الصفحة 162
أو يحب أهل بيت النبوة، أعداء دولة البطون، فهو ليس صحابياً، ولا يعد مسلماً ولا يعامل معاملة المسلمين، ولا تقبل شهادته ويمحى اسمه من ديوان العطاء، ثم يهدم منزلة ثم يقتل كائناً من كان (1)!

و - امتيازات الصحابة في مفهوم معاوية وأوليائه

إذا ثبت أن هذا الشخص أو ذاك جالس الرسول، أو رآه، أو سمعه، وثبت أنه موال لدولة البطون، ومؤمن بمقولاتها وكاره لعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة فهو صحابي جليل، وهو عادل لا يجوز عليه الكذب والتزوير، ولا يجوز تجريحه مهما فعل وهو مرجع بحد ذاته عملاً بالحديث المكذوب على رسول الله (أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم) (2) وتصبح للصحابي، في هذا المفهوم، سنة، قال أبو حنيفة: (إذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله أخذت بقول أصحابه، فإذا اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذ بقول من شئت، وادع من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين). وجاء في أعلام الموقعين لابن القيم الجوزية: أن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة: 1 - النص، 2 - فتوى الصحابي، مذهب الأحناف والحنابلة إلى تخصيص عموم القرآن الكريم بعمل الصحابي، لأن الصحابي لا يترك العمل بعموم الكتاب إلا لدليل، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص، وقول الصحابي بمنزلة عمله (3). ومن الطبيعي أن الروايات التي روتها (طواقم معاوية) والفضائل التي اختلقتها تلك الطواقم للصحابة تكمن وراء هذه المكانة المقدسة وهذا التعميم والخلط، فكلها ثمرات مرة استقرت في ضمائر العامة نتيجة طبيعية لنظرية عدالة جميع الصحابة التي أرسى قواعدها معاوية، لغاية محددة وواضحة تتلخص بالقضاء على مكانة أهل بيت النبوة الدينية والقيادة وجعلهم مجرد أفراد ضمن مجموعة كبرى تربو على تسعمئة ألف صحابي وصحابية!

____________

(1) راجع شرح نهج البلاغة 3 / 595 - 597، تحقيق حسن تميم وادرس مراسيم معاوية الملكية.

(2) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 20 تجد التفصيل والمراجع.

(3) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 55 وما بعدها.

الصفحة 163
والخلاصة أن الصحابة من أهل الجنة ولا يدخل أحد منهم النار!!.

ز - جزاء من يشكك بهذه النظرية

يقول أولياء معاوية: (إذا رأيت الرجل ينقص أحداً من أصحاب رسول الله، فاعلم أنه زنديق، والذين ينقضون أحداً من الصحابة على الإطلاق بالمعنى الذي وضحناه زنادقة، والجرح أولى بهم، ومن عابهم أو انتقص منهم، فلا تواكلوه، ولا تشاربوه، ولا تصلوا عليه) (1). ولكن أولياء معاوية لا يقولون لنا لماذا قتل معاوية خيار الصحابة، ولماذا جعل مسبة بعضهم واجباً رسمياً على كل أفراد رعيته!؟ فهل ينطبق هذا الحكم على معاوية؟ وعلى أوليائه؟ ثم إن القرآن الكريم نعت بعض الصحابة - بمفهوم معاوية وأوليائه - بالفاسقين كحال الوليد بن عقبة، ونعت بعضهم بالمنافقين كحال عبد الله بن أبي، ومردة النفاق في المدينة ومن حولها من الأعراب، واكتمل القرآن ومات الرسول ولم تنسخ هذه الأحكام فهل نترك الوصف الإلهي بنفاق هذه الفئات وفسقها ونتبع وصف معاوية وأوليائه!؟. ثم إن الرسول الكريم قد أخبرنا أن بعض الصحابة سيرتدون على أعقابهم القهقري، وسيبدلون ويغيرون فكيف توفق بين أحكام معاوية وأوليائه وبين أحكام الله و رسوله!؟ ثم إن روح الدين تركز تركيزاً مكثفاً على حسن الخاتمة، فإذا استقام صحابي وفي أواخر عمره انحرف ورجع عن دينه فما هي الفائدة من استقامته الأولى، لأن المدار يتمثل من خواتيم الأمور (2) ولو سألتهم من الذي وضع هذه العقوبات؟ ومن الذي أعطاه صلاحية وضعها؟ وهل يملك فرض مثل هذه العقوبات؟ لأبلسوا ولاتهموك بالزندقة!

محاولات لتعديل هذه النظرية

اكتشف عمر بن عبد العزيز أن نظرية عدالة جميع الصحابة، تشكل استهتاراً بالعقل البشري، ففي وقت يطول أو يقصر سيزول الحكم الأموي، وسيعلم المسلمون أن علياً بن أبي طالب هو ابن عم النبي وزوج ابنته البتول، ووالد سبطيه،

____________

(1) راجع كتاب الكبائر للذهبي ص 238، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 21.

(2) راجع نظرية عدالة الصحابة ص 5 وما بعدها، واقرأ نقضنا العلمي لهذه النظرية.


الصفحة 164
وفارس الإسلام، وأعلم الناس بالدين، إضافة إلى أنه صحابي! ولعن من كانت هذه صفاته مهزلة مشينة يترفع عن السقوط فيها عقلاء الكفرة والمشركين. لذلك صمم على إلغاء سنة لعن علي بن أبي طالب، فقاومه أولياء دولة البطون، ولكن الخليفة الفاضل نجح وألغى سنة اللعن!

واستغرب الخليفة عمر بن عبد العزيز موجات الاندفاع للرواية بفضل عثمان والخلفاء، ثم بفضل الصحابة جميعاً، ثم بنقض فضائل علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة، وقصر الرواية عن الرسول الله على هذه الأمور فقط، واكتشف الخليفة أن أبا بكر وعمر وعثمان قد منعوا رواية أحاديث الرسول وكتابتها لغاية في نفس يعقوب قضاها ثم أصبح هذا المنع سنة، وأدرك الخليفة أن سنة المنع إن بقيت سارية سيندثر العلم، وسيختفي البيان النبوي نهائياً، لذلك أصدر أوامره برواية أحاديث الرسول وكتابتها، فجن جنون أولياء دولة البطون وعلمائها وقالوا للخليفة بصراحة: كيف تلغى سنة أبي بكر وعمر وعثمان؟ أصر الخليفة على تنفيذ قراره فأصدر أمره لواليه على المدينة بالشروع في رواية أحاديث الرسول وتدوينها، ومرة ثانية، نجح الخليفة عمر بن عبد العزيز في إلغاء إحدى سنن خلفاء البطون المقدسين!

