الصفحة 38
الآية السابقة.

مناسك الحج تكرار للذكرى

واستدل بعض العلماء بأن حل أعمال مناسك الحج ما هي إلا احتفالات بذكرى الأنبياء، فأمر الله تعالى باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، إحياء لذكرى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما السعي بين الصفا والمروة، فهو تخليد لذكرى هاجر حينما عطشت هي وابنها اسماعيل، فكانت تسعى بين الصفا والمروة، وتصعد عليهما لتنظر: هل ترى من أحد (كما ذكر البخاري)..

ورمي الجمار تخليد لذكرى إبراهيم عليه السلام، حينما ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات، فساخ.

وذبح الفداء، إنما هو تخليد لذكرى إبراهيم أيضا حينما أمر بذبح ولده إسماعيل ففداه الله بذبح عظيم.

وفي بعض الأخبار: أن أفعال الحج إنما هي احتفال بذكرى آدم، يث تاب الله عليه عصر التاسع من ذي الحجة بعرفات، فأفاض به جبريل حتى وافى إلى المشعر الحرام فبات فيه، فلما أصبح أفاض إلى منى، فحلق رأسه إمارة على قبول توبته، وعتقه من الذنوب.

فجعل الله ذلك لايوم عيدا لذريته.

فأفعال الحج كلها تصير احتفالات واعيادا بذكرى الأنبياء، ومن ينتسب اليهم، وهي باقية أبد الدهر. (1)

ونقول:

أ,لاً: إن هذا الاستدلال يتوقف على ثبوت الروايات المشار إليها آنفا، على كون قوله تعالى: (واتخذوا من قام ابراهيم مصلى) قد جيء به للإشارة إلى هذا الأمر التاريخي...

والآية إنما أوردت كلمة «مقام إبراهيم» للإشارة إلى موضوع الحكم، وليس عنوان هذا الموضوع دخيلا في ثبوت ذلك الحكم، لا بنحو الاقتضاء ولا بنحو العلية التامة، ولعله تكون العلة للحكم أمرا آخر، ويكون العنوان من قبل

____________

1 ـ راجع كتاب: معالم المدرستين / ج 1 / ص 47 ـ 49، للعلامة العسكري حفظه الله تعالى.

الصفحة 39
لفظ «زيد في قولك: أكرم زيدا».

كما ويرد هنا سؤال، وهو: لماذا اختصت هذه الأحداث بأن يقام لها هذا الاحتفال الدائم أبد الدهر، مع أنه قد توجد أحداث أعظم أهمية، وأشد خطرا منها ؟ لماذا لم تخلد هي أيضا باحتفالات على نحو تخليد هذه.... ولتكن إحدى هذه الأحداث، ولادة السيد المسيح من دون أب، وقصة غرق فرعون، ومحاولة إحراق إبراهيم بالنار، فكانت بردا وسلاما، وقصة الطوفان، وغير ذلك ؟

وثانياً: ان هذه الذكريات قد أمر الشرع بها وشرع الحكم بلزوم العمل بها، وهذا لا ينكهر المانعون، وانما هم يقولون: إن ما لم يرد به الشرع يكون بدعة وحراما، وهذا مما قد ورد الشرع به، فلا إشكال فيه، وإنما الاشكال فيما عده....

الاستدلال بما جرى ليعقوب

واستدل ابضا على مشروعية الاحتفالات والمراسم بحزن يعقوب على فراق ولده يوسف، حتى ابيضت عيناه من الحزن، فلم لم يجز له بعد موت ولده العزيز على قلبه مع ان حرفته عليه أعظم: أن يظهر التفجع عليه، ويقيم المراسم في هذا السبيل ؟ !

ونقول: إن ذلك لا ربط له بإقامة المراسم والمواسم في زمان معين، وفي مكان معين، فإن مجرد الحزن والأسى لا مانع منه، ولكن الزيادة على ذلك هي التي تحتاج إلى اثبات، بنظر المانع، والآيات لا تدل على أكثر من ممارسة التوجع والتفجع والحزن...

«ورفعنا لك ذكرك»

واستدل أيضا بقوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) (2) فإن الاحتفالات بميلاده (ص) ما هي إلا رفع لذكره (ص)... (3).

ويمكن المناقشة في ذلك بأن ر فع ذكره (ص) من قبل الله سبحانه إنما هو

____________

1 ـ راجع كتاب: آئين وهابيت / ص 180 ـ 181 للعلامة السبحاني حفظه الله.

2 ـ الانشراح / 4.

3 ـ آئين وهابيت / ص 184 للسبحاني.

الصفحة 40
بجعله نبيا رسولا، وليس في الآية أمر متعلق بالمكلفين يطلب منهم إقامة احتفالات، ولا غير ذلك...

وقد ورد في الروايات أن المراد برفع ذكره ما هو واقع من ذكر الشهادة بنبوته إلى جانب الشهادة لله بالوحدانية في الأذان وفي غيره... وقيل في تفسير الآية غير ذلك أيضا...

آية المودة

واستدل أيضا بأن مودة ذوي القربى مطلوبة شرعا، وقد أمر بها القرآن صراحة، فإقامة الاحتفالات للتحدث عما جرى للأئمة (ع) لا يكون إلا مودة لهم... إلا أن يدعى أن المراد بالمودة الحب القلبي، ولا يجوز الاظهار.

ونقول: صحيح أن إرادة الحب القلبي مجردا ومن كلمة: «المودة» لا يمكن تقويته، لاسيما وأن بعض المحققين يقول في تفسير المودة: «كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل...» (1).

ولكن يمكن المناقشة فيما ذكر، بأن مودتهم تحصل من دون إقامة احتفالات، فالمانع يدعي: أن الخصوصية للزمان وللمكان، وللتجمع، وللمراسم الخاصة، يحتاج جوازها إلى اثبات.. إلا إذا التزم بالأمر بالعنوان العام، وترك أمر تعيين المصاديق إلينا، كما سيأتي بيانه، مع عدم كون الخصوصية موردا للحكم الشرعي، ولا للتعبد بإتيانها... ولعل هذا هو مراد المستدل، فلا إشكال حينئذ.

ونفس ما تقدم يقال: بالنسبة إلى استدلاله بآية: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه) (2).

آية المائدة

واستدل أيضا بقوله تعالى: (ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عبدا لأولنا وآخرنا وآية منك وأرزقنا وأنت خير الرازقين).(3)

فقد اعتبر يوم نزول المائدة السماوية عيدا وآية، مع أنها لأجل إشباع

____________

1 و 2 ـ راجع: تفسير الميزان / ج 16 / ص 166.

3 ـ سورة المائدة / 114.

الصفحة 41
البطون. فيوم ميلاده (ص)، ويوم بعثته، الذي هو مبدأ تكامل فكر الأمم على مدى التاريخ أعظم من هذه الآية، وأجل من ذلك العيد، فاتخاذه عيدا يكون بطريق أولى... (1)

ويمكن الجواب عن ذلك: بأن العيد المشار إليه في الآية، قد جاء على وفق الحالة الطبيعية للأعياد عادة، لأن المائدة تنزل في وقت معين ن وقد طلب عود نزولها واستمرارها، ثم يجتمع الناس عليها للاستفادة منها، ولابد من أن يحصل الفرح والابتهاج بها، فكل الخصوصيات المعتبرة في العيد، لابد وأن تحصل بتبرع منا، مع عدم المساهمة الشرعية لا في حصولها، ولا في إمضائها وجعل المشروعية لها.

