النبي وأهل بيته وأصحابه قلة من جديد
وفي الجانب الآخر، وجد النبي وأهل بيته وأصحابه المخلصين أنفسهم (قلة) من جديد، وعليهم أن يواجهوا واقعاً جديداً، فجميع بطون قريش والمنافقون والمغرر بهم من الأنصار والمرتزقة من الأعراب في صف واحد متحد ومتراص ولكن تحت خيمة الإسلام، ولهم هدف محدد واضح يتلخص بإلغاء الترتيبات الإلهية المتعلقة بمنصب القيادة أو الولاية أو الإمامة من بعد الرسول، وكان هذا التجمع من القوة بحيث أنه حال بين الرسول وبين كتابة ما أراد أثناء مرضه، وأن هذا التجمع قد واجه الرسول في بيته، وفرض رأيه فرضاً، وبهذا أخرجوا الرسول من دائرة التأثير على الأحداث، وعطلوا عملياً دوره كقائد للأمة. لقد أمر الرسول بتجهيز حملة أسند قيادتها إلى أسامة بن زيد وطلب من الحملة أن تتحرك فوراً وأن تغادر المدينة، ولكن أقطاب التجمع فطنوا لخطة النبي، فتثاقلوا وثبطوا الناس، ونجحوا في تأخير مسيرة الحملة، وتفويت الحكمة من وقت تسييرها، كل هذا يجري وتجمع البطون ومن والاها يكرر الشهادتين والاعتراف التام بالنبوة والرسالة، ولكن تحت شعار (حسبنا كتاب الله). هذا هو المناخ الذي أو جده تجمع البطون قبل استيلائه على منصب الإمامة بالقوة والتغلب والقهر.
النجاح الساحق
انتقل الرسول إلى جوار ربه، وانشغل الآل الكرام وأهل بيت النبوة الطاهرين بتجهيز جثمانه الطاهر لمواراته في ضريحه الأقدس. وخلال هذه المدة تجمع قادة التحالف، ونصبوا خليفة منهم متجاهلين بالكامل جميع النصوص النبوية التي عالجت منصب خلافة النبي، وصار التحالف جيشاً للخليفة، وصار قادته قادة لدولة الخليفة، وقبضوا سريعاً على المال والجاه والنفوذ ثم زحفوا إلى مسجد النبي، زافين الخليفة، زفاً ليواجهوا الولي الشرعي وأهل بيت النبوة ومن تبقى معهم من الصحابة الكرام بالأمر الواقع، وليحصلوا بالقوة على بيعة من لم يبايع، ومن لم يبايعهم مصيره الموت، حتى لو كان علياً بن أبي طالب، ومن يتكتل ضدهم سيحرقونه حياً حتى لو كانت فاطمة بنت محمد، أو الحسن والحسين سبطا
وهكذا نجح قادة تحالف البطون نجاحاً ساحقاً بالاستيلاء على منصب الخلافة من بعد الرسول بالحشد والقوة والتغلب والقهر، ومواجهة كل من يقف في دربهم حتى ولو كان الرسول نفسه، واتحدت أغلبية الأمة وراءهم رغبة أو رهبة، ولم يتخلف عن بيعتهم إلا علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة وبنو هاشم كما يروي البخاري، أو بعض الشخصيات البارزة كسعد بن عبادة، وقد هم قادة التحالف بقتله عند امتناعه عن البيعة مباشرة، ولكنه خشوا عواقب ذلك، وفي ما بعد أصدر عمر بن الخطاب أمراً بقتله وقتل فعلاً. وقد صورت وسائل إعلام البطون المتخلفين عن البيعة بصورة الشاقين لعصا الطاعة، والمفارقين للجماعة!
ولو لا لطف الله لقتلوا علياً بن أبي طالب، ولأحرق أهل بيت النبوة وهم أحياء!
ولكن عقلاء البطون رأوا أن من الأنسب عزل أهل بيت النبوة اجتماعياً، وتجريدهم من كافة حقوقهم السياسية، وتركيعهم اقتصادياً! فهذا أجدى وأنفع من القتل في تلك المرحلة! وفي هذا السياق تم تجريد أهل بيت النبوة من جميع ممتلكاتهم، وتم حرمانهم من ميراث النبي، ومن كافة المنح التي أعطاها لهم الرسول حال حياته، وتم حرمانهم من الخمس المخصص له في آية محكمة، ولأسباب إنسانية وعد الخليفة الأول بتقديم المأكل والمشرب لهم (1).
مؤامرة بطون قريش وانقلابها
إن تجاهل بطون قريش للترتيبات الإلهية والنصوص الشرعية المتعلقة بمنصب الإمامة، أو القيادة أو الخلافة من بعد النبي، واستيلائها على هذا المنصب من طريق الحشد والقوة والتغلب والقهر، هو في حقيقة انقلاب حقيقي تمخض
____________
(1) راجع كتابنا المواجهة مع رسول الله وآله (القصة الكاملة) تجد التفصيل الكامل الموثق.
وترتب على إلغاء الترتيبات الإلهية والنصوص الشرعية وضع ترتيبات وضعية جديدة، واعتبار ما فعله الانقلابيون بمثابة سوابق شرعية، أو نصوص قانونية. ولم يكتف الانقلابيون بذلك إنما ألغوا المرجعية التي اختارها الله ورسوله، وعدوا أنفسهم - بالقوة والقهر - مرجعية بديلة!
