مقدمة الناشر

قراءنا الأعزة

ضمن سلسلة الكتب التي أصدرتها منظمة الاعلام الاسلامي نقدم هذا الكتاب آملين أن يترك أثره الجيد في تنوير الأذهان حول مسألة كانت وستبقى طبيعية لولا ما قام به المغرضون والجهلة من تهويل وإضفاء لصفات غريبة عليها.

هذه المسألة هي مسألة الاحتفالات التي اعتاد المسلمون ـ منذ القدم ـ القيام بها إحياءً لإحدى الذكريات الرائعة في تاريخهم الاسلامي، مثلهم في ذلك مثل أية أمة أخرى تحترم مقدساتها، وتبجل أيامها الكبرى، وذكرياتها الخالدة. بل هي حالة لدى الانسان الفرد قبل الجماعة لا يشذ عنها أحد.

إن الاقتران الزماني والمكاني للحوادث يترك أثره الكبير في النفس، ولذا فهي تعمل على استعادة الذكريات واستيحاء العبر فيها. وتلك طريقة من أفضل طرق التربية عموما والتربية القرآنية بالخصوص. فما أكثر تذكير القرآن الكريم بأيام الله وشعائره، وما أشد تعظيم الاسلام لسير العظماء وفي طليعتها سيرة إبراهيم (ع) وملة إبراهيم الحنيفية الخالصة، حتى لنجد الاسلام يخلد حركة خالصة من فرد من أفراد العائلة الإبراهيمية لأنها تمت عن وعي، وقس على هذا تخليد القرآن الكريم لحركة من حركات أهل البيت (ع) نتيجة لما تضمنته من إخلاص عظيم وذلك كما

الصفحة 6

في قضية الاطعام التي خلدها القرآن الكريم بقوله: { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً }.(1)

ولا يتسع لنا المجال لو أردنا أن نستعرض كل الأمثلة الزمانية والمكانية لهذه الخصيصة القرآنية التربوية الفطرية.

فالاحتفال بالذكرى العظيمة هو مقتضى الأصل والفطرة والطبيعة بل ولا يحتاج الى دفع شرعي بعد أن كان يشكل حالة طبيعية ومصداقاً لأوامر التكريم والتبجيل. والمطالع لهذا الكتاب يجد أن كل ما ذكر من أدلة مانعة لا تنهض مطلقاً دليلاً على الردع عن هذه السيرة الانسانية الطبيعية … ولو افترضنا أن الاسلام يعارض هذا المعنى لكان من الطبيعي ان تتظافر الأدلة في المنع، وليس لدينا ما يمنع بل لدينا ما يحث على العمل بهذه السيرة الانسانية خصوصا إذا تحول من مجرد الفرح والحزن الى عملية استيحاء واعية للذكرى ومعطياتها.

ترى ماذا على المسلمين لو أحيوا ذكرى المعراج واستوحوا معاني العظمة االانسانية منه ؟ وهل عليهم من غضاضة لو احتفلو بيوم الهجرة النبوية الشريفة، أو الثورة الحسينية العظيمة ؟! وهل بعد ذلك بدعة كما يدعي الوهابيون الجهلة ؟

وبهذا نعرف أن تركيزنا على جواز هذا الإحياء بل استجابة لا يعني مطلقا تبرير ما يجري من أعمال مخالفة للشريعة أحيانا، فإنها أمور مرفوضة في أي زمان أو مكان كانت، وهذا أمر لا يغيب عن بال الواعين.

وحبذا لو ثاب الى رشدهم أولئك الذين يتهمون الناس سريعا بالكفر والبدعة والجحود وأمثال ذلك من التهم العظيمة الوزر، وحبذا لو عملوا على وحدة الصف … دون تناسي مسألة تطهير هذه الاحتفالات مما علق بها من شوائب غير صحيحة.

وهكذا نعود أمة موحدة صامدة في وجه الظلم، بل ونحول احتفالاتنا الى مجالات اسلامية تربوية كبيرة تعمل على تحقيق نفس الأهداف السامية.

والله الموفق للصواب

معاونية العلاقات الدولية 
في منظمة الاعلام الاسلامي

____________

1 ـ الإنسان: 8 ـ 9.

الصفحة 7

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآلة الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، الى قيام يوم الدين.

وبعد …

فلم يكن ليدور في خلدي في يوم من الأيام، أن يكون موضوع الاحتفال بالمناسبات، وإقامة المواسم، موضوعا للبحث أو مجالاً للتشكيك والنقض والإبرام، من أي كان وفي أي من الظروف والأحوال … فضلا عن أن أبتلي أنا شخصياً بالبحث فيه، وأجمع له الشواهد والدلائل …

ولكن … ما عشت أراك الدهر عجباً … فها أنا ذا لا أجد مناصاً من أن أتصدى لهذا الموضوع، وأصرف فيه شطرا من عمري الذي ما كنت أحب له أن يصرف في مثل هذه الأمور الجانبية التي تجاوزت حد الوضوح، لتكون من الضرورات والبديهيات لدى سائر أبناء البشرية، ممن يتعاملون مع الامور بسلامة الفطرة، وصفائها، وبصحيح العقل، وصريح الوجدان …

نعم … لقد رأيتني غير قادر على التخلص، ولا على التملص من هذا الأمر، بعد أن كانت ثمة فئة اختارت لنفسها ليس فقط ان تثقل العقل بالقيود المرهقة، وتعطل دور الوجدان، وتمنع من تأثير الفطرة … وإنما قد تعدت ذلك إلى أسلوب

الصفحة 8

التهويش والتشويش، والعربدة، وحتى إيصال الأذى إلى الآخرين، وهتك حرماتهم، ما وجدت الى ذلك سبيلاً.

حيث أدرك من تسموا بالعلماء فيها: أنهم لا يملكون من الأدلة على ما يدعون، سوى الشعارات الفارغة، وتوزيع التهم الباطلة ـ وبلا حساب ـ ورمي الآخرين بالكفر تارة، وبالشرك أخرى، وبالابتداع في الدين ثالثة.. وهكذا..

فكانت هذه الدراسة الموجزة، التي أريد لها أن تعطي صورة واضحة قدر الإمكان لما يقوله هؤلاء الناس في هذه المسألة، مع الإشارة إلى بعض موارد الخلل والضعف في تلكم الأقاويل، مع التأكيد على أن سلاحنا الأول والأخير هو الدليل القاطع والبرهان الناصع.. وعلى أن هدفنا هو خدمة الحق والدين، والذب عن شريعة سيد المرسلين... وعلى أن تقوى الله سبحانه، والخوف من عقابه، والأمل في ثوابه هو الذي لابد وأن يهيمن على كل أقوالنا وأفعالنا، بل وعلى كل حياتنا ووجودنا.

والله نسأل: أن يهب لأولئك الذين يشغلوننا بأمور جانبية، وغير ذات أهمية، ألعقل قبل كل شيء، ومعه الإنصاف، وأن يمن عليهم بالتقوى، والخوف من عقاب الله أولا، ثم الرجاء لثوابه ثانيا.

وأن يمن علينا، وعلى جميع إخواننا المؤمنين العاملين المخلصين بالتوفيق والتسديد، في جميع ما نقول ونفعل، إنه ولي قدير، وبالاجابة حري وجدير، وهو خير مأمول، وأكرم مسؤول.

