كلمة المركز
في مساحة تتسع للأنا وللآخر المتعدد، يسعى الباحث أحمد حسين يعقوب إلى الحوار، وإن كان محاوره يقول: (وبالرغم من سعة صدري وتسامحي إلا أن مجرد ذكر كلمة (شيعة) كاف لإثارة حنقي ونفوري حتى لكأنني مسكون في لا شعوري بكراهية الشيعة والتشيع...).
يسعى الباحث إلى الحوار ممتلكاً عدة من سعة الإطلاع وحسن استيعاب الفكر السياسي: قديمه وحديثه، ورغبة في معرفة الحقيقة وجعلها بديلاً من الكره الكامن في اللاشعور وطريق هداية إلى الصواب في عالم معقد اختلطت فيه الأمور وضاع الهدى.
يتفق أحمد حسين يعقوب ومحاوره: صديقه المثقف السني أن يعقدا عدة جلسات يجريان فيها الحوار الفكري، فيقدم المحاور، في الجلسة الأولى سلسلة متماسكة من الأسئلة حول موضوع معين، فيحمل هذه الأسئلة، ليضع في مدة كافية إجابات موثقة عنها، ثم يقدم هذه الإجابات إلى محاوره، يقرأها هذا، ويعود ليقدم طائفة جديدة من الأسئلة، وهكذا دواليك إلى أن يتم الوفاق على أحد أمرين: إما أن يبقى الصديق أسيراً لما سماه (السكن اللاشعوري) أو تتغير نظرته ومشاعره فيجد في التشيع طريق الهدى.
وهذا ما كان، فتم الحوار...
صاغ الصديق أسئلة تتعلق بسبع قضايا أساسية هي:
1 - مفهوم الشيعة والتشيع ومسار تكونه التاريخي، وانتشاره.
2 - الإمامة بعد وفاة النبي، وطبيعة الخلاف الذي حدث في هذا الصدد جعل المسلمين فرقاً، وحجج كل فريق النصية والاجتهادية.
3 - مصادر التشريع، وما يتصل بها من جمع القرآن الكريم وذات رسول الله (ص) والأئمة (ع).
5 - التقية والمتعة في الإسلام، وعند شيعة أهل بيت النبوة.
6 - الاختلافات الفقهية بين شيعة أهل بيت النبوة وشيعة الخلفاء (أهل السنة).
7 - الدعوة إلى وحدة المسلمين.
وقد أجاب الباحث عن هذه الأسئلة إجابات موثقة، وجرى حوار معمق بشأنها أدى إلى وفاق على أمر نترك للقارئ أن يتوصل إليه من خلال المشاركة في هذا الحوار الموضوعي المعمق الهادف إلى تحقيق وحدة أساسها المعرفة، فعسى أن يهدينا الله إلى ذلك، وهو نعم المولى ونعم النصير.
مركز الغدير للدراسات الإسلامية
بيروت
قصة تأليف الكتاب
شكوى صديق
قال صديقي: إنك تعلم أنني رجل من أهل السنة، وقد ورثت هذا التصنيف وراثة. وتعلم، أيضاً، أنني رجل منفتح الذهن والعقل، وقد اطلعت على الخطوط العريضة للفكرين: الرأسمالي التحرري والاشتراكي الشيوعي، وأحطت بنظرية الحكم في الإسلام حسب رأي أهل السنة. وتعلم كذلك أنني متسامح وديمقراطي أؤمن بالرأي والرأي المعارض، ويتسع صدري لتعدد الآراء، وتعدد الرسالات، فيمكنني التعايش مع المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وأتباع الأحزاب الدينية والقومية وحتى الشيوعية. ولا أشعر بالغرابة لهذا التعدد الهائل في المجتمع نفسه، ولا ينتابني أي إحساس بالتعصب.
وبالرغم من سعة صدري وديمقراطيتي وتسامحي إلا أن مجرد ذكر كلمة (شيعة) كاف لإثارة استغرابي وحنقي ونفوري، حتى لكأنني مسكون في (لا شعوري) بكراهية الشيعة والتشيع!
