وفي الجمع بين الصحيحين، في الحديث التاسع والأربعين، من أفراد البخاري، من مسند أبي هريرة، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي ما أخذ الدول شبرا بشبر، ذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك (1).
وفي الجمع بين الصحيحين، في الحديث الحادي والعشرين من المتفق عليه من مسند أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟. (2) وروى البغوي، في كتاب " المصابيح " في حديث طويل في صفة الحوض، قال: قال رسول الله: أنا فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم أمتي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي (3).
الصحابة في القرآن ومثالب أخرى
وقد تضمن الكتاب العزيز وقوع أكبر الكبائر منهم، وهو الفرار من الزحف، فقال تعالى: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين " (4).
وكانوا أكثر من عشرة آلاف نفر، فلم يتخلف معه إلا سبعة أنفس:
علي بن أبي طالب، والعباس، والفضل ابنه، وربيعة، وأبو سفيان ابنا
____________
(1) ورواه أحمد في المسند ج 2 ص 336
(2) ورواه أحمد في المسند ج 3 ص 89، ومسلم في الصحيح ج 2 ص 220 وسنن ابن ماجة ج 2 ص 1322
(3) مصابيح السنة ج 2 ص 153، وصحيح مسلم ج 4 ص 61 وصحيح البخاري ج 8 ص 150
(4) التوبة: 25.
وقال تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما " (2).
رووا أنهم كانوا إذا سمعوا بوصول تجارة تركوا الصلاة معه، والحياء منه، ومراقبة الله تعالى، وكذا في اللهو (3).
ومن كان في زمانه معه بهذه المثابة، كيف يستبعد منه مخالفته بعد موته وغيبته عنهم بالكلية؟.
وقال تعالى: " ومنهم من يلمزك في الصدقات " (4). اتهموا رسول الله صلى الله عليه وآله وهم من أصحابه.
وقال الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند أنس بن مالك في الحديث الحادي عشر من المتفق عليه: أن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين، حيث أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، وطفق رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل. فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم (5).
وقال الحميدي في هذا لحديث، عن أنس: أن الأنصار قالت: إذا كانت شدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا.
____________
(1) أنظر: التفسير الكبير ج 16 ص 21، وتفسير الآلوسي ج 10 ص 66، والدر المنثور ج 3 ص 223
(2) الجمعة: 11
(3) راجع: تفسير الخازن ج 4 ص 288 وروح المعاني ج 28 ص 91
(4) التوبة: 58
(5) وراجع: صحيح البخاري ج 4 ص 114، وتفسير الخازن ج 2 ص 250 وفي الدر المنثور ج 3 ص 250 بلفظ آخر.
ثم يقول في رواية الزهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله قال للأنصار:
إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض، قال أنس: فلم نصبر (1).
قضية الإفك وروى مسلم في الصحيح، في حديث عائشة عن قضية الإفك، قالت:
قام رسول الله صلى الله عليه وآله على المنبر، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكر رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فقبلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال: لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال:
كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وآله قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله يعظهم حتى سكتوا وسكت (2).
فلينظر العاقل المقلد في هذه الأحاديث المتفق على صحتها عندهم، كيف بلغوا الغاية في تقبيح ذكر الأنصار وفضائحهم، ورداءة صحبتهم لنبيهم في حياته، وقلة احترامهم له، وترك الموافقة؟ وكيف أحوجه الأمر إلى قطع الخطبة، ومنعوه من التألم من المنافق عبد الله بن أبي بن سلول،
____________
(1) ورواه في البخاري ج 4 ص 114 و 200، وصحيح مسلم ج 2 ص 430
(2) صحيح البخاري ج 5 ص 151.
وروى الحميدي في مسند أبي هريرة في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله لما فتح مكة، وقتل جماعة من أهلها، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن هاشم، فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم، فقال:
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في تربته، ورأفة بعشيرته، وفي رواية أخرى: فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته (1).