ايران ـ قم المشرفة     
20 ربيع الأول 1407 هـ. ق
جعفر مرتضى العاملي   
عامله الله بلطفه وإحسانه   


الصفحة 9

تمهيد

الهداية القرآنية

قال الله سبحانه في كتابه الكريم، في مجال رسم الأسس والمنطلقات للدعوة الألهية الى سبيله: «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن»(1).

فهذه الآية قد أعطت النظرة الشمولية للاسلام، فيما يرتبط بسياسته الاعلامية، ورسمت لهذه السياسة أسسها ومنطلقاتها بدقة، وبعمق يستوعب كل اتجاهاتها ومناحيها... ولسنا هنا في صدد بيان وتحديد ذلك...، ولكننا نشير الى أمر المحت إليه الآية الكريمة، ويهمنا لفت النظر اليه، والتوجيه نحو التأمل فيه، وهو:

أن نهج القرآن وطريقته ـ كما ألمحت إليه الآية الشريفة ـ هو استثارة العقول، ومحاكمة الناس إلى ضمائرهم، وإرجاعهم إلى سليم الفطرة وانصاف الوجدان...

ولم نجد القرآن قد حكم على أحد بالكفر، أو بالفسق، إلا ضمن ضوابط عامة، يكون لكل أحد كامل الحرية في أن يطبقها على نفسه أو لا يطبقها.

____________

1 ـ النحل: 125.

الصفحة 10

أما أن يطبقها على الآخرين بأشخاصهم وأعيانهم، فليس له ذلك، إلا في الحدود التي أجازها الإسلام، ولم ير فيها ما يتنافي مع أي من أصوله وقواعده... أي في خصوص الموارد التي قبل بها الآخرون، وأقروا بانطباقها على أنفسهم وفق الضوابط العامة التي يعرفها ويقر بها الجميع...

هذا على الرغم من أن الحق ربما يكون مرا، أو مخجلا لكثير من أولئك الذين اختاروا الانحراف عن جادة الحق، والابتعاد عن الطريقة القويمة، والخطة السليمة المستقيمة.

نعم... لربما تمس الحاجة ـ وذلك كثير في القرآن أيضا ـ إلى تصعيد التحدي، إلى حد التلويح أو التصريح بما لو لم يبادر إلى التلميح أو التصريح به لكان خطرا على الاسلام وعلى قواعده ومبانيه من الأساس.

ولكنها تكون حالات استثنائية ـ يعقبها الاستدلال والتفهيم مباشرة ـ ولا يمكن أن تتخذ الصفة الطبيعية التي يفترض جعلها أساسا للتحرك في المجال العام للدعوة الإسلامية.

هذا كله... لو لم نقل: إن المنطلق الاسلامي لكل حوار منصف وهادف وبناء هو قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين...) (1). حيث يريد سبحانه أن يهيئ الطرف الآخر للبحث العلمي، القائم على أساس الدليل الساطع، والبرهان القاطع، بعيدا عن أجواء التشنج والانفعال والشك والريب. ‌‌

ولعل هذا بالذات هو المقصود من المجادلة بالتي هي أحسن... حسبما نصت عليه الآية آنفة الذكر.

علي (ع)... وأهل الشام

ونجد الى جانب ذلك:

أن طريقة ائمتنا عليهم الصلاة والسلام وخطتهم لم تتعد هذا النهج، وذلك تأسيا منهم بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتزاما منهم بالهداية القرآنية الرائدة...

____________

1 ـ سبأ: 24.

الصفحة 11

وعلى هذا الأساس، فإننا نجد: أن دعوة علي عليه السلام أصحابه الى عدم سب أهل الشام، ولكن بإمكانهم أن يصفوا أعمالهم، معللا ذلك بأنه أصوب في القول، وأبلغ في العذر. (1)

ان هذه الدعوة... قد جاءت منسجمة كل الانسجام مع تعاليم القرآن الكريم، وتوجيهاته السامية، في مجال الهداية الى سبيل الله، والدعوة الى دينه...

مع أنه عليه السلام يستحل دماءهم، ويباشر قتلهم.... حتى لقد قيل: إنه عليه السلام قد قتل منهم بنفسه عدة مئات في ليلة واحدة، وهي المسماة بـ «ليلة الهرير».

ولم يكن موقفه هذا... وهو الالتزام بالكلمة المهذبة، والعمل بالهدى القرآني الرائد... خاصا بالذين حاربوه في صفين، أو في الجمل، والنهروان، وانما هو ينسحب على مجمل مواقفه في حياته، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أبنائه الأئمة الميامين، الطيبين الطاهرين.

مواقف الحسين (عليه السلام) في نفس الاتجاه

كما أن من الواضح: أن أعظم مواجهة حادة تعرض لها الأئمة عليهم السلام، وأشدها إثارة، هي تلك التي تعرض لها سيد شباب أهل الجنة، السبط الشهيد، الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه، حينما قرر أن يواجه الطاغوت، وأن يقدم نفسه، وأبناءه، وأهل بيته، وأصحابه، في سبيل الله والمستضعفين...

فنجده عليه السلام حينما يريد أن يستدل لموقفه من يزيد الطاغية، ومن نظام حكمه، ذلك الموقف الذي يعرف بدقة نتائجه وآثاره، نجده لا يذكر يزيد بن معاوية، إلا بما عرف وشاع عنه، فيقول:

«... إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله...».(2)

____________

1 ـ راجع: نهج البلاغة، بشرح محمد عبده / ج 2 / ص 221، وتذكرة الخواص / ص 154 / وصفين لنصر بن مزاحم / ص 103 / والأخبار الطوال / ص 165.

2 ـ مقتل الحسين (ع): للمقرم / ص 139 عن مثير الاحزان لابن نما الحلي، والفتوح / لابن أعثم / ج 5 / ص 18.

الصفحة 12

فهو عليه السلام قد أعطى الميزان والضابطة، والتعليل الواضح، لكونه عليه السلام لا يحق له أن يبايع يزيد. ولكنه يجعل ذلك ضمن قانون عام تكون نتيجته أن هذا الصنف من الناس، وهذه النوعية، لا يحق لها أن تبايع تلك النوعية، وذلك الصنف، ملخصا ذلك بقوله: «ومثلي لا يبايع مثله».

ثم... وبما أن ذكر تلك الضابطة، قد استلزم التصريح ببعض ما ربما يتوهم منافاة التصريح به للهداية القرآنية... نجده عليه السلام يشير إلى أن ذلك التوهم مسوغ له، ما دام أن يزيد بن معاوية «معلن بالفسق» ولا يتستر بذلك.

فكما لا مجال لأي ترديد أو خيار في اتخاذ ذلك القرار، كذلك لا مجال للتواني، ولا للترداد في الجهر به، والاعلان عن مبرراته ودوافعه...

الامام الحسين (ع) في كربلاء:

وبعد... فبالرغم من ان واقعة الطف كانت من أبشع ما عرفه التاريخ البشري... فإننا لانجد الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام فيها إلا ذلك الصابر المحتسب الذي لا تندمنه حتى ولو كلمة واحدة في غير المسار الطبيعي للهداية القرآنية التي تقدمت الاشارة إليها.

بل إن كلماته في ذلك الموقف المصيري كانت تطفح بالحب والحنان، وتفيض بالأدب والطهر والنبل، والنزاهة عن كل سباب قبيح، أو استرسال مشين، رغم هول المصائب التي يواجهها، وفداحة الكوارث التي يعاني منها...