الرغبة في المعرفة
ومضى صديقي يقول لي: وعند ما قرأت كتابكم القيم (نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام)، وكتابكم الآخر (النظام السياسي في الإسلام)، تكونت عندي رغبة جامحة في معرفة حقيقة الشيعة والتشيع، وأحسست بتأنيب الضمير، وتمنيت لو يرشدني الله تعالى إلى رجل خبير ب (التسنن والتشيع) ليريح ضميري، ويشبع رغبتي في معرفة الحقائق. وعندما قرأت كتابكم (مرتكزات الفكر السياسي)، وتتبعت مقارناتك الموضوعية والفذة التي أجريتها بين الإسلام والرأسمالية والماركسية الشيوعية، وثقت بسعة اطلاعك وحسن استيعابك للفكر السياسي: قديمه وحديثه، فقدرت في ذهني أنك الأردني الوحيد القادر على إشباع
خطة الحوار
واتفقت مع صديقي المثقف السني على أن نقعد عدة جلسات نجري فيها الحوار الفكري البحث، فيقدم لي، في الجلسة الأولى، سلسلة متماسكة من الأسئلة حول موضوع معين فأحمل هذه الأسئلة وأنقطع عنه مدة كافية للإجابة عنها وتوثيق هذه الإجابة، حتى إذا ما فعلت ذلك اجتمعنا، فيقرأ إجاباتي عن أسئلته وتساؤلاته، ثم يسلمني طائفة جديدة من أسئلته لأتولى الإجابة عنها، وتقديمها له في جلسة لا حقة وهكذا دواليك حتى ينتهي صاحبنا من تساؤلاته!
واحتفظ صاحبي لنفسه بحق التعقيب على الأجوبة إن لم يكن مقتنعاً، وقدر أنه، من خلال الأسئلة والأجوبة سيقف في نهاية المطاف على حقيقة (التشيع) و (الشيعة) وماهية كل منهما، فيبقي أسيراً لما سماه (السكن اللاشعوري) أو ستتغير نظرته ومشاعره، فيجد في التشيع طريق الهدى.
وقد اقتصر دوري علي الإجابة عن أسئلة صديقي المركزة على موضوع الحوار.
الحوار في كتاب
واقترح صديقي، بعد انتهاء جلسات الحوار، أن تجمع تساؤلاته كما هي، وأجوبتي عنها من دون زيادة ولا نقصان، وتطبع في كتاب، اقترح أن نسميه: (ثم وقفت على حقيقة الشيعة) مع الإشارة إلى أن الكتاب كان ثمرة حوار بين صديقين أحدهما سني والآخر شيعي. وافقت على هذا الاقتراح. وبعد قرابة سنة، جاء صديقي السني وطلب جميع أوراق أسئلته فأعطيتها له، فوضع أجوبة كل طائفة من
هذه هي القصة الكاملة لتأليف هذا الكتاب ومن خلال الأسئلة والأجوبة يمكنك حقاً أن تقف على حقيقة التشيع والشيعة.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على رسوله الأمين محمد وعلى آله الذين اصطفى من عباده.
المحامي
أحمد حسين يعقوب
جرش الأردن 15 رمضان 1417 هـ
24 / كانون الأول / 1997 م
الباب الأول
مفهوم الشيعة والتشيع
الطائفة الأولى من الأسئلة
قال صديقي السني: هل تبين معنى (الشيعة) و (التشيع) في اللغة وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة ; وتطلعني على المفهوم التاريخي لمصطلح (الشيعة)، ثم تبين لي حقيقته وكيف انتشرت ظاهرة التشيع في المجتمعات البشرية بعامة والمجتمع الإسلامي بخاصة؟ وأريد أن تجذر لي هذا المصطلح في الواقع التاريخي. وهل لديك علم عن حكم النبي في هذا التجذير؟ وهل أخذت كلمة الشيعة معنى خاصاً ومتى؟ وما هو سبب النفور العام، لدى الأغلبية الساحقة من المسلمين، من كلمة شيعة؟ وهل للشيعة فرق كثيرة وما هي؟
طلب المهلة والموافقة
تسلمت ورقة الأسئلة من صاحبي، وطلبت منه أن يمهلني بضعة أشهر للإجابة عنها. ووعدته بتقديم الإجابات على شكل بحث فوافق. وبعد ثلاثة أشهر وضعت الأجوبة التالية بين يديه، وطلبت منه أن يقرأها وأن يعقب عليها إذا أراد، أو يقدم طائفة جديدة من تساؤلاته.
الفصل الأول
معنى كلمة شيعة
المعنى اللغوي
كلمة شيعة، لغة، وعلى العموم، تعني: الفرقة، أو الجماعة من الناس (1)، التي يجتمع أبناؤها على أمر واحد، ويتبع بعضهم رأي بعض (2)، وهم متشابهون في آرائهم وأمورهم وموالاتهم (3).
وإذا أضيفت كلمة (شيعة) لرجل كقولك: شيعة فلان، أو لرأي كقولك:
شيعة هذا الرأي فإنها تعني: الأصحاب أو الأتباع أو الأعوان أو الأنصار أو المؤيدين (4).
