شواهد من عقيدة شيع أهل السنة في ذات الرسول الأعظم
الخاصة والعامة من شيع أهل السنة يوقنون أن صحيحي البخاري ومسلم من أصح الآثار، وأنهما يأتيان من حيث الصحة بعد القرآن الكريم مباشرة. من أجل هذا اخترنا نماذج من الأحاديث الواردة في هذين الصحيحين والمتعلقة بذات الرسول، لنسهل على الباحث الحكم على معتقدات الشيع الإسلامية وقربها أو بعدها عن روح الإسلام ومعدنه النقي:
1 - روى البخاري، في كتاب: (الذبائح باب ما ذبح على النصب والأصنام) (1) أن الرسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي قدم سفرة من الطعام إلى زيد بن عمرو بن نفيل فيها لحم، فأبي زيد أن يأكل منها قائلاً للرسول: (أني لا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه!) فهذه الرواية تبين أن زيداً كان في الجاهلية أفضل من رسول الله وأحوط، فقد كان يتجنب من أمرها المخالف للشرع الإلهي ما لا يتجنبه الرسول نفسه!
2 - روي البخاري، في كتاب (الدعوات، باب قول النبي من آذيته)، وروى مسلم في كتاب (البر والصلة باب من لعنة النبي وليس له أهلاً) أن رسول الله كان يغضب فيلعن ويسبه ويؤذيه من لا يستحق! ودعا الله أن يجعله لمن بدرت منه إليه زكاة وطهوراً!
فهذه الرواية تصور في صورة الرجل الذي يفقد السيطرة على أعصابه عند الغضب، فيلعن ويسب ويؤذي من لا يستحق اللعن والسب والإيذاء! ورحمة بضحايا غضب النبي، وكحل دائم للآثار المترتبة على عادته بلعن الناس وسبهم
____________
(1) 3 / 207.
ومن المؤكد أن الإنسان العادي يترفع عن سب الناس ولعنهم وإيذائهم دون سبب، فمن باب أولى أن يترفع عنه سيد ولد آدم ورسول البشرية كلها وخاتم النبيين، ومن شهد الله تعالى بعظمة خلقه في آية محكمة (وإنك لعلى خلق عظيم) [ القلم / 4 ] ولا يخفى على كل مطلع أن هذا الجانب من شخصية الرسول من مبتدعات السياسية وتفصيل ذلك أن الذين أسسوا الدولة الأموية كانوا من أعداء الله ورسوله ومن الذين حاربوا رسول الله طوال 23 عاماً فلعنهم الله ورسوله، ثم أسلموا في ما بعد وقبضوا على مقاليد الأمور الإسلامية بالتغلب والقهر. ولإبطال مفاعيل اللعن الإلهي والنبوي لهم في نظر العامة اخترعوا هذا الجانب من شخصية الرسول، فبينوا أنهم كانوا ضحايا الغضب النبوي، وجزاهم الله بما صبروا الزكاة والطهور. وهكذا امتازوا عن أصحاب الحق الشرعي - أهل بيت النبوة - فأهل البيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين لعنهم رسول الله زكاهم ربهم بدعاء النبي، وطهرهم تطهيراً أيضاً. وجاء فقهاء السلطة وأذكياؤها فأكدوا أن النبي جدير بهذا الخلق، فهو بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي..) [ الكهف / 110 ] وفعلت العادات ووسائل إعلام الدولة التاريخية الإسلامية فعلها، ونجحوا في تثبيت هذا الجانب المخترع من شخصية الرسول وإظهاره بمظهر الحقائق مع أنه ظلم واختلاف!
3 - روى البخاري، في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، وكتاب الطب، باب هل يستخرج السحر؟ وكتاب الأدب، باب إن الله يأمر بالعدل، وكتاب الدعوات باب تكرير الدعاء، وروى مسلم في صحيحة باب السحر ما يلي:
(إن بعض اليهود سحر رسول الله حتى يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما فعله)!
لم تقع هذه الحادثة قبل البعثة! إنما وقعت والرسول يبلغ رسالات ربه!
وأثناء الدعم الإلهي المطلق له، وبعد نزول قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) [ النجم / 2 - 4 ] ومع هذا تستطيع حفنة من اليهود أن تسحر النبي، وأن تعوقه عن تبليغ رسالات ربه! وأن
4 - وروى البخاري، في صحيحه، باب قول الله (وصل عليهم)، وكتاب الشهادات باب شهادة الأعمى ونكاحه، وروى مسلم في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب الأمر بتعهد القرآن عن عائشة ما يلي:
(أن النبي سمع رجلاً يقرأ في المسجد، فقال: رحمة الله أذكرني كذا وكذا، آية أسقطتها من سورة كذا...)!