لقد أكد الرسول أن الهدى لا يدرك إلا بالثقلين: كتاب الله وعترة النبي أهل بيته كما هو ثابت من حديث الثقلين وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بهذين الثقلين، لأن كل واحد منهما متكامل مع الآخر ومتمم له، ولا يستقيم الإسلام إلا بهما، وهما الثقل القانوني أو الحقوقي المتمثل بالقرآن وبيان النبي لهذا القرآن، والثقل الشخصي المتمثل بعترة النبي أهل بيته، فهم القيادة والمرجعية في كل زمان، وهم المعدون والمؤهلون إلهياً لفهم القرآن فهماً قائماً على الجزم واليقين، فما يقولون هو المقصود الإلهي من هذا النص، فضلاً عن ذلك فإن أئمة أهل بيت النبوة هم وحدهم الذين أحاطوا بالبيان النبوي لأنهم تلقوه مباشرة عن رسول الله.
وجاء الانقلابيون، أو قادة بطون قريش، وألغوا هذه المرجعية، وأعلنوا بكل صلف وصراحة، أن القرآن وحده يكفي ولا حاجة لأهل بيت النبوة، وتجاهلوا حديث الثقلين وأحاديث الإمامة والولاية والخلافة، تماماً كما فعلوا مع الرسول يوم أراد أن يكتب توجيهاته النهائية. إذ حضروا من دون دعوة، وما أن قال الرسول: قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حتى تجاهلوا قوله، وقال عمر بن الخطاب للحاضرين، من بطون قريش: إن الرسول قد هجر، ولا حاجة لنا بكتابه حسبنا كتاب الله، وتصرف كأن الرسول غير موجود. عندئذ ردد رجالات البطون من خلفه: القول ما قاله عمر، إن الرسول يهجر حسبنا كتاب الله، وتصرفوا، أيضاً، كأن الرسول غير موجود، وكانوا هم الأكثرية فأثاروا لغطاً شديداً وخلافاً مما اضطر الرسول لأن يصرف الجميع.
وبعد موت الرسول، رتبت البطون أمرها وألغت مرجعية ربها وتجاهلت
وترتب على نجاح الانقلابيين إبعاد الرسول عن التأثير على الأحداث، فقد منعوا الرعية من التحديث عنه، ومنعوا كتابة أحاديثه وأحرقوا المكتوب منها، وصارت كلمة خليفة البطون وأركان دولته هي الكلمة العليا، وهي القول الفصل، واقتصر دور الدين كله على تجميل هذا الواقع وتسويغه. وكل ذلك يجري تحت خيمة الإسلام، وباسمه.
البحث عن عقائد جديدة
صحيح أن بطون قريش ال 23، مهاجرهم وطليقهم، صف واحد وجبهة متراصة واحدة. وصحيح، أيضاً، أنهم تحالفوا مع المنافقين ووقفوا جميعاً قلباً وقالباً إرغاماً لأنف النبي وأنوف آله، وصحيح أيضاً أن المرتزقة من الأعراب أيدوا بطون قريش لأنها المالكة للمال والنفوذ والجاه. وصحيح أيضاً أن البطون نجحت في استغلال الخلاف بين الأوس والخزرج وضمت إلى صفوفها قطاعاً واسعاً من الأنصار. وصحيح أيضاً أن البطون عزلت علياً وأهل بيت النبوة وبني هاشم ومواليهم اجتماعياً، فعادوا قلة مستضعفة. وصحيح أن خليفة البطون غدا في أوج قدرته، وأن دولته مستقرة وتبسط سلطانها على الجميع بالقوة. لكن أركان هذا التحالف أدركوا أن القوة وحدها ليست كافية لتضمن بقاء: دولة البطون ولتحقيق قناعة الرعية بشرعية هذه الدولة، وأن افتقار خليفة البطون إلى عقيدة تشكل نقطة ضعف. وفي وقت يطول أو يقصر سيستغل الهاشميون هذه النقطة لصالحهم، لذلك بدأ قادة البطون بالبحث عن عقائد يمكن لها أن تشكل نظرية تعمل جنباً إلى جنب مع بطون قريش ومع خليفتها وجيشها لتقوية دولتها ودوامها. وقد اخترع خلفاء البطون مجموعة كبيرة من النظريات السياسية، تصب في خانة إضفاء الشرعية على دولتهم من خلال وضع نظرية تنتظم مع القوة والتغلب والقهر لإيجاد حالة عامة من القناعة بشرعية دولة البطون أو إسلاميتها. ومن أسس هذه النظرية:
1 - قرابة النبي:
زعم قادة البطون وأولياؤهم في سقيفة بني ساعدة، أنهم أولى بالنبي لأنهم أهله وعشيرته، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم رجل من قريش، وبطون قريش أولى بملكه وسلطانه! وفي المفاجأة، وتخطيط البطون المسبق، وتحالفها مع المنافقين والمرتزقة من الأعراب، واستغلالها للخلاف بين الأوس والخزرج، وفي غياب أهل بيت النبوة، انطلت هذه المقولة إلى حين، ولم يكن لأحد من الحاضرين مصلحة في أن يقول للبطون: إذا كنتم أولى بالنبي حقاً، وأقاربه بالفعل فلم قاومتموه خمسة عشر عاماً في مكة قبل الهجرة؟ ولم حاصرتموه وبني هاشم وبني المطلب ثلاث سنين في شعاب أبي طالب وقاطعتموه؟ ولم تآمرتم على قتله، ثم جيشتم الجيوش واستعديتم عليه العرب واليهود وحاربتموه ثماني سنوات!؟