ولكن الخليفة الفاضل وقف عاجزاً أمام تلك السيول من فضائل الصحابة التي اجتاحت مجتمع الدولة ; إذ ليس بإمكانه أن يشكك بتلك الروايات التي صارت منهاجاً تربوياً وتعليماً للمجتمع والتي حفظها الجميع كما يحفظون القرآن وصارت حقوقاً مكتسبة للصحابة وللرواة معاً! فلو قال مثلاً: أن هذا الحديث الذي يضع فضائلاً لأبي بكر وعمر وعثمان غير صحيح أو كاذب أو مختلق على رسول الله لجن جنون علماء دولة البطون وعدوه كافراً. والخليفة، بذكائه وفطرته النقية، يعلم ذلك علم اليقين. لذلك تجاهل تلك السيول من الروايات، وانصب جهده على إدارة شؤون الدولة ورفع بعض المعاناة عن أهل بيت النبوة، وترويض مجتمع الدولة للتسامح ومعاملة أهل بيت النبوة كغيرهم من أبناء المجتمع!

وجرت محاولات لتضييق نطاق النظرية، وقال المارزي في شرح البرهان:

(لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول كل من رأى النبي يوماً أو رآه لماماً أو اجتمع به

الصفحة 165
لغرض وانصرف عن كثب، وإنما نعني الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). واكتشف أولياء معاوية أن هذا القول يهدم نظرية عدالة جميع الصحابة التي بناها معاوية هدماً كاملاً، ويخرج الأكثرية الساحقة من أبناء البطون من الصحبة، لذلك قال الشيخ صلاح الملاني: هذا قول غريب، يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة، وقال ابن جرح:

قول المارزي اعترض عليه الفضلاء وهو غير صحيح، والأصوب هو ما وضحناه قبل قليل تحت عنوان (من هو الصحابي بنظر معاوية)!!

ورأى آخرون أن مسبة علي بن أبي طالب، وكراهية أهل بيت النبوة ليست شرطاً لصحبة الصحبة حسب مقاييس نظرية عدالة جميع الصحابة! وأبعد من ذلك فقد اعترفوا بأن علياً بن أبي طالب وأهل بيت النبوة الذين عاصروا النبي صحابة كغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومحبة أهل بيت النبوة واجبة على الجميع لأنهم صحابة كرام كغيرهم! وسنة مسبة أهل بيت النبوة وعزلهم والتشنيع عليهم ومحو أسماء أوليائهم من ديوان العطاء وقتلهم وهدم دورهم ليست موجهة لأهل بيت النبوة إنما هي موجهة لحزب أهل البيت أو شيعتهم! وهي من قبيل اجتهادات الصحابي معاوية وأولياؤه، والمجتهد مأمور!

لم تصدر من معاوية بن أبي سفيان هذه التوضيحات. وإنما اخترعها أولياؤه ليصححوا ما اعتقدوا أنه يجلب الانقاد له، وليثبتوا نظرية عدالة جمع الصحابة التي بدأت تهتز وتتهاوى.

* * *

الصفحة 166

الصفحة 167

الفصل الثاني
الصحابة والصحبة في مفهوم أهل بيت النبوة وشيعتهم

بعد أن ربطنا نظرية عدالة جميع الصحابة بالوقائع التاريخية والدينية والسياسية، وبعد أن استعرضنا مفهوم هذه النظرية عند حلفاء دولة البطون وأوليائهم (أهل السنة)، يبدو لزاماً علينا، استكمالاً للبحث وإغلاقاً لدائرته، أن نعالج مفهوم هذه النظرية عند أهل بيت النبوة وأوليائهم (شيعتهم).

مفهوم الصحبة والصحابة

بالاستقراء اللغوي الدقيق، تبين أن كلمة صاحب وصحبة لا تطلق إلا على من طالت مجالسته، ولكنها اصطلاحاً، وحتى في القرآن الكريم، من العموم والسعة والشمول بحيث أنها تشمل كل من صحب النبي طالت مجالسته له أم قصرت، وتشمل من رآه، أو سمع منه على اعتبار أن الرؤية والسماع نوع من الصحبة العابرة، ما يعني أن أصحاب النبي على العموم هم جميع أفراد الأمة الإسلامية، فما من فرد منهم إلا وقد أسلم على يديه أو تظاهر بالإسلام، وما من فرد إلا وقد رآه أو سمع منه. فإذا كان مناط الصحبة الإسلام، أو التظاهر به ورؤية النبي أو سماع صوته، فإن كل فرد شعب دولة النبي قد أسلموا أو تظاهروا بالإسلام وشاهدوا النبي أو سمعوا صوته، تلك حقيقة لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر، والخلاف على سعة نطاق الصحبة أو ضيقها غير مجد. فالصحبة، في هذا المفهوم الواسع، لا تقدم ولا تؤخر، إنما ينحصر الخلاف في الامتيازات أو في وصف العدالة والنزاهة إطلاقاً.

جوهر الاختلاف بين المفهومين

خلفاء دولة البطون وأولياؤهم (أهل السنة) يؤمنون بأن كل من أسلم أو تظاهر بالإسلام ورأى النبي أو سمع منه، أو جالسة، هو صحابي جليل منزه عن الكذب والتزوير، ومن العدول وهو من أهل الجنة، ولا يدخل النار، وبالتالي لا

الصفحة 168
يجوز جرحه، لأنه من العدول، فالله سبحانه وتعالى قد تولي تعديله، ومن المستحيل أن يتعمد الصحابي الخطأ، ففي كل أحواله مأجور لأنه بين مصيب للحق أو مجتهد فيه والمجتهد مأجور في الحالتين، والعلة في ذلك كله تكمن في صحبته للرسول بالمعنى المنوه به آنفاً!