السنة الحسنة والسنة السيئة

وأما الاستدلال على مشروعية الاحتفالات والمواسم بأنها من السنن الحسنة فسيأتي حين الرد على ما يتذرع به المانعون أنه لا يصلح للاستدلال به، فلا حاجة إلى التكرار هنا...

والضحى....

واستدلوا ايضا على مشروعية الاحتفالات والمواسم بأن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بالضحى، وبالليل إذا سجى، وقد روي أن المراد ليلة المولد، أو ليلة المعراج. (2)

والجواب أن ذلك يدل على أهمية هذه الليلة وامتيازها، ولكنه لا يدل على مشروعية إقامة الموالد والمواسم في زمان معين، أو في مكان معين، بل ليس فيها أية إشارة إلى أي نحو من أنحاء التجمعات، لا نفيا ولا اثباتا.

____________

1 ـ راجع: آئين وهابيت ص 182 / 183.

2 ـ ستأتي الروايات ومصادرها حين الرد على ما يتذرع به المانعون فلا حاجة إلى ذكرها هنا ايضا.

الصفحة 42

الصفحة 43

الفصل الثالث
بماذا يتذرع.... المانعون ؟


الصفحة 44

الصفحة 45

أدلة القائلين بحرمة الاحتفالات والاعياد

إن من يراجع كلمات هؤلاء القوم يجد: أنهم يستدلون لما يذهبون اليه، بأدلة استنباطية، وروائية، وان كانت كلماتهم قد جاءت في الأكثر خطابية وشعارية... فلابد أولا من إيراد جانب منها، ثم استخلاص ما يمكن استخلاصه مما أوردوه على شكل استدلال ومستند لهم. ولكن لابد وأن يجد القارئ بعض التكرار، الذي حاولنا الاحتراز منه قدر الامكان. فلم يحالفنا التوفيق التام في ذلك...

كلمات... واستدلالات

جاء في هامش كتاب «فتح المجيد» ما نصه:

«وهي التي يسميها الناس اليوم «الموالد والذكريات» التي ملأت البلاد باسم الأولياء، وهي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم، ولذلك لايذكر الناس ويعرفون إلا من أقيمت له هذه الذكريات، ولو كان أجهل خلق الله وأفسقهم.

فلكما كسدت سوق طاغوت من هؤلاء، قامت السدنة بهذا العيد لتحيي في نفوس العامة عبادته، وتكثر الهدايا والقرابين باسمه.

وقد امتلأت البلاد الاسلامية بهذه الذكرانات، وعمت المصيبة، وعادت

الصفحة 46
بها الجاهلية الى بلاد الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولم ينج منها إلا نجد والحجاز، فيما تعلم، بفضل الله، ثم بفضل آل سعود، الذين قاموا بحماية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» (1).

وقال: «في قرة العيون: وقد أحدث هؤلاء المشركون أعيادا عند القبور، التي تعبد من دون الله، ويسمونها عيدا، كمولد البدوي بمصر، وغيره، بل هي أعظم، لما يوجد فيها من الشرك، والمعاصي العظيمة». (2)

وقالوا أيضا: «والمستقرئ لشؤون البشر، وما يطرأ عليها من التطورات الصالحة والفاسدة، يعرف حقيقة هذه الأعياد الجاهلية، بما يرى اليوم من الأعياد التي يسميها أهل العصر «الموالد»، أو يسمونها الذكريات، لمعظميهم من موتى الأولياء، وغيرهم، ولحوادث يزعمون: إنها كان لها شأن في حياتهم، من ولادة ولد، أو تولي ملك، أو رئيس، أو نحو ذلك.

وكل ذلك إيما هو إحياء لسنن الجاهلية، وإماتة لشرائع الاسلام من قلوبهم، وإن كان أكثر الناس لا يشعرون بذلك، لشدة استحكام ظلمة الجاهلية على قلوبهم، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذرا، بل هو الجريمة كل الجريمة، التي تولد عنها كل الجرائم، من الكفر، والفسوق، والعصيان». (3)

وقال المرشيدي: «... وقد ابتلي الناس بهذا، لاسيما مولد البدوي...». (4)

والمراد: انهم ابتلوا بنقل الدراهم والشمع.

وحول مولد البدوي، فقد قالوا أيضا: «ويقام له كل عام ثلاثة موالد» يشد الرحال إليها الناس من أقصى القطر المصري، ويجتمع في المولد اكثر من ثلاث مئة ألف حاج إلى هذا الصنم الأكبر، عجل الله بهدمه، وحرقه، هو وغيره من كل صنم في مصر وغيرها...». (5)

وقد استدلوا أيضا بما روي عن ابي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني

____________

1 و 2 ـ فتح المجيد، بشرح عقيدة التوحيد / هامش صفحتي 154 و 155.

3 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / هامش ص 191.

4 ـ فتح المجيد، بشرح عقيدة التوحيد / هامش ص 160.

5 ـ المصدر السابق.

الصفحة 47
حيث كنتم».

وروي بمعناه عن النبي، عن السجاد زين العابدين عليه السلام، وعن الحسن بن الحسن بن علي، وعن أبي سعيد مولى المهري. (1)

«وقد نهى عمر عن اتخاذ آثار الانبياء أعيادا...». (2)

قال ابن تيمية: «... وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده، أو غير ذلك...». (3)

وقال: «... وفي الحديث دليل على منع شد الرحل الى قبره (ص)، والى قبر غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادا». (4)

وقال: «... يشير إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري، وبعدكم منه، فلا حاجة بكم الى اتخاذه عيدا». (5)

وقال: «... ربما اجتمع القبوريون عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معينة، وهذا بعينه الذي نهى عنه النبي (ص) بقوله: لا تتخذوا قبري عيدا. وبقوله: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». (6)

«... وقال المناوي في فتح القدير: معناه: النهي عن الاجتماع لزيارته،

____________

1 ـ راجع سنن ابي داود / ج 2 / ص 218، ومسند أحمد / ج 2 / ص 367، وعون المعبود / ج 6 / ص 34 عن الضياء في المختارة، وأبي يعلى، والقاضي اسماعيل، وسعيد بن منصور في سننه ومجمع الزوائد / ج 4 / ص 3.

واستدلوا بهذا الحديث في الكتب التالية: عقيدة التوحيد / ص 256 ـ 257 / 260، وفتح المجيد / ص 258 و 259، وكشف الارتياب / 449 عن رسالة زيارة القبور لابن تيمية، وعن وفاء الوفاء للسمهودي، وشفاء السقام (المقدمة) / ص 118 و 65 و 66 عن مصنف عبد الرزاق، والصارم المنكي / ص 179 و 174 و 173 و 172 و 262 و 280 و 281 و 284 و 296 و 298 و 300 و 302 و 301 و 299 و 297، والتوسل بالنبي (ص) وجهلة الوهابيين / ص 151 و 133 و 122، واقتضاء الصراط المستقيم / ص 190 و 313 و 321 و 322 و 323 و 368 و 375 و 376 و 378 وراجع ص 383 و ص 109 و 110 عن ابي يعلى، ومحمد بن عبد الواحد المقدسي في مستخرجه، وسعيد بن منصور، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ص 14.