2 - مقولة الشورى:
وبعد أن قبضت البطون عملياً على مقاليد الأمور، وواجهت ولي الأمر وبني هاشم بأمر واقع لا قبل لهم بتغييره، ادعى قادة البطون أن الأمر أو الخلافة أو القيادة أو الإمامة من بعد النبي شورى واختيار، ومن حق المسلمين اختيار من شاءوا لهذا المنصب، وقد اختار المسلمون ابن البطون البار، وصاحب الرسول وصهره، أبا بكر الصديق، وقد اختاره الجميع ولم يعترض عليه إلا الولي وأهل بيت النبوة، وبنو هاشم وحفنة قليلة من أوليائهم! وقد قامت هذه النظرية عند ما انهارت نظرية قرابة النبي، بحجة أن أهل البيت هم الأولى بالنبي حياً وميتاً، وليس من مصلحة أحد أن يحرق نفسه ومستقبله فيقول للخليفة أو لقادة البطون: ما هي طبيعة هذه الشورى التي تجري في غياب علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة وبني هاشم وأكثرية الأنصار؟ وأكثرية المسلمين؟ وهل هذه شورى عندما تواجه هؤلاء جميعاً بأمر واقع وتقول لهم: إما أن تبايعوا أو تقتلوا أو تحرقوا، أو تحرموا من كافة حقوقكم! أهذه هي الشورى والاختيار بمفهومكم!؟
3 - التخلية، أو ترك الأمة بدون راع:
تجاهل قادة بطون قريش جميع الترتيبات الإلهية والنصوص الشرعية التي
4 - مقولة (حسبنا كتاب الله):
تعد هذه المقولة من أخطر المقولات اخترعها خلفاء البطون وأولياؤهم لإخراج النبي بذاته وفعله وقوله من دائرة التأثير على الحدث السياسي، ولإبطال جميع النصوص الشرعية التي أعلنها والمتعلقة بالقيادة أو الإمامة من بعده. وأول من نادى بهذه المقولة هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فعند ما شعر هو وأركان بطون قريش أن الرسول يريد أن يكتب توجيهاته النهائية، قدروا أن مواجهة توثيق الرسول الخطي عملية صعبة، وبالتالي فإن هذا التوثيق قد يقلب كافة مخططاتهم، لذلك استماتوا ليحولوا بين الرسول وبين كتابة توجيهاته النهائية.
لكن هذا حشد عمر أركان البطون ودخلوا إلى بيت الرسول في الوقت المحدد لكتابة توجيهاته النهائية، وما أن قال الرسول لأوليائه (قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبدا) حتى قال عمر لأوليائه: إن الرسول يهجر ولا حاجة لنا بكتابه، حسبنا كتاب الله. وعلى الفور ردد أركان البطون من خلف عمر: القول ما قاله عمر إن الرسول يهجر حسبنا كتاب الله!! وخلق عمر وأركان البطون مناخاً من الفوضى والاختلاف صارت الكتابة فيه أمراً مستحيلاً (1) وعند ما قبض أركان البطون على
____________
(1) وقد وثقنا ذلك راجع على سبيل المثال (كتابنا نظرية عدالة الصحابة) ص 286، وما بعدها.
وكان هدفهم واضحاً ومنصباً على طمس جميع النصوص التي تشير إلى الإمام من بعد النبي. وكان معاوية أكثر وضوحاً عند ما حصر المنع بالنصوص التي تذكر فضل (أبي تراب وأهل بيته)، على حد تعبيره.
الخلفاء المقدسون
نجحت البطون في تجاهل الترتيبات الإلهية المتعلقة بالقيادة، ونجحت بالاستيلاء على منصب الخلافة بالتغلب والقهر، وقبض خليفة البطون وأولياؤه على السلطة بيد من حديد، وحجموا كل من يعارضهم وعزلوه وحرموه ونكلوا بخصومهم، فقد هددوا علياً بن أبي طالب بالقتل، وهو ابن عم النبي وزوج ابنته البتول ووالد سبطيه، وشرعوا بإحراق بيت بنت الرسول فاطمة وهي سيدة نساء العالمين وفيه الحسن والحسين سبطا النبي، وهددوا بقتل سعد بن عبادة، ثم قتل بأمر الخليفة في ما بعد، مع أنه سيد الخزرج وحامل لواء النبي وموضع ثقته!
وقتلوا مالك بن نويرة، الصحابي الجليل الذي ولاه النبي أمور قومه، للاشتباه بعدم إخلاصه لخليفة البطون، وجردوا أهل بيت النبوة من جميع ممتلكاتهم ومن المنح التي أعطاها لهم الرسول حال حياته، وحرموهم من تركة النبي، ومن حقهم بالخمس، مع أنهم أحد الثقلين!