فلينظر العاقل: هل يجوز أو يحسن من الأنصار مثل هذا القول في حق النبي صلى الله عليه وآله؟.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة، من المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية وفي رواية حديثو عهد بكفر، وفي رواية حديثو عهد بشرك، وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، ولزقته بالأرض، وجعلت له بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم (2).
فانظر أيها المنصف: كيف يروون في صحاح أحاديثهم: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتقي قوم عائشة، وهم من أعيان المهاجرين والصحابة، من أن يواطئهم في هدم الكعبة، وإصلاح بنائها؟ فكيف لا يحصل الاختلال بعده في أهل بيته الذين قتلوا آباءهم وأقاربهم؟.
____________
(1) التاج الجامع لأصول ج 4 ص 439 وصحيح مسلم ج 3 ص 160
(2) ورواه أحمد في المسند ج 6 ص 176 و 178 و 180 و 239.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكن كما أمرنا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون. وفي رواية: ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فتحملون بعضهم على رقاب بعض، وهذا ذم منه صلى الله عليه وآله لأصحابه (1).
وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند المسيب بن حزن بن أبي وهب، من أفراد البخاري: أن سعيد بن المسيب حدث: أن جده حزن قدم على النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ما اسمك قال: اسمي حزن، قال: بل أنت سهل، قال: ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي، وفي رواية قلت: لا أغير اسما سمانيه أبي، قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد (2).
وهذه مخالفة ظاهرة من الصحابي للنبي صلى الله عليه وآله فيما لا يضره، بل فيما ينفعه فكيف لا يخالفونه بعد فيما ينفعهم؟.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من المتفق عليه من مسند أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال وأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا، وخبزا برا لشهد العشاء، وهذا ذم من النبي صلى الله عليه وآله لجماعة من أصحابه حيث لم يحضروا الصلاة جماعة معه (3).
____________
(1) ورواه ابن ماجة في سننه ج 2 ص 1324، رقم الحديث 3996
(2) ورواه أيضا في الإصابة ج 1 ص 325 وفي هامشها الاستيعاب ص 386 وفي التاج الجامع للأصول ج 5 ص 275 وقال: رواه البخاري، وأحمد، وأبو داود.
(3) ورواه في منتخب كنز العمال ج 3 ص 342 في هامش المسند وفي التاج الجامع للأصول ج 1 ص 249 بتفاوت يسير، وقال: رواه الخمسة.
قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم.
قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تذعرهم، ولو رميته لأصبته، فرجعت، وأنا أمشي في مثل حمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وآله من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، قال: قم يا نومان (1).
وهذا يدل على التهاون في أمره، والإعراض عن مطالبه، وقلة القبول منه، وترك المراقبة لله تعالى، وإيثارهم الحياة على لقاء الله تعالى، فكيف يستبعد منهم المخالفة بعد موته؟.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من أفراد البخاري، من مسند ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.
فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون:
صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل، ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره،
____________
(1) ورواه مسلم في الصحيح ج 2 ص 165 والتاج الجامع للأصول ج 4 ص 418.
والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل واحد من أصحابي أسيره حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكرنا له ذلك، فرفع يديه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد... مرتين (1).
ولو كان ما فعله خالد صوابا، لم يتبرأ الرسول صلى الله عليه وآله منه، وإذا كان خالد قد خالفه في حياته، وخانه في أمره فكيف به وبغيره بعده؟.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، من عدة طرق: أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة، فلما بلغ ذا الحليفة دعا عليا (ع)، فقال: أدرك أبا بكر، فحيث لحقته فخذ الكتاب منه، واذهب به إلى أهل مكة، واقرأ عليهم، قال: فلحقته بالجحفة، فأخذت الكتاب منه،
____________
(1) ورواه في التاج الجامع للأصول ج 4 ص 441 وقال: رواه البخاري وتاريخ الخميس ج 2 ص 97 وتاريخ الكامل ج 2 ص 173 والسيرة الحلبية ج 3 ص 197، وفيها: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب، فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وآله، فودى لهم الدماء، وما أصيب من الأموال، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شئ من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم، على حين فرغ منه: هل بقي دم أو مال لم يؤد لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيتكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وآله، ثم رجع إليه صلى الله عليه وآله فأخبره الخبر، قال: أصبت وأحسنت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن وليد " ثلاث مرات.