وأنت ترى أن الرسول، حسب هذه الرواية، قد أسقط آية من سورة ولولا هذا الصحابي الذي ذكره بها لبقي الإسقاط المزعوم قائماً!
وهذا يتفق مع نزعة تقديس الصحابة، وتحجيم مكانة رسول الله خير البشر وسيدهم. وصولاً إلى إبطال الإلهية المتعلقة بنظام الحكم الذي بلغه رسول الله!
5 - روى مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الناس... وسنن ابن ماجه باب تلقيح النخل ما يلي:
(أن رسول الله مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تلقحوها لصلح، فتركوا تلقيحها فخرج شيصاً فقال الرسول: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).
فأنت تلاحظ أن هذه الرواية تخرج رسول الله بالكامل عن التأثير عن مسيرة الأحداث الدنيوية، وتؤكد أن الناس أعرف بشؤون الدنيا من رسول الله! بل وتلقي ظلالاً على طبيعة شخصية الرسول كما أرادوها، فقد أفتى بشؤون الدنيا التي لا يعرفها، ونتيجة فتواه خرج النخل شيصاً وتدمر أكبر مورد من موارد الرزق في
6 - جاء في بعض كتب الأحاديث (1) أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كل ما كان يسمعه من رسول الله، فذكر ذلك لبعض الصحابة فقالوا له:
تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله مع أن الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضى!؟... الخ فأنت ترى أن هذا الفريق من الصحابة يؤمن بأنه ليس كل ما يقوله رسول الله صحيحاً! وكيف يكون صحيحاً والرسول بشر يتكلم في الغضب والرضي! وبالرغم من أن الرسول قد أقسم لهم بأنه لا يخرج من فمه إلا الحق إلا أن عقيدتهم في هذه الناحية لم تهتز (2)! لذلك طلب أول الخلفاء رسمياً من الناس ألا يحدثوا عن رسول الله. وحتى الأحاديث التي كتبها بنفسه عن رسول الله قام بإحراقها احتياطاً لدينه واعتماداً على القرآن لأن القرآن وحده يكفي (3)، وهكذا فعل الخليفة الثاني، والثالث (4) والأهم من ذلك أنهم قالوا للرسول وجهاً لوجه: أن القرآن وحده يكفينا ولا حاجة لنا بوصاياك وكتبك (5) وهكذا تم إبطال كافة أقوال الرسول التي يرى الخليفة أنها غير مناسبة، أو التي تتعارض مع الواقع المفروض!!
وفي أحسن الأحوال صار الرسول مجتهداً وصار الخليفة مجتهداً (6). كل ذلك تحت شعار أن الرسول بشر، فلا ينبغي أن يعطي أكبر من حجمه الذي رسموه له!
____________
(1) في سنن أبي داود 2 / 126، وسنن الدارمي 1 / 125، مسند أحمد 2 / 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم 1 / 105 و 106، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 1 / 85.
(2) المصدر نفسه.
(3) راجع تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 2 - 3.
(4) راجع كتابنا المواجهة مع رسول الله وآله (القصة الكاملة)، وكتابنا الإمامة والولاية.
(5) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة.
(6) وثقنا ذلك في كتابينا المواجهة مع رسول الله وآله (القصة الكاملة)، والوجيز في الإمامة والولاية
السؤال الخامس
قال صاحبنا: لقد قرأت أجوبتكم عن تساؤلاتي حول ذات النبي والأئمة الشرعيين من بعده، ووقفت على عقيدة الفريقين فأرجو من الأخ الكريم أن يبين، وباختصار شديد، مصادر التشريع عند كل من أهل السنة وأهل الشيعة، وسأعود بعد أسبوعين لآخذ الجواب وأوجه لك أخطر الأسئلة.
وعلى ذلك اتفقنا.
مصادر التشريع عند أهل بيت النبوة وشيعتهم
المصدران الوحيدان:
يؤمن أئمة أهل بيت النبوة وشيعتهم إيماناً كاملاً بأن القرآن الكريم. والسنة النبوية بفروعها الثلاثة: القول والفعل والتقرير هما المصدران الوحيدان للتشريع.
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: (إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شئ، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزله الله فيه) (1). وروي عن الإمام محمد الباقر قوله:
(إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبينه لرسوله، وجعل لكل شئ حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً). وروي عن الإمام موسى بن جعفر قوله عند ما سأله أحد أصحابه: (أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه؟ أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه) (2). لقد أجمع الأئمة الكرام على ذلك. وجاء القرآن الكريم فصدق الأئمة بما أجمعوا فقال تعالى مخاطباً نبيه: (... ونزلنا عليك الكتاب
____________
(1) راجع أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني 1 / 59 ح 1.