فالشيعة، لغة: جماعة، أو فئة، من الناس متجانسة، ومتميزة عن غيرها، من جماعات المجتمع وفئاته بقيادتها وفكرها ورأيها وأسلوب عملها. وهي بمثابة الحزب الواحد، له هدف يسعى لتحقيقه وفكر يسعى إلى نشره وتعميمه.
المعنى في القرآن الكريم
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين. وعند نزوله، كانت اللغة العربية هي اللغة السائدة في قاعدة الإسلام الأولى، وكانت معانيها قد استقرت. فاستعمل القرآن الكريم كلمات هذه اللغة لإيصال ما أراد إيصاله من المعاني والأفكار للناس. وكان رسول الله، بالضرورة والواقع، أفصح العرب، وأقدر من تكلم العربية، وقد تولى بنفسه قراءة القرآن الكريم وبيانه للناس. ولأن كلمة شيعة كانت
____________
(1) راجع: المنجد في اللغة والمعجم الوسيط: مادة شيع.
(2) راجع: لسان العرب لابن منظور، مادة شيع.
(3) راجع: مختار الصحاح للرازي والمنجد، مادة شيع.
(4) راجع: المعجم الوسيط. وتمعن في المراجع السابقة، وراجع كتابنا: (النظام السياسي في الإسلام)، ص 298 وما بعدها.
وورد لفظ (شيعة) في القرآن الكريم مرة واحدة، ولفظ (شيعته) ثلاث مرات، ولفظ (شيع)، جمع شيعة، خمس مرات، ولفظ (أشياعكم) مرة واحدة، ولفظ (بأشياعهم) مرة واحدة. فيكون القرآن قد استعمل كلمة شيعة واشتقاقاتها المذكورة إحدى عشرة ومن خلال هذه الاستعمالات أبرز العناصر الأساسية لمعنى الكلمة لغة واصطلاحاً. وجاءت استعمالات القرآن الكريم لها بالمعنى الذي أراد تأكيداً على استقراره، وعلى الوحدة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي.
قال تعالى:
1 -... (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً) [ مريم / 69 ].
وقد أجمع المفسرون على أن كلمة شيعة، الواردة في هذه الآية، تعني فئة، أو جماعة، أو حزباً أو فرقة أو طائفة من الناس شاع أمرها وتميزت من غيرها.
2 - (... فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من (شيعته) وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته...) [ القصص / 15 ] كان المجتمع المصري، في عهد فرعون، مجتمعاً واحداً شكلياً، ولكنه كان، واقعياً، منقسماً إلى مجموعة كبيرة من الفرق أو الجماعات أو الطوائف أو الأحزاب أو الشيع، بدليل قوله تعالى عن فرعون (وجعل أهلها شيعاً) [ القصص / 4 ] فاستعمل القرآن الكريم كلمة (شيعته) للتعبير عن حالة بني إسرائيل في مصر، فقد كانوا شيعة أو فرقة متميزة من الفرق أو الشيع أو الجماعات أو الأحزاب الأخرى التي تكون المجتمع المصري. فأمر الإسرائيليين واحد، ورأيهم واحد ويتبع بعضهم بعضاً، ويوالي بعضهم بعضاً ولهم قيادة أو وجاهة واحدة ويواجهون معاً محنة واحدة. فعبر القرآن الكريم عن هذه الجماعة الإسرائيلية بكلمة (شيعة).
3 - بعد أن استعرض القرآن الكريم ملامح المواجهة بين نوح وقومه وبين نهايتها. وربطاً للماضي بالحاضر قال تعالى: (... وإن من شيعته لإبراهيم)
4 - (... ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون) [ الحجر / 10 و 11 ].
لقد بين الله تعالى موقف المجتمعات البشرية من رسلها، ووصف تلك المجتمعات ب (الشيع): جمع شيعة، لأن كل مجتمع من تلك المجتمعات كان في حقيقته منقسماً على ذاته، ومقسماً إلى مجموعة كبيرة من الفرق أو الجماعات أو الطوائف أو الأحزاب المتنافسة. وبالرغم من حالة التمزق والإختلاف التي ألقت أجرانها في كل مجتمع إلا أن (شيعة) قد أجمعت على تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، لأن الرسل يملكون الحقيقة، والجواب اليقيني لكل سؤال، فإذا سطعت الحقيقة وعرفها الجميع، فستذوب تبعاً لذلك كيانات الشيع، وتخسر مكاسبها الناتجة عن التمزق والإختلاف، وهذا هو السر في وحدة طوائف (شيع) كل مجتمع من رسله.
5 - (... أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) [ الأنعام / 65 ].