إذا كانت هذه معاملة البطون لعلية القوم وأشرافهم وأهل الدين والسابقة ممن يشتبهون بولائهم للخليفة فكيف تكون معاملتهم للمستضعفين وعامة الناس!؟
بهذه الأساليب الموغلة بالقسوة؟ وبالترغيب بالمال والجاه وبنصيب من السلطة، استقامت الأمور لدولة البطون وانقاد لهم الناس رغبة أو رهبة. لم تنتظر البطون طويلاً إنما جيشوا الجيوش لإشغال المسلمين بالحرب، وتوسيع رقعة الملك، ونشر الإسلام على طريقتهم. في هذا الوقت نفسه كانت شخصية النبي الفذة، وسمعته العطرة، وعدله العجيب، ومعاملته الفريدة لخصومه ومعارضيه، وتساويه بمستوى المعيشة نمط الحياة مع المملوكين، وسرعته المذهلة بتوحيد العرب ونقلهم من دين إلى دين، كانت قد شقت طريقها بين شعوب الدولتين الأعظم،
وبعد أن انتقل النبي إلى جوار ربه لم تتغير الأمور، فإذا رأى أحد الخليفتين أن سنة من سنن الرسول ليست مناسبة برأيه، فإنه يلغيها ويحل رأيه محلها فتصفق له البطون وتؤيده وتبعاً لتأييد البطون تؤيده القوى المنافقة، والمرتزقة من الأعراب، فتتعرى القلة المؤمنة وتنكشف، فتؤيده تبعاً لتأييد الجميع حفظاً لحياتها. كان الرسول يوزع بين الناس بالسوية وكذلك فعل أبو بكر، فجاء عمر فألغى سنة المساواة وأعطى الناس حسب منازلهم عنده. هذا مثال على ما أسلفنا، ومثال آخر، صعد عمر بن الخطاب يوماً على المنبر وخطب الناس قائلاً: (متعتان
ويأتي الأولياء والأنصار فيحشرون كل مواهبهم لتسويغ قرار الخليفة وإثبات عبقريته وحكمته. الناس اليوم إذا أرادوا أن يرمزوا للعدل قالوا: (عدل عمر)، ولا يقال عدل الرسول! مع أن رسول الله أعدل من مل ء الأرض من أمثال عمر. وما يعنينا أن هذه النظرية أسهمت في إرساء حكم البطون وإضفاء الشرعية على ما فعلت وكانت جزءاً من عقيدة متكاملة حاولت البطون وضعها لتسويغ ما فعلت.
نظرية عدالة جميع الصحابة
أ - الأسباب الموجبة لاختلافها:
اكتشفت البطون وهن نظرياتها، وعجزها عن تكوين عقيدة مقنعة، لها القدرة على دعم حكمها وتثبيته. لقد انهارت مقولة القرابة، فلم يعد بوسع عاقل في الدنيا أن يصدق أن بني تيم وبني عدي وبني أمية أقرب للنبي من بني هاشم!
مثلما انهارت نظرية الشورى، فالخليفة الغالب يعهد لمن يخلفه، ودور الأمة منحصر بمبايعته، وانهارت مقولة التخلية، لأن الخلفاء أنفسهم لم يعملوا بها، وعدوا موت الواحد منهم من دون تعيين من يخلفه كارثة! وانهارت مقولة حسبنا كتاب الله فكتاب الله لا يغني عن رسول الله فكلاهما متمم للآخر ومضى الخلفاء الراشدون ولم تبق إلا ذكرياتهم وحل محلهم خلفاء غير راشدين! لقد انهارت المفاصل الأساسية للنظرية التي بناها رواد البطون واقتصرت علاقة البطون - كطبقة حاكمة - بالمحكومين علي العطاء والسيف والمشاركة بالسلطة إنه حكم بلا عقيدة تذكر. وليس له أساس إلا ظواهر الشرعية لقد أدركت البطون أن نذر زوال حكمها قد أقبلت، وأن حكمها قائم على البطش والقوة، فإذا ولت القوة ولى حكمها، وآل إلى أعداء البطون الألداء: أهل بيت النبوة، وبخاصة أن (محمدا) قبل موته قد ربط أهل بيت النبوة بالدين ربطاً محكماً عبر شبكة من بيانه، حتى أن الصلاة لا تقبل من عبد مسلم إن لم يصل على محمد وآل محمد، والمسلمون جميعهم يعرفون حديث الثقلين الذي أعلنه النبي في غدير خم، فقد أكد النبي أن الهدى لن يدرك إلا بهذين الثقلين: كتاب الله وعترة النبي أهل بيته وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا
وقد مات الخلفاء المقدسون الذين أوتوا المكانة والجرأة لمواجهة أهل بيت النبوة علناً، وهزيمتهم وإذلالهم، ولم يبق لبطون قريش غير قوة الدولة، وهذه القوة ستعجز عن الوقوف أمام تميز أهل بيت النبوة ومرجعيتهم ومكانتهم في الدين وقربهم من الرسول. لكل هذا وجدت البطون نفسها مضطرة لاختلاق نظرية جديدة لتحل محل النظريات السابقة، وتكون بمثابة عقيدة يستند إليها حكم البطون وفي الوقت نفسه تكون أسلوباً عملياً لتحجيم دور أهل بيت النبوة، وتقزيم مكانتهم فاهتدوا لاختلاق نظرية عدالة كل الصحابة، بالمعنى الذي فهمه الخلفاء وأولياؤهم!
ب - أهداف اختلاقها:
تنحصر أهداف بطون قريش من اختراع هذه النظرية بما يلي:
1 - إيجاد عقيدة دينية سياسية يستند إليها حكم البطون، فتكون هذه العقيدة، مع القوة، ضمانة لوجود الدولة واستمرارها ومسوغاً شرعياً ظاهرياً لإقصاء أهل بيت النبوة عن حقهم في قيادة الأمة.
2 - القضاء التام على مكانة أهل بيت النبوة ومرجعيتهم من خلال إيجاد مرجعية كبرى أو مرجعيات دينية تقف على قدم المساواة مع مرجعية أهل بيت النبوة، والقضاء التام على تميز أئمة أهل بيت النبوة وتفويت الحكمة الإلهية من إعدادهم وتأهيلهم إلهياً لقيادة الأمة، فبموجب هذه النظرية يصبح إمام أهل بيت النبوة مجرد صحابي من جملة تسعمائة ألف صحابي! فعلي بن أبي طالب صحابي، وأبو سفيان صحابي! والوليد بن عقبة صحابي! وما قيمة معارضة أهل بيت النبوة جميعهم، ولا يتجاوزون الثلاثين أمام إجماع تسعمائة ألف صحابي؟!