(2) المصدر السابق 10 / 62.
ومن هنا يمكنك القول بكل ثقة إن للدين الإسلامي مصدرين: أولهما كتاب الله المنزل، وثانيهما نبي الله المرسل بذاته وقوله وفعله وتقريره. فالقرآن الكريم حسب تأكيده، وتأكيدات الرسول والأئمة الأطهار يشمل حكماً لكل شئ، ولكن لا أحد يعلم هذه الخاصية علم اليقين، أو يعلم موضع حكم كل شئ إلا الرسول، والأئمة الذين اختارهم الله تعالى لخلافة الرسول وأهلهم وأعدهم لهذا المنصب الجليل. فهم وحدهم الذين يفهمون هذه الخاصية في القرآن الكريم والقادرون على التأثير على حكم القرآن في كل شئ تأثيراً قائماً على الجزم واليقين. وهذا الترتيب الإلهي القائم على التكامل بين العبد والكتاب هو في مضمون يرسم دائرة الشرعية الإلهية في كل زمان ومكان، فالقرآن هو القرآن منبع كل الأحكام لا يتغير ولا يتبدل والعبد هو العبد رسول الله والأئمة الأطهار كل في زمانه. والخلاصة أن مصادر التشريع أو منابع الأحكام في كل زمان ومكان تأتي من مصدرين لا ثالث لهما، وهما كتاب الله وسنة رسوله، ولا توجد مشكلة عملية في زمن الرسول، فهو المرجع المؤهل إلهياً باستخراج الحكم الشرعي من موضعه في القرآن الكريم كذلك فإن كل إمام من الأئمة يمكنه بالتأهيل الإلهي أن يدل المكلفين على موضوع الحكم الشرعي في القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة، فلو حكم الأئمة الاثنا عشر الذين اختارهم الله وبينهم رسوله لما أحتاج العالم لأكثر من القرآن والسنة لاستخراج حكم الله في كل شئ ولكن، والرسول على فراش المرض، وبعد انتقاله إلى جوار ربه حدث انقلاب سياسي مدبر، تم فيه استبعاد الأئمة الشرعيين الذين اختارهم الله لقيادة الدعوة والدولة الإلهيتين، وحل محل الأئمة الشرعيين بالقوة والتغلب والقهر حكام ليسوا مؤهلين إلهياً للإمامة والمرجعية، ومؤهلهم الوحيد هو القوة والتغلب والقهر. والضرورات تفرض على هؤلاء المتغلبين أن يجدوا حكماً لما يعترضهم من أمور، وما يجد من مشكلات فإذا اعتقدوا أن هذا
وعند ما انقطعت صلة المسلمين الشيعة بالأئمة الكرام، في الأعصر الأخيرة، وأمام ضرورات استخراج الأحكام الشرعية لمواجهة المشكلات الحادثة اعتمد المسلمون الشيعة على الكتاب والسنة النبوية المنقولة عن الثقات المتورعين مهما كان مذهبهم. فالكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان عند أهل بيت النبوة وشيعتهم (1) ولا يعتمد أهل بيت النبوة القياس أو الاستحسان أو غيره من المصادر التي تعتمدها شيع أهل السنة. أما الإجماع فليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنة، ولا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات، فهو يكشف عن الدليل أحياناً (2).
أما ما يتعلق بالأئمة الكرام، فأهل بيت النبوة وشيعتهم يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن الأئمة الكرام مؤهلون إلهياً للإمامة والمرجعية، فكل واحد منهم يعرف في زمانه معرفة قائمة على الجزم واليقين حكم كل شئ في القرآن الكريم، وكل واحد منهم محيط في زمانه بالسنة النبوية، وكل واحد منهم هو الأعلم والأفهم بالدين في زمانه، هو الأفضل والأوثق وهذا ما عبر عنه الإمام جعفر بن محمد الصادق بقوله:
(حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله قول الله
____________
(1) راجع الفتاوى الواضحة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر ص 98، والتشيع لهاشم الموسوي ص 275 - 276.
(2) راجع التشيع لهاشم الموسوي ص 275 - 276.