بل نجده (ع) ـ كما كان ـ حتى لأعدائه، والذين يقتلون صحبه وولده، ويريدون إزهاق نفسه، ثم سبي نسائه ـ نجده ـ يبقى كالوالد الرحيم، الذي تذهب نفسه عليهم حسرات، والذي لا هم له إلا هدايتهم، وحملهم على المحجة البيضاء، وارشادهم الى سبيل الخير، والفلاح والرشاد....

الأئمة (ع) والمواقف الحادة

وإذا ما رأينا أحيانا بعض المواقف الحادة والفاصلة للأئمة عليهم السلام، فإنما هو في مقابل أولئك الذين حاولوا ضرب أساس الاسلام، وتقويض دعائمه، من أمثال أبي الخطاب، والمغيرة بن سعيد، وأضرابهما من الغلاة والنواصب. ولسنا في مجال استقصاء ذلك هنا.

الصفحة 13

الاسلام... وظاهرة الجحود

وبعد أن تحقق لدينا أن طريقة القرآن، ونهج الاسلام إنما هو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن... وأن الأساس والمنطلق هو الحوار الموضوعي المنصف، القائم على قاعدة: (وإنا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) و (ما على الرسول إلى البلاغ) و (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) وذلك في ظل حرية العقل، وحرية التعبير، وحرية الموقف...

وعرفنا كذلك: أن الرفق، والرضا، والتفاهم، وروح التعاون في البحث الموضوعي النزيه والهادف... هو الجو الطبيعي، الذي يريده الاسلام، ويرى أنه يتهيأ له في ظله تكريس وجوده، وتأكيد واقعيته وأصالته...

إذا عرفنا ذلك كله... فإننا ندرك: أن ما يدينه الاسلام، ويرفضه، ويسعى إلى ازالته، هو حالة تكبيل العقل في قيود الهوى، والعواطف، والشهوات، والمصالح الشخصية، والقبلية، والأهواء والعصبيات...

فهو يرفض ويحارب ظاهرة: «وجحدوا بها» من أجل الحفاظ على بعض الامتيازات الظالمة التي جعلوها لأنفسهم، أو استجابة لدواع غير واقعية ولا أصيلة، أو من أجل الحصول على بعض الملذات الزائلة، والتمتع بها، أو من أجل الحفاظ على مركز اجتماعي، أو على وضع اقتصادي، أو سياسي معين، وإن كان ذلك على حساب «المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا»، أو حتى على حساب كل المثل والقيم الانسانية، وكل الضوابط والمعايير والأحكام الإلهية...

هذا... بالاضافة إلى أن أولئك الجاحدين، بموقفهم الجحودي ذلك، إنما يعاندون قناعاتهم، ويضطهدون عقولهم «واستيقنتها أنفسهم» فيجعلون عقولهم ووجدانهم، وفطرتهم، وكل النبضات الانسانية الحية في وجودهم، في سجن تلك الأهواء، والمصالح، ويثقلونها بالقيود، ولتكون نتيجة ذلك هي إلقاءها في سلة المهملات، مع نفايات التاريخ.

فيأتي الاسلام... ويقف في وجه هذا البغي، ويعمل على تحطيم هذا الطغيان، فيحرر العقل والفطرة من قيد الجمود هذا، لينطلق إلى الحياة باحثا، ومنقبا، وبعد ذلك مستنتجا، وصاحب قرار وتصميم، حينما يستكشف كل معاني السمو، والخير والسعادة، بعيدا عن كل النزوات البهيمية، وصراع الشهوات،

الصفحة 14
ومزالق العواطف غير المتزنة، ولا المسؤولة.

وهذا ما يفسر لنا ما نجده في القرآن من كونه يؤنب أشد التأنيب هذا النوع من الناس، وينعى عليهم ارتكابهم تلك الجريمة النكراء في حق فطرتهم وإنسانيتهم، والأهم من ذلك في حق عقلهم ووجدانهم...

الاسلام.... والدعوة الى التعقل، والبصيرة في الدين

ولقد كان الاسلام ولا يزال يؤكد ويردد بأساليبه المتنوعة، وفي مختلف المناسبات على دور العقل والفطرة، وعلى أهمية الضمير والوجدان، والفكر والعلم.

ففيما يرتبط بأهمية الفكر والعلم والعقل نجد العشرات، بل المئات من الآيات القرآنية، التي تشير إلى ذلك.. وكمثال على ذلك نشير الى الآيات التالية: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (1). (وما يعقلها إلا العالمون) (2). (أفلا تتفكرون ؟) (3). (أولم يتفكروا) (4). (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) (5). (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (6). (أفلا تعقلون) (7). (لعلكم تعقلون) (8)

____________

1 ـ الزمر / 9.

2 ـ العنكبوت / 43.

3 ـ الإنعام / 50.

4 ـ الاعراف / 184، والروم / 8.

5 ـ آل عمران / 191.

6 ـ الرعد / 3، والروم / 21 والجاثية / 13.

7 ـ البقرة / 44 و 76، وآل عمران / 85 والانعام / 32، والاعراف / 169، ويونس / 16، وهود / 51، ويوسف / 109، والانبياء / 10 و 67، والمؤمنون / 80، والقصص / 60، والصافات / 138.

8 ـ البقرة / 73 و 242 والانعام / 151، ويوسف / 2، والنور / 61، وغافر / 67، والزخرف / 3، والحديد / 17.

الصفحة 15
(لآيات لقوم يعقلون) (1). (واتقون يا أولي الألباب) (2). (وما يذكر إلا أولوا الألباب) (3).

وبالنسبة لعلاقة الدين بالفطرة، فالله سبحانه يقول:

(فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه وأتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين)(4).

التجني.... والافتراء

وبعد... فإن كل ما تقدم يعطينا: أن ما ينتهجه بعض الناس في دعوتهم إلى مذهبهم، من أساليب فظة وجافة، وقاسية، من قبيل التفسيق تارة والتكفير أخرى، والرمي بالشرك أو الزندقة ثالثة، وما إلى ذلك من افتراءات وتهجمات... ناشئة عن عدم فهمهم هم لمعنى الشرك والتوحيد، وخلطهم بين المفاهيم التي هي من أوضح الواضحات، وان كل ذلك لا ينسجم مع روح الاسلام، ولا يلائم تشريعاته، ومناهجه، بل الاسلام من ذلك كله برئ...

ويتضح بعد هذا النهج عن الاسلام، وعن تعاليمه حينما نعلم: أن المسائل التي يطرحونها، ما هي إلا مسائل اجتهادية، يخالفهم فيها كثير، إن لم يكن أكثر علماء الاسلام....

بل إن الحقيقة هي أن ما يدعون إليه، ويعملون على نشره، لا يعدو عن أن يكون مجرد شعارات فارغة، أو تحكمات باطلة، لا تستند إلى دليل، ولا تعتمد على برهان.

بل إن بعضها يخالف صريح القرآن، وما هو المقطوع به من سنة النبي (ص) وسيرته، والصحيح الثابت من الصحابة والتابعين، فضلا عن مخالفته لصريح حكم العقل، ومقتضيات الفطرة والجبلة الإنسانية.

____________

1 ـ البقرة / 164، والرعد / 4، والنحل / 12، والروم / 24.

2 ـ البقرة / 197.

3 ـ البقرة / 269، وآل عمران / 7.