بينما يؤمن أهل بيت النبوة، وشيعتهم تبعاً لهم، بعدم صواب اعتقاد خلفاء البطون وأولياؤهم، وعدم شرعية هذا الاعتقاد لأنه خاطئ من جميع الوجوه، ويتعارض مع القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بفروعها الثلاثة، ومناقض لتاريخ دعوة النبي و دولته، ومع الروح العامة للدين، ومع حسن الخاتمة بل ويتعارض مع أحكام العقل السليم والفطرة النقية!

برهان أهل بيت النبوة وشيعتهم

الصحابة في مفهوم الخلفاء وأوليائهم، هم جميع أفراد شعب دولة النبي بالمعنى الدستوري للشعب، باستثناء الطائفة اليهودية المحدودة التي تمسكت بدينها، ولم يكرهها الرسول على تركه. وبالرغم من حالة التجانس الظاهري لشعب دولة النبي إلا أنه في الحق والحقيقة يتكون من مجموعة من الفئات غير المتجانسة، بل والمتميز بعضها عن بعض الآخر تميزاً لا يخفى على من فهم حقيقة الأمور.

فئات الشعب في دولة النبي

1 - الفئة المؤمنة: وهي الفئة التي أسلمت عن قناعة لإيمانها الكامل بصدق النبي وصواب ما جاء به، لذلك التفت حوله وأطاعته، ووضعت نفسها تحت تصرفه، والتزمت التزاماً دقيقاً بأحكام دينه، وواجهت معه العرب. لم تستوحش لقلة ناصرية، ولم ترهب كثرة أعدائه ولم تخرج عن خطه حتى فارق الدنيا وهو راض عنهما. وبعد موته لم تعصياه إنما تمسكت بالثقلين وأطاعت من أمر بطاعته، وفارقت الدنيا وهي على هذا الخط لا تحيد.

أولئك هم المؤمنون حقاً، وأولئك هم الصحابة العدول الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وهم قمم أبناء الجنس البشري، فأهل بيت النبوة يحبون هذه الفئة

الصفحة 169
ويدعون لأفرادها في جميع صلواتهم وكذلك تفعل شيعتهم، فهؤلاء عدول لأن الله عدلهم، ولأن أعمالهم عدلتهم، ولأن خاتمتهم كانت الحسنى. وهذه الفئة كانت موجودة في عهد الرسول، وبقيت موجودة بعد انتقاله إلى جوار ربه، لكنها في الحالتين كانت قليلة، حقاً قليلة، ولا ينكر وجودها إلا جاهل أو مكابر أو مريض، وهذه الفئة تعد جزءاً لا يتجزأ من الشعب في دولة النبي، بل هي العمود الفقري لهذا الشعب.

2 - الفئة المنافقة: وتتألف من قسم كبير من أهل المدينة، وهم مردة النفاق، ومن الكثير ممن يسكنون حول المدينة، ومن الكثير من أهل مكة وبالتحديد من أبناء البطون القريشية التي قاومت النبي وحاربته 23 عاماً، ولما أحيط بها تظاهرت بالإسلام، ومن الكثير من أبناء القبائل العربية الذين مروا في ظروف مشابهة لظروف أبناء بطون قريش وقد عرفوا جميعاً بالمنافقين: أظهروا الإسلام، وقاموا بجميع الواجبات التي كلفهم بها الإسلام، فصلوا وصاموا وحجوا ونطقوا بالشهادتين واشتركوا في بعض غزوات النبي أو اعتذروا، وتظاهروا بطاعة النبي، وبقبول ولايته وبتصديقه، وجالسوه وسمعوه وهو يتكلم، لكن قلوبهم كافرة به وبدينه وبكل ما جاء به.

وهم يعتقدون أن النبي حاشاه كذاب، وطالب ملك، لكنهم لا يجرؤون على إظهار كفرهم لأسباب أوضحنا بعضها. هؤلاء صحابة في مفهوم الخلفاء وأوليائهم، فكل وأحد من المنافقين قد أسلم ونطق بالشهادتين، وقام من حيث الظاهر بكل الواجبات، وجالس النبي، وطالت مجالسته، وسمع من النبي وطال سماعه، ورأى النبي وتعددت هذه الرؤية فهو صحابي. ووفقاً لهذه القواعد التي وضعوها صار المنافق صحابياً! وقادة البطون وأولياؤهم أعقل من أن ينكروا وجود فئة كبيرة من الناس في عهد النبي، وأن هذه الفئة عرفت بالمنافقين، وتسترت على نفاقها، ومات النبي وهي على حالها من النفاق، ولا يمكن لعاقل أن ينكر وجود هذه الفئة والقرآن الكريم بمئات آياته يشهد على وجوده ويؤكده! وبموجب نظرية عدالة جميع الصحابة التي وضعت شروطاً شكلية للصحبة، صار جميع المنافقين، حسب هذه الشروط، صحابة منزهين عن الكذب والتزوير، وفوق الجرح

الصفحة 170
والتعديل، ومن أهل الجنة! ولا يدخل أحد منهم النار، ويستحيل أن يتعمدوا الخطأ وهم بين مصيب للحق ومجتهد فيه، والأجر محقق في الحالتين!

يجري كل هذا في الوقت نفسه الذي بين الله ورسوله فيه أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار! يتصايح أولياء الخلفاء وبصورة فوقية يقولون إنهم لم يعنوا المنافقين! فإذا سألتهم: أين ذهب المنافقون؟ فهل تبخروا بعد موت النبي أم ابتلعتهم الأرض. أم كانوا ينتظرون موت النبي حتى إذا مات أصلحوا أنفسهم قبل ارتداد الطرف!! وصاروا بقدرة قادر من أهل الجنة؟ وكيف نوفق بين المعطيات القرآنية التي شخصت أحوالهم وحسمت أمرهم بنفاق إلى يوم يلقونه والمعطيات التاريخية التي عرتهم وبين التصور المهزوز لنظرية عدالة جميع الصحابة الذي فرض بقوة السلاح وبالضغوط الاعلامية والاقتصادية والسلطوية لدولة البطون؟ فما من أحد من المنافقين إلا وتنطبق عليه جميع الشروط التي وضعوها للصحابي، فالمنافق متظاهر بالإسلام والإيمان، وجالس الرسول ورآه وسمع منه. ليكن صحابياً لا اعتراض لنا على ذلك، أما أن يقولوا إن هذا الصحابي المنافق أو ذاك منزه عن الكذب والتزوير، ومن المستحيل أن يتعمد الخطأ وهو مأجور في جميع أحواله وهو من أهل الجنة فهذا موضع الاعتراض والاستهجان والاستغراب،! لأن ما يقوله أولياء الخلفاء ينقض الأحكام الإلهية والنبوية والمعطيات التاريخية معاً!.