بين القرآن الكريم أن انقسام المجمتع الواحد إلى شيع متعددة تحت شعار البحث الزائف عن الحقيقة وبدافع خفي لتحقيق مصالح فردية أو فئوية، والإصرار على تجاهل الشيعة المؤمنة، وقيادتها الشرعية المميزة التي تملك الحقيقة، كل ذلك يشكل مظهراً من مظاهر الدمار، ونذير عذاب سيحل بالمجتمع عاجلاً أم
(يستبدل قوماً غيركم) [ التوبة / 39 ].
6 - (... إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ) [ الأنعام / 159 ] إن انقسام المجتمع إلى شيع أو فرق أو جماعات أو أحزاب غير مقبول، إطلاقاً في الموازين الإلهية، لأنه يتناقض مع الأمر الإلهي، ومع الغاية من الاجتماع البشري ; والمنخرطون في صفوف الشيع، وقادتهم لا يلتقون مع الرسول أي رسول تحت أي شعار لأن نهجهم وخطهم مختلفان بالكامل عن منهج الرسول وخطه.
7 - (... إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) [ القصص / 4 ] سلمت البشرية بسوء نمط حكم فرعون وبشاعة أساليبه، وأبرزها رعيته إلى مجموعة من الشيع أو الفرق أو الجماعات أو الأحزاب وتسليطه شيعة، أو مجموعة من الشيع، على شيعة أو مجموعة أخرى من الشيع، وأخذ يدير الصراع على طريقته.
8 - (... ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) [ الروم / 31 و 32 ] تقسيم المجتمع إلى شيع أو جماعات، أو أحزاب متنافرة صفة بارزة من صفات المشركين، ونمط بارز من أنماط إدارتهم للمجتمع.
9 - (ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر) [ القمر / 51 ] الخطاب موجه إلى شيع مكة ومن حولهم من شيع القرى الذين أجمعوا على تكذيب رسول الله، تماماً كما فعلت شيع الجمتمعات البشرية السابقة مع رسلها.
10 - (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل...) [ سبأ / 54 ] وشيع مكة، ومن حولها من شيع القرى، هم المعنيون بالخطاب، (كما فعل بأشياعهم)، أي بأمثالهم وأشباههم من شيع المجتمعات السابقة التي كذبت الرسل.
هل الشيع هي الأحزاب في القرآن الكريم؟
1 - نلاحظ أن ألفاظ (شيعه وشيعته وشيع وأشياعكم وبأشياعهم) قد وردت، في القرآن الكريم، إحدى عشرة مرة، وأن لفظ (الأحزاب) قد تكرر، في القرآن الكريم، إحدى عشرة مرة أيضاً. ومن المؤكد أن هذا التطابق العددي ليس مصادفة بل له دلالة.
2 - ونلاحظ، أيضاً، أن الله، تعالى، قد عرف المجتمعات التي كذبت الرسل واستهزأت بهم ب (الشيع) بقوله: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) [ الحجر / 10 ] وعرف هذه الشيع بأنها أحزاب وأبرز وحدة العلة بقوله: (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) [ ص / 12 و 13 و 14 ].
3 - وقال تعالى، مخاطباً، شيع مكة ومن حولها من شيع العرب (ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر) [ القمر / 51 ] فشيع العرب الذين كذبوا الرسول هم على شاكلة شيع الأولين، وعند ما وحدت الشيع العربية نفسها، وجيشت أكبر جيش لها، وغزت الرسول في غزوة الخندق، فوصفها الله تعالى بأنها أحزاب فقال: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب...) [ الأحزاب / 22 ] (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب...) [ الأحزاب / 20 ].
4 - ثم إن الشيع العربية كانت من جملة المشركين الذين عناهم تعالى بقوله:
(ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) [ الروم / 31 - 32 ] وهذا يعني أن كل شيعة من هذه الشيع المتفرقة هي بمثابة حزب حقيقي له قناعاته وذاتيته التي تميزه عن غيره من الشيع أو الأحزاب ومن يتمعن في الآيات التي وردت فيها كلمة شيعة ومشتقاتها، وفي الآيات التي وردت فيها كلمة أحزاب يجد أن الفوارق بين مصطلحي الشيع والأحزاب تكاد تكون معدومة.
الشيعة المؤمنة في القرآن الكريم
أشار القرآن الكريم، بصراحة تامة، إلى وجود شيعة مؤمنة قادها نوح عليه السلام، ونص على أن إبراهيم الخليل كان من شيعة نوح. وباستقراء القرآن
هذا شأن الأكثرية الساحقة من أبناء المجتمع. وتتبع الرسول أقلية قليلة من أبناء ذلك المجتمع فيؤمنون به كرسول وكولي لهم، ويتمسكون بالتعاليم الإلهية التي بشر بها، وهكذا يكون الرسول ومن اتبعه عملياً شيعة مؤمنة لها قيادتها وأمرها وفكرها وتتميز من غيرها لأن شيع المجتمع جميعها الأغلبية الساحقة من أفراده قد أجمعوا على تكذيب الرسول ومحاصرته، وأصروا على إجهاض دعوته وإفشالها.