4 ـ الروم / 30 و 31.

الصفحة 16

لفت نظر ضروري

إن الموضوع الذي هو محل البحث هو مشروعية الأعياد، والمواسم، والمراسم والمآتم، وجمع الاحتفالات، التي تقام للذكرى في المناسبات المختلفة، كعيد المولد النبوي الشريف، وعيد الغدير، وعاشوراء، والاحتفال بعيد الاستقلال، وبيوم العمال، وغير ذلك... حتى عيد الجيش، ويوم الشجرة، وحتى زيارة الأماكن المقدسة في مواسم معينة.

ولكن لربما نضطر في بحثنا هذا إلى تخصيص المولد النوبي الشريف بالذكر، وذلك تبعا لما ورد في أدلتهم، ذلك لأنه هو المحور الذي تدور كلماتهم حوله عادة، وإن كانوا يهدفون ـ ونقصد: المانعين منهم ـ الى ما هو أعم من ذلك، كما صرحوا به في مطاوي كلماتهم واستدلالاتهم... وكما يظهر من عموم أدلتهم، التي رأوا أنها كافية للدلالة على المنع من كل تجمع في مكان معين، في زمان معين، فيلاحظ ذلك... والله هو الموفق، وهو الهادي....

الصفحة 17

الفصل الأول
«المواسم» و «المراسم»
في سطور...


الصفحة 18

الصفحة 19

أول من احتفل بالمولد النبوي

يقولون إن أول من احتفل بمولد النبي عليه الصلاة والسلام، هو ـ كما يقال ـ الامير ابو سعيد مظفر الدين الاربلي عام 630 هـ. ق (1).

وكان يفد الى هذا العيد طوائف من الناس من بغداد، والموصل، والجزيرة، وسنجار، ونصيبين، بل ومن فارس: منهم العلماء والمتصوفون، والوعاظ، والقراء، والشعراء، وهناك يقضون في اربلا من المحرم الى اوائل ربيع الأول.

وكان الامير يقيم في الشارع الاعظم مناضد عظيمة من الخشب، ذات طيقات كثيرة، بعضها فوق بعض، تبلغ الأربع والخمس، ويزينها، ويجلس عليها المغنون، والموسيقيون، ولاعبوا الخيال حتى أعلاها الخ...» (2).

____________

1 ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 2 / ص 299 عن الزرقاوي / ج 1 / ص 164، وراجع: التوسل بالنبي وجهلة الوهابين / ص 115، ورسالة حسن المقصد / للسيوطي، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص 80 و 75 و 77 والبداية والنهاية / ج 13 / ص 137 و 136، ولم يصرح بالأولية، وكذا في تاريخ ابن الوردي / ج 2 / ص 228، وجواهر البحار / ج 3 / ص 337، والسيرة الحلبية / ج 1 / ص 83 و 84، والسيرة النبوية / لدحلان / ج 1 / ص 24. ومنهاج الفرقة الناجية / ص 180، والانصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 45، لابي بكر جابر الجزائري، وص 46 و 50 و 57.

2 ـ وفيات الاعيان / ط. سنة 1310 هـ. ق / ج 1 ص 436 / 437، وشذرات الذهب / ج 5 / ص

الصفحة 20

وقد صنف له ابن دحية كتاب: «التنوير، في مولد السراج المنير» لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، فاعطاه الامير الف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته (1).

وقد اطنبوا في وصف حاكم اربل، بالصلاح، والخير، والبر، والتقوى كما يعلم من مراجعة ترجمته عندهم (2).

ولكن السيد رشيد رضا لا يوافق على ذلك، ويقول: «أول من أبدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي، أحد ملوك الشراكسة في مصر» (3).

وقال غيره عن الموالد: «أول من أحدثها بالقاهرة، الخلفاء الفاطميون، أولهم المعز لدين الله، توجه من المغرب الى مصر في شوال سنة 361... الى ان قال: إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش» (4).

هذا... وقد قتل الأفضل في سنة 515.

ويؤيد هذا القول الأخير أيضا ما ذكره المقريزي عن أعياد الخلفاء الفاطميين، فليراجعه من أراد. (5).

____________

139 / 140 عنه، وعن ابن شهبة. وراجع: السيرة النبوية لدحلان / ج 1 ص 24 / 25، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابين / ص 116 عن سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، وراجع: رسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوع مع النعمةا لكبرى على العالم / ص 76، والبداية والنهاية / ج 23 / ص 137، وجواهر البحار / ج 3 / ص 337 و 338، والانصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 50 / 51 عن الحادي للسيوطي.

1 ـ وفيات الأعيان / ج 1 / ص 437 و 381، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 115 / 116، ورسالة حسن المقصد للسيوطي / ص 75 و 77 و 80، والبداية والنهاية ج 13 / ص 137، وجواهر البحار / ج 3 / ص 338، عن روح السير لابراهيم الحلبي، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 ص 24، والانصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 50، والقول الفصل / ص 69 عن أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام / ص 52 والسيرة الحلبية / ج 1: ص 83 / 84.

2 ـ وفيات الأعيان / ج 1 ص 435 ـ 438، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 24، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 115، وحسن المقصد / ص 80 و 75 و 76، والبداية والنهاية / ج 3 / ص 137، وشذرات الذهب / ج 5 / ص 138 ـ 140.

3 ـ راجع القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 205 عن الفتاوي / ج 4.

4 ـ القول الفصل / ص 18 و 68 عن كتاب: أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام / ص 44 / 45 للشيخ محمد بخيت المطيعي، وعن المحاضرات الفكرية، المحاضرة العاشرة / ص 84، وعن الابداع في مضار الابتداع / ص 126، وعن كتاب المعز لدين الله / ص 284، وراجع الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 2 / ص 299.

5 ـ الخطط للمقريزي / ج 1 / ص 490، ومنهاج الفرقة الناجية / ص 110.

الصفحة 21

والظاهر هو أنه لا منافاة بين الأقوال السالفة، لإمكان أن يكون مرادهم أن صاحب أربل أول من أحدثه في أربل، وأولئك أول من أحدثه في القاهرة، وفي مصر، نعم... تبقى المنافاة بين ما تقدم نقله عن السيد رشيد رضا، وما نقل عن غيره. حول أول من أحدثه في مصر.

كما أن من الممكن أن يقصد البعض: أن حاكم أربل أول من احتفل بالمولد احتفالا عظيما، وبهذه الصورة الخاصة، التي كانت تكلفه عشرا ت بل مئات الألوف من الدنانير، حسبما صرحوا به.

ومهما يكن من أمر... فإن الاهتمام بالمولد، كان أسبق من التواريخ المتقدمة حيث نجدهم يقولون: كان ازدياد التعظيم للنبي عليه السلام بين أهل الصلاح والورع سببا في أن صار يحتفل بمولده عام 300 هـ، وكان ذلك بدعة في نظر المتمسكين بالعادات الاسلامية الأولى.

ويحكى عن الكرجي (المتوفى عام 343 ـ 954 م) وكان من الزهاد المتعبدين: أنه كان لا يفطر إلا في العيدين، وفي يوم مولد النبي عليه السلام...» (1). وقال السخاوي: «لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وانما حدث بعد» (2).

أما نحن فنقول: إن الاهتمام بالمناسبات والمواسم قد بدأ من عهد النبي صلى الله عليه وآله، ومن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حسبما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى....