وروى الصدوق في الأمالي ص 172 عن أبي جعفر الباقر عليه السلام (إلى أن قال):
فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله قال: يا علي، أخبرني ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرة، ولكل مال مالا، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم، وحيلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة، فأعطيتهم لروعة نسائهم، وفزع صبيانهم. وفضلت معي فضلة، فأعطيتهم لما يعلمون، ولما لا يعلمون. وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
قال: لا، ولكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت، أو رجل منك (1).
ونحوه روى البخاري في صحيحه.
وفي الجمع بين الصحاح الستة، عن أبي داود، والترمذي، عن عبد الله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله دعا أبا بكر، وأمره أن ينادي في الموسم ببراءة، ثم أردفه عليا، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله العضباء، فقام أبو بكر فزعا، وظن أنه حدث أمر، فدفع إليه علي كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فيه: أن عليا ينادي بهؤلاء الكلمات، فإنه لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي، فانطلقا، فقام علي أيام التشريق ينادي ذمة الله ورسوله برية من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت بعد اليوم عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة (2).
ورواه الثعلبي في تفسير براءة، وروى أن أبا بكر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: نزل في شئ؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني غيري، أو رجل مني (3).
فمن لا يصلح لأداء آيات يسيرة يبلغها، كيف يستحق التعظيم المفرط في الغاية، وتقديمه على من عزله وكان هو المؤدي؟ ولكن صدق الله العظيم:
" إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " (4).
فلينظر العاقل في هذه القصة، ويعلم أن الله تعالى لو لم يرد إظهار فضيلة
____________
(1) في المسند ج 3 ص 283 وراجع ما تقدم في الهامش.
(2) في البخاري ج 6 ص 81 ورواه في روح المعاني ج 10 ص 40 وشواهد التنزيل ج 1 ص 239
(3) ورواه أيضا: الطبري في تفسيره ج 10 ص 64
(4) الحج: 46.
وكذلك في قصة خيبر، فإنهم رووا في صحيح أخبارهم: أن النبي صلى الله عليه وآله أعطى أبا بكر الراية، فرجع منهزما، ثم أعطاها لعمر، فرجع منهزما، فقال صلى الله عليه وآله: " لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار "، ثم أعطاها لعلي (ع) (1).
وقصد بذلك إظهار فضله، وحط منزلة الآخرين، لأنه قد ثبت بنص القرآن العظيم أنه: " ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " (2)، فوجب أن يكون دفع الراية إليهما بقول الله تعالى، ولا شك في أنه تعالى عالم بالأشياء في الأزل فيكون عالما بهرب هذين، فلولا إرادة إظهار فضل علي (ع) لكان في ابتداء الأمر أوحى بتسليم الراية إليه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وصفه بما وصفه، وهو يشعر باختصاصه بتلك الأوصاف، وكيف لا يكون؟ ومحبة الله تعالى تدل على إرادة لقائه، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يفر، قاصدا بذلك لقاء ربه تعالى، فيكون محبا له تعالى.
تألم علي (ع) من الصحابة
وقد روى ابن عبد ربه من الجمهور: أن أمير المؤمنين كان يتألم من الصحابة كثيرا في عدة مواطن، وعلى رؤوس المنابر، وقال في بعض خطبته:
____________
(1) راجع ما تقدم في الهامش وراجع أيضا: مناقب ابن المغازلي ص 176 فقد رواه بإسناد وطرق متعددة.
(2) النجم: 2 و 3.
