجر كريم وهاب، أفتراه العقلاء في انتظاره متمنيا مغرورا، أم راجيا مأجورا؟ هيهات أنه (ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى) (5)، وما أجهل من يتوقع المغفرة مع الإصرار، وما أسفه من يتمنى العفو مع ملازمة الأوزار.
____________
(1) في أ: واطلي.
(2) الغيد: النعومة، والغرانيق جمع غرنوق وهو: الأبيض الشباب الناعم الجميل. اللسان 3: 328 غيد و 10: 86 غرنق.
(3) في أ: بعمده.
(4) في ج، د: وكسرها إذ باشرها، وأفسد باطنها وظاهرها.
(5) النجم 53: 39 - 40.
يا نفس:
لا تكوني كالذي يسبح الله ويهلله مائة مرة في أول تذكاره، ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم بسائر نهاره، فهو أبدا يتأمل (1) في فضائل تسبيحاته وتهليلاته، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة نميماته وغيباته، ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجر التسبيح، وما يكتبونه من هذيانه القبيح، لزاد أجر هذيانه على ثوابه، ونقصت مدة حسناته (2) عن مدة عقابه.
بيت:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه | إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم |
يا نفس:
وأي عاقل يبدل البر بالجفا، أو يستكف (3) النار بالحلفاء (4).
شعر:
واللوزة المرة إن تبصر | يفسد بالطعم (5) بها السكر |
فالغيبة تحرق الحسنات، وتبطل الطاعات.
____________
(1) في ب: لا يتأمل.
(2) في ج، د: حسابه.
(3) في أ: أو يكشف.
(4) الحلفاء: نبات حمله قصب النشاب. اللسان 9: 56 حلف.
(5) في ب: في الطعم.
شعر:
احذري الغيبة فهي الفسق لا رخصة فيه | إنما المغتاب كالآكل من لحم أخيه |
وهي تأكل الأجر والثواب، كما تأكل النار يابس الأحطاب، بل هي أحرق من النار في الحليج (1)، وأضر من الثلج بالمفاليج.
يا نفس:
الطاعة مع عدم الإيمان لا ترفع، والعلم بغير العمل لا ينفع، ومثاله:
مريض عظم داؤه، وعز شفاؤه، فأعلمه طبيب حاذق، بدواء موافق، وفصل له أخلاطه، ومقاديره (2) وأشراطه، فكتبه المريض بنسخة مليحة، وقرأه قراءة صحيحة، غير أنه مال إلى إهماله، ولم يشتغل بشربه واستعماله، [ أفترين ] علمه به من غير عمل يداويه، ومن شدة مرضه يشفيه؟ هيهات لو كتب منه ألف نسخة في ألف قرطاس، وعلمه كافة الناس، لم يشف من مرضه، ولم ينل شيئا من غرضه، دون أن يشتري الدواء، ويقدم الاحتماء، ثم يشربه في وقته وأوانه، بعد خلط أخلاطه وصحة أوزانه.
____________
(1) وهو: القطن المندوف. اللسان 2: 239 حلج.
(2) في أ، ب: وتقاديره.
يا نفس:
وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها، وأتقن معرفة (1) الأخلاق المحمودة وأهملها، قال الله تعالى: (قد أفلح من زكاها) (2) ولم يقل:
قد أفلح من يعلم كيفية تزكيتها ومعناها، فعلم بلا عمل، كحمل على جمل، فكوني يا نفس عاملة، ولا تكوني حاملة، ولا تكوني كمن ينقل الوسوق (3) من السوق، ويحمل الشهد ولا يذوق، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، وقوس بلا وتر.
بيت:
ترجو النجاة ولا تسلك مسالكها | إن السفينة لا تجري على اليبس |
يا نفس:
العلم في صدور الكسالى كشموع تلمع من بين يدي الضرير المحجوب، أو كعروس (4)، تزف إلى الخصي المجبوب، فمن الغبن يا نفس أن تري المياه جارية، ثم [ تموتين ] صادية (5).
____________
(1) في ب: وأيقن بمعرفة.
(2) الشمس 91: 9.
(3) أي: الحمل. اللسان 10: 379 وسق.
(4) في أ، ب: أو كشموع، وما أثبتناه من ج، د، وهو الأنسب.
(5) أي: عطشانة. مجمع البحرين 1: 262 صدى.
بيت:
كالعير في البيداء تشتكي الظمأ | والماء فوق ظهورها محمول |
ومن الخسران يا نفس جزار يأكل الميت، ومكي لا يزور البيت.