لذلك وجدوا أن أتباع هذه الأقلية للرسول يشكل تحدياً لإرادة المجتمع وخروجاً صارخاً على نظامه ونواميسه، لذلك صب المجتمع جام غضبه على هذه الأقلية المؤمنة، وسخر وسائل إعلامه لتشويه سمعتها والتشنيع عليها، واختلاق الأكاذيب والتهم ضدها. وقد تتمادى قيادة المجتمع فتعذب أفراد الشيعة المؤمنة، أو تتخذ من الإجراءات ما يجعل حياة أفرادها في منتهى العسر والضيق. وهكذا يتمكن المجتمع، بقوته ونفوذه ووسائل إعلامه، من عزل الشيعة المؤمنة وقيادتها وتهميش دورها، وتجريدها من جميع الحقوق السياسية التي تتمتع بها بقية الشيع.
وينجح المجتمع في خلق رأي عام نافر من كل ما يتعلق بالشيعة المؤمنة، وتنفلق جميع قنوات الاتصال الاجتماعي والفكري معها، وينظر إلى أبنائها بوصفهم مجموعة من الأراذل الذين لا وزن لهم ولا قيمة. هذا هو وضع الشيعة المؤمنة في جميع المجتمعات التي كذبت الرسل
كلمة شيعة في السنة النبوية
استعمل الرسول الأعظم كلمة شيعة، في حديثه، لتدل على المعنى الذي حددت معالمه اللغة وأبرزه القرآن الكريم فقد نقل السيوطي عن ابن عساكر أن الرسول قال لأصحابه يوماً: (والذي نفسي بيده إن هذا - يعني علياً بن أبي طالب - وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) (1) ونقل السيوطي، في درره، عن ابن مردويه أن رسول الله فسر لعلي بن أبي طالب آية (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) [ البينة / 7 ] بقوله لعلي: (هم وأنت وشيعتك). وأخبر رسول الله علياً أمام الصحابة: (بأنه سيقدم على الله وشيعته راضيين مرضيين) (2). وذكر ابن حجر في الصواعق: - 1 - أن رسول الله فسر آية (أولئك هم خير البرية) بعلي وشيعته (3).
2 - وقد استعمل الرسول كلمة (شيع) (جمع شيعة) فبعد أن بين لأصحابه بأن أمته ستقتل من بعده ابنه الإمام الحسين في كربلاء، حذرهم قائلاً: (والذي نفسي بيده لا تقتلوه بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعاً) (4).
ونلاحظ أن الرسول الكريم قد بين لأصحابه بأنه ستكون لعلي بن أبي طالب شيعة خاصة به، وأن علياً وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، ومع أنه صادق إلا أنه قد أقسم على صحة قوله ليكون اليقين في قلوب سامعيه. وفي موقف آخر، بين الرسول لأصحابه أن علياً بن أبي طالب وشيعته هم قطعاً ممن عناهم الله تعالى
____________
(1) الدر المنثور، 6 / 379.
(2) راجع: نور الأبصار للشبلنجي، ص 80.
(3) وحول هذه المعاني نفسها وتكرر ورود كلمة شيعة في حديث الرسول راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي، 2 / 356 - 366، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي، ص 244 - 246، والمناقب للخوارزمي الحنفي، ص 62 و 187، والفصول لمهمة لابن الصباغ المالكي، ص 107، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 18، وفتح القدير للشوكاني، 5 / 477.
(4) رواه الطبراني، راجع: معالم الفتن، 2 / 407.
وقد روى هذه الأحاديث رجال كثيرون من كبار علماء أهل السنة وليسوا من شيعة الإمام، في وقت كانت فيه محبة الإمام أو رواية أي فضيلة من فضائله أو فضائل أهل بيت النبوة تعد من جرائم الخيانة العظمى في نظر الدولة التاريخية التي كانت تحكم المسلمين باسم الإسلام. وقد اقتنع الرواة بصحة صدور هذه الأحاديث عن الرسول، وإلا لما تجشموا عناء روايتها.
وما يعنينا هو أن الرسول الأعظم قصد بشيعة علي أعوانه ومؤيديه والقائلين بولايته، وعدهم بمثابة فرقة أو جماعة من الناس متميزة من غيرها من الفرق والجماعات. وهذا المعنى اللغوي والاصطلاحي عينه الذي أبرزه القرآن الكريم.