السؤال السادس
قال صاحبي: إن أخطر التهم التي توجه لشيعة أهل بيت النبوة هي استخفافهم بالصحابة الكرام والطعن فيهم، وقد اطلعت على كتابكم القيم: (نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام) ورأيت أنه كاف لتوضيح وجهة نظر أهل بيت النبوة وشيعتهم في هذا المجال. لكني أريد أن تربط هذه النظرية، سياسياً وتاريخياً، بالواقع الذي ساد، وأن تبين لي، وبما أمكن من الإيجاز، مصطلح صحابة وصحابي، وهل يشمل المنافقين والمرتزقة من الأعراب، والذين في قلوبهم مرض؟ آمل أن توضح لي هذا المصطلح، وأن تربطه بحركة الأحداث، و بانقلاب البطون على الشرعية الإلهية، وبخطتها في تسويغ هذا الانقلاب، ثم كيف أخذت نظرية عدالة جميع الصحابة شكلها ومضمونها النهائيين؟ وما هي الأسباب الموجبة لاختراعها؟ وما هو دور الأمويين، وبالأخص معاوية، في إيجادها تجذيرها؟ وكيف أصبحت عقيدة لدولة البطون؟ ومن هم الصحابة حسب مقاييسها النهائية؟ وما هي امتيازاتهم حسب المفهوم الرسمي؟ وما هي العقوبة التي رتبها الخلفاء للمشككين بها؟ وهل جرت محاولات لتعديلها؟
وأخيراً، أرجو أن تبين مفهوم الصحابة والصحبة عند أهل بيت النبوة وشيعتهم، وما هي نقاط الخلاف والائتلاف بينهم وبين الخلفاء وشيعهم في هذا المجال؟ وأن تربط ذلك بالواقع التاريخي، وهل هنالك فئات ما زالت الشيعة تجرؤ على الإعلان عن عدم عدالتهم؟ إنني لواثق أنني أثقلت عليك، ولكن هذا ضروري لتوطيد ولائي ومحبتي لأهل بيت النبوة.
____________
(1) راجع أعيان الشيعة، المجلد الأول ص 664.
الباب الرابع
نظرية عدالة الصحابة
الفصل الأول
نظرية عدالة الصحابة عند الخلفاء وشيعتهم
عوامل نشأة النظرية ووظيفتها
نظرية عدالة الصحابة، في المعنى الذي استقر نهائياً في أذهان العامة والخاصة، من أهل السنة، نظرية غريبة عن الإسلام تماماً. وهي من اختراعات الخلفاء وأوليائهم عبر التاريخ، فقد سخر هؤلاء موارد دولة الخلافة التاريخية وإعلامها الضخم حتى حشوها في الأذهان، ثم ورثتها العامة كما ورثت بقية المعتقدات، وكذلك فعل الذين من بعدهم واعتبروها مسلمات، فوق مستوى العقل، وخارج نطاق عمله، لأنهم ورثوها أولئك العمالقة الذين فتحوا مشارق الدنيا ومغاربها، وإعمال العقل في تلك الموروثات يشكل - برأيهم - سوء ظن بأولئك العظماء، ومحاولة لاتباع سبل غير سبيلهم! ونظراً لتعمق هذه القناعة في نفوس العامة واختلاطها إلى درجة الالتحام مع الدين الحنيف بفعل التراكمات التاريخية، فإننا نحتاج إلى جهد هائل لتصحيحها. ومن هنا كان لزاماً علينا أن نربط نشأة هذه النظرية ربطاً محكماً بالوقائع التاريخية والسنة النبوية العملية، وبالروح العامة للدين الحنيف وبالصراعات السياسية التي عصفت بالمجتمعات العربية عند ظهور النبي، وخلال مرحلتي الدعوة والدولة النبويتين، والتي كشرت عن نابها واشتدت والنبي على فراش الموت، ثم هاجت وماجت، وألقت أجرانها بعد موت النبي، ثم فرض المنتصرون رؤاهم وبناهم الفكرية والعقيدية على المحكومين بنفوذ الدولة وقوتها وإعلامها، وسنعالج هذا الارتباط الوثيق من خلال البحوث التالية:
مصطلح صحابة وصحابي
الصحابة جمع صحابي، واللفظان من مشتقات الكلمة الأصلية (أصحب) وتعني، لغة، عاشر، أو رافق، أو جالس أو شايع (1) والقرآن الكريم، في
____________
(1) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 11 تجد التفصيل الموثق.