2 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 313.

3 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / 378.

4 ـ عون المعبود / ج 6 / ص 32، وفتح المجيد / ص 261.

5 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 323، وعون المعبود / ج 6 / ص 33، وفتح المجيد / ص 257، والصارم المنكي م ص 172 و 298. وزيارة القبور الشرعية والشركية / ص 15.

6 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 375.

الصفحة 48
واجتماعهم للعيد، إما لدفع المشقة، أو كراهة أن يتجاوزوا حد التعظيم...». (1)

وقال ابن القيم: «... نهيه لهم أن يتخذوا قبره عيدا، نهي لهم ان يجعلوه مجمعا، كالأعياد التي يقصد الناس الاجتماع إليها للصلاة، بل يزار قبره صلوات الله وسلامه عليه كما يزوره الصحابة رضوان الله عليهم، على الوجه الذي يرضيه ويحبه، صلوات الله وسلامه عليه...». (2)

وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: «... وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا، وقد نهاهم عن ذلك...». (3)

وقال المناوي: «يؤخذ منه: أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة، ويقولون: هذا يوم مولد الشيخ، ويأكلون ويشربون وربما يرقصون فيه، منهي عنه شرعا. وعلى ولي الشرع ردعهم عن ذلك، وإنكاره عليهم وإبطاله». (4)

وقال العظيم آبادي: «... وإن من سافر إليه، وحضر من ناس آخرين، فقد اتخذه عيدا، وهو منهي عنه بنص الحديث، فثبت منع شد الرحل لأجل ذلك بإشارة النص، كما ثبت النهي عن جعله عيدا بدلالة النص. الخ...». (5)

وقالوا كذلك: «... فاتخاذ القبر عيدا هو مثل اتخاذه مسجدا، والصلاة اليه، بل هو أبلغ، وأحق بالنهي، فإن اتخاذه مسجدا يصلى فيه لله ليس فيه من المفسدة ما في اتخاذ نفسه عيدا، بحيث يعتاد انتيابه والاختلاف اليه، والازدحام عنده، كما يحصل في أمكنة الأعياد وازمنتها، فان العيد يقال في لسان الشارع على الزمان والمكان...». (6)

قال ابن القيم: «ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا... إلى أن قال عن القبور: ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد، فيصلى عندها واليها، وتتخذ ايعادا

____________

1 ـ عون المعبود / ج 6 / ص 32، وليراجع ك كشف الارتياب / ص 449.

2 ـ عون المعبود / ج 6 / ص 32. الهامش.

3 ـ الصارم المنكي في الرد على السبكي / ص 285.

4 ـ عون المعبود / ج 6 / ص 33.

5 ـ المصدر السابق.

6 ـ الصارم المكي / ص 229.

الصفحة 49
وأوثانا». (1)

وقال ابن القيم والبركوي: «وكان للمشركين أعياد زمانية، ومكانية. فلما جاء الله بالاسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر، وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة، ومنى، ومزدلفة، وعرفة، والمشاعر». (2)

وقال ابن تيمية: «... وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وأما محبة للنبي (ص) والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع،من اتخاذ مولد رسول الله (ص) عيدا، مع اختلاف الناس في مولده، فان هذا لم يفعله السلف، مع عدم قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا، أو راجحا لكان السلف (ر ض) احق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيما له منا...». (3)

وقال: «حتى أن بعض القبور يجتمع عندها القبوريون في يوم السنة، ويسافرون لإقامة العيد، إما في المحرم، أو رجب، أو شعبان أو ذي الحجة، أو غيرها. وبعضها يجتمع عندها في عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها في النصف من شعبان الخ...». (4)

وقال: «... فان اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين، عائد بعد السنة، أو الشهر، أو الأسبوع هو بعينه معنى العبيد. ثم ينهى عن دق ذلك، وجله. وهذا هو الذي تقدم عن الإمام احمد إنكاره. قال: وقد أفرط الناس في هذا جدا، وأكثروا، وذكر ما يفعل عند قبر الحسين.

وقد ذكرت فيما تقدم: أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين.

ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها، وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال: إنه قبر علي رضي الله عنه، وقبر الحسين، وحذيفة بن اليمان،

____________

1 ـ زاد المعاد / ج 1 / ص 146، وراجع: الصارم المكي / ص 299.

2 ـ عون المعبود / ج 6 / ص 32، وفتح المجيد في شرح عقيدة التوحيد / ص 257، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ص 15.

3 ـ اقتضاء الصراط المستقيم: ص 294 ـ 296.

4 ـ المصدر السابق / ص 375 / 376.

الصفحة 50
وسلمان الفارسي وقبر موسى بن جعفر، ومحمد بن علي الجواد ببغداد... (1).

وقال: «وأما اتخاذ قبورهم أعيادا فهو ما حرمه الله ورسوله، واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيدا، ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا». (2)

وقال عن يوم عرفة: «... وأيضا فان التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا، وهذا بنفسه محرم، سواء كان فيه شد الرحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة، أو في غيره، وهو من الأعياد المكانية مع الزمان». (3)

وقال في كراهة قصد القبور للدعاء: «إن السلف (رض) كرهوا ذلك، متأولين في ذلك قوله (ص): لا تتخذوا قبري عيدا». (4)

وقال حول عيد الغدير بعد أن ذكر أن السلف لم يفعلوه، ولا أهل البيت ولا غيرهم: «الأعياد شريعة من الشرايع... فيجب فيها الاتباع لا الابتداع، وللنبي خطب وعهود، ووقائع في أيام متعددة، مثل يوم بدر وحنين، والخندق وفتح مكة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ان يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادا». (5)

وقال: «ما احدث من الأعياد والمواسم فهو منكر، وان لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين: أحدهما: إنه داخل في مسمى البدع والمحدثات...».

ثم ذكر روايات النهي عن الابتداع في الدين، مثل ما في صحيح مسلم عنه (ص): «شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». وفي رواية النسائي: «وكل ضلالة في النار».

وفي نص آخر: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».

وفي الصحيح عنه (ص): «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي لفظ الصحيحين: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».

____________

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 377.

2 ـ نفس المصدر السابق والصفحة.

3 ـ المصدر السابق / ص 312.

4 ـ المصدر السابق / ص 368.

5 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 294.

الصفحة 51
وقال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله). ثم قال:

«... فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله، أو فعله، من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله».

«نعم... قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ، ويثاب أيضا على اجتهاده».

«لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، إذ قد علم أن الصواب في خلافه». (1)

وقال: «الأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر مها إلا ما حظره الله. وهذه المواسم المحدثة، إنما نهي عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به». (2)

كما أن ابن الحاج رغم اعترافه بما ليوم مولد النبي (ص) من الفضل، لا يوافق على الاحتفال بالمولد لما فيه من المنكرات، ولأن النبي أراد التخفيف عن امته، ولم يرد في ذلك شيء وبخصوصه، فيكون بدعة. (3)

وقد استدلوا على عدم جواز الاحتفال بالمولد النبوي بأن السلف الذين كانوا أشد محبة لرسول الله (ص) وتعظيما له منا وأحرص على الخير لم يفعلوه ولم يكن منه عندهم عين ولا أثر. (4)

وقالوا: «... وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، وبعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة وأول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الابرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها». (5)

وقال السكندري الفاكهاني: «لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين،

____________

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 267 ـ 268 بتلخيص، ويوجد نظير العبارة الأخيرة في ص 290.

2 ـ المصدر السابق / ص 269.

3 ـ راجع: المدخل لابن الحاج / ج 2 / ص 3 فما بعدها الى عدة صفحات، وليراجع / ص 29 / 30.

4 ـ اقتضاء الصراط المسقتقيم / ص 295، وراجع: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد / ج 1 / ص 441 ـ 442.

5 ـ القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 49 عن الفتاوى المصرية / ج 1 / ص 312.

الصفحة 52
المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون».

واعتبر الفاكهاني أن المولد منه محرم وهو ما دخله بعض الأعمال المحرمة كاجتماع الرجال مع النساء ونحوه.

ومنه مكروه وهو الاجتماع على أكل الطعام ولا يصحبه اقتراف شيء من الآثام فهذا «بدعة مكروهة وشناعة»، إذ لم يفعله أحد من متقدمي اهل الطاعة الذين هم فقهاء الاسلام وعلماء الأنام وسرج الأزمنة وزين الأمكنة». (1)

«هذا مع أن شهر ربيع الأول الذي ولد فيه الرسول (ص) قد مات فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه». (2)

وقال الحفار: «ليلة المولد لم يكن السلف الصالح، وهم أصحاب رسول الله (ص) والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة، ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة، لأن النبي (ص) لا يعظم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله، لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع».

والدليل على أن السلف لم يكونوا يزيدون فيها زيادة على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها فقيل انه (ص) ولد في رمضان وقيل في ربيع الأول إلخ... الى أن قال: فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلق (ص) لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف». (3)

كما أن محمد بن عبد الوهاب قد أنكر «تعظيم الموالد والاعياد الجاهلية، التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم ترد به حجة شرعية ولا برهان لأن لك مشابهة للنصارى الضالين في أعيادهم الزمانية والمكانية وهو باطل مردود في شرع سيد المرسلين». (4)

«إن النصارى يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وميلاد أفراد اسرتهم وعنهم أخذ المسلمون هذه البدعة باحتفلوا بمولد نبيهم وبمولد أفراد اسرتهم، ورسولهم يحذرهم

____________

1 ـ القول الفصل / ص 50 وراجع ص 53 عن «الحاوي للفتاوي» للسيوطي / ص 190 ـ 192.

2 ـ منهاج الفرقة الناجية / ص 110.

3 ـ راجع القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ص / 53 عن كتاب: المعيار المعرب / ص 99 ـ 100.

4 ـ المصدر السابق / ص 54 عن الدرر السنية / ج 4 / ص 409، وعن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية / ج 4 / ص 440.

الصفحة 53
قائلا من تشبه بقوم فهم مهم (صحيح رواه أبو داود). (1)

كما ان الشيخ عبد الرحمان بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب اعتبرها من البدع المنهي عنها، حيث لم يأمر بها الرسول، ولا فعلها الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة، ولا التابعون». (2)

كما ان الشيخ محمد بن عبد اللطيف قد اعتبر ذلك من البدع. (3)

وقال محمد بن عبد السلام خضر الشقيري عن الاحتفال بالمولد:

«بدعة منكرة ضلالة، لم يرد بها شرع ولا عقل. ولو كان في هذا خير كيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي وسائر الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، والأئمة وأتباعهم». (4)

وقد ردوا على الاستدلال على حلية إقامة الموالد بآية: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ـ ردوا على ذلك ـ بأنه من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح وهو غر مقبول، لأن الشاطبي قد قرر: أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه، لا يقبل ممن بعدهم دعوى دلالة النص الشرعي عليه، قال: «إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة، والتابعين، ثم يفهمه من بعدهم، فعمل الأولين ـ كيف كان ـ مصادم لمقتضى هذا المفهوم، ومعارض له، ولو كان ترك العمل. قال: فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الاجماع. فهو مخطئ، وأمة محمد لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك، فهو السنة... إلى أن قال: فكل من خالف السلف الأولين، فهو على خطأ». (5)

وقال محمد بن جميل زينو: «الاحتفال لم يفعله الرسول (ص)، ولا الصحابة، ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة، وغيرهم من أهل القرون المفضلة، ولا

____________

1 ـ منهاج الفرقة الناجية / ص 109.

2 ـ منهاج الفرقة الناجية / ص 55 عن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية / قسم 2 / ص 357 ـ 58، والدرر السنية ج 4 / ص 389.

3 ـ المصدر السابق عن الدرر السنة /ج 8 / ص 285.

4 ـ المصدر السابق عن كتاب: السنن والمبتدعات / ص 138 / 139 وراجع: الإتصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 47.

5 ـ القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 73، وراجع: الموافقات / ج 3 / ص 71.

الصفحة 54
دليل شرعي عليه...». (1)

ثم ذكر بعض الأشياء التي تحصل في الموالد مما رآه خلاف الشرع، وزعم أن هذه الامور كافية لتحريم الاحتفال، من قبيل الزيادة في مدحه (ص)، وصرف الاموال، والاستغاثة به (ص) الخ....

تلخيص لابد منه

ومن أجل التسهيل على القارئ، ومن أجل استيفاء الكلام على ما ذكره المانعون من أسباب ذهابهم إلى المنع من الذكريات ونحوها... فإننا نقوم بتلخيص واف لمختلف الجهات التي دعتهم إلى إصدار حكمهم ذاك، حسبما وردت في كلماتهم آنفة الذكر، مع إعادة الإشارة إلى المصادر من جديد... فنقول:

إننا نستطيع أن نلخص الأسباب التي رأوا أنها كافية للحكم بحرمة الاجتماعات والاحتفالات ما عدا الفطر والأضحى... على النحو التالي:

1 ـ إن الموالد والذكريات للأولياء، نوع من العبادة لهم، بدليل: ان الناس لا يعرفون إلا من أقيمت لهم الذكريات، ولو كان أجهل وأفسق الناس... (2)

2 ـ مضافا إلى ما فيها من المعاصي العظيمة. (3)

3 ـ إنها إحياء لسنن الجاهلية، وإماتة لشرائع الإسلام من القلوب. (4)

4 ـ لا يجوز اتخاذ مولد رسول الله (ص) عيدا مع اختلاف الناس في مولده.. (5)

5 ـ إن ذلك لم يرد به عقل (6) ولا شرع، ولا أصل له لا في كتاب ولا

____________

1 ـ منهاج الفرقة الناجية / ص 197، وراجع: الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 40 فما بعدها.

2 ـ فتح المجيد في شرح عقيدة التوحيد / هامش ص 154 و 155.