وهل يتفضل أولياء الخلفاء فيدلوننا على منافق واحد استثنوه من شروط الصحبة! ومن هو؟ فإن لم يفعلوا فأين ذهب المنافقون إذاً؟! ومن أعطاهم صلاحية إدخالهم الجنة وجعلهم عدولاً في الوقت نفسه الذي أعقبهم الله فيه نفاقاً إلى يوم يلقونه. اعتقدوا كما يحلوا لكم!! والوا الحجارة والحديد أو ما شئتم من أبناء البشر!! لكننا نرجوكم ألا تدخلوا في ديننا الحنيف ما ليس منه! ولا تتوسلوا بالقوة لفرض هذا الحشو الآثم علينا!

3 - فئات أخرى: ووجد في مجتمع النبي فئة من الناس في قلوبها مرض، وفئة عرفت بالمخلفين من الأعراب، وفئة فاسقة، وفئة والت أعداء الله، وفئة امتهنت الصد عن سبيل الله ورسوله، وتخصصت بمقاومته ومحاربته حتى أحيط

الصفحة 171
بها. وجميع هذه الفئات تظاهرت بالإسلام والإيمان، وجالست الرسول، ورأته وسمعته وهو يتكلم، وصدرت الأحكام الإلهية بحق أفرادها ومع هذا فهم صحابة حسب نظرية البطون وهم من أهل الجنة وعدول! فهل استثنى أولياء الخلفاء أحداً من هذه الفئات؟ ومن هو؟ الله تعالى يقول (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) [ البقرة / 10 ] وأولياء الخلفاء يؤكدون أنه من أهل الجنة وعادل لتوفر شروط الصحبة فيه! إن هذا لأمر عجاب! فعبد الله بن أبي سرح، كبير معاوني الخليفة الثالث، أسلم، ثم افترى على الله الكذب، واعتبر هو الأظلم، لأنه ادعى أنه سينزل مثل ما أنزل الله!!

ثم تظاهر بالإسلام يوم الفتح لينجو من قرار النبي بقتله، وتدخل عثمان، واضطر النبي آسفاً لعدم قتله! فعبد الله بن أبي سرح، وفق النص الشرعي مفتر على الله، وهو الأظلم وهو في النار! ومع هذا فهو من العدول ومن أهل الجنة حسب معطيات نظرية عدالة جميع الصحابة التي اخترعها معاوية وأولياؤه! إن هذا هو العجب العجاب.

4 - الفئة الضالة: يحدثنا القرآن الكريم عن أناس أسلموا ثم زاغوا (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) [ الصف / 5 ] ويحدثنا النبي الكريم عن أناس أسلموا ثم ارتدوا على أعقابهم، فالإسلام مهم، لكن الاستمرار في دربه حتى النهاية هو الأهم وهو ما يعبر عنه بحسن الخاتمة، فقد يسلم الإنسان ويسير على درب الإسلام والإيمان مدة طويلة من الزمن، وفجأة يزل ينحرف ويسقط في الهاوية. يجمع الرواة على أن أحد المسلمين قاتل مع النبي في إحدى حروبه، ثم أصيب بجرح بالغ، فاتكأ على سيفه فقتل نفسه فاستحق النار بالنص الشرعي، وقد ضل أفراد وانحرفت أمم كانت مسلمة!

5 - فئة مخطئة: لا ينكر أولياء الخلفاء أن الرسول الله أقام الكثير من الحدود على الكثير من رعايا دولته المسلمين، فمنهم من زنى، ومنهم من سرق ومنهم من أفسد في الأرض، ومنهم من رمى المحصنات الغافلات ومنهم من قذف، ومنهم من شرب الخمر، وهم جميعاً صحابة حسب شروط هذه النظرية والسؤال: كيف تجتمع (العدالة) مع السرقة والزنا والإفساد!؟ وأنت ترى أنهم جميعاً قد تعمدوا الخطأ، وانتهاك الحريات! فكيف نوفق بين هذه النظرية وبين هذا الواقع الذي لا تنكرون!!


الصفحة 172

الصحابة العدول في مفهوم أهل بيت النبوة وشيعتهم

الصحابة العدول، عند أهل بيت النبوة وشيعتهم، هم الذين ورد ذكرهم في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين: (.. اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه، وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء، في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته. فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه...) (1).

بهذا الدعاء يصف (الإمام زين العابدين) وصفاً دقيقاً أصحاب رسول الله العدول. هؤلاء هم الصحابة الذين يقر لهم أهل بيت النبوة وشيعتهم بالعدالة، ويدعون لهم في كل صلاة، ويحبونهم حباً عظيماً، ولا يقدمون عليهم أحداً من الناس.

المنافقون والضالون.. ليسوا عدولاً

1 - المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والمخلفون من الأعراب والمرتزقة، جميعاً، ليسوا عدولاً. وهم من أهل النار، ولن تغني عنهم مجالستهم للنبي، أو رؤيته أو سماعه، أو اتصافهم بكامل الشروط الشكلية للصحبة التي اخترعها معاوية وأولياؤه.

2 - والذين صدوا عن سبيل الله وقاوموا النبي وحاربوه حتى أحيط بهم فأسلموا أو تظاهروا بالإسلام ليسوا عدولاً.

____________

(1) راجع الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين زين العابدين، من دعائه في الصلاة على أتباع الرسل ومصدقيهم (الدعاء الرابع) وراجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 59 - 62.

الصفحة 173
3 - والذين هاجروا الدنيا يصيبونها، أو نساء ينكحونها ليسوا عدولاً.

4 - والذين سرقوا أو زنوا أو قذفوا أو انتهكوا الحرمات، وأقيمت عليهم الحدود أو لم تقم ليسوا عدولاً.