وقد استعمل لفظ (أصحاب محمد) للدلالة على الذين سبقوا باعتناق الإسلام، أو تظاهروا بهذا الاعتناق، وكانوا يشكلون قلة وسط محيط عربي مجاهر بالشرك ومعارض لمحمد ولدينه. وهذه القلة هي التي سبقت الناس إلى الدخول في الإسلام والتي قامت دولة النبي بسواعدها، والتي تحملت أعباء المواجهة الأولى مع بطون قريش ومن والاها. لقد عرفت هذه القلة بأصحاب محمد أو بأصحاب الرسول أو بالأصحاب إطلاقاً، وبقيت تحمل هذا الوصف حتى بعد انتصار النبي وبعد أن دانت له العرب رغبة أو رهبة، ودخلوا جميعاً في دين الله أو تظاهروا بذلك. ومن هذه القلة فئة منافقة تظاهرت بالإسلام والإيمان عند قدوم النبي إلى المدينة المنورة، وفي الحقبة الزمنية التي بدأت فيها المواجهة المسلحة بين الرسول وأصحابه القلة وبين بطون قريش ومن والاها من العرب. ومع أن قلوب أولئك المنافقين كانت كافرة بالرسول، وبكل ما جاء به، إلا أنها كانت حريصة على إظهار الإسلام والإيمان، والقيام بجميع الواجبات المطلوبة ظاهرياً، وعندما كانت تتخلف عن ذلك أو تظهر بعض بوائقها، كانت تعتذر للرسول وتلح في الاعتذار حتى يعذرها. وكانت حريصة على التظاهر بموالاة الرسول في الوقت الذي كانت فيه قلوب أفرادها تقطر بالحقد عليه وعلى آله، وتتربص الفرص لنقض كلمة الإسلام من أصولها أو للانحراف بمساره عند الاقتضاء.
وقد قويت شوكة النفاق حتى صار ظاهرة من أخطر الظواهر التي هددت مجتمع الرسول. واحتل الهجوم عليها، وكشف وسائل المنافقين الخبيثة،
____________
(1) المصدر نفسه.
وعند ما جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس جميعاً في دين الله أفواجاً، وصار المجتمع العربي مجتمعاً إسلامياً، وصار النبي سيد الجميع وحاكمهم، بقيت الفئة القلية التي سبقت إلى الإسلام أو تظاهرت به، والتي خاضت غمار المواجهة أو تظاهرت بخوضها بقيت فئة متميزة من غيرها من المسلمين تعرف بالوصف السابق نفسه: (أصحاب محمد) من دون البحث الدقيق عن حقيقة نفاق المنافقين أو عمق إيمان المؤمنين من هذه القلة!
والثابت أن الرسول قال عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي: (فلعمري لنحسن حجته ما دام بين أظهرنا) (1). ولما اقترح بعض المسلمين على رسول الله أجاب بما معناه: (كيف يقال إن محمداً يقتل أصحابه؟!). وعند ما اقترح أسيد بن حضير على الرسول أن يقتل المنافقين الذين تآمروا على قتله، في أثناء عودته من غزوة تبوك، أجابه الرسول قائلا: (إني أكراه أن يقول الناس أن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال أسيد: يا رسول الله، فهؤلاء ليسوا أصحابا! قال الرسول: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال:
بلى ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى ولا شهادة لهم!
____________
(1) راجع الطبقات لابن سعد 2 / 65.
المنافقون والمرتزقة من الأعراب قوة كبرى
بعد استسلام زعامة بطون قريش، وبعد فتح مكة وسقوط عاصمة الشرك بيد رسول الله، ويعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجه المشركين وقيادتهم، ولم يبق إلا باب الإسلام، ولم يعد بإمكان أحد أن يجهر بشركه، ظهر النفاق في مكة وعلى نطاق واسع. ولما رأت القبائل العربية انهيار زعامة بطون قريش واستسلامها أدركت أن من الجنون استمرارها في عداوة محمد، وأدرك قسم من أفرادها أن محمداً صادق وأنه نبي، وتظاهر القسم الآخر بهذه القناعة. وهكذا فشت ظاهرة النفاق في مكة وفي الكثير من الجماعات السياسية التي كانت متحالفة مع زعامة بطون قريش على حرب النبي وعداوته، ولم يفتش النبي سرائر الناس وقبل منهم ظاهرهم. وبما أن المدينة المنورة قد أصبحت عاصمة الدولة، ومركز الجاه والنفوذ والثروة، فقد صارت نقطة تجمع لرعايا الدولة. واختلط منافقو مكة ومنافقو القبائل الجدد بمردة النفاق في المدينة، واكتشفوا أنهم قوة كبرى، وصمموا على التعاون والترابط لنقض كلمة الإسلام من أصولها إن استطاعوا أو تغيير مسارها الصحيح على أقل تقدير من خلال زعامة بطون قريش المعقدة من النبوة الهاشمية وفكرة الملك والخلافة الهاشمية. لقد فهم المنافقون أن علياً بن أبي طالب هو الولي الشرعي للأمة حسب ما أعلنه النبي وأن أحد عشر إماماً من ذرية النبي، ومن أولاد علي وأحفاده، سيتعاقبون على منصب الإمامة أو القيادة من بعد النبي وعلي.