وفي المثال الثاني المتعلق بالحسين استعمل رسول الله كلمة (شيع) لتدل على المعنى عينه الذي أبرزه القرآن الكريم عند استعماله لكلمة (شيع) وهو الحالة التي ينقسم المجتمع فيها على نفسه وينقسم إلى مجموعة من الأحزاب أو الجماعات أو الفئات المتناقضة والمتصارعة.
الفصل الثاني
معنى كلمة شيعة في السياق التاريخي
1 - أقدم نص عثرت عليه، في التاريخ السياسي الإسلامي، تضمن كلمة (شيعة) ينسب للخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فمن المعروف أن هذا الخليفة عارض بشدة صلح الحديبية الذي ارتضاه الله للمسلمين ووقعه رسوله. وكان يرى أن هذا الصلح (دنية في الدين)، حاول جهده لإلغاء تلك المعاهدة حتى لا يعطي (الدنية في دينه)، ولكن محاولاته لم تنجح. وفي ما بعد عبر عن ذلك بقوله: (لو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة بالقضية لخرجت) (1) وفي رواية ثانية ذكرها ابن أبي الحديد: (أن عمر قد قام مغضباً وقال: لو أجد أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً) (2) وما يعنينا أن عمر بن الخطاب استعمل كلمة (شيعة) وقصد بها جماعة ترى رأيه وتسعى معه لتحقيق هدف مشترك. وبعبارة أخرى إن عمر قد عنى بكلمة (الشيعة) معناها اللغوي المستقر لغة والمتفق مع خطاب القرآن وخطاب الرسول.
2 - واستعملت كلمة (شيعة) في صك التحكيم الذي كتب بين الإمام علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان. وقد وردت لتدل دلالة كاملة على المعنى اللغوي المستقر في اللغة والمعبر عنه في القرآن والحديث. وجاء في هذا الصك:
(هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب... ومن كان معه من شيعته قاض معاوية بن أبي سفيان... ومن كان معه من شيعته) كما قال نصر بن مزاحم برواية محمد بن علي بن الحسين والشعبي، وروى جابر عن زيد بن الحسين رواية أخرى، ولكنها تتفق مع الأولى بذكر (ومن كان معه من شيعته عند ذكرها للإمام علي، وعند ذكرها لمعاوية (3).
____________
(1) راجع: المغازي للواقدي، 2 / 607.
(2) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تحقيق حسن تميم، 3 / 790.
(3) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تحقيق حسن تميم 1 / 437.
4 - زار معاوية بعد أن استبد بالحكم، بيت عثمان بن عفان، ولما رأته عائشة ابنة عثمان صاحت وندبت أباها، كأنها تقول لمعاوية: (إن معاقبة قتلة عثمان كان هو الشعار الذي رفعته للخروج على الإمام علي بن أبي طالب، وها أنت قد قبضت على مقاليد الأمور فما الذي يمنعك من معاقبة قتلة أبي! (وفهم معاوية المغزى، فقال لها: (يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد..). إلى أن قال: (ومع كل إنسان منهم شيعة، فإن نكثناهم نكثوا بنا..) (3).
فمعاوية يعبر عن واقع الحال المتمثل بانقسام المجتمع إلى شيع، ويستعمل كلمة شيعة لتدل على معناها اللغوي والاصطلاحي والتاريخي. كما جاء في القرآن الكريم.
5 - وبعد انتصار معاوية ومبايعته ليكون خليفة، أو ملكاً، على المسلمين استهل عهده بسلسلة من المراسيم الملكية التي وجهها لعماله، وجاء في بعضها:
(لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة وجاء في آخر: (أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته) (4).
6 - قال معاوية للحسين بن علي عليه السلام يوماً: (يا أبا عبد الله، أعلمت أنا قتلنا شيعة أبيك فحنطناهم وكفناهم وصلينا عليهم ودفناهم؟ فقال الحسين: لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا حنطناهم ولا صلينا عليهم ولا دفناهم) (5).
____________
(1) راجع نهج البلاغة خطبة 139.
(2) راجع: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء بيروت ص 767.
(3) راجع البداية والنهاية لابن الأثير، 8 / 133 نقلاً عن معالم الفتن، 2 / 188.
(4) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد، 3 / 595، كما نقلها عن المدائني في كتابة الأحداث.
(5) راجع الكامل لابن الأثير، 2 / 231.
8 - كتب يزيد بن معاوية إلى واليه عبيد الله بن زياد: (أما بعد فقد كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل يجمع الجموع..) (2).
9 - وقال اليعقوبي في تاريخه: (فقام جماعة من شيعة مروان فقالوا: لتقومن إلى المنبر أو لنضربن عنقك) (3).
10 - أحضر زياد ابن أبيه قوماً (بلغه أنهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي) (4).