المولد عيد عند البعض، وما يفعل فيه

قال القسطلاني: «... ولا زال أهل الاسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السر ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم».

إلى أن قال: «فرحم الله أمرء اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادا،

____________

1 ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 2 / ص 298.

2 ـ السيرة الحلبية / ج 1 ص 83 و 84 وراجع السيرة النبوية لدحلان / ج 1 ص 24.

الصفحة 22
ليكون أشد علة على من في قلبه مرض، وأعياه داء.

ولقد أطنب ابن الحاج في المدخل في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء، والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله تعالى يثيبه على قصده الجيمل» (1). وقال ابن عباد في رسائله الكبرى: «... وأما المولد فالذي يظهر لي: أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، ومن إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلباس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب، أمر مباح لا ينكر على أحد» (2).

وعن ابن حجر انه قال: «واما ما يعمل فيه، فينبغي الاقتصار على ما يفهم منه الشكر لله تعالى، من التلاوة، والإطعام، والصدقة، وانشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية... وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو، وغير ذلك، فما كان من ذلك مباحا، بحيث لا ينقص السرور بذلك اليوم، لا بأس بل بإلحاقه به، وأما ما كان حراما، أو مكروها، فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى» (3).

ابن تيمية... والغناء في العيد

وقد أوضح ابن تيمية: أن العيد لا يختص بالعبادة، والصدقات، ونحوها، بل يتعدى ذلك إلى اللعب، وإظهار الفرح أيضا.

وقد رأى ابن تيمية: أن لذلك أصلا في السنة، أي في الرواية التي تذكر أنه قد كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوار يغنين، فدخل أبو بكر فأنكر ذلك، وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ؟

فقال له النبي (ص): أن لكل قوم عيدا، وإن عيدنا هذا اليوم. (4).

____________

1 ـ المواهب اللدنية / ج 1 / ص 27 وراجع: ايضا السيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 24، والسيرة الحلبية / ج 1 / ص 83 و 84.

2 ـ راجع: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 175.

3 ـ تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي، والمطبوعة مع: النعمة الكبرى على العالم / ص 90.

4 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 194 ـ 195، والرواية في ص 193 عن الصحيحين. وراجع: صحيح البخاري / ج 1 / ص 111 ط الميمنية، وصحيح مسلم / ج 3 / ص 22، والسيرة الحلبية / ج 2 / ص 61 ـ 62، وشرح مسلم للنووي بهامش إرشاد الساري / ج 4 / ص 195 ـ 197، ودلائل الصدق / ج 1 /

الصفحة 23

وأضاف: «إن المقتضي لما يفعل في العيد، من الأكل والشرب، واللباس والزينة، واللعب والراحة، ونحو ذلك، قائم في النفوس كلها، إذا لم يوجد مانع، خصوصا نفوس الصبيان، والنساء، وأكثر الفارغين» (1).

ولكننا نعتقد: أن الرواية المتقدمة لا أاساس لها من الصحة، لأن الروايات في ذلك متضاربة ومتناقضة، ولأن أكثرها يدل على حرمة الغناء، حيث لا يعقل أن يحلل الشارع ما يعتبره العقلاء من مزامير الشيطان... إلى آخر ما ذكرناه في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم / ج 2 / ص 314 ـ 329، فليراجع...

الغناء في العيد عند اهل الكتاب

والغريب في الامر اننا نجد ابن كثير الحنبلي، حينما وصل به الكلام الى الحديث عن مريم اخت عمران، التي كانت في زمان موسى، يقول:

«... وضربها بالدف في مثل هذا اليوم، الذي هو أعظم الأعياد عندهم، دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في ا لعيد...» (2).

ثم نراه يحكم بجواز ذلك في الأعياد، وعند قدوم الغياب، تماما على وفق ما استنبطه من رواية مريم، وذلك استنادا للرواية المتقدمة، التي استند إليها سلفه ابن تيمية.

التهنئة في العيد

قال ابن حجر الهيثمي: «وأخرج ابن عساكر، عن إبراهيم بن أبي عيلة، قال: دخلنا على عمر بن عبد العزيز يوم العيد، والناس يسلمون عليه ويقولون: تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين، فيرد عليهم، ولا ينكر عليهم.

قال بعض الحفاظ الفقهاء من المتأخرين: «وهذا أصل حسن للتهنئة بالعيد

____________

ص 389، وسنن البيهقي / ج 10 / ص 224، واللمع لأبي نصر / ص 274، والبداية والنهاية / ج 1 / ص 276، والمدخل لابن الحاج / ج 3 / ص 109، والمصنف / ج 11 / ص 104، ومجمع الزوائد / ج 2 / ص 206 عن الطبراني في الكبير.

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / 195.

2 ـ البداية والنهاية / ج 1 / ص 276.

الصفحة 24
والعام، والشهر، انتهى. وهو كمال قال، فان عمر بن عبد العزيز كان من أوعية العلم والدين، وأئمة الحق والهدى الخ...» (1).

وقبل ذلك نجد أن هذا النص قد قاله عمرو الانصاري لأبي وائلة فيرد عليه بنفس العبارة (2):

وليت شعري، لماذا لا تكون تهنئة الشيخين لعلي يوم الغدير أساسا للتهنئة في العيد (3).

المولد في جميع الأقطار الاسلامية

وقال السخوي: «لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الاسلام، من سائر الأقطار، والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم» (4).

من خواص المولد

قال ابن الجوزي: «ومن خواصه: أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام» (5).

«وحكى بعضهم: أنه وقع في خطب عظيم، فرزقه الله النجاة من أهواله بمجرد أن خطر عمل المولد النبوي بباله» (6).

استحباب القوم

وقد ذكروا: أنهم كانوا حينما يقرؤون المولد، فإذا وصلوا إلى ذكر ولادته (ص)

____________

1 ـ الواعق المحرقة / ص 223.

2 ـ مجمع الزوائد / ج 2 / ص 206 عن الطبراني في الكبير.

3 ـ راجع كتاب: الغدير، للعلامة الأميني، الجزء الأول.

4 ـ السيرة الحلبية / ج 1 / ص 83 ـ 84، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 24، وراجع تاريخ الخميس / ج 1 / ص 223.

5 ـ المواهب اللدنية / ج 1 ص 27، وتاريخ الخميس / ج 1 ص 223 وجواهر البحار / ج 3 / ص 340 عن احمد عابدين، والهيثمي والقسطلاني، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 24.

6 ـ جواهر العلم / ج 3 / ص 340.

الصفحة 25
يقومون وقوفا، احتراما واجلالا، وقد تكلموا في حكم هذا القيام:

فقال الصفوري الشافعي: «مسألة القيام عند ولادته، لا إنكار فيه، فإنه من البدع المستحسنة. وقد أفتى جماعة باستحبابه عند ذكر ولادته. وقال جماعة بوجوب الصلاة عليه عند ذكره، وذلك من الإكرام والتعظيم له (ص)، وإكرامه وتعظيمه واجب على كل مؤمن. ولا شك أن القيام له عند الولادة من باب التعظيم والإكرام...» (1).

وسيأتي من الحلبي الشافعي وغيره، التأكيد على مشروعية القيام عند ولادته (ص).

النعمة الكبرى على العالم

هذا.... وقد ألف العديد من الكتب والرسائل، ونشرت بحوث كثيرة، تتحدث عن مشروعية المولد النوبي، وسائر المواسم والمراسم، هذا عدا عن البحوث المبثوثة في الكتب المختلفة، المؤلفة لاغراض أخرى.../

وعلى هذا...