5 - والذين عناهم الإمام علي بأقواله: (رجعوا على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكأوا على الولائج، ووصلوا غيرهم الرحم وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن غير أسسه وبنوه في غير موضعه، وأصفوا بالأمر غير أهله وأوردوه غير مورده، وغصبوا سلطان محمد، وصيروا الأمر لغير أهله، وجعلوا أهل بيت النبوة سوقة، والذين استأثروا على أهل بيت النبوة ودفعوهم عن من كانوا هم الأولى به) أولئك جميعاً ليسوا عدولاً (1).

6 - والذين تركوا الثقل الأصغر، وحاربوا الإمام علي، وسموا الإمام الحسن بعد أن خذلوه، وقتلوا الإمام الحسين وأهل بيته في كربلاء، وأخروا أبناءه الأئمة وطاردوهم طوال التاريخ ليسوا عدولاً.

7 - والذين قبلت قلوبهم بإمامة أعداء الرسول فلعنهم الله ورسوله ليسوا عدولاً، ولن تغني عنهم شيئاً مجالستهم للنبي أو رؤيته أو سماعه، أو وصفهم بالصحابة!

لأن مناط العدالة ليس بالمجالسة والرؤية والسماع إنما بالمضمون، وهو الإلتزام التام بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

جلسة الحوار السابعة

قال صاحبنا: لقد سعدت بتوضيحاتكم لنظرية عدالة جميع الصحابة، فإذا ما أضيفت هذه الإيضاحات إلى المعلومات القيمة، والتحاليل الدقيقة الواردة في كتابكم القيم: (نظرية عدالة الصحابة)، فلن يبقى بعدها عذر لأي عاقل، وسيقتنع بصواب موقف المسلمين الشيعة، وعقلانيته وشرعيته ويرى أن كل ما يلصق بهم

____________

(1) راجع كتابنا الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية ص 497، وما بعدها تجد المثالب التي ذكرها الإمام علي.

الصفحة 174
من تهم ما هو إلا من قبيل العصبيات، أو من آثار المنهاج التربوي والتعليمي لدولة البطون. وفي ما يتعلق بي، فقد اقتنعت أن للشيعة رأياً إسلامياً على الأقل إن لم يكن رأيها الذي تتبناه هو المقصود الشرعي عينه، ولكني ومن قبيل الاستزادة بالمعرفة، أو من قبيل تحصين قناعاتي أرجو منكم توضيح بعض الأمور، التي يعدها أعداء الشيعة مثالب، بينما يعدها الشيعة التزاماً بالأحكام الشرعية ومناقب مثل التقية، فهل لكم أن تقدموا صورة موجزة للتقية في الدين وعند الشيعة؟ وهل صحيح أنها اختراع الشيعة كما يزعم أعداؤهم أم أنها حكم شرعي مباح للمضطر؟

وكتبت الجواب التالي وسلمته لصاحبنا.

* * *

الصفحة 175

الباب الخامس
التقية والمتعة
في الإسلام وعند شيعة أهل بيت النبوة


الصفحة 176

الصفحة 177

الفصل الأول
التقية

معناها لغة واصطلاحاً

تعني التقية، لغة، حفظ الشئ وصيانته وحمايته من الأذى، ووقايته من الضرر. وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم، ففي الآية 28 من سورة آل عمران أمر الله المؤمنين ألا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ولكنه رخص لهم ذلك بقوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقاة). وفي سورة غافر الآية 28 ساق القرآن الكريم صورة واقعية من صور التقية فقال تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) ثم وضع القرآن الصورة وكملها، فقال: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان..) [ النحل / 106 ] فمن يكفر بعد الإيمان عليه غضب من الله، وله عذاب شديد إلا أن الله تعالى لا يغضب عليه ولا يعذبه إذا كان إعلانه للكفر ناتج عن الإكراه، شريطة أن يكون قلبه مطئمن بالإيمان.

وعلى صعيد السنة النبوية، فالمعلوم أن عمار بن ياسر قد أعطى المشركين ما أرادوا بلسانه، ولما قص على الرسول ما حدث قال له الرسول: كيف تجد قلبك؟ قال: مطئمن بالإيمان، فقال الرسول: (فإن عادوا فعد) وقد أرسى الرسول قواعد هذا المبدأ: رفع عن أمتي: - الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه..

فالتقية تعنى، لغة واصطلاحاً، (كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومصانعة القائمين على السلطة وأعوانهم وقاية للنفس أو الدين أو المال أو العرض من ضرر مؤكد، أو يقوي الظن باحتمال وقوعه، فالمعيار شخصي وموضوعي يختلف من فرد إلى فرد، لكن العبرة بوقوع الضرر أو قوة الظن بوقوعه، فهنا يجب التقية، فإذا كان الإنسان لا يعلم ضرراً بإظهار الحق، ولا قوي ظنه باحتمال وقوعه فلا تجب التقية، بل يجب الجهر بالحق وإعلان الاعتقاد به، وعدم مصانعة الظالمين وأعوانهم).

التقية مسلك فطري يقدره العقل بالضرورة

الإنسان، أي إنسان، مفطور على الحفاظ على حياته ومصالحه ومعتقداته والتستر عليها إن كان في الإعلان عنها خطر عليه وعليها، لأن التستر لا يلغيها،

الصفحة 178
إنما يخفيها ويحفظها من الخطر الذي يهدد وجودها، والعقل السليم يقر هذا التوجه الفطري الهادف إلى الحفاظ على الحياة أو المعتقد، أو المصلحة، لأن عدم إقراره قد يؤدي إلى زوال الحياة، وزوال المعتقد تبعاً لها، لأن إخفاء المعتقدات عملية آنية لمواجهة خطر آني يتهدد المعتقد وحياة صاحبه، فلا شئ يمنع صاحب المعتقد من إظهاره بعد زوال الخطر، أو بعد الاستعداد لمواجهته.