ويله لو قص جناحه وقطع رأسه لكان خيرا له، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فاعرفوا، ألا إن أبرار عترتي، وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا، وأعلمهم كبارا، ألا وإنا نحن أهل البيت، من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، من قول صادق سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق، ألا وبنا عزة كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقهم، وبنا فتح الله وبنا ختم (1).
ونقل الحسن بن عبد الله بن مسعود بن العسكري، من أهل السنة، في كتاب: معاني الأخبار، بإسناده إلى ابن عباس، قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين (ع)، فقال: والله، لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة)، وإنه ليعلم: أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها قلب المؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت: أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى إلى فلان (ابن الخطاب) بعده، (ثم تمثل بقول الأعشى):
شتان ما يومي على كورها | ويوم حيان أخي جابر |
فيا عجبا... بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطر ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم. فمني الناس لعمر الله،
____________
(1) رواه في كتابه العقد الفريد ج 2 ص 113.
حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله، وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصفى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن.
إلى أن قالم ثالث القوم، نافخا حضنيه، بين نثيله، ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه، يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة:
ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول:
" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين " (1).
بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء: أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (2)!...
____________
(1) القصص: 83
(2) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 1 ص 69: قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر، قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة إلى آخر ما قال.
وذكرها الميداني في مجمع الأمثال، وابن منظور الإفريقي المصري، في لسان العرب ج 12 ص 52، وأوعز إليها الفيروزآبادي في القاموس ج 3 ص 259، وابن الأثير الجزري في نهاية اللغة ج 2 ص 490، ووجدت بخط قديم، عليه كتابة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات، المتوفى (312) كما في شرح ابن ميثم. ورواها محمد عبده في شرحه نهج البلاغة ج 1 ص 30 والدكتور صبحي الصالح في شرحه على النهج ص 48 وسبط بن الجوزي في تذكرة الخواص، وغيرهم من أعلام القوم.
وروي أنه اتصل به: أن الناس قالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر، وعمر، وعثمان، كما نازع طلحة والزبير، فخرج مرتديا، ثم نادى بالصلاة جامعة، فلما اجتمع أصحابه قام خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
يا معشر الناس، بلغني: أن قوما قالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر، وعمر، وعثمان، كما نازع طلحة، والزبير، وعائشة، وإن لي في سبعة من الأنبياء أسوة.
فأولهم: نوح، قال الله تعالى: " إني مغلوب فانتصر " (2).
فإن قلتم: ما كان مغلوبا، كذبتم القرآن، وإن كان ذلك كذلك فعلي أعذر.
والثاني: إبراهيم خليل الرحمن، حيث يقول: " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله " (3).
____________
(1) المائدة: 55
(2) القمر: 10
(3) مريم: 48.
رأى مكروها منهم فاعتزلهم، فالوصي أعذر.
والثالث: ابن خالته لوط إذ قال لقومه: " لو أن لي بكم قوة " (1).
فإن قلتم: إنه لم يكن بهم قوة فاعتزلهم فالوصي أعذر.
ويوسف: إذ قال: " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " (2).
فإن قلتم: إنه دعي إلى ما يسخط الله عز وجل فاختار السجن، فالوصي أعذر.
وموسى بن عمران: إذ يقول: " ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكما، وجعلني من المرسلين " (3).
فإن قلتم: إنه فر منهم خوفا، فالوصي أعذر.
وهارون: إذ قال: " يا ابن أم، إن القوم استضعفوني، وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين " (4).
فإن قلتم: إنهم استضعفوه، وأشرفوا على قتله، فالوصي أعذر.
ومحمد صلى الله عليه وآله: لما هرب إلى الغار، فإن قلتم: إنه هرب من غير خوف أخافوه، فقد كذبتم، وإن قلتم: إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب، فالوصي أعذر!.
فقال الناس جميعا: صدق أمير المؤمنين (5).