يا نفس:
إن تأخير العمل عن العلم حبس الماء عن النبت، والترخص في العمل حيلة أصحاب السبت، فلا تكوني كالجمل الطليح (1) يتجشم (2) لغيره أسفارا، أو كمثل الحمار يحمل أسفارا، وفي الحديث: أعظم الناس عذابا يوم القيامة ظالم لم يقلع عن ظلمه، وعالم لم ينتفع بشئ من علمه، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
واعلمي: أن العلم والعبادة لأجلهما خلقت الأرضون والسماوات، وأرسلت الرسل بالبينات، فالعلم بمنزلة الشجرة، والعبادة بمنزلة الثمرة، فلو لم تكن لهذه الشجرة ثمرة في الوجود، لم تصلح إلا للوقود، للكفعمي مؤلف الكتاب عفي الله تعالى عنه.
بيت:
إذا المرء مع إيمانه ليس عاملا | بشئ من الخيرات تلفاه خائنا |
وذلك مثل السفن في البحر تلقها | جوار وفي غير البحار سواكنا |
____________
(1) من الطلاحة التي هي: الاعياء. العين 3: 170 طلح.
(2) أي: يتكلف. مجمع البحرين 6: 29 جشم.
يا نفس:
ليس الفقيه من استفاد وأفاد، بل الفقيه من أصلح المعاد، ولا العالم من أفتى ودرس، بل العالم من تستر بالورع وتترس، ولا المجتهد من بنى (1) أساس الملة، على قياس العلة، بل المجتهد من شغله الحق عن المنع والتسليم، واكتفى بعلم الخضر عن علم الكليم، وارعوى بمسؤولات الحشر، عن المقولات العشر فلا تحسبي المتشبه بالفقيه فقيها، فليس ذو الوجهين عند الله وجيها.
يا نفس:
مثل العالم بالله وأسمائه، وصفاته وآلائه، وهو يقصر في طاعته ويضجع، ويهمل أوامره ويضيع، كمثل من أراد خدمة رئيس، أو ملك نفيس، فعرف الملك وأخلاقه، وطبعه وأعرافه، فقصد خدمة جنابه، والتعلق بأسبابه، إلا أنه ملابس لجميع ما يبغضه ويشناه (2)، وعاطل من جميع ما يحبه ويهواه، أما كان كل عاقل يحكم بجهالته، وعظم سفاهته، ولا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ويعرف أوصافه، إلا وهو يتقيه ويخافه، فعنه عليه السلام: من ازداد علما ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا.
____________
(1) في ب: بين.
(2) في ج، د: ويشاه.
يا نفس:
كيف تحبي لقاء الله وأنت تعصينه، فلو عصيت آدميا ما اشتهيت أن تلقينه.
شعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه | هذا محال في القياس بديع |
لو كان حبك صادقا لأطعته | أن المحب لمن يحب مطيع |
فإياك وملازمة هوى الشيطان، ومجانبة رضى الرحمن، فإنه يصرع الرجال، ويقطع الآجال (1)، ويزيل النعم، ويطيل الندم.
يا نفس:
كل إثم اقترفتيه في سر أو علانية فهو عليك مرقوم، وكل شئ يشغلك عن مراضي ربك فهو عليك مشئوم، فعنه عليه السلام: إن العبد (2) إذا خلا فاستحيى من الله أن يعصيه، ورضي باليسير مما قسم له فيه، رزقه الله في الآخرة حسن المآب، وأنبت له جناحين يطير بهما إلى الجنة بغير حساب.
____________
(1) في ب: الآمال.
(2) لفظ: إن العبد، لم يرد في أ، ب، وأثبتناه من ج، د، لعدم استقامة المعنى بدونه.
يا نفس:
إن الله خلق الآفة وجعل النطق مثارها (1)، وقدر السلامة وجعل الصمت مدارها، فالصمت يلزمك السلامة، ويؤمنك الندامة، واللسان قليل الخير، وغير مأمون الغير، والصمت سلم الخلاص، والنطق يحبس الهزار (2) في الأقفاص، واللفظ شين (3) المحافل، والجرس آفة القوافل، خير القوس المكتوم، وخير الشراب المختوم، رنين القسي يطرد الظبا، ووسواس الحلي يوقظ الرقبا، وفرسان الكلام يوم القيامة مشاة، والمتجملون بزخارف العبارات عراة.