11 - وصف الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام ملخص ما أصاب أهل بيت النبوة إلى أن قال: (وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره..) إلى أن قال: (حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة على...) (5).
شيعة وتشيع: لغة واصطلاحاً
الفقرات التي أوردناها في مقدمة الفصل الثاني نماذج مختارة من الاستعمالات التاريخية لكملة شيعة، فإذا أضيفت إلى ما سقناه من النصوص الشرعية الواردة في القرآن والسنة التي اشتملت على كلمة شيعة وشيع، وتبينا
____________
(1) راجع تاريخ الطبري، 4 / 188، حوادث سنة 51 ه.
(2) المصدر نفسه.
(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 258.
(4) راجع الكامل لابن الأثير، 3 / 477 - 478.
(5) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 595 تحقيق حسن تميم.
ظاهرة الشيع وتعددها في كل مجتمع
نشوء الشيع (جمع شيعة)، أي الفرق أو الجماعات أو الأحزاب، وتعددها ظاهرة بشرية عامة وشاملة لم يخل منها مجتمع بشري قط، قديماً وحديثاً. وقد تزامن قيام الشيع وتعددها مع نشوء ظاهرة السلطة بمعناها الواسع وقيامها، فوجدت الظاهرتان معاً، وصارتا من الصفات المميزة لأي مجتمع بشري. والسبب في ذلك أن الوصول إلى السلطة عزيرة المنال، ويستحيل إدراكها بالجهد الفردي، ولا يمكن أن تنال إلا عن طريق الغلبة والتغلب، سواء بالقهر والقوة (نحن مع من غلب) أو عن طريق الانتخاب. وتظهر الشيع بوصفها وسائل رئيسية موثرة لتحقيق الغلبة والتغلب بشقيها آنفي الذكر. أما تعدد الشيع فيعود إلى تضارب مصالح الأفراد والجماعات، واختلاف الآراء والأفكار والوسائل والتفاوت في الثقافات واليقين، وما في النفس من نوازع الحسد والرغبة بالتسلط، وممارسة الشر، ومن تقديم العاجلة على الآجلة، ومن الإصرار على تجاهل الأمر الإلهي، وإرغام أنف الشيعة المؤمنة
ويمكن القول، وبكل ارتياح، إن ظاهرة الشيع وتعددها تعطي معنى ظاهرة الحزبية لتشابه التركيبة والأهداف والبنى. وقد لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن التاريخ السياسي البشري ما هو إلا ثمرة الصراع بين الشيع، وكل الشيع تطمع في الاستيلاء على السلطة وحيازتها لهم هذا الصراع لصالحها، ولم ينته هذا الصراع طوال التاريخ ولم يبرح المجتمع مكانه، فكأنه يدور في حلقة مفرغة لا تشهد إلا نشوء الشيع وقيامها وتبعثرها وتعاقبها على السلطة. وإصرارها على استبعاد الشيعة المؤمنة التي تمثل الخط الإلهي، والتي لم يخل منها مجتمع قط عبر التاريخ بغض النظر عن القلة والكثرة.
الشيع في المجتمع الإسلامي
نشأ المجتمع الإسلامي وأخذ صورته النهائية عندما نجح الرسول في توحيد العرب سياسياً لأول مرة في التاريخ، ونقلهم من دوائر الشرك وأديانه إلى دائرة التوحيد ودينها الإسلام، وقيادتهم.
والمجتمع الإسلامي لم يكن أبداً بمنجاة من ظاهرة الشيع وإن كان جميع أفراد المجتمع الإسلامي قد ادعوا أنهم شيعة الرسول فإن الواقع يتناقض مع شمول هذا الادعاء.
لقد واجه الرسول مجتمعاً جاهلياً يتكون من عدد لا حصر له من الشيع أو الجماعات. ففي مكة، على سبيل المثال، كانت تسكن عدة قبائل، منها قبيلة قريش الكبيرة، وكانت قريش تتكون من 25 بطناً، وكل بطن من هذه البطون يشكل شيعة حقيقة متميزة عن غيرها. وعملاً بالنهج التاريخي لشيع المجتمعات البشرية فقد تحالفت شيع بطون قريش ال 23 ووقفت وقفة رجل واحد ضد النبي وضد البطنين الهاشمي والمطلبي اللذان اختارا بأن يكونا شيعة للنبي. ووقفت مع شيع قريش الأكثرية الساحقة من شيع العرب طوال الثلاث عشرة سنة التي أمضاها النبي في مكة قبل الهجرة. وبعد الهجرة جيشت شيع البطون الجيوش، بمساعدة شيع
عودة الشيع العربية، ولكن بعمائم الإسلام
قبيل وفاة النبي الكريم بأشهر، كان المجتمع الإسلامي مجتمعاً واحداً في الظاهر. يوالي النبي، ويعلن التزامه بأحكام الدين، ولكن بذور مجموعة هائلة من الأخطار والكوارث كانت قد نبتت وترعرعت واشتد ساعدها بعيداً عن الأنظار وتحت السطح تماماً:
1 - فالمنافقون الذين مردوا على النفاق يجوبون العاصمة، وقد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر والحقد على محمد وآله.