فليس كتاب التنوير لابن دحية، ثم رسالة السيوطي، المسماة بحسن المقصد، ولا المولد الذي ألفه ابن الديبع هي البداية، ولا النهاية في هذا المجال.

ولكن ما لفت نظرنا هنا هو ذلك الكتاب المطبوع باسم: «النعمةا لكبرى على العلام، في مولد سيد ولد آدم»، والمنسوب إلى شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي. وهو اسم صاحب الكتاب المعروف المسمى: بالصواعق المحرقة.

حيث قد تضمن هذا الكتاب كلمات منسوبة إلى ابي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي عليه السلام، والحسن البصري، والجنيد البغدادي، ومعروف الكرخي، وفخر الدين الرازي، والإمام الشافعي، والسري السقطي.

ونحن نشك في نسبة تلك الكلمات الى هؤلاء، وذلك لأننا لم نعثر على شيء منها في المصادر الاخرى، التي في حوزتنا، وإن كنا لا ندعي أننا بلغنا الغاية في الإستقصاء.

____________

1 ـ نزهة المجالس / ج 2 / ص 80.

الصفحة 26

وعلى كل حال فإننا نكل أمر هذه المنسوبات، وأمر الكتاب ومؤلفه الحقيقي إلى الله، فهو المطلع على السرائر، والمحيط بما في الخواطر...

الصفحة 27

الفصل الثاني
استدلالات لا تصح


الصفحة 28

الصفحة 29

بداية

نجد للمجورين لإقامة المواسم والمراسم استدلالات عديدة، ولكننا لا نجد من بينها ما يجدي في إثبات ما يريدون إثباته، ولا يصلح للاستدلال به، ونحن نشير إلى طائفة من أدلتهم تلك، مع التذكير ببعض ما يرد عليها. فنقول،

أبو لهب... وعتق ثويبة

إنهم يذكرون: أن أبا لهب حينما بشر بولادته (ص)، اعتق مولاته ثويبة، فرآه العباس ـ وفي رواية اليعقوبي: رآه النبي (ص) ـ بعد موته في المنام، فأخبره أنه يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين لعتقه ثويبة حينما بشر بذلك (1).

قال القصطلاني: «قال ابن الجزري: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي

____________

1 ـ راجع: السيرة النبوية لابن كثير / ج 1 / ص 224، البداية والنهاية / ج 1 / ص 273، وتاريخ اليعقوبي / ج 2 / ص 9، وفتح الباري / ج 9 / ص 124، وعمدة القاري / ج 2 / ص 95، والسيرة الحلبية / ج 1 / ص 84 و 85، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 25، ورسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ص 90، وارشاد الساري / ج 8 / ص 31، وهو ظاهر صحيح البخاري / ج 3 / ص 157 ط سنة 1309، وجواهر البحار / ج 3 / ص 338 / 339، وتاريخ الاسلام للذهبي / ج 2 / ص 19، والوفاء / ص 107، ودلائل النبوة للبيهقي / ج1 / ص 120، وبهجة المحافل / ج 1 / ص 41،

الصفحة 30
نزل القرآن بذمه، جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي (ص) به، فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام، الذي يسر بمولده، ويبذل ما تصل اليه قدرته في محبته ؟ لعمري، إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم» (1).

ورحم الله حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر، حيث قال:

إذا كان هذا كافر جاء ذمة * وتبت يداه في الججيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائما * يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره * بأحمد مسرورا ومات موحدا (2)

ولكن هذا الاستدلال لا يصح، وذلك لأن إعتاق ثويبة قد كان بعد مولده (ص) بزمن طويل، أي بعدما هاجر النبي (ص) الى المدينة، بعد أن حاولت خديجة شراءها من أبي لهب لتعتقها، بسبب ما يزعم من إرضاعها للنبي (ص) فرفض أبو لهب بيعها. (3)

وتوجيه الحلبي لذلك، بأن من الممكن أن يكون أبو لهب قد أعتقها أولا لكنه لم يذكر ذلك ولم يظهره، ورفض بيعها لخديجة لكونها كانت معتوقة، ثم عاد فأظهر ذلك (4)... هذا التوجيه غير وجيه، لأن من غير المعقول أن لا يظهر الناس ولا يطلعوا على عتقه لجاريته طيلة حوالي خمسين سنة، كما أن هذه الجارية التي اعتقها

____________

وطبقات ابن سعد / ج 1 قسم 1 / ص 67 ـ 68، والمواهب اللدنية / ج 1 / ص 27، وتاريخ الخميس / ج 1 / ص 222، وسيرة مغلطاي / ص 8، وصفة الصفوة / ج 1 / ص 62، ونور الابصار / ص 10، وإسعاف الراغبين بهامشه / ص 8.

1 ـ المواهب اللدنية / ج 1 / ص 27، ورسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص 90 ـ 91، وتاريخ الخميس / ج 1 / ص 222.

2 ـ السيرة النبوية لزيني دحلان / ج 1 / ص 25، ورسالة السيوطي المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ص 91.

3 ـ أنساب الأشراف (سيرة النبي (ص)) / ص 95 / 96، والكامل لابن الأثير / ج 1 / ص 459، وطبقات ابن سعد / ج 1 / قسم 1 / ص 67، والإصابة / ج 4 / ص 258، وارشاد الساري / ج 8 / ص 31، والسيرة الحلبية / ج 1 / ص 85، وراجع الوفاء / ص 107، وفتح الباري / ج 9 / ص 124، والاتسيعاب بهامش الإصابة / ج 1 / ص 16، وذخائر العقبى / ص 259، وقاموس الرجال / ج 10 / ص 417.

4 ـ السيرة الحلبية / ج 1 / ص 85.

الصفحة 31
لماذا بقيت عنده طيلة هذه المدة المتمادية وهي خارجة عن ملكه... ؟ ولماذا لم يظهر ذلك إلا بعد هجرته (ص) ؟ فما هو الداعي له للكتمان، ولا سيما قبل النبوة ؟ وما الداعي للاظهار، ولا سيما بعد الهجرة ؟

وأوردوا أيضا على الرواية بأنها مرسلة.

وبأنه لا حجية في المنامات،

وبأنها مخالفة لظاهر القرآن: الذي يقول عن الكفار: «وقدمنا الى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثورا». (1)

ولكن إذا ثبت أن الرائي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو مقتضى رواية اليعقوبي، كان المنام حجة... كما أنهم قد ناقشوا في هذا الاعتراض الأخير بما لا مجال لذكره، فلتراجع المصادر المتقدمة، فالعمدة هو ما ذكرناه نحن آنفا ونذكر أخيرا... ان فرحه لو كان استجابة لحاجة نفسية طبيعية، ولم يكن لله، فلماذا يثاب عليه ! ؟

الاستدلال بفعل حاكم إربل

ونجد في كلماتهم أيضا الاستدلال بفعل حاكم اربل، الذي ابتكر عمل المولد على ذلك النحو المخصوص حسبما ذكروه، وقد كان فاضلا ورعا دينا الى آخر ما وصفوه به. (2)

ولكنه استدلال لا يصح أيضا، لأن التشريع لا يصح من أحد إلا من صاحب الشريعة، ولم يكن هذا الرجل من العلماء، حتى يحمل عمله على أنه قد استند فيه إلى دليل شرعي، فلعله، كان غافلا عن اللوازم الفاسدة لمثل هذا العمل، أو حتى متعمدا لها...