يا نفس:
فما اللسان إلا سبع صوال فقيديه، أو صارم مسلول فاغمديه، وسيأتي يوم يندم فيه الفصيح، والطير الذي يصيح، ولو كان سحبان (4) عاقلا، لتمني أن يكون باقلا (5)، وأجبن الفرسان، من حارب باللسان، وأحمس (6) الكماة،
____________
(1) في ب: منارها.
(2) بفتح الهاء: العندليب والجمع العنادل، والبلبل يعندل: إذا صوت. حياة الحيوان 2: 82.
(3) وهو خلاف الزين، أو العيب. اللسان 13: 244 شين.
(4) هو: سحبان بن زفر بن أياس الوائلي من باهلة، خطيب وفصيح يضرب به المثل في البيان، اشتهر في الجاهلية وعاش زمنا في الاسلام، وكان إذا خطب يسيل عرقا ولا يعيد كلمة، ولا يتوقف ولا يقعد حتى يفرغ. الأعلام للزركلي 3: 79.
(5) هو: بأقل الأيادي، جاهلي يضرب بعيه المثل، قيل اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فمر بقوم فسألوه بكم اشتريته؟ فمد لسانه ومد يديه، يريد أحد عشر، فشرد الظبي وكان تحت إبطه، والمثل - " أعيى من بأقل " - مشهور. الأعلام للزركلي 2: 42، والمنجد في الأعلام: 113.
(6) في ب: وأحسن.
بيت:
رأيت اللسان على أهله | إذا ساسه الجهل ليثا (1) مغيرا |
يا نفس:
وعليك بالعزلة والانفراد، في طاعة المهيمن الجواد، فإن العزلة توقر الغرض وتستر الفاقة، وترفع عنك ما ليس لك به طاقة، والتخلي (2) للعبادة دليل على الفضل، والصبر على الوحدة علامة قوة العقل.
بيت:
في عزلة المرء عن كل الورى نعم | أقلها أنه خال من الكلف |
يرضى القناعة مسرورا بوحدته | إذا تنازع أقوام على الجيف |
يا نفس:
لازمي الوحدة فإنها أسلم جانبا، ونادمي الكتب فإنها أكرم صاحبا.
____________
(1) في ج، د: لبنا.
(2) في أ: والتحلي، وفي ب: والتجلي، وما أثبتناه من ج، د، وهو الأنسب.
شعر:
فطوبى لمستجلس (1) بيته | قنوع له بلغة كافية |
نداماه دون الورى كتبه (2) | لا إثم فيها ولا لاغية |
فمن شره الناس في راحة | ومن شرهم نفسه ناجية |
يا نفس:
متى فتشت أحوال العالم وجدت الصالح منها ذا لونين، فإن ذقتيه وجدتيه ذا طعمين، فإن قلبتيه وجدتيه ذا وجهين، فإذا استنطقتيه وجدتيه ذا لسانين، فإن كشفتيه وجدتيه ذا طبعين، وتجدين الأنام، كالأنعام: قلوبهم لاهية، ومجالستهم لاغية، والفاحشة فيهم فاشية، فتنحي عنهم ناحية، [ تجدين ] الأمن والعافية.
شعر:
إن أردتي سلامة وفلاحا | الزمي الصمت ثم كوني وحيدة |
إنما الإثم في مخالطة الخلق | فدعيها لكي تصيري سعيدة |
كل نفس تعاشر الناس تلفى | عند أهل التحقيق غير رشيدة |
وانبذي جيفة عليها كلاب | ترقنها (3) وكوني بعيدة |
____________
(1) في أ: لمستخلص، وفي ج، د: لمستخلص نيته.
(2) في ب: كتب.
(3) كذا في ب، ولم يرد البيت الأخير بأكمله في أ.
بيت:
كن وحيدا فكل أهل ومال | تعب للنفوس والأجسام |
إنما الله وحده فتشبه | بصفات المهيمن العلام |
يا نفس:
الموت يطلبك وأنت للدنيا تأملين، والله يمقتك وأنت ملأ فيك تضحكين، أفبالصحة تغترين، أم بطول العافية تفرحين، أم من الموت تأمنين؟! فكأني بك وقد أمر منك ما كان حلوا، وكدر منك ما كان صفوا.
بيت:
وسالمتك الليالي فاغتررت بها | وعند صفو الليالي يحدث الكدر |
فعلام لنفسك فتنت، وتربصت وارتبت، حتى جاء يوم النشور، وغرك بالله الغرور.
يا نفس:
كم من عامر مونق يخرب، وكم من سالم صحيح يعطب، فبادري بفعل الجميل، قبل أن ينادى بالرحيل.