وما قيمة فتوى إمام أهل بيت النبوة أمام تسعمائة ألف فتوى؟! أو فتوى يجمع على صحتها تسعمائة ألف صحابي!؟
وفي هذه الحالة يصبح أهل بيت النبوة شذاذاً
فأي عاقل في دنيا البطون يمكن أن يكذب تسعمائة ألف ويصدق ثلاثين!؟ أو يترك الكثرة والجاه والنفوذ والسلطة ويقف مع القلة الفقيرة المعدمة التي لا تملك إلا حقاً موضع شك واستنكار! ومن هنا كان اختراع نظرية عدالة الصحابة فيض عبقرية تفوق التصور والتصديق! وهي بحق أعظم النظريات التي اخترعها قادة البطون وأولياؤهم 3 - خلط الأوراق وتضييع الحقائق وتمييعها، وهذا الهدف من صميم مصلحة البطون، فالمعروف تاريخياً أن بطون قريش هي التي قاومت النبي طوال حقبة الدعوة في مكة بجميع وسائل المقاومة، وتآمرت على قتله وطاردته يوم هاجر إلى يثرب. ثم استعدت عليه العرب وجيشت الجيوش ودخلت معه في حرب مسلحة، ولم تتوقف عن حربه إلا بعد أحاط بها، فاستسلمت عسكرياً.
وبموجب نظرية عدالة الصحابة فإن أبناء البطون جميعهم يصبحون صحابة تماماً مثل الذين سبقوا إلى الإيمان، فالمهاجر كالطليق ومن قاتل النبي بجميع وسائل القتال طوال 23 عاماً تماماً مثل الذي قاتل مع النبي، لا فرق بينهما فهي سواسية كأسنان المشط. فالجميع صحابة، وفتوى الصحابي الجليل الذي رافق النبي طوال حياته تماماً كفتوى الصحابي الطليق الذي قاتل النبي حتى أحيط به وبقي يجهل أحكام الدين. والخليفة والفقيه حر في اتباع فتوى أي صحابي! كان للدين مرجع واحد خلال حياة النبي وهو النبي نفسه، وبعد وفاة النبي إمام أهل بيت النبوة، وباختراع نظرية عدالة الصحابة صار للدين عملياً تسعمئة مرجع، فاختلطت الأوراق وضاعت الحقائق، وتغيرت المواقع، فتقدم المتأخرون الذي قاوموا الإسلام وحاربوه خلال 21 عاماً من عهد النبوة، وتأخر المتقدمون الذين قامت دولة الإسلام على أكتافهم وتحملوا أعباء المواجهة، فصار معاوية بن أبي سفيان أميراً وهو الطليق ابن الطليق وأحد رؤوس الأحزاب، وابن قائد الأحزاب! وصار علياً بن أبي طالب مأموراً، وهو فارس الإسلام الأوحد في كل معاركه، وابن عم النبي وزوج ابنته البتول، ووالد سبطيه وولي الأمة وقائدها الشرعي، وفوق ذلك
فمعاوية يتكلم وعلى علي بن أبي طالب أن يصغي! وصار مروان بن الحكم أميراً وخليفة للمسلمين، وهو اللعين بن اللعين في كتاب الله وعلى لسان رسوله، وصار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو مأمورين وعليهما أن يطيعا، ومن لا يطيع يرفسه مروان حتى يكسر أضلاعه ويترك في حالة بين الموت والحياة، كما فعل بعمار، ويخرج أبو ذر الصحابي الجليل مذموماً مدحوراً منفياً من مدينة الرسول من دون أن يقوى أحد على توديعه! لقد سوغت نظرية عدالة الصحابة جميع أفعال البطون التي تغضب وجه الله الكريم وجعلت عالي كل سافلة فحل الظن والتخمين محل الجزم واليقين، واختلطت الأمور اختلاطاً عجيباً، فصار الجاهل عادلاً تماماً كالعالم والمقتول عادلاً تماماً كالقاتل، وصار ولي الله كالفاسق تماماً، فالوليد بن عقبة فاسق بنص القرآن، وعلي بن أبي طالب مؤمن وولي لله بنص القرآن، ولكن بموجب نظرية عدالة الصحابة صار الوليد بن عقبة تماماً كعلي فكلاهما صحابي وكلاهما من العدول، ولأن الوليد بن عقبة معروف وأبوه بعداوتهما لرسول الله وأهل بيته، فقد تقدم الوليد وتأخر علي فكأن مفتاح التقدم هو عمق العداوة لرسول الله وأهل بيته، فكل الذين أبرزهم الخلفاء كانوا بارزين بعداوتهم لرسول الله.
4 - نظرية عدالة كل الصحابة تستفيد منها الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة، فبموجب هذه النظرية التي اخترعها قادة البطون، صار كل الشعب صحابة: الرجال والنساء والأطفال، والعرب والموالي، الأعمى والبصير، وأعلنت عدالة هؤلاء جميعهم بمختلف وسائل الإعلام. فمن المعروف أن جميع سكان الجزيرة - ما عدا جزء من اليهود - قد أسلموا أو تظاهروا بالإسلام، ولم يمت الرسول وفي الجزيرة شخص واحد يجهر بشركه، فالكل قد أسلم على يد الرسول أو تظاهر بالإسلام والكل قد شاهد الرسول أو سمع منه أو رآه، وهذه هي المعايير التي وضعتها البطون للصحبة بمعنى أن كل الشعب كان مسلماً وكل الشعب كان صحابة (1)!
____________
(1) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 13 وما بعدها. تجد التفصيل والمراجع.