وروى ابن المغازلي الشافعي، في كتاب " المناقب "، بإسناده قال:
____________
(1) هود: 80
(2) يوسف: 33
(3) الشعراء: 21
(4) الأعراف: 150
(5) كما رواه أبو منصور الطبرسي في كتابه: الاحتجاج ج 1 ص 279.
ومن كتاب " المناقب "، لأبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ، من الجمهور، بإسناده، إلى ابن عباس قال: خرجت أنا، والنبي صلى الله عليه وآله، وعلي، فرأيت حديقة، فقلت: ما أحسن هذه يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: حديقتك في الجنة أحسن منها، ثم مررنا بحديقة فقال علي ما أحسن هذه يا رسول الله؟ قال: حتى مررنا بسبع حدائق، فقال:
حدائقك في الجنة أحسن منها، ثم ضرب بيده على رأسه، ولحيته، وبكى، حتى علا بكاؤه، يقال علي (ع): ما يبكيك يا رسول الله؟ قال:
ضغائن في صدور لا يبدونها لك حتى يفقدوني (2).
فإذا كان علماؤهم قد رووا هذه الروايات، لم يخل: إما أن يصدقوا، فيجب العدول عنهم، وإما أن يكذبوا، فلا يجوز التعويل على شئ من رواياتهم البتة.
وقد روى الحافظ محمد بن موسى الشيرازي، في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر، أبي يوسف يعقوب بن سفيان، وتفسير ابن جريح، وتفسير مقاتل بن سليمان، وتفسير وكيع بن جراح، وتفسير يوسف بن موسى القطان، وتفسير قتادة، وتفسير سليمان، وتفسير أبي عبد الله القاسم بن سلام، وتفسير علي بن حرب الطائي، وتفسير السدي، وتفسير مجاهد، وتفسير مقاتل بن حيان، وتفسير أبي صالح، وكلهم من الجماهر، عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله،
____________
(1) ورواه أيضا: ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 2 ص 18 والمتقي الهندي في كنز العمال ج 6 ص 157 في كتاب الفضائل وأحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة.
(2) ورواه أبو يوسف الكنجي الشافعي، في كتاب: كفاية الطالب، والخطيب في تاريخ بغداد ج 12 ص 397 بسنده عن أبي عثمان النهدي (وثقه ابن حجر في تهذيب التهذيب، والذهبي في ميزان الاعتدال)، والمتقي في كنز العمال ج 6 ص 408 وقال: أخرجه البزار، وأبو يعلى.
لا أعرفه. فقلنا: يا رسول الله، إنه يعبد الله، ويسبحه، ويقدسه:
ويوحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا أعرفه.
فبينا نحن في ذكر الرجل إذ طلع علينا، فقلنا: هو ذا فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال لأبي بكر: خذ سيفي هذا وامض إلى هذا الرجل، واضرب عنقه، فإنه أول من يأتيه من حزب الشيطان، فدخل أبو بكر المسجد، فرآه راكعا، فقال: والله، لا أقتله فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهانا عن قتال المصلين، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إني رأيته يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إجلس فلست بصاحبه.
قم يا عمر، وخذ سيفي من أبي بكر، وادخل المسجد، واضرب عنقه، قال عمر: فأخذت السيف من أبي بكر، ودخلت المسجد، فرأيت الرجل ساجدا، فقلت: والله، لا أقتله، فقد استأمنه من هو خير مني، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، إني رأيت الرجل ساجدا، فقال: يا عمر، اجلس، فلست بصاحبه.
قم يا علي، فإنك أنت قاتله، إن وجدته فاقتله، فإنك إن قتلته لم يقع بين أمتي اختلاف أبدا، قال علي: فأخذت السيف، ودخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، ما رأيته، فقال:
يا أبا الحسن: إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، وإن أمة عيسى افترقت اثنتين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار. وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، فقلت: يا رسول الله، وما الناجية؟ فقال: المتمسك بما أنت وأصحابك عليه، فأنزل الله في ذلك " ثاني عطفه " (1). يقول هذا أول من يظهر من أصحاب البدع والضلالات.