إلا إذا كان المقصود والاستدلال على هذا الأمر بالإجماع المتحقق في زمانه وحضور العلماء وغيرهم لتلك المناسبات كما يظهر من سياق كلامه... ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

____________

1 ـ راجع: فتح الباري / ج 9 / ص 124 ـ 125، وارشاد الساري / ج 8 / ص 31، وعمدة القاري / ج 20 / ص 95، والقول الفصل / ص 84 ـ 87.

3 ـ راجع: رسالة حسن المقصد للسيوطي، والمطبوعة مع كتاب: النعمة الكبرى على العالم / ص 80.

الصفحة 32

ولكنه ايضا استدلال باطل عندنا، لأننا نعتقد: أن الإجماع بما هو هولا حجية فيه، إلا بسبب اشتماله على قول النبي المعصوم (ص)، أو قول أحد الأئمة المعصومين، أما دون ذلك فلا اعتبار به، ولكن المشهور عند أولئك المستدلين بهذه الأدلة هو حجيته متى تحقق، حتى ولو بعد عصر النبي (ص)، ثم ما تلاه من أعصار فيكون حجة عليهم... فراجع كتب الاصول. (1)

العقيقة... دليل آخر

قال السيوطي ما حاصله: «إنه ظهر له تخريج عمل المولد على أصل آخر، وهو أنه (ص) قد عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته... فهذا يعني أنه (ص) أراد إظهار الشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين، وتشريفا لأمته، فيستحب الحب لنا أيضا إظهارا للشكر بمولده، بالاجتماع وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات». (2)

ولكن هذا لا يصلح للاستدلال ايضا، اذ لم يثبت ان ذلك كان منه (ص) فرحا وابتهاجا، بما ذكر، فان ذلك لا يعدو عن ان يكون استنباطا استحسانيا قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه. هذا كله بالاضافة الى عدم ثبوت انه (ص) قد عق عن نفسه (3)، وعدم ثبوت ان عبد المطلب كان قد عق عنه (ص).. (4) فلابد من ثبوت ذلك بشكل قطعي ليتكلم في دلالته على المدعى أو عدم دلالته.

مضافا إلى أن العقيقة بنفسها مستحبة في الشرع، وقد ثبت ذلك بالدليل القطعي ولكن لا يلزم من استحبابها، والعمل بها جواز اقامة المراسم والمواسم في اوقات معينة وبكيفية خاصة... حتى لو ثبت أن ذلك كان فرحا واستبشارا بمولده (ص)، وإلا لكررها بعد ذلك في كل عام، كما يراد إثباته. فلعل للاستبشار بالعقيقة مرة واحدة في العمر خصوصية عند الشارع.

____________

1 ـ راجع: المستصفى وفواتح الرحموت، والاحكام في أصول الاحكام، وإرشاد الفحول، بحث الإجماع...

2 ـ راجع: رسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص 90.

3 ـ روى ذلك البيهقي في السنن الكبرى ج 9 ص 300.

4 ـ الرواية في تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 283.

الصفحة 33

الاستدلال بيوم عاشوراء

وقد نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر قوله عن عمل الموالد للنبي (ص): «وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين، من أن النبي (ص) قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، ونحن نصومه شكرا لله تعالى، فقال (ص): فأنا أحق بموسى عليه السلام منكم، فصامه، وأمر بصومه...

وفي نص آخر: «كان يوم عاشوراء يوما تصومه اليهود، تتخذه عيدا، فقال رسول الله (ص): صوموه أنتم». (1)

قال ابن حجر: فيستفاد منه، فعل الشكر لله تعالى على ما من به في يوم معين، من إحداث نعمة، أو دفع نقمة. ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة... وأي نعمة أعظم من نعمة بروز نبي الرحمة في ذلك اليوم» (2)

وقد رد البعض على هذا الاستدلال بأن السلف الصالح لم يعملوا بهذا النص، على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم، وهذا يمنع من اعتبار هذا النهي صحيحا، فاستنباط ذلك من الحديث مخالف لما أجمع عليه السلف، من ناحية فهمه، ومن ناحية العمل به، وما خالف إجماعهم، فهو خطأ. (3)

ونقول: إن هذا الرد ليس صحيحا، كما سيتضح في الفصل الذي نرد فيه على أدلة المانعين... ولذا فلا حاجة الى تكرار الكلام هنا....

____________

1 ـ راجع: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 78 و 79، وسنن الدارمي / ج 2 / ص 22، وصحيح البخاري / ج 1 / ص 224، وصحيح مسلم / ج 3 / ص 159 و 150، ومسند أحمد / ج 4 / ص 409، وزاد المعاد ج 1 / ص 164 فما بعدها، وكشف الأستار / ج 1 / ص 490، ومجمع الزوائد / ج 3 / ص 185. وللحديث طرق متعددة، ونصوص مختلفة، وهو موجود في مختلف المصادر الحديثة عند أهل السنة، ولتراجع رسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوعة مع: النعمة الكبرى على العالم / ص 89، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 25، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 114، وعجائب المخلوقات، بهاشم حياة الحيوان / ج 1 / ص 114، والمنتقى من أخبار المصطفى / ج 2 / ص 192، ومجمع الزوائد / ج 3 / ص 184 ـ 188، ومنحة المعبود / ج 1 / ص 193.

2 ـ تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوع مع: النعمة الكبرى على العالم / ص 89 ـ 90 وراجع: التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 114 / 115.

3 ـ راجع: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 78 و 79.

الصفحة 34

ولكننا نود أن نشير هنا إلى أمر آخر لم نتعرض له هناك، وخلاصته:

اننا نعتقد: أن ما ورد من الأحاديث التي تحث على صيام صوم عاشوراء، لا يمكن أن تصح، وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم / ج 3 / ص 104 ـ 110.

وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره موافقة أهل الكتاب في كل أحوالهم، حتى قالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه... (1) وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم». (2)

بالاضافة إلى التناقض الشديد بين الروايات المشار إليها... (3)

هذا عدا عن أن اسم عاشوراء إسلامي لا يعرف في الجاهلية (4)

ولسنا هنا في صدد تقصي هذا البحث، فمن أراد المزيد فليراجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. وسيأتي المزيد من الكلام حول يوم عاشوراء في فصل: لن يخدع السراب.

تعظيم شعائر الله سبحانه

وقد استدل بعض الأصدقاء في مقال له حول نفس هذا الموضوع بقوله تعالى: (ذلك، ومن يعظم شعائر اله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى، ثم محلها إلى البيت العتيق) (6).

على اعتبار: أن شعائر الله سبحانه هي أعلام دينه، خصوصا ما يرتبط

____________

1 ـ راجع: المدخل لابن الحاج / ج 2 / ص 48، والسيرة الحلبية / ج 2 / ص 115، ومفتاح كنوز السنة عن عدد من المصادر، ومسند أحمد / ج 3 / ص 246، والجامع الصحيح للترمذي / ج 5 / ص 214 / 215، وصحيح مسلم /ج 1 / ص 169، وسنن أبي داود / ج 2 / ص 250 / و ج 1 / ص 67، وسنن الدرامي / ج 1 / ص 245 وسنن النسائي / ج 1 / ص 187.