وقد فهم المنافقون أن بطون قريش ال 23 مستاءة من التميز الهاشمي، وأنها ترفض رفضاً قاطعاً الترتيبات الإلهية التي أعلنها النبي والمتعلقة بقيادة
____________
(1) راجع المغازي للواقدي 3 / 1044 طبعة مؤسسة الأعلمي.
الحلف العملي وبقاء أصحاب محمد قلة
وهكذا تكون، عملياً وواقعياً، حلف مؤلف من:
1 - بطون قريش المصرة على إلغاء الترتيبات الإلهية.
2 - منافقي المدينة وما حولها ومكة وحلفائها السابقين.
3 - المرتزقة من الأعراب. وغاية الجميع واحدة، وهي إحداث التغيير الجوهري، في البنى السياسية التي أرساها النبي، على أن يكون التغيير تحت مظلة ثوب الإسلام وقشوره الخارجية.
ومن الناحيتين، العملية والواقعية، بقيت الفئة التي كانت تعرف ب (أصحاب محمد (فئة قليلة تماماً كما كانت عندما بدأت المواجهة. والفرق أن أصحاب محمد كانوا يواجهون ويعيشون أقلية وسط محيط من المشركين يواجههم ويعاديهم ويحاربهم.
بينما كان (أصحاب محمد)، قبيل وفاة النبي، فئة قلية وسط المحيط الذي دخل الإسلام حديثاً أو تظاهر بالدخول. لقد صار (أصحاب محمد) كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود على حد تعبير معاوية بن أبي سفيان.
ارتباط مصطلح (أصحاب محمد) بالمواجهة
قلنا إن (أصحاب محمد) كانوا قلة وسط عالم عربي مشرك يناصبهم العداء، وبعد أن انتصر النبي صاروا قلة وسط عالم عربي حديث العهد بالإسلام. وقد ارتبط هذا المصطلح بحالة المواجهة التي جرت بين محمد وآله والقلة التي والته
لذلك هانت على بطون قريش معاداة محمد وبني هاشم ومعاداة أوليائهم (أصحاب محمد) فلم تواجه (أصحاب محمد) لأنهم تركوا دين الشرك، أو لأنهم دخلوا في الإسلام الذي جاء به محمد، إنما واجهتهم لأنهم تبرعوا من دون الناس بتأييد (المطامع الهاشمية والبغي الهاشمي المتمثل بمحاولة محمد والهاشميين التفرد بالقيادة والفخر والشرف وحرمان بطون قريش من هذا كله) هذا هو سر اندفاع بطون قريش في عداوة محمد والهاشميين، و (عداوة أصحاب محمد) الذين شكلوا مع النبي ومع الهاشميين طرف المواجهة الآخر، وتحملوا المشاق والمتاعب وكافة آثار تلك المواجهة الأليمة.
هزيمة البطون القريشية
واجهت بطون قريش محمداً وآله (وأصحاب محمد) بضراوة بالغة وجرعتهم أمر كؤوس العذاب، خلال مدة ال 23 عاماً أو ال 15 عاماً التي قضاها النبي في مكة قبل الهجرة، وتوجت البطون تلك المرحلة بمؤامرة جماعية استهدفت حياة النبي. لكن المؤامرة فشلت، ونجح النبي في هجرته. وبسرعة مذهلة، كون النبي جبهة إسلامية في يثرب تتألف: 1 - من مهاجري مكة، 2 - ومن مسلمي قبيلتي الأوس والخزرج ومن والاهم، 3 - ومن المتظاهرين منهم بالإسلام (المنافقون).
الجرح الراعف والحقد الدفين
صحيح أن بطون قريش قد استسلمت عسكرياً بعد صراع مع النبي دام 23 عاماً، وصحيح أيضاً أنها أسلمت أو تظاهرت بالإسلام، وتلفظت بالشهادتين بعيد استسلامها وهزيمتها. لكن ليس في الدنيا كلها عاقل واحد يمكن أن يصدق أن إسلام البطون، في هذه الظروف، أو تظاهرها بالإسلام قادر على إزالة شعورها بالاحباط والهزيمة، أو إعادة الحياة لأبنائها الذين قتلهم محمد وآله وأصحابه أثناء المعارك الدامية التي جرت بين الطرفين. فالبطون جميعها، وبخاصة البطنين:
الأموي والمخزومي، قد وترت بأبنائها، وفاضت قلوبها بالحقد على محمد وآله ومن والاهم موالاة صادقة. ساذج فقط هو الذي يصدق أن التلفظ بالشهادتين له القدرة على محو الآثار النفسية العميقة لصراع دموي ومرير إستمر 23 عاماً! والأهم
إعادة تقويم الموقف والاعتراف بالمعطيات الجديدة
وضعت الحرب أوزارها باستسلام البطون، والتقى المهاجرون والطلقاء من أبنائها بعد أن اجتمع شمل الجميع تحت خيمة الإسلام الواسعة، وتذكروا الآباء والأبناء والأخوة والأعمام والأخوال الذين قتلهم محمد وآله وأصحابه! ولم تكن للبطون قدرة على الاعتراض، لأنها مهزومة، وقد تعلمت، خلال حقبة المواجهة، أن محمداً سينتصر دائماً، وأن أي مواجهة معه مصيرها الفشل الذريع.