ورضيت الأكثرية الساحقة من الشعب بهذا الاختراع وصارت لها مصلحة في حكم دولة البطون، وتعاونت منة عدالة كل الصحابة مع منن العطايا والصلات والمشاركة بالسلطة والنفوذ، وحققت لبطون قريش مرادها ومناها إذ صار لها عقيدة دينية يتبناها الشعب كله إلا شر ذمة قليلة! وتم عزل أعداء البطون (أهل بيت النبوة) عملياً، ونكلت بهم السلطة تنكيلاً من دون استنكار يتناسب مع حجم هذا العزل والتنكيل. وصار الولاء لدولة البطون مقياس الشرف ومفتاح الأمن والخير في الدنيا، وصار أهل بيت النبوة مجرد قلة قليلة أو عدد محدود جداً من الصحابة من شعب كله صحابة! وجميع أفراده عدول! ولم يتغير وضع أهل بيت النبوة بعد موت جميع الصحابة، فصار لأولاد أهل بيت النبوة المقام نفسه الذي كان لآبائهم في مجتمع الصحابة الذي صنعت البطون عقائده ورؤاه!
ج - معاوية بن أبي سفيان يضفي على النظرية طابعاً دينياً
معاوية من أكثر الناس حقداً على أهل بيت النبوة، فقد قتل علي بن أبي طالب وحمزة عم النبي أخاه وجده وخاله وابن خاله شقيق جده وتسعة من شيوخ بني أمية، لذلك كان قلبه وقلب أبيه وقلب أمه وأكثرية قلوب البيت الأموي طافحة بالحقد الأسود على محمد وعلى آل محمد وعلى البيت الهاشمي بعامة. فقاد أبوه مقاومة محمد. وعندما أحيط بهم، وسقطت عاصمة الشرك، وأغلقت كل الأبواب، ولم يبق إلا باب الإسلام، استسلم أبو سفيان وبنوه وأقاربه وأسلموا أو
وفي عهد عثمان أصبح معاوية ملكاً حقيقياً على أعظم ولاية من ولايات دولة البطون الكبرى، ولكنه ملك غير معلن، ولما قتل الخليفة الثالث، وآلت الأمور إلى علي بن أبي طالب قاتل الأحبة جن جنون البطون، وأصحاب الامتيازات والمنافقين. فنهد معاوية وصمم على مواجهة الإمام علي وعلى قيادة الجموع الحاقدة على آل محمد وأهل بيته، ولكن تحت خيمة الإسلام فرفع شعار (معاقبة قتلة الخليفة عثمان) وكان قد أعد واستعد لهذه المواجهة، واختياره والياً لأعظم الولايات الإسلامية وإطلاق يده في ولايته هو من قبيل إعداد الخلفاء لهذا الرجل، وتجهيل معاوية لأهل الشام وجمعه الأموال الطائلة وتجنيده إياهم هو من قبيل الأعداد.
كان سكان ولاية بلاد الشام يجهلون الدين وتاريخه وبناته، ولا يعرفون من ذلك إلا القشور التي ألقاها لهم معاوية، وكانوا بمثابة جند مجندة له يأمرهم فيطيعوا ويمكن أن يصلي الجمعة فيهم يوم الأربعاء كما فعل! لقد كان معاوية موضع ثقة الخلفاء الثلاثة ورجلهم الذي أعدوه لمواجهة (طموحات وطمع أهل بيت النبوة بالرئاسة). وليس من المستبعد أنهم قد استفادوا من دهاء معاوية وذكائه
1 - أن يقدموا العطايا والصلات ويمنحوا المنح والإقطاعات وأن يقربوا كل من يروي في فضائل عثمان والخلفاء، فتسابق الناس على الرواية في فضل الخلفاء وفضائل عثمان بخاصة وتكفلت وسائل إعلام دولته بنشر هذه المرويات وتصميمها على الناس حتى استوعبها الجميع: الخاصة والعامة، الرجال والنساء، السادة والعبيد، الكبار والصغار، ووضعت هذه المرويات الخلفاء بعامة وعثمان بخاصة في موضع لا يدانيه الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون!
2 - لما وصلت تلك الروايات إلى حد الإشباع والاستيعاب، وفاقت حدود التصور والتصديق، أمر معاوية جميع عماله في مختلف الأقاليم، أن يوقفوا الرواية
(أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم!!) وهكذا صار للأمة تسعمئة ألف نجم، ويمكن للأمة أن تنقسم إلى تسعمئة ألف قسم، لتسير في تسعمئة ألف اتجاه. ومع هذا تكون مهتدية! ومرة أخرى، تكلفت وسائل إعلام الدولة بنشر هذه المرويات، وتعميمها على الناس حتى استوعبها الجميع وصارت عقيدة لكل أفراد الأمة، مع أن الأكثرية الساحقة من هذه الأحاديث مختلفة ولا أساس لها من الصحة إطلاقاً، ومعاوية وولاته يعلمون ذلك ويدعمونه! قال ابن عرفة، المعروف بنفطويه، وهو من أكابر المحدثين: (إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم) (1).
3 - واستكمالاً لبناء عقيدة دولة البطون، وتوضيحاً للهدف من اختلاق نظرية عدالة جميع الصحابة، وبعد أن تأكد معاوية وأركان دولته أن بحار الروايات الكاذبة في فضل عثمان والخلفاء والصحابة والتي اختلقوها على رسول الله قد غمرت المجتمع، وأروت الأرض، وأن الناس جميعاً حفظوها واستوعبوها، واقتنعوا بها أو تظاهروا بالاقتناع، أدرك معاوية أن نظرية عدالة جميع الصحابة صارت بالفعل عقيدة رسمية للأمة وأن الصحابة مجتمعين قد صاروا مرجعية بديلة من مرجعية أهل بيت النبوة، وصار كل واحد من الصحابة له القيمة نفسها التي أعطاها النبي لإمام أهل بيت النبوة! عندئذ أدرك معاوية أن الحلقة لن تكتمل إلا إذا مزق رداء الهيبة والقداسة الذي خلعه الشارع الحكيم على إمام الأمة علي بن
____________
(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 97 تحقيق حسن تميم.