3 ـ المصدر السابق، وراجع المدخل لابن الحاج، أوائل الجزء الثاني.

4 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 191.

5 ـ المصدر السابق / ص 294 ـ 296.

6 ـ القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 55 عن كتاب: السنن والمبتدعات / ص 138 / 139.

الصفحة 55
سنة. (1)

6 ـ إن ذلك لم يفعله السلف، ولم ينقل عن أحد منهم، وهم كانوا أشد حبا للرسول منا. (2)

وكل ما لم يكن على عهد رسول الله (ص) وأصحابه دينا، لم يكن ممن يعدهم دينا. والمولد لم يكن في عهده ولا في عهد القرون المفضلة إلى القرن السابع. (3)

واستدلوا على أن السلف لم يفعلوه باختلافهم في تاريخ مولده، فلأجل ذلك لم يخصوا ليلة المولد بشيء زيادة عما يفعلونه في سائر الأيام. (4)

7 ـ إن السلف كرهوا ذلك، متأولين في ذلك قوله (ص): «ولا تتخذوا قبري عيدا». (5)

8 ـ إن يوم مولده (ص) وإن كان عظيما ولكن لم يرد عن النبي (ص) فيه شيء بخصوصه، لأنه (ص) أراد التخفيف عن أمته، فيكون بدعة. (6)

9 ـ إن الله سبحانه لا يعظم الا بالوجه الذي شرع تعظيمه به. (7)

هذا كله... عدا عن تفسيرهم العيد باجتماع الناس في مكان معين لأجل العبادة، وعن ادعائهم أن الصلاة عند القبور اتخاذ لها أعيادا وأوثانا، إلى غير ذلك مما يلاحظه المتتبع لكلماتهم السابقة...

____________

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 294 ـ 296، والقول الفصل / ص 50 و 53 و 54 و 55 عن الحاوي للفتاوي / ص 190 ـ 192، والدرر السنية / ج 4 / ص 409 و 389، وعن مجموعة الرسائل النجدية / ج 4 / ص 440 وقسم 2 / ص 357، وعن السنن والمبتدعات / ص 138 / 139.

2 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 294 ـ 296، وراجع سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد / ج 1 / ص 441 / 442، والقول الفصل / ص 49 و 50 و 53 و 55 عن الفتاوى المصرية / ج 1: ص 312، وعن المعيار المعرب / ص 99 ـ 101، وعن السنن والمبتدعات / ص 138 / 139، وعن الحاوي للفتاوي / ص 190 / 192، والاتصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 43.

3 ـ الاتصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 46 و 43 و 47.

4 ـ القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 53 عن كتاب: المعيار المعرب / ص 99 ـ 101.

5 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 386، والقول الفصل / ص 49 عن الفتاوى المصرية.. أما الحديث فقد تقدمت مصادر وموارد الاستدلال والاستشهاد به، فلا نعيد.

6 ـ المدخل لابن الحاج / ج 2 / ص 3 فما بعدها.

7 ـ القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 53 عن كتاب: المعيار المعرب / ص 99 ـ 101.

الصفحة 56

10 ـ «في ذم المواسم والاعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين». (1)

11 ـ «هذه الموالد ما ابتدعت إلا لضرب الاسلام وتحطيمه، والقضاء عليه، ومن هنا كان حكم الاسلام على هذه الموالد، والمواسم، والزرد، والحضرات، المنع والحرمة، فلا يبيح منها مولدا ولا موسما للحج». (2)

12 ـ إن الذكريات تعظيم وعبادة لغير الله.

13 ـ إن تفسير آية بحيث يظهر منها جواز عمل هذه الموالد والاحتفالات غير جائز، لأنه حمل لكلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح فيكون فهم المتأخرين مصادما لإجماع المتقدمين، ومن خالف الإجماع فهو مخطئ، لأن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة. (3)

14 ـ إن في ذلك مشابهة للنصارى في أعيادهم الزمانية والمكانية، وهو باطل مردود في الشرع. (4)

15 ـ ما سيأتي من أن يوم وفاته (ص) هو يوم ولادته، فلا معنى للفرح فيه.

قد يكون الذنب... للتعصب الأعمى

كانت تلك خلاصة رأينا أنها وافية بإعطاء صورة متكاملة عن الجهات المؤثرة في إصرار هؤلاء على اعتبار الموالد والذكريات من البدع المرفوضة جملة وتفصيلا.

وإن كان ربما يظهر من بعض كلماتهم: أنهم ينطلقون في موقفهم ذاك من دوافع أخرى، لا تبعد كثيرا عن المشاعر التعصبية الدينية في مقابل الرافضة

____________

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 282 فما بعدها، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 40 فصاعدا.

2 ـ الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 42.

3 ـ الموافقات / ج 3 / ص 71، والقول الفصل / ص 73.

4 ـ القول الفصل / ص 53 عن الدرر السنية / ج 4 / ص 409، وعن مجموعة الرسائل النجدية / ج 4 / ص 440.

الصفحة 57
وأعيادهم (1) ومواسمهم، فحاولوا أن يجدوا المبررات الشرعية والعلمية لمواقفهم تلك. وإن كانوا قد خانهم التوفيق في هذا المجال، كما سيتضح في ما يلي من صفحات...

____________

1 ـ راجع على سبيل المثال بعض ما تقدم عن ابن تيمية في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم...

الصفحة 58

الصفحة 59

الفصل الرابع
أدلة المانعين... سراب


الصفحة 60

الصفحة 61

الميول... والمشاعر

ونحن... لا نستطيع أن نوافق المانعين في استدلالاتهم المتقدمة ! لأننا لا نجد فيها ما يكفي لتوفير الحد الأدنى من القناعة بما يريدون تكريسه كحكم شرعي، إلهي، له بعد عقائدي، بنحو أو بآخر.

بل قد نجد في كلماتهم المتناثرة، هنا وهناك، ما يشعرنا بأن القضية لا تعدو عن أن تكون استسلاما لمشاعر طائفية، أفرزت هذا الإصرار الذي يصل إلى حد التحدي، على إطلاق شعارات قوية، وصاخبة ومبهمة كذلك، بهدف التأثير على حالة التوازن العاطفي لدى الآخرين، ليمكن من ثم إعطاء صفة الشرعية لأمر قد يكون أبعد ما يكون عن منطق الشرع، والعقل والفطرة...

وحيث أن عمدة وأقصى ما يستندون إليه هو ما تقدم في الفصل السابق، فإننا لابد وأن نذكر القارئ ببعض مواضع الخلل فيها. وتلك قناعاتنا التي نلتزم بكل آثارها، سواء كانت بالنسبة لكلام الآخرين، تصير ردا وتفنيدا، أو تتضمن قبولا وتأييدا....

هذا... ومن أجل بيان مواضع الخلل في كلماتهم المتقدمة، نتكلم في الموضوع على النحو التالي:

الصفحة 62

الاحتفالات والمواسم بدعة

قد تقدم أنهم يعتبرون المواسم والذكريات، ونحوها بدعة.