لقد أعلنت السلطة الطاغية قرارها بأنها ستقتل، وبغير رحمة، كل رجل متعاطف مع قيمة العدل، وانطلق أعوان السلطة يجوبون ويتعقبون أولئك الذين يتعاطفون مع قيمة العدل مثلاً، فوجدوا أحدهم وسألوه: هل تتعاطف مع قيمة العدل؟ فإذا قال لهم: نعم أتعاطف، فقد أذن لهم بقتله أو أعطاهم المسوغ لقتله، وإن أخفى معتقده وسايرهم نجا بحياته ومعتقده، ولا شئ يمنعه إذا عاود التفكير في الأمر من أن يتخذ موقفاً آخر عند ما يواجه أعوان الطاغية مرة أخرى. إن الظلم لم يتوقف طوال التاريخ وإن الظالمين لم يختفوا أبداً، ولم يخل منهم مجتمع إنساني قط، وفي المجتمعات الإنسانية أقوياء بيدهم الحول والطول والسلطة، وضعفاء لا حول ولا قوة، فجاءت الفطرة التي فطر الله الناس عليها وزودت المستضعفين بسلاح التقية لمواجهة الأقوياء الظالمين، لأن الأقوياء يتعاملون مع الظاهر، وهم أقل وأذل من أن يخترقوا حجب الخفاء، أو ما تخفي النفوس، وجاء العقل السليم بتحليلاته المرتبطة مع الفطرة ليقر بغير تحفظ مبدأ التقية باعتباره الوسيلة الدفاعية والأقل كلفة.

التقية مبدأ إسلامي أصيل

رأينا أن القرآن الكريم قد أوجد مبدأ التقية وأسسه (1). كذلك فإن السنة النبوية، بفروعها الثلاثة، قد أقرت هذا المبدأ وأثرته ببيانها. وقد أجمع أهل العلم على (أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بالكفر) (2). فمن يلجأ للتقية

____________

(1) راجع سورة آل عمران آية 28، وسورة غافر آية 28، وسورة النحل آية 106.

(2) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 119.

الصفحة 179
مكرها ومضطراً فلا إثم عليه وقد اشتهر بين المسلمين جميعاً حديث الرفع (رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه..).

لقد أجمع أهل بيت النبوة على جواز التقية ووجوبها أحياناً. وإجماع أهل بيت النبوة حجة شرعية، لأنهم أحد الثقلين وأعدال الكتاب، والهدى لا يدرك إلا بالتمسك بالثقلين.

وأجمع المفسرون، من أهل السنة على ذلك (1) حيث نقل عن الحسن قوله:

إن (التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة) أرجع إلى الآيات التي تناولت التقية، وارجع إلى تفسيرها في التفاسير التي ذكرناها على سبيل المثال ستخرج بقناعة تامة بأن هذا العدد الكبير من المفسرين قد أجمعوا على شرعية التقية، وأنها مبدأ إسلامي أصيل ولا يجادل في انتماء هذا المبدأ إلى دين الإسلام إلا جاهل. قال المراغي في تفسيره: (ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة؟؟؟

الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم. ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة) (2).

الشيعة تستعمل حقها المشروع في التقية

في عهد الخلفاء الثلاثة الأول، جمد التشيع تجميداً كاملاً، وطمس الخلفاء وأولياؤهم جميع النصوص النبوية التي خصت علياً بن أبي طالب بالولاية والإمامة من بعد النبي، والنصوص التي خصت أهل بيت النبوة بالقيادة والتميز وجعلتهم أحد الثقلين. وأبعد من ذلك فإنهم قد منعوا رواية الأحاديث النبوية وكتابتها

____________

(1) راجع تفسير الرازي 8 / 13، وتفسير الزمخشري / الكشاف 1 / 422، وتفسير غرائب القرآن للنيسابوري 3 / 178، بهامش تفسير الطبري، وتفسير الخازن 1 / 177، وتفسير النسفي بهامش تفسير الخازن 1 / 277، وتفسير السراج المنير 2 / 263، وروح البيان لإسماعيل حقي 5 / 84، وجامع البيان للطبري 3 / 153، وتفسير القرطبي 4 / 57، وتفسير المراغي 3 / 136، وتفسير القاسمي.

(2) راجع تفسير المراغي 3 / 136.

الصفحة 180
وأحرقوا المكتوب منها وصولاً لغايتهم! وحجموا الإمام علياً وأهل بيت النبوة، وعزلوهم عزلاً اجتماعياً كاملاً، ثم جردوهم من كافة ممتلكاتهم وجعلوهم عالة على الخليفة المتغلب الذي تهد لأسباب إنسانية بتقديم المأكل والمشرب لهم.

ثم حرموهم من جميع حقوقهم السياسية، وأصبح علي وأهل بيت النبوة في موقع لا قدرة لهم فيه على المعارضة، ومن باب أولى ألا تكون هنا لك قدرة لأوليائهم وشيعتهم على المعارضة، ومن الطبيعي أن تنظر دولة أولئك الخلفاء نظرة الريبة والحذر إلى علي وأهل بيت النبوة وأوليائهم، وأن تضيق عليهم لأسباب أمنية، فتصبح مدارة الخلفاء وأوليائهم ضرورة لا بد منها.

فلو أن أحداً من أولياء علي قد قال لأبي بكر أو لعمر أو لعثمان: إنك غاصب للخلافة مثلاً، أو أن الإمام علي أولى منك أو أنني لا أحبك لأنك أخذت حق أهل بيت النبوة فأهون ما يفعله هذا الخليفة أو ذاك هو أن يتخذ من هذا القائل موقفاً، ومن المؤكد أنه لن يوليه، ولن يتخذه عضداً له، وسيحذر أولياءه منه. وإذا قدر هذا الخليفة، أو ذاك، أن هذا القائل قد يشكل خطراً على دولته فقد يأمر بقتله كما فعلوا بسعد بن عبادة، وقد يجرده من حقوقه السياسية أو المالية كما فعلوا بعلي وأهل بيت النبوة، فمواجهة أي خليفة من الخلفاء الثلاثة، قد تؤدي حتماً إلى الأضرار البالغة، فلا يوجد بيت من بيوت المسلمين الخاصة له حرمة وقداسة كالبيت الذي يسكنه علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت رسول الله وسبطا الرسول الحسن والحسين، ومع هذا عند ما شعر الخليفة الأول ومعاونوه، وبينهم من صار الخليفة الثاني أن سكان هذا البيت لا يوالونهم، شرعوا بإحراقه على من فيه، بمعنى أن عدم مصانعة الخلفاء ومجاملتهم فضلاً عن أنها غير منتجة فهي مضرة ضرراً بالغاً، لذلك أبيحت التقية لدفع هذا الضرر.