____________
(1) الحج: 9.
فلينظر العاقل: إلى ما تضمنه هذا الحديث المشهور، المنقول من أن أبا بكر وعمر لم يقبلا أمر النبي صلى الله عليه وآله، ولم يقبلا قوله، واعتذر بأنه يصلي، ويسجد، ولم يعلما: أن النبي صلى الله عليه وآله أعرف بما هو عليه منهما، ولو لم يكن مستحقا للقتل لم يأمر الله نبيه بذلك، وكيف ظهر إنكار النبي صلى الله عليه وآله على أبي بكر، بقوله: " لست بصاحبه "، وامتنع عمر من قتله، ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله حكم بأنه لو قتل لم يقع بين أمته اختلاف أبدا، وكرر الأمر بقتله ثلاث مرات عقيب الانكار على الشيخين، وحكم صلى الله عليه وآله بأنه أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون منها في النار، وأصل هذا بقاء ذلك الرجل، الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله الشيخين بقتله، فلم يقتلاه، فكيف يجوز للعامي تقليد من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وآله؟.
قول عمر: إن النبي ليهجر
وهذا كما روى مسلم في صحيحه (2)، والحميدي في مسند عبد الله بن
____________
(1) ورواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد ج 3 ص 15، وابن عبد ربه في العقد الفريد ج 1 ص 305 وابن حجر في الإصابة ج 1 ص 484 إلا أن في حديث المصنف وأحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله أمر كلا من أبي بكر، وعمر، وعليا بقتله.
وفي حديث ابن عبد ربه وابن حجر: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أيكم يقوم فيقتله.
وقال ابن حجر: ولقصة ذي الثدية طرق كثيرة جدا، استوعبها محمد بن قدامة في كتاب الخوارج. (إلى أن قال: ولذلك) قلت: وللقضية الأولى شاهدان عند محمد بن قدامة:
أحدهما: من مرسل الحسن، فذكر شبيها بالقصة، والآخر: من طرق مسلمة بن بكرة، عن أبيه، عن محمد بن قدامة. وذكرها الحاكم في المستدرك، ولم يسم الرجل فيهما.
(2) وقد أسلفنا ما هو التحقيق في سند ومتن ذلك الحديث، فراجع. وذكره المصنف هاهنا في ما جاء في عمر بن الخطاب، وأعاده ثانيا، لما فيه من الطعن بالصحابة، من حيث موافقتهم له في شتم النبي صلى الله عليه وآله، ورد أمره، ومن حيث تأميرهم لمثله. وراجع: مسند ج 1 ص 222، و 325، 355.
ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغط، والاختلاف، قال النبي صلى الله عليه وآله:
" قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع ".
وكان عبد الله بن عباس يبكي حتى تبل دموعه الحصى، ويقول:
يوم الخميس، وما يوم الخميس. وكان يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين كتابه.
فلينظر العاقل: إلى ما تضمنه هذا الحديث، من سوء أدب الجماعة في حق نبيهم، وقد قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول " (1) الآية، ثم أنه صلى الله عليه وآله لما أراد إرشادهم، وحصول الألفة بينهم، بحيث لا تقع بينهم العداوة والبغضاء، منعه عمر من ذلك، وصده عنه، ومع هذا لم يقتصر على مخالفته حتى شتمه، وقال: إنه يهذي، والله يقول: " وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى " (2).
وبالخصوص: مثل هذا الكتاب النافي للضلال.
وكيف يحسن مع عظمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمر الله تعالى الخلق بتوقيره، وتعظيمه، وإطاعته في أوامره، ونواهيه: أن يقول له بعض أتباعه: إنه يهذي، مقابلا في وجهه بذلك.
____________
(1) الحجرات: 2
(2) النجم: 2 و 3.