أ - (لا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب [ علي بن أبي طالب ] إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله). وأنت ترى أن معاوية وعماله يقودون حملة اختلاق واضحة هدفها إبطال مفاعيل النصوص الشرعية الواردة في علي، فانطلقت طواقم رواة الدولة تختلق على رسول الله، وتتقول عليه، فلم تترك نصاً قد ورد في علي بن أبي طالب إلا ووضعت نصاً ينقضه ويسلب هذه الفضيلة أو تلك من علي ويعطيها لأحد الخلفاء أو لأحد أبناء البطون أو الموالي عند اللزوم. والمهم ألا تبقى تلك الفضيلة لعلي أو لأحد من يواليه! وتفنن الرواة المؤهلون وفاض المجتمع الإسلامي برواياتهم الكاذبة، وقدمت وسائل إعلام الدولة هذه الروايات بوصفها الحقائق بعينها ودرستها الدولة مع بقية المرويات في كل كتابتها ومدارسها وجامعاتها وصار استيعابها طريق الرزق ب - أصدر معاوية (مرسوماً ملكياً) يقضي بلعن علي بن أبي طالب على كل منبر، ونفذ مرسوم معاوية، فلعنه الولاة والرواة والحواشي ثم لعنته الأمة كلها، وصار الشيطان في نظر الرأي العام أقرب إلى الله من علي بن أبي طالب. لقد أحلت قيادة البطون علياً محل الشيطان، فاستفتحت بلعنه كل شئ! مع أنه على الأقل صحابي، والصحابي حسب ظاهر عقيدة البطون مقدس!
ج - وتثبيتاً لهذه العقيدة التي اخترعتها البطون ألحق معاوية (مراسيمه) السابقة بسلسلة متكاملة من (المراسيم الملكية) طلب فيها من ولاته ما يلي:
1 - انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه. 2 - من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره) (1).
____________
(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد: 3 / 596.
د - نظرية عدالة جميع الصحابة عقيدة الدولة
نجح معاوية وولاة أقاليم دولته في تكوين آلاف الطواقم من الرواة المؤهلين الذي يتقاضون رواتبهم وعطاءاتهم من تلك الدولة ويروون لها ما تريد. وقد نجحت هذه الطواقم في اختلاق عشرات الآلاف من الأخبار والأحاديث في فضل عثمان والخلفاء، ثم نجحت، في اختلاق عشرات الآلاف من الأخبار والأحاديث في فضل الصحابة مجتمعين، ونجحت، أيضاً، في اختلاق مئات الألوف من الأخبار والأحاديث في فضل أفراد الصحابة، وفي تخصيص المئات أو العشرات منها لكل صحابي منهم.
ونجح الرواة، كذلك في التشكيك بجميع النصوص الشرعية الواردة في فضل علي بن أبي طالب بخاصة وأهل بيت النبوة بعامة، واختلاق الأحاديث المناقضة لها، والأحاديث التي تعطي فضائل مشابهة لها للمئات من الصحابة.
لقد كان عمل الرواة مجزياً فبدو كأنهم يعملون في منجم ذهب! لقد بذل معاوية مئة ألف لمن يروي حديثاً بأن آية (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) [ البقرة / 204 ] قد نزلت في علي بن أبي طالب! وبذل أضعاف هذا المبلغ لاختلاق أحاديث تشيد بفضائل عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي! ولك أن تعرف حجم هذا الإغراء على أفراد أمة تعتمد حياتهم على عطاء الدولة ورزقها الشهري! فإذا أضفت إلى هذه كله إمكانيات دولة عظمى و عزمها المؤكد على سحق من يعارضها بلا رحمة، فلا توجد موانع ولا حواجز تحجز قوة الدولة عن البطش بمعارضيها، فحجر بن عدي الصحابي الجليل المشهور رفض أن يسب علياً بن أبي طالب هو ومجموعة من أصحابه، فسيرهم الوالي إلى معاوية بهذه التهمة، ومن دون أن يسمع منهم معاوية كلمة واحدة ومن دون محاكمة أمر بإعدامهم وأعدموا بالفعل!
ولنفترض أن مجموعة من المعارضين دخلوا الكعبة، وهي أقدس مقدسات المسلمين، وهي بيت الله من دخله كان آمناً، ومع هذا فإن الدولة لن تتورع عن هدم الكعبة نفسها على رؤوس المعارضين، وقد هدمت بالفعل في زمن الخليفة
وعند ما تجمعت جميع هذه الأحاديث والأخبار أمرت الدولة جميع الكتاتيب والمدارس والجامعات ورجال العلم بتعليمها لكافة الناس الخواص والعوام، العرب والموالي الرجال والنساء، الكبار منهم والصغار، حتى استوعبها الناس جميعاً، وصار بمثابة عقيدة سياسية أو منهاج تربوي وتعليمي كالمناهج التي تتبناها كل دولة من الدول المعاصرة، وتدرسها رسمياً في روضاتها ومدارسها ومعاهدها وجامعاتها. لقد صارت نمط تفكير، وطراز حياة ثقافية، وصارت جزءاً من القوانين النافذة يعمل بها الولاة والقضاء وأرباب الفتوى. وباتت جزءاً من وثائق الدولة، تبقى ملتصقة بها بوصفها مؤسسة حتى وإن تغيرت الحكومات، أو تبدل الخلفاء وظلت هذه العقيدة تتعمق في نفوس الجميع وتتوطد طوال ألف شهر يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل وبعد سقوط الدولة الأموية، لم يسقط المنهج التربوي والتعليمي الذي توطد خلال مدة الحكم الأموي، على أساس عقيدة نظرية عدالة جميع الصحابة ولم تحرق وثائق الدولة الأموية بسقوطها، بل آلت هذه الوثائق التي تشتمل على مضمون النظرية إلى الدولة العباسية.