لما تمكن معاوية من هزيمة الشرعية ومن هزيمة الأمة كلها، وقبض على السلطة بكلتا يديه، أصدر سلسلة من المراسيم لجميع ولاته على جميع أقاليم مملكته أمرهم فيها بأن يمحو من ديوان العطاء من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيت النبوة، وأن يسقطوا عطاءه ورزقه وأمر أيضاً: (ومن اتهمتموه بموالاة

الصفحة 181
هؤلاء القوم فنكلوا به وأهدموا داره) (1). فلو سأل معاوية أحد موالي الإمام علي وأهل البيت: هل توالي علياً؟ فإذا أجاب المسؤول بالإيجاب وقال إنه يوالي علياً فمعنى ذلك أنه قد أقر بذنبه والإقرار سيد البينات، وفي هذه الحالة يتوجب حتماً مقضياً أن تهدم داره وأن يقتل! حسب شريعة معاوية! وفي هذه الحالة وأمثالها وسع الله على عباده بالتقية، فلا حرج على المسؤول لو أجاب معاوية أو أحد أوليائه بأنه لا يوالي علياً، ولا حرج عليه لو أخفى ولاءه للإمام علي دفعاً للقتل وهدم البيت، كذلك لو أن معاوية أو أحد أوليائه، سأل أحداً من محبي علي وأهل بيت النبوة: هل تحب علياً؟ وهل تحب أهل البيت؟ فإذا أجاب بالإيجاب يشطب اسمه من ديوان العطاء، ويتم إسقاط معاشه ورزقه، وبالتالي يجرد من الحقوق المدينة فلا تقبل له شهادة! وفي هذه الحالة وأمثالها أباح الله تعالى له أن يجيب بالنفي على سبيل التقية، فيقول: (أني لا أحب علياً، ولا أحب أهل بيت النبوة) وله أن يخفي هذا الحب دفعاً لضرر مؤكد.

فكتمان الموالاة والمحبة ليس حراماً بل هو واجب ديني، فالإعلان عن الموالاة يؤدي للموت! فجاءت التقية لتدفع الموت، والجهر بالمحبة يؤدي إلى شطب الاسم وإسقاط الرزق فجاءت التقية لتدفع هذا الضرر البالغ. فالتقية منهج إلهي يجد فيه الإنسان حاجته، فإن الإعلان عن الموالاة والجهر بالمحبة في مثل هذه الظروف لا يسقطان دولة الظلمة، ولا يزيلان ملك معاوية، ولا يضعان حداً للإرهاب والبطش، بمعنى أن الإعلان والجهر غير منتجين، ولا يحلان مشكلة الأمة بل يخدمان معاوية وأولياءه، ولهذا كانت التقية نهجاً يسلك إلى النجاة.

فغاية معاوية تتمثل في أن يعرف المؤمنين جميعهم ليتمكن من قتلهم وإبادتهم من الوجود إبادة تامة حتى يصفى الملك له ولبني أمية، فلا ينازعه فيه أحد من الناس. وقد أدرك هذه الحقيقة الإمام الحسن وعبر عنها بقوله: (إني خشيت أن يجتث المسلمون من الأرض، فأردت أن يكون للدين داعية) (2).

____________

(1) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق حسن تميم 3 / 596.

(2) راجع كتابنا المواجهة ص 633.

الصفحة 182
فإذا أباد معاوية المؤمنين الصادقين، تخلوا الساحة تماماً من الشهود، ويتمكن من محو آثار الجريمة، ومن خلال منهاجه التربوي والتعليمي الذي رسخه، والذي سيورثه للأجيال القادمة سيتمكن من تسويق مفهومه المصلحي للإسلام، وينجح المجرم بادعائه البراءة فهو يرتدي القفازات البيض، وتحت القفازات يد ملطخة بدماء الجريمة، ولكن العوام والسذج لا يرون إلا القفازات البيض.

إذاً ليلجأ المؤمنون إلى التقية بوصفها وسيلة شرعية لإنقاذ الأنفس والأموال، وليستروا على إيمانهم وولائهم وليبقوا وينتظروا الفرصة المناسبة لفضح الجرائم، ولتمزيق القفازات البيض حتى يرى الجميع ذات يوم اليد الملطخة بدماء أهل بيت النبوة وأتباع محمد المؤمنين الصادقين. وقد حققت التقية هذا الغرض، فلم يعد بإمكان أولياء معاوية وأمثاله في كل زمان أن يقولوا شيئاً من دون أن يجدوا من يقول الحق هكذا، وليس كما تقولون. وقد ساق القرآن الكريم نموذجاً حياً متحركاً لمؤمن يكتم إيمانه في مجتمع صار قائده رمزاً للبطش والطغيان والإرهاب، وهو مجتمع فرعون فليس صدفة أن يذكر الله تعالى مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه.

التقية التي شرعها الله وبينها رسوله، صارت جريمة!

أولياء معاوية غاضبون جداً من شيعة أهل بيت النبوة لأنهم أخذوا بالتقية التي شرعها الله تعالى وبينها رسوله الكريم، ولأنهم أخفوا ولاءهم لأهل بيت النبوة، ولم يجهروا بمحبتهم لأهل البيت عند ما سألهم معاوية. وأولياؤه يرون أن عمل شيعة أهل بيت النبوة هذا فن من فنون الكذب والنفاق، وقد لعن الله الكاذبين، وجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وعليه فإن المسلمين الشيعة كاذبون ومنافقون لأنهم لم يكشفوا عن أنفسهم حتى يقتلهم معاوية ويهدم دورهم! وفي الوقت نفسه يشيدون ببطولة معاوية وعمق إيمانه لأنه صحابي جليل شاهد النبي وسمع منه، ويحكمون بكذب الذين والوا أهل بيت النبوة ونفاقهم مع أنهم أيضاً صحابة أجلاء شاهدوا النبي وسمعوا منه بل وحاربوا معاوية وأباه دفاعاً عن النبي!


الصفحة 183
وهكذا، وبقدرة قادر، صار المجرم ضحية، وصارت الضحية مجرماً!