ومن هنا صارت العافية مرهونة بالصمت وإخفاء حقيقة ما في النفوس. واستذكر أبناء البطون أن النبوة الهاشمية صارت قدراً لا مفر منه وأن لا محيص من اعترافهم بهذه النبوة، وأن الصيغة الجاهلية السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف قد تمزقت نهائياً، وأن الهاشميين قد تفردوا بكل الفخر والشرف فالنبي منهم، ومحمد لا يتوقف عن الإعلان بأن الولي من بعدة هو علي بن أبي طالب ومن بعده أحد عشر إماماً جميعهم من ذرية النبي الهاشمي ومن نسل علي الهاشمي أيضاً. وكلما تذكروا ذلك وتذاكروا به اجتاحت قلوبهم موجات هائلة من المشاعر التي يختلط بها كل شئ: الحقد والحسد والوتر والإحباط والشعور بالهزيمة الماضي والحاضر، الإسلام والشرك والدنيا والآخرة. وأسفرت هذه المشاعر المتناقضة عن شعور بالمرارة، ورغبة هائلة بالتغيير، ولكن تحت مظلة الإسلام فمحمد وآله وأصحابه ما زالوا قلة، كانوا قلة وسط بحر من الشرك وصاروا بعد الانتصار قلة وسط بحر من حديثي الإسلام! فتحت مظلة الإسلام ستعود الأمور إلى مجاريها
أساليب أبناء بطون قريش لتحقيق غاياتهم تحت مظلة الإسلام
1 - بعد انتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، صارت النبوة في نظر بطون قريش، وسيلة للملك وطريقاً لسيادتها على العرب. لذلك لم يعد في مصلحتها أن تنكر هذه النبوة. فاعترف أبناؤها بها وأعلنوا أنها لم تعد موضوعاً للنقاش، فهي حقيقة من حقائق الحياة السياسية العربية، فمحمد نبي ورسول وصاحب ملك.
2 - وحيث أن الهاشميين قد اختصوا بالنبوة وأخذوها، وهي شرف عظيم، واعترفت لهم جميع البطون بهذا الشرف خالصاً، فليس من العدل أن يأخذوا الملك (أن يكونوا خلفاء من بعد النبي) لأن معنى هذا أن يجمعوا النبوة والملك ويحرموا البطون من هذين الشرفين معاً. والأصوب والأبعد عن الإجحاف أن تكون النبوة لنبي هاشم خاصة لا يشاركهم فيها أحد من البطون، وأن تكون خلافة النبي (الملك) للبطون خاصة لا يشاركهم فيها أي هاشمي قط. وعلى هذا أجمعوا. وأبرز منظري هذا المبدأ اثنان هما: أبو بكر الخليفة الأول، وعمر بن الخطاب الخليفة الثاني (1).
أما النصوص النبوية المتواترة التي نصت على أن الإمام علياً بن أبي طالب وأحد عشر إماماً من ذرية النبي، ومن نسل علي، هم الأئمة الشرعيون للأمة من
____________
(1) راجع الكامل لابن الأثير 3 / 24، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 107 و 12 / 53 - 54.
3 - إضفاء هالة من التقديس تفوق التصور والوصف على أبناء البطون البارزين، ومعاملتهم باحترام يفوق احترامهم للرسل والأنبياء، والتماس الأعذار لأخطائهم وهفواتهم وتقديمهم للأمة جنباً إلى جنب مع النبي لهم سنن واجبة الاتباع تماماً كسنة الرسول. وإذا تعارضت سننهم مع سنن الرسول ترجح سنن أبناء البطون، ويمكن للواحد من هؤلاء البارزين أن يقول للرسول وجهاً لوجه: (أنت تهجر ولا حاجة لنا بوصيتك) فتصفق جميع البطون لهذا القائل وتؤيده، وتقول أمام الرسول: (إن الرسول يهجر والقول ما قاله عمر)، كما حدث يوم الرزية والنبي على فراش الموت (4).