وقد حاول البعض التخلص من هذا الاتهام، والرد عليه، فقال ابن حجر:

«عمل المولد بدعة، لم تنقل عن احد من السلف الصالح، من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا، فلا». (1)

وقال الحلبي الشافعي: «... جرت عادة كثير من الناس: إذا سمعوا بذكر وصفه (ص) (2) أن يقوموا تعظيما له (ص).

وهذا القيام بدعة، لا أصل لها. أي ولكن هي بدعة حسنة، لأنه ليس كل بدعة مذمومة، وقد قال سيدنا عمر (رض) في اجتماع الناس لصلاة التراويح: نعمت البدعة هي. (3)

وقد قال العزيز بن عبد السلام: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره... (4) ولا ينافي ذلك قوله (ص): «إياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة» وقوله (ص): «من أحدث في أمرنا، أي شرعنا، ما ليس منه، فهو رد عليه»، لأن هذا عام أريد به خاص، فقد قال إمامنا الشافعي قدس الله سره: ما أحدث وخالف كتابا أو سنة، أو إجماعا أو أثرا، فهو البدعة

____________

1 ـ رسالة حسن المقصد، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ص 88، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 114.

2 ـ أي ولادته (ص).

3 ـ كلام عمر موجود أيضا في تهذيب الأسماء واللغات، قسم اللغات / ج 1 / ص 23، ونصب الراية / ج 2 / ص 153، ودلائل الصدق / ج 3 / قسم 1. وحول استحسان بعض البدع، راجع: المصنف / ج 3 / ص 78 و 79 و 80.

4 ـ راجع كلام العزيز بن عبد السلام ايضا في تهذيب الاسماء واللغات / قسم اللغات / ج 1 / ص 22 / 23 / وفي القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص 47 من قواعد الأحكام في مصالح الأنام / ج 2 / ص 172 ـ 174، وقريب منه كلام القرافي الذي نقله عنه الشاطبي في الاعتصام / ج 1 / ص 147 ـ 150.

الصفحة 63
الضلالة، وما أحدث من الخير، ولم يخالف شيئا من ذلك، فهو البدعة المحمودة. (1)

وقد وجد القيام عند ذكر اسمه (ص) من عالم الأمة، ومقتدى الأئمة دينا، وورعا، الإمام تقي الدين السبكي، وتابعه على ذلك مشايخ الاسلام في عصره،... إلى أن قال: ويكفي مثل ذلك في الاقتداء.

وقد قال ابن حجر الهيثمي: والحاصل: أن البدعة الحسنة متفق على ندبها. وعمل المولد، واجتماع الناس له، كذلك، أي بدعة حسنة.

ومن ثم قال الامام أبو شامة، شيخ الامام النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده (ص) من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشرع بمحبته (ص)، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر الله على ما من به من إيجاد رسوله (ص)، الذي أرسله رحمة للعالمين... هذا كلامه. (2)

وقال النووي: إن البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الامام المجمع على إمامته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته، أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه، في آخر كتاب القواعد: «البدعة منقسمة الى واجبة ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة الخ...» (3) ثم نقل كلامه بطوله...

ولكننا بدورنا نقول: إن هذا الكلام ضعيف، لوجهين يظهر منهما أيضا دليلان على جواز إقامة هذه المراسم والمواسم.

فأولا: إن ما ذكر من تقسيم البدعة إلى حسنة ومذمومة، ومن كونها تنقسم الى الاحكام الخمسة... ثم الاستشهاد بقول عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح: نعمت البدعة هي..

أن ذلك كله... ليس في محله، ولا يستند إلى أساس صحيح.

وذلك... لأن البدعة الشرعية هي: إدخال ما ليس من الدين في الدين.

____________

1 ـ راجع كلام الشافعي أيضا في تهذيب الاسماء واللغات / قسم اللغات / ج 1 / ص 23.

2 ـ السيرة الحلبية / ج 1 / ص 83 / 84، وراجع: السيرة النبوية لزيني دحلان / ج 1 / ص 24 / 25، ورسالة حسن المقصد للسيوطي، المطبوعة مع: النعمة الكبرى على العالم / ص 81 / 82، وراجع: جواهر البحار / ج 3 / ص 340 / 341 و 338.

3 ـ تهذيب الأسماء واللغات، قسم اللغات / ج 1 / ص 22 و 23.

الصفحة 64
استنادا إلى ما روي عنه (ص): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) لأن قوله: «في امرنا» معناه: أدخل في تشريعاتنا الدينية ما ليس منها، بل لقد قال السيد الأمين عن البدعة: «لا يحتاج تحريمها إلى دليل خاص، لحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام الله تعالى، ولا التنقيص منها، لاختصاص ذلك به تعالى وبأنبيائه، الذين لا يصدرون إلا عن أمره». (2)

فالبدعة في الشرع، وبعنوان التشريع لا تقبل القسمة المذكورة بل هي من غير صاحب الشرع قبيحة مطلقا.

وأما الابتكار والابتعاد في العادات والتقاليد، وأمور المعاش، والحياة، فهو الذي يقبل القسمة إلى الحسن والقبيح، ويكون موضوعا للأحكام الخمسة: الوجوب، ولحرمة، والاستحباب، والكراهة، والإباحة... (ويلاحظ: الخلط في الأمثلة التي ذكرها عبد العزيز بن عبد السلام بين هذا القسم وبين سابقة).(3)

وعليه فالأمور العادية والحياتية ونحوها، مما لم يرد من الشارع حكم متعلق بها بخصوصها، أو بعموم يكون كل منها أحد أفراده ومصاديقه، إن عملها المكلف وقام بها، أو تركها، بعنوان أنها من الدين، فإن لم تكن منه، فإنه يكون قد أبدع في الدين، وأدخل فيه ما ليس منه.

وأما إذا قام بها، وعملها، أو تركها، ملتزما بها أو غير ملتزم، لا بعنوان أنها من الدين، ولا يدعى أن الله سبحانه قد شرع ذلك، مع منافاة ذلك لأي من أحكام الدين وتعاليمه، فلا يكون ذلك بدعة في الدين، ولا إدخالاً ما ليس منه، فيه.

وما نحن إنما هو من هذا القبيل، كما هو ظاهر.

إذ لو كان اختيار الأساليب المختلفة للتعبير عن التقدير والاحترام، المطلوب لله سبحانه بدعة... لكان كل جديد يجري العمل به في طول البلاد وعرضها من البدع المحرمة.

____________

1 ـ راجع" سنن أبي داود / ج 4 / ص 200، وسنن أبي مسلم / ج 5 / ص 133، ومسند أحمد / ج 6 / ص 240 و 270.

2 ـ كشف الارتياب / ص 98.

3 ـ راجع أمثلة في تهذيب الأسماء واللغات / قسم اللغات / ج 1 / ص 22.

الصفحة 65
وليكن حينئذ... منصب وزير التجارة ووزير النفط، واستعمال الراديو والتلفزيون، والتلفون، وركوب السيارة والقطار، والطائرة، من البدع.

وليكن كذلك اعتبار الجلوس كل يوم على الشرفة لاحتساء كوب من الشاي، وكذا إطلاق القاب: جلالة الملك، ومعالي الوزير... الى غير ذلك مما لا مجال لتعداده؛ من البدع المحرمة، حيث لم يرد بها نص بخصوصها، ولأنها من محدثات الأمور، كما يدعى هؤلاء.