2 - وقسم كبير من الأعراب، من حول المدينة، منافقون لم تتوقف اتصالاتهم قط مع مردة النفاق في المدينة.
3 - يليهم مرتزقة من الأعراب لا يعرفون من الدين إلا اسمه ولا مطمع لهم إلا الكسب والغنيمة، وهم على استعداد للتحالف مع من يدفع لهم حتى ولو كان الشيطان نفسه.
ولا تتوقف هذه الفئات عن التلفظ بالشهادتين والقيام بمظاهر الدين، ولا يعرف الفوارق بينهم وبين غيرهم من المسلمين إلا من عمر الله قلبه بالإيمان.
وتكاتف مهاجرو هذه العشيرة وطلقاؤها، وتوطدت أواصر العلاقة من جديد بين شيع البطون ال 23، وصار لها موقف موحد من الأمور العامة، يمكنها أن تجهر به حتى أمام الرسول نفسه. والدليل القاطع على ذلك أنه عند ما مرض الرسول مرضه الذي مات منه أراد أن يلخص الموقف لأمته وأن يكتب لها توجيهاته النهائية، وضرب النبي موعداً لكتابتها، وأحست شيع البطون أن هذه التوجيهات تمس مصالحها وتوجهاتها، وفي الوقت المحدد وما أن قال الرسول: (قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً) حتى قال قائل شيع البطون: (إن الرسول قد اشتد به الوجع وهو يهجر، ولا حاجة لنا بكتابه ولا بوصيته لأن القرآن عندنا وهو يكفينا) (1). وما أن أتم قائل البطون كلامه حتى قالت البطون بصوت واحد: (القول ما قاله فلان إن النبي يهجر، ولا حاجة لنا بكتاب النبي لأن القرآن وحده يكفينا)، واحتج الحاضرون من غير أبناء البطون، وتشاد الطرفان واختصما، وكان واضحاً أن أفراد شيع البطون هم الأكثرية، فصرف النبي النظر عن كتابة ما أراد، لأنه لو أصر على الكتابة لأصرت البطون على هجره مع ما يستتبع ذلك من آثار مدمرة على الدين كله) (2).
5 - وقد طورت الشيع القريشية ال 23 المتحالفة مفهوماً جديداً للقيادة من بعد النبي، فرأت أنه ليس من الإنصاف أن يكون النبي من بني هاشم وأن
____________
(1) راجع: تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 62، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي، ص 21.
(2) راجع، على سبيل المثال: صحيح البخاري، 7 / 9، وصحيح مسلم، 5 / 75. وصحيح مسلم بشرح النووي، 11 / 95. ومسند الإمام أحمد، 4 / 356. وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 287. وما بعدها لتقف على تفاصيل مواجهة شيع البطون مع النبي نفسه، ولتتأكد من حجم تأثيرها على الأحداث
6 - إن شيع بطون قريش ال 23 التي أحيت تحالفها والتي أسلم أفرادها جميعاً، في ما بعد، جميعها موتورة، فما من بطن من البطون إلا وقتل آل محمد وبخاصة علي بن أبي طالب منه قتلى خلال المعارك التي جرت بين الكفر والإيمان، وفكرة الثأر عميقة الجذور في النفس البشرية، بعامة وفي نفوس العرب بخاصة، والتلفظ بالشهادتين غير قادر على اقتلاع هذا الأثر.
7 - والأخطر أن بطون قريش ال 23 تمسكت بنبوة النبي، ربما لاقتناعها بصدقة، أو لأنها وجدت في النبوة طريق ملكها وسيادتها على العرب، وصار من مصلحة الجميع التمسك بهذه النبوة. وانسياقاً مع هذا التوجه، برأت شيع البطون رسول الله من الدماء التي سفكها أثناء حربه المسلحة مع البطون وحصرتها في آل محمد بعامة وبعلي بن أبي طالب وذريته بخاصة.
____________
(1) راجع: سنن الدارمي، 1 / 125 وسنن أبي داود، 2 / 126، ومسند أحمد، 2 / 162 و 207
و 216، ومستدرك الحاكم، 1 / 105 و 106. وجامع بيان العلم لابن عبد البر، 1 / 185،
والكامل لابن الأثير 3 / 24، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 107.