____________
(1) راجع سنن الدارمي 1 / 125، وسنن أبي داود 2 / 126، ومسند أحمد 2 / 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم 1 / 105 و 106.
(2) راجع صحيح البخاري 4 / 31 و 7 / 9، 1 / 37، و 2 / 132، وصحيح مسلم 2 / 16 و 5 / 75، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 94 - 95، تاريخ الطبري 2 / 192.
(3) راجع التفصيل والمراجع في مبحث (الإمامة أو الولاية أو القيادة من بعد النبي) من هذا الكتاب.
(4) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 286 وما بعدها تجد التفصيل والمراجع.
وكانوا يشترطون على الخليفة الجديد أن يعمل بسنة الرسول وسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فسنة الرسول وحدها غير كافية! ولو كانت كافية لما كان هنا لك داع لسنة الشيخين!
وفي هذا السياق، أنت ترى أن العشرة المبشرين بالجنة جميعهم من أبناء البطون، ولم تعترف البطون، رسمياً، بأي مبشر بالجنة غيرهم، وقد شاع هذا الخير وانتشر وأصبح من المسلمات مع أنه من أحاديث الآحاد!
وقد ترجح الشخصية البارزة، من أبناء البطون، على الرسول نفسه صراحة، فهذا زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم الخليفة عمر يزور رسول الله قبل البعثة، فيقدم له الرسول مائدة فيها لحم، فيرفض زيد أن يأكل من مائدة الرسول، فيسأله الرسول عن سبب ذلك، فيقول زيد له: (إني لا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه) (1) فهم يصورون زيداً كأنه أحوط وأفضل من رسول الله! ولقد نجحت بطون قريش في تصدير هذه العقيدة وتعميمها حتى صارت من المسلمات. فإذا أراد العامة أن يرمزوا لفكرة العدل يقولون: (عدل عمر). ولا يقولون عدل محمد أو عدل الرسول! والأهم من ذلك أن حب أشخاص معينين من أبناء البطون صار جزءاً من العقيدة، فلو التزم مؤمن بالإيمان تماماً، ولكنه كان يرى أن علياً بن أبي طالب أو
____________
(1) راجع صحيح بخاري في كتاب الذبائح باب ما ذبح على النصب والأصنام 3 / 207.
4 - الحشد وانتظار موت النبي بعد أن استسلمت بطون قريش وبعد التقاء المهاجرين والطلقاء على هدفهم الجديد، بدأ الحشد والإعداد لتحقيق الهدف.
وفي هذا السياق، صارت كلمة أبناء البطون واحدة فاتحدت مثل اتحادها عندما أعلن الرسول دعوته في مكة، ولكن هذه المرة تحت خيمة الإسلام، فإذا تكلمت شخصية بارزة من أبنائها تقف جميعها خلفه وتردد ما قالته، وموقف البطون وتأييدها لعمر بن الخطاب والنبي على فراش الموت وترديدها خلفه: (إن النبي يهجر، ولا حاجة لنا بوصيته، والقرآن وحده يكفينا) دليل قاطع على صحة ما ذكرناه.
وفي مجال الحشد، مدت البطون يدها للمنافقين، فلم يرو لنا التاريخ كله أن أحداً من المنافقين قد عارض أي خليفة من خلفاء البطون، لقد شكلوا مع البطون جبهة واحدة ولكن تحت خيمة الإسلام هذه المرة. كذلك استغلت البطون الخلاف العشائري بين الأوس والخزرج ووطدت علاقاتها بأسيد بن حضير وطائفة من قومه وشيعتهم بعقيدتها مما سهل وهون على أسيد أن يشترك في اليوم الثاني لوفاة الرسول بسرية غايتها إحراق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه، وفيه علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين سبطا رسول الله!!
وفي هذا السياق، مدت البطون يدها للمرتزقة من الأعراب فوعدتهم ومنتهم وتحالفت معهم وانتظرت وإياهم موت الرسول بفارغ الصبر. أنظر إلى قول عمر:
(ما أن رأيت أسلم حتى أيقنت بالنصر) فهو يعلم أن قبيلة أسلم معه تؤيده وتؤيد حزبه.
وهكذا شكلت بطون قريش جبهة تضم أبناءها والمنافقين والمغرر بهم من الأنصار والمرتزقة من الأعراب، ولهذه الجبهة غاية واحدة هي إقصاء آل محمد وأهل بيت النبوة عن خلافة الرسول والاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر، واعتبار التغلب هو الطريق الأوحد لتولي هذا المنصب.