هذا... وقد صرحوا هم أنفسهم بأن الأشياء ماعدا العبارات منها كلها على الإباحة حتى يرد ما يوجب رفع اليد عنها، ولا سيما ما كان من قبيل العادات(1).... الذي هو محل كلامنا بالفعل، حيث قد جرت عادة الناس على فيهدون له فيه الهدايا... ويقيمون المجالس، وكذا يوم احتجامه...

ومن ذلك ايضا: اعتبارهم يوم الاستقلال يوما عظيما...

الى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه...

وثانيا: إن الحقيقة هي: ان ما نحن فيه داخل في قسم ما أمر الله سبحانه به، وأراده، فلا يكون بدعة، لا بالمعنى الأول، ولا بالمعنى الثاني.

وتوضيح ذلك: إن أوامر الشارع ونواهيه، تارة تتعلق بالشيء، بعنوانه الخاص به، والذي يميزه عن كل من عداه.. وتارة يتعلق لا بعنوانه بخصوصه، بل بعنوانه العام، ويترك أمر تحقيق المصاديق واختيارها وملاحظة انطباق ذلك العنوان وعدمه إليه..

فاختيار المكلف لهذا المصادق أو لذلك لا يعتبر بدعة، ولا إحدثا في الدين ماليس منه.. بل هو عين الامتثال والانقياد لأحكامه، والانصياع لأوامره، ويستحق على ذلك الأجر الجميل، والثواب الجزيل.

وذلك، كما لو أمر الشارع بمعونة الفقراء، وترك أمر اختيار المورد والمصداق، والكيفية، والأسلوب إلى المكلف، فباستطاعته أن يعينهم بالعمل لهم، أو بقضاء حوائجهم، أو مساعدتهم ماليا.. إلى غير ذلك مما يصدق عليه أنه معونة.. وإن ينص الشارع على مصداق أو كيفية بالخصوص.

____________

1 ـ راجع: اقتضاء الصراط المستقيم / ص 269 وراجع: إرشاد الفحول، الصفحات الأخيرة..

الصفحة 66
وكذا لو أمره باحترام الوالدين، فيمكن أن يجسد ذلك في ضمن المصادق، الذي هو الوقوف لهما حين قدومهما، وبإجلاسهما في صدر المجلس، وبالجلوس بين أيديها في حالة الخضوع والتأدب، وبعدم التقدم عليها في المشي وفي المجالس، وبتقبيل أيديهما، وبغير ذلك من أمور.

وكذا الحال.. لو صدر الأمر باحترام النبي، ومحبته، وتعظيمه، وإجلاله، وتوقيره، مع عدم التحديد المانع من الأغيار في نوع بخصوصه... فبإمكان المكلف أن يختار ما شاء من المصاديق التي تنطبق عليها تلك العناوين، ولا يكون ذلك بدعة، ولا إدخالا لما ليس من الدين في الدين.

فيمكن تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم، وتوقيره وتبجيله، بإقامة الذكريات له، ويمكن أن يكون بنشر كراماته وفضائله، وبالصلاة والتسليم عليه كلما ذكر، وبتأليف الكتب عن حياته الشريفة، وبإطلاق اسمه على الجامعات، والمعاهد، وغيرها، وبغير ذلك من مصاديق التعظيم والتبجيل، والالتزام بالوقت المخصوص لا حرج فيه صلاة المغرب والعشاء، كما يعترف به هؤلاء وينصحون به (1) ادخالا في الدين ما ليس منه.. ‌‌‌‌‌‌

وهكذا يقال بالنسبة لما ورد من الحث على البكاء على الامام الحسين عليه السلام والتحزن لما أصابه الأبرار حيث يترك أمر اختيار الكيفية والوقت الى المكلفين.

السنة الحسنة.. والسنة السيئة:

بقي أن نشير إلى أن الاستدلال على مشروعية عمل المولد بأنه سنة حسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها الخ...» (2)

في غير محله أيضا... وذلك لأن مورد الرواية ـ حسبما يقولون ـ هو التصدق على أولئك الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحالة يرثى

2 ـ الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف، ص 67.

2 ـ نقل هذا الاستدلال في القول الفصل ص 43 / 44 عن: محمد بن علوي المالكي في مقدمته لطبقة مولد ابن الديبع ص 13 وفي رسالته: حول الاحتفال بالمولد النبوي ص 18 وفي مقدمته للمورد المروي ص 17.

الصفحة 67
لها، فخطب صلى الله عليه وآله وسلم الناس، وحثهم على الصدقة، فجاء أنصاري بصرة، ثم تتابع الناس بعده، فقال صلى الله عليه وآله: «من سن سنة حسنة الخ...» (1)

فمعنى ذلك: هو أن مورد الرواية هو تعيين المورد والمصادق للنص الشرعي المتعلق بالعنوان العم، حسبا تقدمت الإشارة إليه، وليس موردها ما لا نص فيه أصلا.

هذا كله.. عدا عن أن ما نحن فيه من السنة التي معناها الإدخال في الشرع، بل هو من الأمور المباحة، كما تقدم.

الذكريات عبادة لصاحب الذكرى

واستدلوا أيضا على الموالد والذكريات للأولياء، بأنها نوع من العبادة لهم وتعظيمهم.

ونقول: إن ابن تيمية قد خلط بين العبادة والتعظيم وصار يكفر الناس استنادا الى ذلك، ونحن نعرض الفرق بينهما ليتضح زيف هذا الكلام.. فنقول:

قال السيد الامين رحمه الله تعالى:

" العبادة بمعناها اللغوي، الذي هو مطلق الذل والخضوع والانقياد، ليست شركاً ولا كفراً قطعاً، وإلا لزم كفر الناس جميعا من لدن آدم إلى يومنا هذا، لأن العبادة بمعنى الطاعة والخضوع لا يخلو منها أحد، فليزم كفر المملوك، والزوجة، والولد، والخادم، والأجير، والرعية، والجنود، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى، والزوج، والأب، والمخدوم، والمستأجر، والملك، والأمراء، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضا. بل كفر الأنبياء، لإطاعتهم آباءهم، وخضوعهم لهم، وقد أوجب الله إطاعة أوامر الابوين، وخفض جناح الذل لهما، وقال لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين» (وأمر بتعزير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره) وأمر بإطاعة الزوجة لزوجها... وأوجب طاعة العبيد لمواليهم، وسماهم عبيداً.

____________

1 ـ راجع: صحيح مسلم / ج 3 / ص 87، والسنن الكبرى / ج 4 / ص 175 و 176 وسنن النسائي / ج 5 / ص 75 ـ 77 ومسند أحمد / ج 4 / ص 359 و 360 و 361، والزهد والرقائق ص 513 / 514، والمسند للحميدي / ج 2 ص 352 / 353، والمعتصر من المختصر / ج 2 / ص 251 / 252.