خلال هذه المدة، تكونت عند الناس قناعة بأن هذه الأحاديث والأخبار صحيحة فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق. ولو علمت الأجيال اللاحقة أنها
____________
(1) راجع سنن أبي داود 4 / 209 ح 4641، ومعالم الفتن لسعيد أيوب 2 / 334.
ه - مفهوم معاوية ل (الصحابة)
نتيجة روايات طواقم رواة معاوية وولاته، ونتيجة دولة البطون لهذه المرويات، واعتبارها منهاجاً تربوياً وتعليمياً للدولة وجزءاً من قوانينها النافذة كما بينا، تكونت نظرية عدالة جميع الصحابة، وألقت أجرانها في الأرض، وصورها معاوية وأولياؤه كأنها جزء من الدين. ومع ضغط وسائل أعلام الدولة وسيطرتها التامة على مناهج التربية والتعليم، وسطوتها الاقتصادية، ونفوذها القوي ألقي في روع العامة أن هذه النظرية بالفعل جزء لا يتجزأ من الدين. وعلى فرض أن بعض الخاصة قد اكتشفت زيف هذا التصور، فهو غير قادر على الجهر باكتشافه لأنه في هذه الحالة سيدخل في مواجهة دولة لا قبل له بها، ثم إنه ليس بوسع معلم المدرسة إلا تدريس الكتاب الذي قررته الدولة! وليس بوسع القاضي إلا أن يطبق القانون الذي وضعته الدولة، وليس بوسع الوالي إلا أن يلتزم بتوجه الدولة. ووفق هذا التصور صار التعريف العام للصحابي كما يلي: (من لقي النبي مؤمناً به ومات على الإسلام) ويدخل في هذا التعريف: 1 - من طالت مجالسته للنبي أو قصرت، 2 - من روى عنه أو لم يرو، 3 - من غزا معه أو لم يغز، 4 - من رآه ولم يجالسه، 5 - من لم يره لعارض، 6 - الجن الذي سمعوا النبي صحابة أيضاً والمنافقون الذين قالوا: آمنا وهم لا يؤمنون وهم الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر والعصيان هم صحابة أيضاً، لأن العبرة تكمن بالإسلام أو التظاهر به ومجالسة النبي أو سماعه، أو رؤيته. وإذا عرفت أن النبي لم ينتقل إلى جوار ربه، وفي الجزيرة إنسان واحد يجهر بشركه، لعلمت أن جميع أفراد الشعب كانوا، وفق هذا المفهوم، صحابة!
وهذا يشمل المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام والإيمان والمجرمين الذين أقام
ولا يكفي هذا حتى تحصل على مزايا الصحبة بل يجب أن يكون موالياً لدولة البطون ومؤمناً بكل معقولاتها، وكارهاً لأعدائها فإذا كان هذا الصحابي أو ذاك أول من أسلم، وسكن طوال حياته مع الرسول في بيت واحد، ومتزوجاً من ابنة الرسول، ومن أعلم الناس بما جاء به، ولكنه لا يوالي دولة البطون، ولا يؤمن بمقولاتها ولا يكره أعدائها، فهو عملياً ليس صحابياً بل يعامل معاملة الشيطان فيلعن ويشتم من قبل الحكام والمحكومين على السواء، كما فعلوا بعلي بن أبي طالب، وبسبطي النبي: الحسن الحسين وهم جميعاً صحابة وفق معايير معاوية وأركان دولته!
و لنفترض أن أحداً من الصحابة امتنع عن لعن أعداء دولة البطون أو شتم أولئك الأعداء فلا يعد من الصحابة ولا فضائل ولا كرامة له ولا قيمة لحياته فيقتل فوراً ومن دون محاكمة كما فعلوا بحجر بن عدي وأصحابه، وبعمرو بن الحمق!
فالعبرة فوق الصحبة بمعاييرها السابقة الولاء لدولة البطون ومعاداة أعدائها، فالصحبة وحدها لا تقدم ولا تؤخر! ولنفترض أن أحداً من الصحابة بمفهوم معاوية لعنه الرسول ونفاه ومات الرسول وهو غاضب عليه، ولكنه موال لدولة البطون ومؤمن بمقولاتها وكاره لأعدائها فيصبح من المقربين وله الحق في أن يصبح خليفة النبي، وأن تتولى ذريته الخلافة من بعده، كما حدث لمروان بن الحكم بن العاص! وإذا كان هذا الصحابي فاسقاً بنص القرآن ويشرب الخمر علناً ويصلي بالناس وهو سكران، ولكنه موال لدولة البطون وكاره لأعدائها فهو أيضاً صحابي من العدول منزه تماماً عن الطعن، كما هي حال الوليد بن عقبة. بمعنى أن مجالسة الرسول أو رؤيته أو سماعه ليست كافية للحصول على صفة العدالة والنزاهة، وليست فضيلة تنزل صاحبه في المنزلة الرفيعة، بل يجب أن يقترن هذا كله بالولاء لدولة البطون والقول بمقولاتها، والتعبد بكراهية أعدائها!
فإذا ثبت أن أحداً من الصحابة يحب عدو دولة البطون علياً بن أبي طالب،
____________
(1) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 12 وما بعدها لتجد المراجع والتفصيل.