2 ـ المدخل لابن الحاج / ج 2 / ص 48، وسنن أبي داود / ج 4 / ص 44، ومسند أحمد / ج 2 / ص 50، ومجمع الزوائد / ج 10 / ص 271 عن الطبراني في الأوسط.

3 ـ الصحيح من سيرة النبي / ج 3 / ص 105.

4 ـ مجمع البحرين / ج 3 / ص 405، والجمهرة في لغة العرب لابن دريد / ج 4 / ص 212، والنهاية لابن الأثير / ج 3 / ص 240.

5 ـ المستدل هو صديقنا الشيخ رسول جعفريان حفظه الله في مقال له حول هذا الموضوع.

6 ـ الحج / 32 ـ 33.

الصفحة 35
منها بالحج، كما قاله القرطبي، لأن أكثر أعمال الحج إنما هي تكرار لعمل تاريخي، وتذكير بحادثة كانت قد وقعت في عهد إبراهيم عليه السلام، وشعائر الله مفهوم عام شامل للنبي (ص) ولغيره، فتعظيمه (ص) لازم، ومن أساليب تعظيمه إقامة الذكرى في يوم مولده، ونحو ذلك، فكما أن ذكرى ما جرى لإبراهيم عليه السلام من تعظيم شعائر الله سبحانه، كذلك تعظيم ما جرى للنبي الأعظم، محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكون من تعظيم شعائر الله سبحانه.

ونقول: إنه لابد من إصلاح هذا الاستدلال، والقول: بأنه لا يتوقف على دعوى أن شعائر الحج ما هي إلا تكرار لحوادث تاريخية، ليمنع ذلك بعدم ثبوت ذلك، أولا، وبأنه قد كان يمكن التذكير بحوادث تاريخية مهمة جدا غيرها، ولعل بعضها أهم بكثير من قضية التخير بين الصفا والمروة في طلب الماء، أو نحوه مما يذكر هنا.

كما لا يرد على هذا الاستدلال: أن تفسير القرطبي للشعائر باعلام الدين، الذي هو معنى عام، لا ينافي اختصاص هذا التعبير في القرآن بـ «أعمال الحج» ومواضعه، لا يرد عليه ذلك، لأن الغيرة إنما هي بعموم اللفظ، لا بخصوصية المورد.

ولكن يلاحظ: أن القرآن يكرر ويؤكد على أن في هذه الشعائر منافع للناس، فهو يقول في الآية السابقة، وهو يتحدث عن أعمال الحج (... ذلك ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى، ثم محلها إلى البيت العتيق) كما ويشير إلى أ، عمل الحج نفسه يحصل الناس فيه على المنافع كما قال تعالى: (ليشهدوا منافع لهم).

وفي آية أخرى في نفس الموضوع، نجده تعالى يقول: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير، فاذكروا آسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها، فكلوا منها وأطعموا القانع والمعز، كذلك سخرها لكم لعلكم تشكرون * لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم).(1)

وقد أطلق في القرآن لفظ المشعر الحرام على المزدلفة، كما وأطلق على الصفا والمروة انهما من شعائر الله...

فالظاهر: ان المراد هو: أن هذه الأماكن، وكذلك البدن التي يشعرها

____________

1 ـ الحج / 36 و 37.

الصفحة 36
الحاج ويعلمها إنما هي من أعلام المناسك، ودلائله المظهرة لكمال انقياد العباد له تعالى، فلا يجوز التعدي على هذه الأعلام، ولا يجوز تجاوزها، بل لابد من تعظيمها والتقيد بها، وقد ورد النهي عن تجاوزها وتعديها في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا امين البيت الحرام، يتبغون فضلا من ربهم ورضوانا). (1). وقبل آية تعظيم شعائر الله، تجده تعالى يقول وفي نفس المناسبة: (ومن يعظم حرمات الله ن فهو خير له عند ربه) (3) فنجد أن هذا السياق متحد مع سياق الآية التي استدل بها هنا.

وبعد.. كل ما تقدم نقول: إن الاستدلال بالآية يتوقف على كون مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا يوم عاشوراء، مثلا، وغير ذلك من المناسبات من شعائر الله، أي من أعلام الله التي نصبها لطاعته، ليجب تعظيمها.. وكما يقال:

العرش، ثم النقش...

فإن قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) يشعر بأن كونها من الشعائر يحتاج إلى جعل منه تعالى...

وذكرهم بأيام الله

وقد استدل أيضا على مشروعية المواسم والمراسم بقوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: (وذكرهم بأيام الله)(3)، فإن المقصود بأيام الله، أيام غلبة الحق على الباطل، وظهور الحق، وما نحن فيه من مصاديق الآية الشريفة، فإن إقامة الذكريات والمواسم فيها تذكير بأيام الله سبحانه. (4)

ونقول: إن ما تدل عليه الآية هو التذكير بالأسلوب العادي والمعروف، وأما الخصوصية، فلا تفهم من الآية. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «كان رسول الله (ص) يخطبنا فيذكرنا بأيام الله، حتى نعرف ذلك في وجهه، كأ،ه نذير قوم يصبحهم الأمر عداوة». (1).

وعن إبي بن كعب: «أن رسول الله (ص) قرأ يوم الجمعة تبارك، وهو قائم، فذكرنا بأيام الله». (2)

وعن النبي (ص): «بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله، وأيام الله نعمه وبلاؤه إذ قال... الخ». (3)

فذلك كله يدل على أن التذكير بأيام الله كان يتخذ صفة الطبيعة والعادية، ولو للأفراد على انفراد، ولم يكن يقيم لهم احتفالات ومراسم معينة في أوقات مخصوصة من أجل ذلك، إلا أن يقال: إن أمر تعيين المصداق قد ترك إلينا، كما سيأتي، فتكون الآية من أدلة العنوان العام.

كما أن المقصود بأيام الله.. لعله تلك الأيام التي تحدث فيها خوارق العادات، وتظهر فيها الآيات، أيام بطشه بالظالمين، وأخذه لهم أخذ عزيز مقتدر، وكذا الحال بالنسبة لآية: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله).. فلا تشمل الآية ما هو محل الكلام هنا...

الفرح بفضل الله سبحانه

وقد استدل أيضا بقوله تعالى: (قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا)، إذ من المصاديق الجلية لرحمة الله سبحانه، هو ولادة النبي (ص)، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فالفرح بمناسبة ميلاده صلى الله عليه وآله وسلم مطلوب ومراد. (4)

ولكننا نقول: إن الآية تدل على لزوم الرح برحمة الله سبحانه وفضله... أما الخصوصية، فلا تدل عليها، وحينما يصف الله الانسان بأنه فرح فخور، فان ذلك لا يعني إلا ثبوت هذه الحالة النفسية له، ولا تدل على أنه يقيم الحفلات، ويلتزم بالمواسم والمراسم، كما هو محل البحث هنا.

إلا أن يقال: إن أمر تعيين الكبيفية والمصداق قد أوكل الينا، كما سق في

____________

1 ـ مسند أحمد / ج 1 / ص 167.

2 ـ سنن ابن ماجة / ج 1 / ص 352 ـ 353.

3 ـ مسند احمد / ج 5 / ص 121.

4 ـ راجع: القول الفصل / ص 73، ومقالة الصديق المشار إليه آنفا.

الصفحة 37