الصفحة 68

وأطلق على العاصي أنه عبد الشيطان، وعبد الهوى، وأن الإنسان عبد الشهوات، إلى غير ذلك مما لا مجال له، ولا ريب في أن هذه الأمور التي هي طاعة وخضوع، وكذلك ما أشير إليه من تسمية ما ذكر عبادة، لا يوجب الكفر والارتداد، وإلا لم يسلم منه أحد، والضرورة قاضية بخلافه، والسجود هو منتهى التذلل والخضوع فقد يكون حراما إذا كان على نحو العبادة للشخص وقد لا يكون كذلك مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، وسجود بعقوب وزوجته وبنيه ليوسف، كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم، فدل ذلك على ان السجود ليس موجبا للفكر والشرك مطلقا ليكون نظير اتخاذ شريك للباري، وإلا لم يأمر الله به ملائكته، ولا حكاه عن أنبيائه وغيرهم. وعلم من ذلك ايضا: أن مطلق الخضوع والتعظيم، حتى السجود لغير الله، ليس في نفسه شركا وكفرا، حتى ولو أطلق عليه اسم «العبادة» لغة.. اذ ليس كل ما يطلق عليه اسم «العبادة» يوجب الكفر والشرك... إلا إذا دل دليل على تحرمه، مثل السجود، الذي اتفقت كلمة المسلمين على تحريم ما كان منه لغير الله سبحانه.

ونسوق هنا مثالا آخر، وهون أنه قد أطلق لفظ «العبادة» على الدعاء، قال تعالى: (أدعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي الخ...)(1). وعنه (ص): «الدعاء مخ العبادة».

والمراد بالدعاء، ليس مطلق أن ينادي الإنسان شخصا ما، وإلا لكان كل من نادى أحدا فقد عبده. بل المراد: سؤال الله تعالى الحاجة، مع الخضوع والتذلل، واعتباره الفاعل المختار، والمالك الحقيقي لأمور الدنيا والآخرة.

وأما ما ورد: «من أصغى الى ناطق فقد عبده، فان كان ينطلق عن الله، فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن غير الله، فقد عبد غير الله، فهو من باب التنزيل والادعاء، ليس إلا..

والخلاصة: ان ما يترتب عليه الكفر، أو الشرك ليس هو التعظيم، ومطلق التعظيم ليس عبادة...

وإنما الذي يترتب عليه الكفر والشرك هو الخضوع والانقياد الخاص، والذي صرح الشارع بالنهي عنه، أو كان معه اعتقاد: ان غير الله هو المالك المختار،

____________

1 ـ غافر: 60.

الصفحة 69
الذي بيده مقاليد كل شيء أولا وبالذات.

وعليه فكل ما لم يكن كذلك من مصاديق التعظيم لم يكن عبادة، فضلا عن ان يكون عبادة محرمة، بل قد يكون تعظيما مباحا مثلا: الإنحناء، ورفع الجندي يده لقائده، ورفع القبعة عند الإفرنج، وحتى السجود أحيانا، وقد يكون تعظيما مطلوبا مثل تعظيم الحجر الأسود بتقبيله، وكذا تعظيم الكعبة، وتعظيم النبي والإمام، والوالدين، والعلماء وغير ذلك..(1)

وتعظيم النبي (ص) مطلوب ومحبوب لله سبحانه..، وقد يكون المسلمون يعظمون النبي (ص) غاية التعظيم، حتى أنهم كانوا لا يحدون النظر إليه تعظيما له.. (2)

وكتاب التبرك «تبرك الصحابة والتابعين بآثار الأنبياء والصالحين» للعالم العلامة الشيخ علي الاحمدي حفظه الله لخير شاهد وأوفى دليل على شدة تعظيم الصحابة له صلى الله عليه وآله وسلم.. وكذلك على تعظيم العلماء والصلحاء.

ولسنا بحاجة إلى إثبات لزوم تعظيم الني (ص)، ويكفي أن نشير هنا إلى قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا). (3)

وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول، كجهر بعضهم لبعض). (4)

بل.. إذا كان يجب احترام كل مؤمن وتعظيمه، انطلاقا مما ورد في الحديث من ان المؤمن أعظم حرمة من الكعبة. (5)

ولزوم تعظيم الكعبة وتكريمها أظهر من الشمس، وأبين من الأمس... فكيف يكون الحال بالنسبة لسيد الخلق أجمعين وأفضل كل ولد آدم على الاطلاق من الأولين والآخرين، فهل يكون تعظيمه وتوقيره واحترامه عبادة له، وحراما شرعا ؟ ! معاذ الله.. «كبرت كلمة تخرج من أفواههم».

____________

1 ـ كشف الارتياب / ص 103 ـ 106 بتصرف، وتلخيص.

2 ـ البحار / ج 1 / ص 32 / عن الشفاء لعياض.

3 ـ النور / 63.

4 ـ الحجرات: 2.

5 ـ الجامع الصحيح للترمذي / ج 4 / ص 378، وسنن ابن ماجة / ج 2 / ص 297، وراجع المصنف لعبد الرزاق / ج 5 / ص 139، وكشف الارتياب / ص 446 / 477.

الصفحة 70

والضحى، والليل إذا سجى

وبالنسبة لتعظيم خصوص ليلة مولده (ص) وليلة المعراج، نوردها هنا نصا يشير إلى هذا التعظيم من قبل الله سبحانه، فقد قال الحلبي وغيره.

«... وقد أقسم الله بليلة مولده في قوله تعالى: (والضحى، والليل)، وقيل المراد ليلة الإسراء، ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما، أي استعمل الليل فهما». (1)

وفي بعض المصادر: أن المراد بالضحى هو الساعة التي خر فيها السحرة سجدا، وبالليل ليلة المعراج.

وعن الصادق عليه السلام، وقتادة، ومقاتل: أن المراد بالضحى، الضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبالليل ليلة المعراج. (2)

لا تجعلوا قبري عيدا

وبعد.. فإن اهم دليل اعتمد عليه هؤلاء هو الرواية المنسوبة إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تضمنت النهي عن جعل قبره صلى الله عليه وآله وسلم عيدا.

وقد «قال الحافظ المنذري: يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره (ص) وأن لا يهمل حتى يكون كالعبد، الذي لا يؤتى في العام إلا مرتين. قال: ويؤيده قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، أي لا تتركوا الصلاة فيها حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلى فيها...»(2).

____________

1 ـ راجع: السيرة الحلبية / ج 1 / ص 58، والسيرة النبوية لدحلان / ج 1 / ص 21، وقد نبهني إلى وجود هذا النص في السيرة الحلبية أحد الفضلاء من الاخوة، فنشكره على ذلك.

2 ـ فتح القدير / ج 5 / ص 457، وراجع المصادر التالية: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي / ج 2 / ص 91، والتفسير الكبير للرازي / ج 31 / ص 208، وراجع ص 109، وغرائب القرآن، للنيسابوري، بهامش الطبري / ج 30 / ص 107، والكشاف للزمخشري / ج 4 / ص 765، ومدارك التنزيل للنسقي، بهامش تفسير الخازن / ج 4 / ص 385.

3 ـ كشف الارتياب م ص 449 عن السمهودي، والصارم المنكي / ص 297، وراجع ص 300، وعون المعبود / ج 6 / هامش ص 31 / 32، وشفاء السقام / ص 67، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 122، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ص 15.