والجرم الذي ارتكبه شيعة أهل بيت النبوة هو موالاتهم وحبهم لمحمد ولأهل بيت محمد، ففي أي آية أو حديث أعتبرت محبة أهل بيت النبوة وموالاتهم جريمة توجب القتل وحداً من الحدود التي أوجب الله على معاوية إقامته!؟ أليس أهل بيت النبوة هم أحد الثقلين فلا يدرك الهدى إلا بهما، ولا تتجنب الضلالة إلا بهما! أليسوا هم ذوو القربى!؟ أليسوا هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً!؟

إن النصارى من أتباع عيسى، واليهود من أتباع موسى، فهل يجوز لمعاوية وأوليائه، في شرع الله، أن يقتلوا اليهود والنصارى لأنهم يحبون موسى وعيسى!؟

الذين والوا أهل بيت النبوة وأحبوهم مسلمون ينطقون بالشهادتين، ويؤمنون بالله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويفهمون الدين أكثر مما يفهمه معاوية و أولياؤه، وأي شريعة تجيز لمعاوية وأوليائه قتلهم!؟ ولا ذنب لهم إلا أنهم يقولون: ربنا الله! ألا يستطيع معاوية وأولياؤه أن يعاملوا شيعة أهل بيت النبوة كما يعاملون اليهود والنصارى!؟

تلك هي قصة التقية التي عدها أولياء معاوية من مثالب شيعة أهل بيت النبوة، وتلك هي الظروف التي توضحت فيها معالم هذا المبدأ الإسلامي.

جلسة الحوار الثامنة

قال صاحبنا: لقد وقفت علي جوابكم المختصر حول التقية، وهو حقاً مقنع. وعملاً باتفاقنا، أريد منك جواباً مكثفاً ومختصراً عن المتعة، فقد أكثر خصوم المسلمين الشيعة قولهم أو تقولهم في هذه القضية. فمن الذي فرض المتعة؟ وهل عمل بها في عهد الرسول؟ وهل نسخت؟ ولم أوقف العمل بها عند الأكثرية الساحقة من المسلمين؟

وكتبت الجواب التالي لصاحبنا وسلمته له فوعد بدراسته.

* * *

الصفحة 184

الصفحة 185

الفصل الثاني
المتعة في الإسلام وعند شيعة
أهل بيت النبوة

لكي نفهم القواعد الشرعية الإسلامية

دين الإسلام آخر الأديان، وقواعده معدة للدين والدولة معاً، فالإسلام في صورة من صوره، يشكل مجموعة القوانين التي ينبغي أن تكون نافذة في مجتمع الدولة الإسلامية. وفي وقت يطول أو يقصر يفترض أن الدولة الإسلامية دولة عالمية، يصبح جميع أفراد الجنس البشري مواطنيها ورعاياها، لذلك وضعت قواعد الإسلام لتتعامل مع الجنس البشري كله، ولتحكم علاقات هذا الجنس.

وقد تولى الله، سبحانه وتعالى، بنفسه وضع جميع قواعد الشريعة الإسلامية لتلائم طبيعة الإنسان وفطرته، وحياته وآخرته، ولتشيع رغباته وميوله وتوجهاته وتنظمها، وتخدم الأهداف النبيلة التي يتوخاها الشارع الحكيم العليم، وقواعد الإسلام جميعها مبنية على اليسر ورفع الحرج، وتضييق دائرة المحرمات إلى أبعد حد ممكن، وإشباع الحاجات والرغبات الإنسانية ضمن دائرة الشرعية، وقدمت روح الشريعة العامة نماذج للسمو والكمال الإنسانيين وحثت المؤمنين على السعي لبلوغهما ولكنها لم تحمل المكلف فوق طاقته إنما راعت ظروفه وواقعه وتعاملت معه على هذا الأساس، من خلال نوافذ الرحمة والحكمة واللطف الإلهي.

المتعة من شرع الله

أجمع المسلمون جميعهم على أن الله تعالى شرع نكاح المتعة بقوله: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة..) [ النساء / 24 ] وكان جمع من الصحابة كأبي بن كعب وابن عباس يقرؤون هذه الآية على القراءة التالية: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن...) ذكر ذلك كبار المفسرين كالطبري والزمخشري والرازي عند تفسيرهم لهذه الآية، وقد وضح الرازي ذلك في تفسيره

الصفحة 186
قائلاً: (والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة، فكان ذلك إجماعاً من الأمة على صحة هذه القراءة) (1).

ولأن مهمة الرسول الأولى أنه يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم فقد بين هذه الآية، وأكد أن نكاح المتعة من شرع الله، وحض المسلمين عليها، وذلك عند ما ذكرهم بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [ المائدة / 87 ] وعلى ذلك جمع أهل بيت النبوة، وإجماع أهل بيت النبوة حجة، لأنهم: 1 - أحد الثقلين، 2 - وأعدال الكتاب، 3 - ولأن الهدى لا يدرك إلا بهما وبالقرآن معاً، 4 - والضلالة لا يمكن تجنبهما إلا بهما وبالقرآن معاً، 5 - ولأنهم عاشوا مع الرسول طوال حياته المباركة فكانوا يقيمون عنده ويسكنون وإياه في بيت واحد. وبالتالي هم أدرى وأعلم بشرع الله وسنة رسوله.

وعلى الرغم من أن الخلفاء كانوا يتبنون مواقف مختلفة عن مواقف أهل بيت النبوة إلا أنهم وأولياءهم قد أجمعوا على أن المتعة من شرع الله، ولهم ولعلمائهم عشرات الصحاح الصادرة عن النبي والتي توكد نكاح المتعة من شرع الله، وقد روى هذه الصحاح البخاري ومسلم في صحيحيهما، (كتاب النكاح)، وأحمد بن حنبل وغيرهم. وقد رووا هذه الأحاديث الصحيحة عن مجموعة من الصحابة يمتنع عقلاً اجتماعهم على الكذب، كسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله، وأبي ذر الغفاري، وعمران بن حصين، وسبرة بن معد، وقبلهم كامل أئمة أهل بيت النبوة، ولا يوجد مسلم واحد عاقل يجرؤ على القول: إن نكاح المتعة لم يكن من شرع الله، فجميع المسلمين قد أجمعوا على أنها من شرع الله. وأن هذا النكاح مورس وعمل به بإذن رسول الله وعلمه وتشجيعه عليه، انسجاماً مع الأهداف التي ذكرناها في الفقرة الأولى من هذا البحث، وتوسيعاً على العباد، وتضييقاً لدائرة الحرام ورفعاً للحرج.

____________

(1) راجع التفسير الكبير للفخر الرازي (سورة النساء، الآية: 24) القائلون بإباحة المتعة - استدلال الحجة الأولى.